احصائيات

الردود
9

المشاهدات
9678
 
ريم بدر الدين
عضو مجلس الإدارة سابقا

اوسمتي


ريم بدر الدين is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
4,267

+التقييم
0.68

تاريخ التسجيل
Jan 2007

الاقامة

رقم العضوية
2765
08-08-2010, 10:51 PM
المشاركة 1
08-08-2010, 10:51 PM
المشاركة 1
افتراضي رسول حمزاتوف: آخر فرسان العصر

رسول حمزاتوف: آخر فرسان العصر ـــ د.إبراهيم استنبولي

في الثالث من تشرين الثاني القادم تحلّ الذكرى الثالثة لرحيل رسول حمزاتوف ـ شاعر الحب والجمال والكلمة الأصلية. ثلاث سنوات مضت من دون رسول... وكأنه لم يغادرنا قط. ثلاث سنوات انقضت ونحن للآن لم نألف غيابه، بل إن دفء قصائده ما زال يبعث الحلاوة في آذان محبيه، وإن نور كلماته وحكمته ما لبث يفيض في أرواحنا، أرواحنا نحن الذين عشقنا أشعاره فانسكبت ألحانه في دمائنا أغنية عصية على الزمن كما هي جبال داغستان راسخة شامخة أبد الدهر.‏

لقد كان رسول بمثابة الصخرة والقمة الرائعة، التي من عليها نستشرف الآفاق؛ كان سياجاً روحياً بالنسبة لنا وكان سداً منيعاً في وجه أولئك، الذين أرادوا الانقضاض على إنسانيتنا وعلى روحانيتنا. وقد تحول هو وإبداعه إلى جزيرة نجاة في محيط من البغض والحقد، الذي راحت أمواجه تضرب بزماننا وبقيمنا. لذلك رحنا نلتقط الكلمة السحرية في شعره، كما يتمسك الغريق بقشة، لكي لا نغرق في لجة الأمواج العاتية والعدائية.‏

غالباً ما أفكر كيف،‏

إن الأرض بأكملها ـ بيتي العزيز،‏

وأينما وجدتْ معركة، نار أو رعد ـ‏

فإنما يحترق بيتي،‏

يحترق بيتي.‏

القرن العشرون، وليس غيره،‏

صار بدناً بالنسبة لي، صار قدراً، ـ‏

تتحارب الأعوام فيما بينها...‏

أينما كان رعد، نار ومعركة ـ‏

نحترق، يا قلبي، وإياك سوية.‏

كما لو أنها اجتمعت في إبداعه عدة عناصر شعرية ـ الشعر الغنائي، الأدب الملحمي والتأملات الفلسفية حول الوقت وحول الذات. لقد أدهشت سعة تحسسه للعالم معاصريه، وسوف تدهش الأجيال القادمة. فقد رأى الفتى الجبلي، من قرية تسادا الأفارية الصغيرة، من هضابها الصخرية ذلك العالم الكبير، ا لذي أسكنه أشعاره. فمنذ أن كان طفلاً صغيراً وهو يتفاعل مع جميع الأحداث العالمية دون أن ينسى مطلقاً جذوره العميقة:‏

كما الحمل، وقد أضحى بين أنياب ذئب،‏

الآول(1)، محصوراً بين الجبال، ينظر للأسفل.‏

كما العش الهش في الصخور العالية‏

وقف بيتي معلقاً فوق الهاوية.‏

أنا ولدتُ لدا غستانية فقيرة‏

في أصعب عام من أعوام الجوع...‏

كان إيقاع قلبه يتناغم باستمرار مع إيقاع الكرة الأرضية، وهذا ما جعله عن حق شاعراً عالمياً بامتياز. لقد كان رسول، الذي تأثر في شبابه بتقاليد مايكوفسكي، يميل من ناحية ثانية كان يتمتع بالغنائية وبسعة الإطلاع، اللتين كانتا تميزان بوشكين. وقد تحولت البؤر الساخنة في العالم إلى نقاط مؤلمة في قصائده، وهذا لم يكن منحة الزمن، وإنما حاجة داخلية للشاعر الذي كان يحب تكرار كلمات الشاعر الألماني العظيم هاينيه، بان التصدع، الذي قسّم العالم، يمرّ عبر قلب الشاعر. لكن رسول لم يكن في يوم من الأيام شاعر المناسبات الرسمية، لأن اهتمامه بما كان يحدث في العالم لم يكن مصطنعاً، بل كان جزءاً لا يتجزأ من التفكير الجدي والعميق بشأن كل حدث بذاته شاء الظرف أن يكتب عنه.‏

يتميز الطيف الشعري عند رسول حمزاتوف بغنى لا نظير له. إذ خلف غنائيته الدافئة تختفي روح رقيقة وشفافة. لقد كان رسول طبيعياً بشكل دائم، كان صريحاً مع القارئ، الذي يأتمنه على كل معاناته العميقة. لم يكن حمزاتوف يحب التمثيل أبداً، بل كان دوماً كما هو بالفعل، وهذا الإخلاص كان يسحر بعفويته وبسلاسته. وفي الحقبة السوفييتية كان رسول حمزاتوف واحداً من أكثر الشعراء حضوراً، ومن أكثرهم أصالة، وكان يعتبر من العشرة الأوائل، وربما حتى من الخمسة الأوائل. ففي تلك البلاد، حيث كانت توجد تراتبية صارمة للسلطة، استطاع الشاعر، الذي تربطه علاقة مباشرة مع هذه السلطة، أن يبقى هو ذاته وأن يقول ما لم يكن يُسمح لغيره أن يقولـه ذلك أن حياته المكشوفة وحبه للقاء الأصدقاء حول المائدة كانا أمثولة على كل لسان. فقد كان التواصل مع الكثير من الناس ضرورة حتمية بالنسبة له. لقد كان شعاره في الحياة: "ولا يوم من دون كتابة ولا يوم من دون تواصل مع الناس!". ولكنه مع ذلك كان قادراً على التركيز والعمل في أصعب الظروف.‏

كان رسول حمزاتوف، الذي أراد كثيرون أن يحولوه إلى شيوعي: أرثوذكسي"، يتعامل بسخرية مع مختلف الاجتماعات والمؤتمرات الحزبية. ولأنه إنسان حكيم، فقد كان يعرف أنه "لا يمكن للسوط أن يقطع رأس الفأس بضربة واحدة"، ولكنه كان يهزأ باستمرار من الحماس البيروقراطي لبعض الشعراء. لم يكن يقبل أن يقاد وأن يتم ضبطه في الرتل. كان قادراً أن يتميز بغض النظر عن أي نظام أو صف يوضع فيه. كان رسول هائلاً في كل شيء ـ في الشعر، في الصداقة وفي الحب.‏

على وقع النشيد الوطني‏

تمنح الأوسمة للجّمال هناك،‏

وأكاليل الغار تُعطى للثنائي‏

الذي لا ينفصم لأجل الوفاء المتبادل.‏

.....‏

سيصد مثل هكذا اتحاد‏

أية مصيبة أو هجوم للكوارث.‏

شعار جمهوريتي يقول:‏

"يا عشاق العالم اتحدوا!"‏

كان يشعر دائماً بالمسؤولية تجاه كلمته؛ وقد نما هذا الشعور بوجه خاص في الزمن المضطرب لروسيا. فقد كان إنساناً ثاقب النظر والملاحظة، ولم تكن توجد بالنسبة إليه أشياء تافهة في الحياة أو في الإبداع ـ كل ما هو موجود كان مادة لأشعاره. وباعتباره يميل إلى التحليل الذاتي، فقد كان يخشى أحياناً أن تكون قصائده غير مفهومة.‏

كان الشاعر قادراً على أن يشارك الكرة الأرضية ككل آلامها، ودون أن ينسى أبداً مشاركة الآخرين كأفراد أحزانهم بغض النظر عن ألقابهم ومراتبهم. كان رسول ينظر إلى نفسه وإلى إبداعه نظرة واعية وواقعية. وكان يميل للتأني ويشعر بأخطائه، بينما تجده يفرح لنجاحه كالطفل. أما بيته، الذي ينسجم مع شخصيته، فقد كانت أبوابه مفتوحة للجميع:‏

لا في ساعة مبكرة، لا في ساعة متأخرة‏

لا تدقوا الباب باستئذان،‏

أصدقائي:‏

إن قلبي مفتوح لكم‏

كما هو بابي.‏

في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، عندما كان العالم يتعطش للكلمة الشعرية، جاء شعر رسول حمزاتوف متفقاً ومنسجماً مع العصر. ففي تلك الأيام كان الناس يأتون إلى أمسياته الشعرية كما يذهبون اليوم لحضور مباراة بكرة القدم.‏

كانت الصالات الكبيرة وقصور الرياضة الضخمة، حيث كان رسول يقرأ أشعاره تكتظ بالناس، بحيث أنه لم تكن توجد "فسحة صغيرة لتفاحة"، كما يقال. وهذا بالطبع كان يعود للشعبية غير العادية للكلمة الشعرية عند رسول، التي كانت البلاد بحاجة إليها وكانت تنتظرها، والتي لم تكن مقررة من فوق.‏

كانت السلطة كريمة، وكان لديه الكثير الكثير من القراء في الاتحاد السوفييتي، الذين كانوا وما زالوا يحبونه إلى اليوم. فقد كان خطيباً بارعاً وذكياً. بل إن إيماءات يديه كانت أعمق تعبيراً مما هو في خطابات آخرين كثر. وكان يتمتع بذاكرة رائعة حتى آخر أيامه. كان يحب التحدث، ولكنه كان يجيد الإصغاء أيضاً، فكان يثمّن عالياً الكلمة الصائبة عند الآخرين.‏

قل لي مَن هو صديقك، وسأقول لك مَن أنت.‏

أصدقاؤه كانوا مشاهير الكتاب والشعراء المبدعين: سيمونوف وتفاردوفسكي، كولييف وأيتماتوف، يفتوشينكو وروجديستفينسكي.. كتاب وشعراء لا يشبهون بعضهم البعض، كما يبدو، ونادراً ما يجتمعون سوية. إلا أنه جمعت بينهم المحبة لرسول حمزاتوف، لموهبته النادرة كشاعر وكإنسان. فقد كان رسول فناناً في حبك العلاقات والجمع بين الناس من مختلف المهن والأعمار. كان الناس، وبعد أن يتعارفوا مع بعضهم في بيته، يتحولون إلى أصدقاء. وكانت اللقاءات حول المائدة في منزلـه بمثابة طقس مصاحب لعمله الإبداعي وجزء من فلسفته الجبلية.‏

فكان يقرأ أثناءها قصائده الجديدة ويناقش خططه الإبداعية المستقبلية. لم يكن رسول حمزاتوف يفقد توازنه في أية ظروف، إذ كان يتمتع ببديهة عبقرية تسعفه في أصعب اللحظات. وكانت النكتة لديه، على الطريقة "الحمزاتوفية" بامتياز، بمثابة بطاقة الزيارة، التي يتقدم بها للآخرين. لم يكن يدع الآخرين يشعرون بالحرج لأنه، كصاحب نكتة، كان يقدّر الفطنة وسرعة البديهة بشكل جيد.‏

كان الناس من مختلف الأعمار يشعرون معه أنهم من أقرانه، والناس من مختلف القوميات ـ أنهم من أهله ومواطنيه. وعندما كان يقرأ أشعاره كان يمكن أن نتلمس فيها التوتر والتوهّج الداخلي. كان يحب الناس بصدق، الناس من مختلف النوعيات ـ المشهورين منهم والعاديين البسطاء. فقد كان يثيره كل شيء.‏

لقد كان رسول حمزاتوف أسطورة حية للشعر. كان شاعر دولة عظمى، وبهذا كان يفاخر، ولم يتخلَّ عن هذا اللقب أبداً. ولذلك فإن انهيار الدولة، التي عاش فيها و أبدع، انعكس بقوة على صحته. إذ كان يعاني ويتألم لكل ما يحدث في البلاد. ولأنه إنسان صادق ومنفتح، فقد عاش بصمت عدة سنوات دون أن يسافر نهائياً. كان يسعى دوماً لمواجهة الكراهية بالحب، خصوصاً في الأعوام الأخيرة.‏

لقد استقبل إعادة البناء (البريسترويكا) كأمر طال انتظاره، بفرح كالأطفال، لأنه كان قد تعب كثيراً من النفاق، الذي اضطر هو نفسه لأن يكون شريكاً فيه. لكن خاب أمله بما حدث لاحقاً، ولم تكن لديه أدنى رغبة لأن يشارك في ذلك الخداع وتلك الخلاعة. وعندما تشققت وتناثرت بلاده العظيمة، فقد ظلَّ ملتزماً الصمت ولم ينشد الأهازيج في مديح الإصلاحيين ـ الذين جلبوا الكوارث، وهذا ما لم يحظ برضا السلطة حينذاك، فتوقفوا عن طبع أعماله في موسكو، كما غيره من الشعراء الكبار، بالمناسبة. وقد عكس في قصائده الأخيرة لا خيبته هو وحسب، بل وخيبة كل البلاد:‏

البلاد العظيمة ممزقة،‏

والكذب يملأ الوقت والفضاء...‏

التفاهة منتشية بفضل الفوضى من جديد،‏

وقد ألبست نفسها تاج الرياء.‏

والإدعاء يشحذ منقاره الإمبراطوري،‏

وهو ينظر في مرآة عوجاء...‏

أيها "البين بين" ـ أنا لا أحبك،‏

وكلك لن أشرفك بعداوتي.‏

في التسعينيات من القرن الماضي أصاب الكثيرين ما يشبه الانهزام في المعتقد ككل، ولكن ذلك لم يحصل عند رسول، لأنه كان يدرك أنه ليس هناك من نظام اجتماعي خال من العيوب، علماً أن هذه هي غاية كل نظام. لقد كان رسول حكيماً، مدركاً لكل شيء، ولكنه كان يتعامل بإخلاص قلبي مع آلام وآفات زمانه. إذ إن الجميع غيروا قناعاتهم. أما هو فقد كان صعباً عليه أن يعترف بأخطائه وبضلاله. لكنه كان قاسياً وبلا هوادة تجاه ذاته في قصائده الأخيرة. وهذه القسوة تظهر حتى في عناوين البعض منها ـ "الحساب"، "المحاكمة"، "التوبة"، "الوصية"، "الوحدة".. الخ. كان يبحث باستمرار وكان يجد في ذاته دائماً من القوة ما يكفي للاعتراف بأخطائه. والإنسان صاحب الوجدان فقط يكون قادراً على إعلان التوبة الحقيقية، يكون قادراً لأن يشك، بينما الثقة الزائدة بالذات هي من صفات الثرثارين والصلف هو للبلهاء المغرورين. فالكثير من قصائده في السنوات الأخيرة من حياته هي أشبه بالصلوات. بل إن أشعاره كلها خلال مجمل حياته ـ عبارة عن بحث عن الرب، ولذلك ليس عبثاً أنه، وقد كان يعتبر نفسه ملحداً (برغم كل ما قدمه من خير للناس يومياً)، كان يأمل بمكان متواضع بين جهنم والجنة:‏

سوف يسأل: ـ وقد غابت الحقبة، كما الشهب،‏

فما هو الذنب الذي ارتكبته أنتَ بحقها؟‏

ـ فقط أنني عملت في السياسة أحياناً،‏

مع أني ولدتُ في الأرض شاعراً.‏

ولكن، وقبل أن تقرر المحكمة مصيري،‏

وبعد أن يلقي على حياتي نظرة ثاقبة،‏

سوف أسأل الله من كل قلبي‏

أن يجد لي مكاناً بين جهنم والجنة.‏

لقد كان الشعور الكبير بعدم الرضى عن ذاته بمثابة ترجيع لمجمل حياته الشعرية والإنسانية. كان رسول يشعر باقتراب الموت ولكنه أبى أن يستسلم لرحمته:‏

الموت لن يقترب مني ـ‏

فأنا إلى الربيع أنتمي،‏

طالما أنني أزرع الغلال.‏

أنا سوف يكفلني الربيع.‏

وأوراق الحديقة الوارفة.‏

ولسوف يبتعد الموت صاغراً...!‏

كلا، الموت لن يأتي لأجلي،‏

طالما أنا أبني بيتي‏

على الأرض العزيزة بنفسي.‏

فما أن يرى كيف يرتفع الجدار،‏

سينطلق الموت هارباً‏

إلى الغابة، التي تقع خلف الجبال...‏

كانت شجاعته تدهش الآخرين، وكان شغفه بالحياة (مهما كان الثمن!) يبعث لديهم الإعجاب. فمع أنه يعمل كثيراً، فقد قام بجرد الحساب باكراً وأدرك أنه لم يقل ما هو الأكثر أهمية، فراح يحاول التعويض عما فاته. لم تكن توجد لديه رومانسية ثورية، كما عند صديقه روبرت روجديستفينسكي، وكجبلي كان، منذ البداية، على مستوى المورثات، أكثر حذراً وأبعد نظراً من الكثير من رفاقه. ولكنه كغيره من أبناء جيله، عانى في أشعاره الأولى من مرض الثوروية والوطنية الشبابية، وهذا ما لم يخفيه وما لم يخجل منه أبداً.‏

كان رسول يخاف من غياب الذاكرة عند الجيل البديل، الذي راح ينكر القسمة الأدبية والبحث الإبداعي لأمثاله. وهو كان يشعر بالضبط بهذه الفوضى القادمة، ولم يكن يخافها بقدر ما كان يحاول فهمها. لقد كان حكيماً جداً وعاقلاً جداً بالنسبة لذلك الزمن الرديء المجنون. وباعتباره واحداً من أهم الممثلين المبدعين والموهوبين لحقبته، فإنه صار آخر فرسانها:‏

وحيداً تماماً، كما الجندي الباسل،‏

وقد نجا من بين كل المشاة بأعجوبة،‏

وراح يخرج من الحصار اعتباطاً،‏

وقع في مستنقع غير سالك.‏

وحيداً تماماً، كما الغرنوق الجريح،‏

وقد ابتعد في لحظة شؤم عن السرب...‏

حان له من زمن بعيد أن يطير نحو الجنوب،‏

لكن جناحيه المكسورين قد تعبا.‏

لقد راح رسول يبحث عن الله في تاريخ شعبه، في حاضره وفي مستقبله. وفي هذا التهتك الإيديولوجي، في المجابهة بين مختلف الديانات والمعتقدات، الأحزاب الصغيرة والكبيرة، فقد بقيت داغستان هي عقيدته الوحيدة. وأكثر ما كان يخشى في هذه الدنيا أن يفقد إيمانه ببلده داغستان:‏

بحزن أنظر إلى داغستاني،‏

فقد تلوّت كما لو من حرق،‏

لحدّ الألم لا أعرف الصديق،‏

إذ صارَ الكثيرُ فيه غريباً.‏

لقد كانت داغستان على مدى كل حياته الإبداعية الواعية أساس ديانته، كانت كلمة السر والجواب عليها لديه. إلا أن الأساس، الذي قامت عليه قيمه الروحية، قد انهار، فراح بانقباض واختلاج يتمسك بالجذور، التي غرست في جباله العزيزة الغالية. وجاءت أسئلة الشاعر المريرة للألفية الجديدة، التي راحت تتقدم كحتمية، لتبقى بلا جواب. لقد انطبعت الحقبة في إبداعه، كما ينطبع أثر الحدوة الحديدية في الحجر.‏

ولكن مَن قال إنّ الحقبة الأخرى ستكون أفضل؟‏

بسرعة تحرر رسول حمزاتوف من الأوهام، أسرع بكثير من بعض الشعراء ـ الستينيين: يفتوشينكو، روجديستفينسكي، فوزنيسينسكي، الذي بدؤوا بعده يتغنون بالمُثل الشيوعية ومن بعده خاب أملهم فيها. لكنه وقد خاب أمله، لم يكن يسخر من ضلالاته، لم يكن يشوهها ولم يلعن ماضيه، الذي أحبّه كما هو. ولذلك لم يكن عبثاً أن تكون الأبيات في قصيدة "احكم علي بقانون الحب" الأكثر معزّة عليه، لأن كل ما قام به إنما كان يقيسه بالحب فقط. بما في ذلك ضلالاته في سنوات الشباب. وهو لم يتحول إلى قاض وجلاد ضد ماضيه ولا حاضره، وإنما راح بين يدين نفسه فقط على سذاجته وأنه غالباً ما كان يسبح مع تيار الزمن:‏

كنتُ مختلفاً، كما كان الزمن مختلفاً ـ‏

كما الزاوية، حاداً، أملسَ،‏

كما الشكل البيضاوي...‏

ومع ذلك لم يطفئ العقلُ‏

البارد النارَ في قلبي أبداً.‏

ثم:‏

اعذرني، أيها الزمن المجنون،‏

لأنه كان ينقصني بعض العقل...‏

رؤوس أخرى كانت تفكر نيابة عني،‏

وتضغط أشعاري في مجلدات.‏

وقوة شيطانية خفية‏

كانت تقود أحياناً على الورق‏

يدي غير المُدْرِكَة،‏

وتُحرفُ القلمَ المستقيم.‏

كان رسول يكتب أحياناً باستهزاء، وأحياناً أخرى بمرارة، لكنه لم يكن يخفي أي شيء أبداً. لا، لم يطلب حمزاتوف لنفسه أية أحكاماً مخففة، لأنه كان يعرف أنه كشاعر هو مسؤول لا عن أخطائه وحسب بل وعن أخطاء أولئك، الذين كان يثق بهم.‏

كانت قصائده الأخيرة ممتلئة بالألم، الذي لم يستطع تحمله. وقد تحولت صحوته إلى وادع طويل مع البلاد ككل، مع قرائه، مع زوجته فاتِمات، التي غادرت على حين غرة وبهذا تعرى عصب وحدته. لقد كان رسول حمزاتوف فارساً وفياً في الحب، وكان ينتمي كلية لفاتِمات. وبالرغم من ميله للعشق والمغامرات العاطفية، كما كان يمكن تخيله، فإنه في الحقيقة لم يكن يعشق سوى فاتِمات. كان مخلصاً لها ولذلك فقد عانى كثيراً من فقدانه المفاجئ لها:‏

وحبي مع طعنة متعبة‏

قد طار إلى الأبد،‏

اختفى وغاب في عمق المجرة،‏

كشهب سقط من السماء.‏

كان يبدو كما لو أن جميع أحاسيسه ازدادت حدّة. لم تكن موهبته الجبارة تخشى أيّ تكرار في المواضيع، لأنه كان يعرف ـ أن البصيرة بل وحتى التكرار لديه فريدان.‏

كان يشك في الكثير من أبياته. ولكن قصائده الأخيرة من حيث تأثيرها على القارئ (وهذا كان يلمسه من خلال تفاعل الناس في أمسياته) كانت تمتلك طاقة عاطفية هائلة لا نظير لها. فقدرته على الوعظ كانت آسرة وباعثة على اليأس. وغرانيقه الجديدة كانت تغصّ بالبكاء. كان يبدو في قصائده الأخيرة كما لو أنه يتحرر من كل ما هو زائد وغير لازم. فالأبيات فيها كما لو تتدفق من أعمق أعماق روحه.‏

لقد تصارع الأمل مع اليأس عنده في السنوات الأخيرة. إلا أن الشاعر لم يتشبث بالحياة، وإنما ببساطة لم يكن يرغب أن يفقدها كما المرأة المحبوبة، المعشوقة حتى الوله. وفي هذا كانت تكمن مأساة ما.‏

كان يتمنى دائماً أن يكتب القصيدة الرئيسية الأخيرة في حياته، وكان دوماً يظن أن هذه القصيدة سوف تكون الأخيرة. كان مهتماً بالقصائد الأخيرة للشعراء الذين أحبهم، لأنه كان يعتقد أن فيها يكمن وفيها مشفر ما هو الأكثر أهمية. وكان يقرأ أشعاره بطريقة رائعة، من دون تمثيل، فكانت تخرج من أعماق طبيعته الملتهبة، بحماس ولتصبح كالمشعل. وعلى العموم، هو نفسه كان دائماً بمثابة المشعل، الذي ينير الظلام.‏

إن منتقدي شعره غالباً يتهمونه بخيانة قناعاته ومبادئه. وهذا غير صحيح. ولكن رسول تغير بالتوازي مع الزمن، الذي بدّل موقفه من الحياة ومن الإبداع، غير أنه ظلّ أميناً لذاته في الأمور الرئيسية:‏

أوه، أيها الزمن ـ أنت كالريح...‏

كما تشاء تستبدل الشرق‏

بالغرب في لحظة.‏

لكن قرن (ي) مضى، وبرغم أنك قاس،‏

فإنك لن ترى خيانتي أبداً.‏

لم يكن رسول يشطب من إنتاجه الإبداعي أية صفحات، حتى لو كانت هذه الصفحات مسودة.‏

أما قصيدته "الغرانيق" فقد صارت واحدة من أعظم الأغاني في القرن العشرين.‏

هذه الأغنية تنحني أمام ذاكرة جميع الشهداء وتحذر البشرية من حروب جديدة. كما أن موضوع الواجب بلا مقابل في "غرانيقه" يبرز كذلك في قصائده الجديدة:‏

عندما سأغادركم في طريق طويلة‏

إلى ذلك المكان، حيث لا عودة منه،‏

فإن الغرانيق وهي تطير حزينة،‏

سوف تذكركم بي.‏

يتلعثم المرء وتتشنج الحنجرة وهي تقرأ هذه النبرات الموجعة للقلب. وإذا كان رسول ذاته يشك أحياناً في إبداعه، فالآن لا يشك أحد فيه مطلقاً. فقد أدرك قبل غيره أكذوبة النظام السياسي، الذي شاء القدر أن يعيش فيه، إلا أنه وسط هذه الكذبة العامة كان يبحث عن جزر نجاته ـ الأب والأم، الحب والصداقة، العائلة والأولاد ـ التي مشى من خلالها إلى الحقيقة. فهو لم يحفظ ولم يدافع سوى عن القيم الأبدية، التي خاف أن يفقدها هي بالتحديد. كانت لديه موهبة تنبؤ مدهشة. وكان قد كتب، قبل مأساة بيسلان(2) بوقت طويل، قصيدة نبوية بحق تحت عنوان "احفظوا الأطفال":‏

هذا العالم، كما الجرح المفتوح في الصدر،‏

لن يعود ويندمل بعد الآن أبداً.‏

لكنني أؤكد، كما لو أنها صلاة المسير،‏

في كل لحظة: "احفظوا الأطفال!".‏

الجَميعَ، كلَّ مَن يؤدي الصلاة،‏

ورعايا الكنائس في كل مكان:‏

أرجو بشيء ـ "انسوا الشقاق،‏

احفظوا بيتكم وأطفالكم العزّل!"‏

من الأمراض، من الانتقام والحرب الرهيبة،‏

من الأفكار الطائشة التافهة.‏

وعلينا اليوم أن نرفع معاً في كل أنحاء‏

العالم نداءً واحداً: "احفظوا الأطفال!".‏





قديم 08-08-2010, 10:55 PM
المشاركة 2
ريم بدر الدين
عضو مجلس الإدارة سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: رسول حمزاتوف: آخر فرسان العصر
كان رسول يحب أن يتقاسم خططه وأفكاره الإبداعية، وكثيراً ما كان يطلب النصح دون أن يهتم لسن محدثه. فكان يثمِّن النصيحة الذكية، وأما الغباء فكان يهزأ منه بطيب خاطر.‏

هناك من اعتبره شاعراً رسمياً. لكنه لم يكن ينافق أبدا: لا عندما كتب عن ستالين في سنوات الحرب، ولا عندما صمت في زمن يلتسين... كان يؤمن بقدسية الوطن فقط بالوطن لا غير كان يثق، وعندما خاب أمله، فإنه غرق في التاريخ حتى رأسه وراح يؤلف حكايات وأساطير أفارية. لم يكن لا رومانسياً ولا مثالياً. وأما لقب شاعر البلاط، الذي حاولوا إلصاقه به، لم يكن ينسجم مع صورته. كان رسول يتقلب ويتحرك مع البلاد وهو يحاول أن يخمن طريقها، بالإضافة إلى أنه كان يعمل كثيراً. كان قد أصبح رسول حمزاتوف آخر ـ ذلك التراجيدي، الفيلسوف.‏

لقد استطاع أن يكتب الكثير بلغته الأم الأفارية إلا أن هذا الإرث لم يصبح في متناول الجمهور. وقد أراد من خلال كتاباته الحديثة أن يقول الكثير، وأن ينقل الكثير، وأن يعيد صياغة الكثير. لم تسنح له الفرصة. أعطاه الخالق شهراً واحداً فقط لكي يودع الدنيا، التي أحبها بقوة، ولأن يودع الأصدقاء والزملاء والعائلة، وموسكو حيث عاش أفضل سنواته. لم يكن رسول يضع نفسه في مواجهة المرحلة الجديدة، لكنه أيضاً لم يرغب في الانضمام إليها. لقد مشى في دربه الخاص، الذي كان وعراً إلى درجة لا تصدق. لم يتخلَّ عن أشعاره الباكرة، بل حاول ببساطة أن يعيد ترتيبها وتهذيبها وأن يعيد التفكير بها وبذاته، وبرؤيته إلى العالم في ذلك الوقت.‏

في بداية التسعينيات وجد حمزاتوف نفسه، كما الأدب بصورة عامة، على قارعة الطريق، من دون هبات وجوائز، براتب تقاعدي تافه. لهذا بالضبط انزوى وانطوى إلى نفسه. ولكنه مع ذلك كان يدافع بغيرة عن حقوق الكتّاب والأدباء. فقد كان على الدوام يعتبر أن الكتابة ـ هي علمُ الأمة وأن السلطة التي تتجاهل ذلك مصيرها الزوال:‏

كما لو بصوف ممشط، بالضباب‏

حُجب الأفق الشفاف ـ‏

حان وقت المشعوذين‏

واحتلَّ الأوتوستراد.‏

فما الذي ينتظرني خلف المنعطف،‏

ماذا ينتظر بلادي؟..‏

أيها الزمن، لقد أفلستَ أنتَ أيضاًَ،‏

ومن جديد أنت في الأسر قبل الأوان.‏

لقد كان رسول حمزاتوف مركز الكون الإبداعي في داغستان، حيث كان الجميع يتحدثون عنه وفي كل مكان. كانوا ينقلون عنه مقتطفات، يقرؤونه، وكانوا يمدحونه ويشتمونه، ولكنهم لم يكونوا غير مبالين به أبداً.‏

كم كان رسول حمزاتوف ضرورياً في هذه الحياة. من دونه صار العالم مختلفاً. لقد انكمش كالجلد المحبب (الشغران).‏

يرقد رسول حمزاتوف هناك، حيث كان يتمنى ـ عند سفح جبل تاركي ـ تاو، إلى جانب رفيقة دربه فاتِمات، وهو يرى المدينة بأكملها من هناك، المدينة التي أحب وكذلك البحر الذي تغنى به، كما بوشكين. ولن يعشوشب الدرب إليه وهو ـ كما من قبل، ليس وحيداً.‏

أدرك تحت سماء داغستان:‏

بينما أعبر آخر مضيق،‏

باكراً جئتُ كشاعر،‏

وكنبي ـ جدّ متأخر.‏

* * *‏

هذه ترجمة لبعض قصائد الشاعر:‏

(1)‏

داغستاني(3)‏

بعد أن زرت العديد من البلدان،‏

ورجعتُ إلى البيت تعباً من الطريق،‏

وقد انحنى فوقي، سألني داغستاني:‏

"أحيُّك البعيدُ أثار فيك الشوق؟"‏

صعدتُ إلى الجبل ومن ذلك العلو‏

أجبت داغستان، وقد تنهدتُ بعمق:‏

"لقد زرتُ مناطق كثيرة، لكنك‏

تظل الأحبّ في كل الدنيا.‏

ربما، أنا نادراً ما أقسم بالحب لك،‏

فلا الحب جديدُ، وليس جديداً أن نقسم،‏

أنا أحبُّ بصمت، لأنني أخاف:‏

أن تشحب الكلمة المُكررة مئات المرات.‏

وإذا ما راح كل واحد من أبنائك يقسم‏

بالحب لك، وهو يصرخ، كما المبشّر،‏

فسوف تملُّ قِممُك الصخرية‏

أن تسمع وأن تجيب بعيداً بالصدى.‏

حين كنت غارقاً في الدموع والدماء،‏

سار أبناؤك إلى الموت، مع أقل كلام،‏

وصارت أغنية الخنجر الأليمة.‏

هي صوت القسم لحب الأبناء.‏

ثم بعد، حين خفت المعارك،‏

راح أبناؤك، يا داغستاني،‏

صامتين يقسمون بالحب لك‏

بضربات المطرقة وبالمنجل الرنان.‏

لقد علّمتني كما الجميع خلال قرون‏

أن نعمل وأن نعيش بلا ضجيج، لكن بشجاعة،‏

علّمتنا أنّ الكلمة أهم من الحصان،‏

وأن الجبليين لا يسرجون خيولهم من دون حاجة.‏

مع ذلك، وقد عدتُ إليك من عواصم‏

بعيدة، غريبة، ثرثارة وكاذبة،‏

يصعب عليّ الصمتُ، وأنا أسمع صوت‏

جداولك الغنّاءة وجبالك الشامخة.‏

(2)‏

أحبك، يا شعبي الصغير‏

تُحسنُ لقاء الحزن بصرامة،‏

من دون دموع، بلا حيرة،‏

وتجيد أنتَ السعادة‏

من دون أن تتباهى.‏

أليست أغانيك هي التي تشبه‏

طيران النسر البطيء،‏

والرقصات ـ‏

مع الفارس، الذي يطير‏

حصانه، وقد نسي اللجام.‏

لم يبهت طبعك الأبيّ،‏

والعبرة في كلامك تعيش.‏

أوه، كم أحبك بقلب جبلي‏

أنتَ، يا شعبي الصغير!‏

في زحمة الجبال، حيث‏

من الضباب مجدول قيد غليظ.‏

قلبك دائماً مفتوح،‏

وواسع دوماً كما السهل.‏

القطارات ترعد عند قدميك،‏

ومن على كتفك تُقلع طائرة.‏

أحبك، كابن دولة جبارة،‏

أنتَ، يا شعبي الصغير!‏

* * *‏

(3)‏

إذا كان ألف رجل في العالم‏

إذا كان ألف رجل في العالم‏

مستعدين لأن يتقدموا لخطبتك،‏

فاعلمي، أنه بين هؤلاء الألف رجل‏

أكون أنا ـ رسول حمزاتوف.‏

وإذا ما أغُرِمَ بك منذ زمن بعيد‏

مائة رجل دماؤهم تجري كالهدير،‏

فليس بالغريب أن تكتشفي بينهم‏

جبلياً اسمه رسول.‏

وإذا ما أغرم بك عشرة‏

رجال حقيقيين،‏

دون أن يخفوا نيرانهم،‏

فمن بينهم، وهو يهلل ويجزع،‏

سأكون أنا أيضاً ـ رسول حمزاتوف.‏

وإذا جُنَّ بك واحد فقط،‏

يا مَن لا تهوى الوعود،‏

فاعلمي، أنه جبليٌّ‏

من قمم الضباب باسم رسول.‏

وإذا لم يغرم بك أحد‏

وحزِنتِ أكثر من أمسيات الغروب،‏

فاعلمي أنه في السفح البازلتي‏

للجبال قد دُفِن رسول حمزاتوف.‏

(1) الآول ـ كلمة أفارية تعني القرية الجبلية..‏

(2) المقصود هو حادثة المدرسة في مدينة بيسلان الروسية عام 2004 والتي ذهب ضحيتها عشرات التلاميذ الأطفال...‏

(3) داغستاني ـ هي الترجمة الحرفية لعنوان هذه القصيدة.. ولقد استخدم رسول حمزاتوف نفس الكلمات كعنوان لكتابة النثري الرئيسي "my dagestan = moi dagestan".. والذي سبق وترجمه الأديب الراحل عبد المعين الملوحي بالاشتراك مع الأديب والمرتجم الرائع الأستاذ يوسف حلاق إلى العربية تحت عنوان "داغستاني بلدي". وقد ارتأيت أن أترك العنوان كما أراده الشاعر بحرفيته وذلك للإشارة إلى التماهي بين "أنا" الشاعر الكبير وبين بلاده داغستان.. في زمن لم يكن يحق لأحد أن يمتلك شيئاً فكل شيء للسلطة بما في ذلك الوطن! د. استنبولي.‏

الموقف الأدبي العدد 427 تشرين الثاني 2006

قديم 08-08-2010, 10:55 PM
المشاركة 3
ريم بدر الدين
عضو مجلس الإدارة سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: رسول حمزاتوف: آخر فرسان العصر
كان رسول يحب أن يتقاسم خططه وأفكاره الإبداعية، وكثيراً ما كان يطلب النصح دون أن يهتم لسن محدثه. فكان يثمِّن النصيحة الذكية، وأما الغباء فكان يهزأ منه بطيب خاطر.‏

هناك من اعتبره شاعراً رسمياً. لكنه لم يكن ينافق أبدا: لا عندما كتب عن ستالين في سنوات الحرب، ولا عندما صمت في زمن يلتسين... كان يؤمن بقدسية الوطن فقط بالوطن لا غير كان يثق، وعندما خاب أمله، فإنه غرق في التاريخ حتى رأسه وراح يؤلف حكايات وأساطير أفارية. لم يكن لا رومانسياً ولا مثالياً. وأما لقب شاعر البلاط، الذي حاولوا إلصاقه به، لم يكن ينسجم مع صورته. كان رسول يتقلب ويتحرك مع البلاد وهو يحاول أن يخمن طريقها، بالإضافة إلى أنه كان يعمل كثيراً. كان قد أصبح رسول حمزاتوف آخر ـ ذلك التراجيدي، الفيلسوف.‏

لقد استطاع أن يكتب الكثير بلغته الأم الأفارية إلا أن هذا الإرث لم يصبح في متناول الجمهور. وقد أراد من خلال كتاباته الحديثة أن يقول الكثير، وأن ينقل الكثير، وأن يعيد صياغة الكثير. لم تسنح له الفرصة. أعطاه الخالق شهراً واحداً فقط لكي يودع الدنيا، التي أحبها بقوة، ولأن يودع الأصدقاء والزملاء والعائلة، وموسكو حيث عاش أفضل سنواته. لم يكن رسول يضع نفسه في مواجهة المرحلة الجديدة، لكنه أيضاً لم يرغب في الانضمام إليها. لقد مشى في دربه الخاص، الذي كان وعراً إلى درجة لا تصدق. لم يتخلَّ عن أشعاره الباكرة، بل حاول ببساطة أن يعيد ترتيبها وتهذيبها وأن يعيد التفكير بها وبذاته، وبرؤيته إلى العالم في ذلك الوقت.‏

في بداية التسعينيات وجد حمزاتوف نفسه، كما الأدب بصورة عامة، على قارعة الطريق، من دون هبات وجوائز، براتب تقاعدي تافه. لهذا بالضبط انزوى وانطوى إلى نفسه. ولكنه مع ذلك كان يدافع بغيرة عن حقوق الكتّاب والأدباء. فقد كان على الدوام يعتبر أن الكتابة ـ هي علمُ الأمة وأن السلطة التي تتجاهل ذلك مصيرها الزوال:‏

كما لو بصوف ممشط، بالضباب‏

حُجب الأفق الشفاف ـ‏

حان وقت المشعوذين‏

واحتلَّ الأوتوستراد.‏

فما الذي ينتظرني خلف المنعطف،‏

ماذا ينتظر بلادي؟..‏

أيها الزمن، لقد أفلستَ أنتَ أيضاًَ،‏

ومن جديد أنت في الأسر قبل الأوان.‏

لقد كان رسول حمزاتوف مركز الكون الإبداعي في داغستان، حيث كان الجميع يتحدثون عنه وفي كل مكان. كانوا ينقلون عنه مقتطفات، يقرؤونه، وكانوا يمدحونه ويشتمونه، ولكنهم لم يكونوا غير مبالين به أبداً.‏

كم كان رسول حمزاتوف ضرورياً في هذه الحياة. من دونه صار العالم مختلفاً. لقد انكمش كالجلد المحبب (الشغران).‏

يرقد رسول حمزاتوف هناك، حيث كان يتمنى ـ عند سفح جبل تاركي ـ تاو، إلى جانب رفيقة دربه فاتِمات، وهو يرى المدينة بأكملها من هناك، المدينة التي أحب وكذلك البحر الذي تغنى به، كما بوشكين. ولن يعشوشب الدرب إليه وهو ـ كما من قبل، ليس وحيداً.‏

أدرك تحت سماء داغستان:‏

بينما أعبر آخر مضيق،‏

باكراً جئتُ كشاعر،‏

وكنبي ـ جدّ متأخر.‏

* * *‏

هذه ترجمة لبعض قصائد الشاعر:‏

(1)‏

داغستاني(3)‏

بعد أن زرت العديد من البلدان،‏

ورجعتُ إلى البيت تعباً من الطريق،‏

وقد انحنى فوقي، سألني داغستاني:‏

"أحيُّك البعيدُ أثار فيك الشوق؟"‏

صعدتُ إلى الجبل ومن ذلك العلو‏

أجبت داغستان، وقد تنهدتُ بعمق:‏

"لقد زرتُ مناطق كثيرة، لكنك‏

تظل الأحبّ في كل الدنيا.‏

ربما، أنا نادراً ما أقسم بالحب لك،‏

فلا الحب جديدُ، وليس جديداً أن نقسم،‏

أنا أحبُّ بصمت، لأنني أخاف:‏

أن تشحب الكلمة المُكررة مئات المرات.‏

وإذا ما راح كل واحد من أبنائك يقسم‏

بالحب لك، وهو يصرخ، كما المبشّر،‏

فسوف تملُّ قِممُك الصخرية‏

أن تسمع وأن تجيب بعيداً بالصدى.‏

حين كنت غارقاً في الدموع والدماء،‏

سار أبناؤك إلى الموت، مع أقل كلام،‏

وصارت أغنية الخنجر الأليمة.‏

هي صوت القسم لحب الأبناء.‏

ثم بعد، حين خفت المعارك،‏

راح أبناؤك، يا داغستاني،‏

صامتين يقسمون بالحب لك‏

بضربات المطرقة وبالمنجل الرنان.‏

لقد علّمتني كما الجميع خلال قرون‏

أن نعمل وأن نعيش بلا ضجيج، لكن بشجاعة،‏

علّمتنا أنّ الكلمة أهم من الحصان،‏

وأن الجبليين لا يسرجون خيولهم من دون حاجة.‏

مع ذلك، وقد عدتُ إليك من عواصم‏

بعيدة، غريبة، ثرثارة وكاذبة،‏

يصعب عليّ الصمتُ، وأنا أسمع صوت‏

جداولك الغنّاءة وجبالك الشامخة.‏

(2)‏

أحبك، يا شعبي الصغير‏

تُحسنُ لقاء الحزن بصرامة،‏

من دون دموع، بلا حيرة،‏

وتجيد أنتَ السعادة‏

من دون أن تتباهى.‏

أليست أغانيك هي التي تشبه‏

طيران النسر البطيء،‏

والرقصات ـ‏

مع الفارس، الذي يطير‏

حصانه، وقد نسي اللجام.‏

لم يبهت طبعك الأبيّ،‏

والعبرة في كلامك تعيش.‏

أوه، كم أحبك بقلب جبلي‏

أنتَ، يا شعبي الصغير!‏

في زحمة الجبال، حيث‏

من الضباب مجدول قيد غليظ.‏

قلبك دائماً مفتوح،‏

وواسع دوماً كما السهل.‏

القطارات ترعد عند قدميك،‏

ومن على كتفك تُقلع طائرة.‏

أحبك، كابن دولة جبارة،‏

أنتَ، يا شعبي الصغير!‏

* * *‏

(3)‏

إذا كان ألف رجل في العالم‏

إذا كان ألف رجل في العالم‏

مستعدين لأن يتقدموا لخطبتك،‏

فاعلمي، أنه بين هؤلاء الألف رجل‏

أكون أنا ـ رسول حمزاتوف.‏

وإذا ما أغُرِمَ بك منذ زمن بعيد‏

مائة رجل دماؤهم تجري كالهدير،‏

فليس بالغريب أن تكتشفي بينهم‏

جبلياً اسمه رسول.‏

وإذا ما أغرم بك عشرة‏

رجال حقيقيين،‏

دون أن يخفوا نيرانهم،‏

فمن بينهم، وهو يهلل ويجزع،‏

سأكون أنا أيضاً ـ رسول حمزاتوف.‏

وإذا جُنَّ بك واحد فقط،‏

يا مَن لا تهوى الوعود،‏

فاعلمي، أنه جبليٌّ‏

من قمم الضباب باسم رسول.‏

وإذا لم يغرم بك أحد‏

وحزِنتِ أكثر من أمسيات الغروب،‏

فاعلمي أنه في السفح البازلتي‏

للجبال قد دُفِن رسول حمزاتوف.‏

(1) الآول ـ كلمة أفارية تعني القرية الجبلية..‏

(2) المقصود هو حادثة المدرسة في مدينة بيسلان الروسية عام 2004 والتي ذهب ضحيتها عشرات التلاميذ الأطفال...‏

(3) داغستاني ـ هي الترجمة الحرفية لعنوان هذه القصيدة.. ولقد استخدم رسول حمزاتوف نفس الكلمات كعنوان لكتابة النثري الرئيسي "my dagestan = moi dagestan".. والذي سبق وترجمه الأديب الراحل عبد المعين الملوحي بالاشتراك مع الأديب والمرتجم الرائع الأستاذ يوسف حلاق إلى العربية تحت عنوان "داغستاني بلدي". وقد ارتأيت أن أترك العنوان كما أراده الشاعر بحرفيته وذلك للإشارة إلى التماهي بين "أنا" الشاعر الكبير وبين بلاده داغستان.. في زمن لم يكن يحق لأحد أن يمتلك شيئاً فكل شيء للسلطة بما في ذلك الوطن! د. استنبولي.‏

الموقف الأدبي العدد 427 تشرين الثاني 2006

قديم 01-30-2012, 11:11 PM
المشاركة 4
ريم بدر الدين
عضو مجلس الإدارة سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
صباح
ينهض الصباح فوق عرف الجبال
فيكتسب الثلج لونا فضيا
و الصديقة تسمع كورس الطيور
بعد أن فتحت النافذة
بماذا حلمت يا عزيزتي ؟
يغني الراعي مع بزوغ الفجر
لقد حلمت انك جئت إلي .
ترد عليه في الجواب
أبحر زورق في بحر قزوين
و قد أرخة بظل منحرف
هكذا يولد في داغستان
يوم جديد في هذه الساعة

" رسول حمزاتوف مختارات شعرية "
ترجمة د. ابراهيم استانبولي
كتاب في جريدة العدد 32

قديم 01-31-2012, 01:36 PM
المشاركة 5
ريم بدر الدين
عضو مجلس الإدارة سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
داغستاني
بعد أن زرت العديد من البلدان
و رجعت إلى البيت تعبا من طريقي
سألتني داغستان و قد انحنت فوقي
أحيك البعيد أثار فيك الشوق؟
صعدت إلى الجبل و من ذلك العلو
أجت داغستان و قد تنهدت بعمق
لقد زرت مناطق كثيرة لكنك
تظلين الأحب في كل الدنيا
ربما انا نادرا ما أقسم بالحب لك
فلا الحب جديد و ليس جديدا ان نقسم
أنا أحب بصمت لأنني اخاف
أن تشحب الكلمة المكررة مئات الأضعاف
و إذا ما راح كل واحد من ابنائك يقسم
بالحب لك و هو يصرخ كما المنادي
فسوف تمل قممك الصخرية
أن تسمع و أن تجيب بالصدى في البعيد
حين كنت غارقا في الدموع و الدماء
سار أبناؤك إلى الموت مع أقل كلام
و صارت أغنية الخنجر القاسية
هي صوت القسم لحب الأبناء
ثم بعد حين خفت المعارك
راح أبناؤك يا داغستاني
يقسمون صامتين بالحب لك
بضربات المطرقة و بالمنجل الرنان
لقد علمتني كما الجميع خلال قرون
أن نعمل و ان نعيش بلا ضجيج لكن بشجاعة
علمتنا ان الكلمة اهم من الحصان
و ان الجبليين لا يسرجون خيولهم من دون حاجة
مع ذلك و قد عدت إليك من عواصم
بعيدة و غريبة ثرثارة كاذبة
يصعب علي الصمت و أنا أسمع صوت
جداولك الغناءة و جبالك الشامخة

مختارات من رسول حمزاتوف
ترجمة : د. ابراهيم استانبولي
كتاب في جريدة الثاني و الثلاثون

قديم 02-01-2012, 02:08 AM
المشاركة 6
محمد عبدالرازق عمران
كاتب ومفكر لـيبــي
  • غير موجود
افتراضي
* جميل ما قرأت هنا .. شكرا لك .. مودتي .

* ويأتيك بالأخــــبار من لم تزوّد .
( طرفة بن العبد )
قديم 02-04-2012, 03:46 PM
المشاركة 7
ريم بدر الدين
عضو مجلس الإدارة سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
أهلا بك أ. محمد عمران
و شكرا لحضورك الجميل
تحيتي

قديم 02-04-2012, 04:38 PM
المشاركة 8
ريم بدر الدين
عضو مجلس الإدارة سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
أخي الكبير

جندي و ليس نائبا
استشهد قرب نهر الفولغا في معركة ضارية
و الأم العجوز لا تزالر تلبس الحداد إلى الآن
يأكلها الأسى و الحزن

يؤلمني و أشعر بالمرارة
لأنني أصبحت أكبر من أخي


الأخت
لم يكن مقبولا الحديث عنها
لم يكن مقبولا أن تُهدى اغاني
لكن من واجب مطربي الجبال عندنا
أن ينشدوا اجمل الأغاني للأخوات
عندما تخرج أنت في مسير أو إلى معركة
يؤلمها القلب عليك و تطير خلفك
و ستشعر الأخت بالسأم و لن تنام
مثلما يمكن أن تحزن وحدها الأم
و إذا لم يبق سوى
قطعة خبز يابس لشخصين
سوف تحدج الطعام كارهة
كي لا تعرف أنت أنها جائعة
و إذا كنت مريضا
ستسهر الليالي قرب سريرك
دون ان تنام و هي تتألم
و سيكون أهون عليها أن تكون هي المريضة
من أن تنظر إلى المريض
لم يكن مقبولا الحديث عنها
لم يكن جائزا أن تهدى أغاني
لكن من واجب مطربي الجبال عندنا
أن ينشدوا اجمل الأغاني عن الأخوات
رسول حمزاتوف -مختارات شعرية
ترجمة د. ابراهيم استانبولي

قديم 02-12-2012, 09:50 PM
المشاركة 9
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
بحثت عن تفاصيل طفولته صانع عبقريته: يتمه، بؤسه، المه ، ومآسيه، لكنني لم اجد سوى هذه الابيات التي تشير الى انه ولد في زمن الجوع بل في اصعب عام من اعوام الجوع...فلا غرابة اذا ان يكون مبدعا فذا عظيما:




كما العش الهش في الصخور العالية‏
وقف بيتي معلقاً فوق الهاوية.‏
أنا ولدتُ لدا غستانية فقيرة‏
في أصعب عام من أعوام الجوع...‏


دراسة عميقة وجميلة ومفصلة.

قديم 02-13-2012, 10:24 AM
المشاركة 10
ريم بدر الدين
عضو مجلس الإدارة سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
بحثت عن تفاصيل طفولته صانع عبقريته: يتمه، بؤسه، المه ، ومآسيه، لكنني لم اجد سوى هذه الابيات التي تشير الى انه ولد في زمن الجوع بل في اصعب عام من اعوام الجوع...فلا غرابة اذا ان يكون مبدعا فذا عظيما:




كما العش الهش في الصخور العالية‏
وقف بيتي معلقاً فوق الهاوية.‏
أنا ولدتُ لدا غستانية فقيرة‏
في أصعب عام من أعوام الجوع...‏



دراسة عميقة وجميلة ومفصلة.
صباح الورد
قرأت سيرة رسول حمزاتوف الذاتية في عدد خاص من مجلة الآداب العالمية و كان عددها الأول في عام 1974 و فيه تحدث حمزاتوف عن مراحل حياته
في الحقيقة هو من قرية في داغستان وكان أبوه حمزة تسادا من كبار رجالات هذه القرية و كان شاعرا و رجلا حكيما
ربما الجوع الذي ضرب روسيا القيصرية بكاملها ما قبل الثورة هي السبب في هذا الكم من المبدعين في هذه البلاد
ربما إن وجدت نسخة الكترونية من العدد الذي ذكرته سأحاول مشاركتكم به او بعض الاقتباسات من الكتاب الذي عندي
شكرا لك أخي أيوب صابر


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: رسول حمزاتوف: آخر فرسان العصر
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
فرسان وشعراءوملوك يام في العصر الجاهلي والاسلام العجمــي منبر ذاكرة الأمكنة والحضارات والأساطير 1 09-09-2022 06:27 PM
فرسان الأمة و صعاليكها د محمد رأفت عثمان منبر الحوارات الثقافية العامة 2 01-12-2016 07:21 AM
من فرسان الشعر العربي عبدالله باسودان منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 6 12-10-2011 10:17 PM
** فرسان الحرية ** منى شوقى غنيم منبر البوح الهادئ 4 02-19-2011 08:00 PM

الساعة الآن 01:41 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.