منبر البوح الهادئلما تبوح به النفس من مكنونات مشاعرها.
أهلا وسهلا بك إلى منتديات منابر ثقافية.
أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التكرم بزيارة صفحة التعليمـــات، بالضغط هنا.
كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل بالضغط هنا إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى، أما إذا رغبت بقراءة المواضيع والإطلاع فتفضل بزيارة القسم الذي ترغب أدناه.
ما عدتُ أمدّ يدي لطيفٍ لا يُمسك،
ولا أرجو ظلاً إن كان لا يَحجب،
فقد تعلّمتُ أن الاكتفاء نعمة،
وأن الرضا لا يُشرى، ولا يُطلب.
اكتفيت، لا لأن القلب جفّ،
بل لأن العطاء حين لا يُقدّر… يُهدر،
ولأن الشعور إذا لم يُصن… يُكسر،
ولأن الكرامة لا تُربّى في حضنٍ بارد،
ولا تُزهِر في أرضٍ لا تُسقى بالمودة.
سئمت الانتظار عند أبوابٍ لا تُفتح،
والتعلّق بأرواحٍ لا تبادل،
والبحث عن دفءٍ في صدورٍ مُقفلة،
تعطيك الوعد… وتنكر الوجود.
تعلّمت أن القلبَ ليس محطة،
ومن دخل لا يملك حقّ البقاء إن لم يُجِد السكنى.
تعلّمت أن الانكسار ليس قدَري،
وأن الانحناء لا يُشبهني،
فرفعتني خُذلتي، حين خفضتني الثقةُ بغير أهلها.
أصبحت أزهر بصمتي،
وأُزهِرُ في وحدتي،
لا أُعاتب الغائب، ولا ألاحق المارّ،
فمن أراد البقاء، لن يحتاج إلى نداءٍ ولا إنذار.
قلّبتُ صفحات القلب، فوجدت أن أصفاها ما كُتب بالحذر،
وأدفأها ما لمسته كفّ الاتزان، لا كفّ الانكسار.
ما عدت أبحث عن النصف الآخر في أحد،
اكتشفتُ أن الاكتمال يبدأ حين لا يُنقِصني أحد.
فأنا لي، وبيني وبين قلبي عهد،
أن لا أُطفئ وهجي، لأضيء لغيري الوهم.
في الاكتفاء سلام،
وفي السلام حياة،
وفي الحياة… يكفيني أن أكون،
دون أن أكون لأحد.
كيف أُقيم عدلًا في محكمة الهوى؟
وكلّ الأدلة تُبرِّئك من الغياب،
وتلك مكامنُ الحضور تُبرِّئك من ذنب الغياب،
وتُلقي باللوم على قلبٍ أفردَ لك العشقَ الحلال،
وفي قلبي نبضُ وفاءٍ، غالقًا ما دونه ألفُ باب.
كيف أزن الحُب بميزانٍ بشري؟
وفيه تختلّ الحدود والمعايير،
وهو يسرقني من بينِ نبضِ قلبي،
يلهج لك بالحُبّ طوعًا،
وبين عارضٍ يُناكف صدقَ المشاعر،
ويُسقطني في دائرةِ المحاسبةِ والأَسْر.
أأيّ عقلٍ يقوى على هذا السُّهاد؟
ووجهك يقتحم أحلامي،
وصوتك يتسلّل من شقوقِ الصمت،
فيوقظ في داخلي
طفلًا يُعاند واقعَ الأمر.
ما ذنبي إن اختلّ توازني؟
أأنا مَن اختار أن يسكنك؟
أم أنتَ من تسلّلت خفيةً،
وزرعتَ في صدري وطنًا
لا يُنازعه أحد؟
أطلبك... لا بصوتٍ يسمع، بل بصمتٍ يفيض.
من مكانٍ عميقٍ في القلب،
من رعشةٍ تسكن أطراف الانتظار،
من دعاءٍ لا يُقال،
من حنينٍ يتلبّس النبض، ويصوغك بينه وبين الحياة.
أطلبك... كما يطلب الغيمُ وعد المطر،
كما تشتاق الأرضُ ظلّ المساء،
كما ينادي النجمُ نوره البعيد،
فلا أنت بعيد، ولا النداء يصمت.
أطلبك... لا سؤالًا، بل شعورًا.
أنت المعنى في الفراغ،
والنبض في السكون،
والصوت الذي لا يحتاج إلى نُطق،
لأن الحنين أبلغ من الكلام.
فدعني أطلبك كما أنا،
حرفًا هادئًا في عاصفة،
وصمتًا يتكلم حين تغيب،
وشوقًا لا يريد جوابًا
الصمتُ ليس سَلامًا دومًا،
فربّ سكوتٍ يخفي وجعًا مقيمًا، وهمًّا لا يُطاق له حِملًا ولا لَومًا.
وربما الحزنُ، أوسعُ من دمعٍ يُسكَب،
وأعمقُ من شكوى تُكتَب،
بل قد يسكننا كغيمٍ بلا مطر،
ويمضي بنا كظلٍّ بلا أثر.
كم من وجعٍ مرَّ،
لم نجد له اسمًا نُنادِيه،
ولا قلبًا يُجاريه،
ولا رفيقًا يُخفّف عنّا بعضًا من أَساهُ ويُبقيه.
نملكُ نعمةَ النُطق،
فنظنّ أن من لا يشكو لا يَشعر،
لكن… ماذا لو كانت الأرواحُ من حولنا تَئنّ،
والكائناتُ تَحزن،
لكن بِلُغاتٍ لا نَفهمها، ومواجعَ لا نُترجمها؟
ماذا لو أنّ الورقة حين تُنتَزَع من غصنها،
تَبكي؟
لكن بكاءها بلا صوتٍ ولا لون، فلا نَراه.
وماذا لو أن الحجرَ يحمل ذاكرةً لا تُنسى؟
وأن الماءَ حين يُهجر، يَعرف الخُذلان لكنه لا يَشكُو؟
نحن لا نُحسنُ إلّا سماعَ أنفسِنا،
ولذلك… نَجهل كم من الأشياءِ حولَنا تتألّم، بصمتٍ أشدُّ من صوتنا.
في دياجيرِ الليلِ أسري، وكأنّي ببعضي يتلمّسُ فُتاتَ يقين،
والبعضُ الآخرُ يُفتّشُ في جيوبِ الغيبِ، لعلّ فيه أجدُ نفسي التي غيّبها طويلُ السُّهاد.
وعلى ظهري أحملُ أسفارًا من الأسئلة، كما عشّشت في عقلي،
تراوحُ مكانَها، لا تنفكُّ عنّي.
وفي كلّ مرةٍ أوهمُ نفسي – كي أقطعَ الطريق – بأنّ إجابةَ السؤالِ ستكونُ عند نهايةِ الطريق!
وما في قلبي إلا نافذةٌ واحدة، أطلُّ منها على الجهاتِ الأربع،
وأضفتُ معها اثنتين من الجهات!
ومع هذا...
يُفضي بي الحالُ إلى جدارٍ مسدود؛
جدارٍ كتبتُ عليه ذاتَ وهمٍ: "هنا مرّ حلمٌ، ولم يَعُدْ."
فالذينَ رحلوا لم يأخذوا صُوَرهم،
لكنّهم تركوا في الصوتِ صدىً،
وفي الهواءِ رائحةَ وداعٍ ما زالت تُربكُ أنفاسي.
يستفرغ الواحدُ منّا من مكامنِ الذاكرة أوجاعَ الأمس،
حينَ يستغرق في محاولةِ الخلاص من عقدةِ الماضي...
يمدّ يده إلى أرشيفٍ من الأسى،
يحاول أن يطوي صفحاته،
لكن الحروف ما زالت رطبةً بالبكاء.
بعد أن طالَ النحيب،
وتقلّصت الآمالُ في إدراكِ النصيب،
بات الصبرُ هشًّا،
تتكئ عليه بقايا حلم،
وتتدلّى منه خيباتٌ لا تُحصى.
أحراشٌ يمتدّ نابتها،
حتى تسوّرت جدرانَ الممكن،
وعشّشت في زوايا الصبر،
تُقيم بين أضلاع القلب
كغصّةٍ لا تبرح،
وكأن الانتظارَ أصبحَ هو المقام الوحيد.
هي خواطرُ تصبّ في ذاتِ المعنى،
تُسكَب من حبرِ المعاناة،
وتستشرفُ الخلاص من لججِ المستحيل،
علّ الرجاء، وإن خفت صوته،
يجدُ له منفذًا من بين ضلوعٍ أنهكها الترقّب.
لستُ من الذين يخضعون لفرضِ الواقع،
لأنّ يقيني بربي الخالق،
فأمرُه بين الكافِ والنون،
وإذا أمرَ، فليس لأمرِه دافع،
فمن بيده مفاتيح الفرج،
لا يُعجزه مطلب،
ولا يُخلف وعدًا لعبدٍ طرق بابه صادقًا.
إلى ذلكَ المارِّ على دثارِ الوفاءِ، الذي باتَ خرابًا ينعقُ فيه الغرابُ المنكوبُ...
لكَ الألمُ — يا عابرَ القيمِ — حين تعبرُ عليها فلا ترى سوى أطلالٍ شاخصةٍ تروي حكايةَ الزوالِ، وأثرًا بعدَ عينٍ تهمسُ بأنّ المروءَةَ قد نُفيت من ديارِ الإنسان!
مخلّدٌ ذكرُها من غيرِ أن تُسكن، ولم يكن نصيبُها غيرَ دمعٍ على ضريحِها يُسكبُ، كأنّها قيمةٌ وُئدت في رحمِ التزاحم، وبُعثت في ذاكرةِ الأسى والخذلان.
اهتزّت بوصلةُ التعريفِ والتصنيف، وتلاشت الحدودُ بينَ النقيضِ ورديفِه،
حين باتَ الوفاءُ شعارًا للتزيينِ لا للتبيين،
وصار الإخلاصُ قناعًا يُلزَقُ بصاحبِه ليعبُرَ من خلالِه إلى غاياتِه وأطماعِه،
في زمنٍ تلوّثت فيه الموازينُ، وارتدى الزيفُ رداءَ الصدقِ حتى خُيّل للناسِ أن الظلَّ هو النور!
نطوفُ — عبرَ آلةِ الذاكرةِ — على أرصفةِ الحنين، نقلبُ ألبومَ اللحظاتِ العابرة،
نبحثُ عن الأيامِ الغابرة ونحنُ نرفُلُ مع الإخوة،
وتعلو وجوهَنا الضحكاتُ الماطرة،
فتتلاشى كلُّها كما تتلاشى الألوانُ عندَ انطفاءِ الضوء،
والجاني... تلك المشاغلُ القاهرةُ التي اغتالت بساطَ القربِ باسمِ الانشغال!
إليكَ رسالةً أبعثُها من بريدِ قلبي،
رويدكَ... فبعضي وكُلِّي قد اشتاقَكَ،
فقد تبعثرتُ بعدكَ كما تتبعثرُ أوراقُ الخريفِ في وجهِ الريح،
والأنواءُ المضطربةُ تعصفُ في بقايا حياتي،
وأنا كالسفينةِ في لُججِ الضياعِ غارقةٌ،
ألوّحُ بنداءِ لا يُسمع، وأستنجدُ بظلٍّ غابَ في غياباتِ المسافةِ والزمن!
فيا أيّها الإنسانُ الذي أضاعَ بوصلةَ الوفاءِ،
أما آنَ لقلبِك أن يستفيقَ من سباتِ المصلحةِ؟
أما آنَ أن نُعيدَ للحبِّ نُبله، وللعهدِ صدقه، وللإخلاصِ وجهَه الأول؟