احصائيات

الردود
0

المشاهدات
234
 
أحمد فؤاد صوفي
كاتب وأديـب

اوسمتي


أحمد فؤاد صوفي is on a distinguished road

    موجود

المشاركات
1,840

+التقييم
0.31

تاريخ التسجيل
Feb 2009

الاقامة

رقم العضوية
6386
يوم أمس, 12:16 AM
المشاركة 1
يوم أمس, 12:16 AM
المشاركة 1
افتراضي *حُبٌّ في المُخَيَّمْ*

*حُبٌّ في المُخَيَّمْ*

اضطرته ظروف الحرب والاشتباكات المتكررة إلى النزوح عن موطنه الأصلي، والإقامة في مخيم قدمته مفوضية الأمم المتحدة على عجل للنازحين، واستطاع بعد جهد كبير أن يحصل مع عائلته على خيمة تؤويهم، وتم تأمين بعض المتاع فيها، بطانية لكل منهم، وفرش ذات سماكة ضئيلة، ينامون فوقها، وحصى الأرض وتضاريسها تستمر بالضغط على جنوبهم.
كانت الخيمة التي حصلوا عليها تقبع قريبة من مدخل المخيم، وقريبة من شاحنات المساعدات المخصصة للتوزيع على المحتاجين.
وقد وجد قاسم أن من واجبه، وهو الشاب القوي، أن يساهم في توزيع المؤن والحاجات الأخرى إلى عمق المخيم.
ويوماً إثر يوم، صار منظره مألوفاً لدى الجميع، كلما رأوه علموا أن خيراً سينالهم.
اشتد المطر يوماً، فغرق المخيم في أشبار من الوحل، ونال البرد القارس من المخيم كله، والبطانيات التي تم توزيعها لم تعد كافية لتوقف البرد الواصل إلى العظم، هدوء لافت أصاب الجميع، أما قاسم فكان لديه نظرة أخرى،
ليس الآن وقت الراحة، علي أن أوزع البطانيات فهذا وقتها، الأطفال يشعرون بالصقيع ولا يجدون دفئاً.
قام منذ الصباح بنشاط لافت، والداه لم يتمكنا أن يثنياه عن عزمه،
*يا ولدي، هناك صقيع ووحل ومطر، انتظر حتى يصفو الجو.
*والدي، لا أستطيع، الناس يموتون من الجوع والبرد، اطمئنوا، الله سيحميني.
يسرع ويحمل حزمة من البطانيات، حزمة ثقيلة ترهق الكاهل، ويجري بعيداً ليبدأ توزيعها، وعند كل خيمة ينادونه،
*ادخل تدفأ قليلاً، واذهب بعد ذلك، الجو قارس البرودة.
*آسف لا أستطيع، لدي عمل كثير لباقي اليوم.
ومن خلال شق في الخيمة يراها، عينان أخاذتان وشال أزرق، وجسد ملفوف كامله ببطانية، ولا يظهر منه إلا عيناها.
للحظة واحدة تجمد في مكانه، تغلي في عروقه دماء الشباب، ولكنه أسرع في الابتعاد ليكمل مهمته النبيلة.
حمل حزمة البطانيات الأخيرة، ولكن قدميه أخذتاه قسراً إلى خيمة ذات الوشاح،
*هل تحتاجون إلى بطانيات أكثر!
*كلا، صار لدينا ما يكفينا، البرد قارس، أرجوك ادخل وتدفأ معنا، لدينا حساء جاهز، وسنقدم لك الشاي أيضاً.
*أخشى أن أزعجكم.
*أرجوك يا بني، أدخل.
ووسع له صاحب الخيمة مكاناً قربه، وإلى جانبه جلس أولاده الثلاثة، وقبعت أمامه الوالدة وبقربها صاحبة الوشاح الأزرق.
تمنى لو يستطيع أن يرفع رأسه ويطالع هاتين العينين مرة ثانية، ولكنه لم يستطع ولم يجرؤ.
وكذلك فعلت صاحبة الوشاح، لم تستطع النظر، ولم تستطع الإتيان بأية حركة، هدوء مشوب بالحياء والتوتر، وانتهت الزيارة القصيرة على خير،
*أعدكم، سأزوركم مرة أخرى، إلى اللقاء.
ومرت الأيام على منوال واحد، ثم جاء المطر يهطل بقوة وبرز طين الأرض بشكل أوقف توزيع المساعدات، خمسة أيام مرت وصاحبنا يحصيها بصمت ساعة بساعة، يريدها أن تنقضي، فقلبه تعلق بذات الوشاح تعلقاً شوش تفكيره، ومنع عنه النوم والطعام.
بعد أيام متتالية، تحسن الطقس قليلاً، مما سمح بمعاودة السير ولو بصعوبة في دروب المخيم الموحلة، ومعاودة توزيع الخبز وماء الشرب، وهو أكثر ما تحتاجه العائلات في مثل تلك الظروف السيئة.
*عمي أبو محسن، أرجوك، تسلّم مني الخبز.
*أهلاً يا بني، لقد مر زمن طويل، أين كنت !.
*والله يا عمي لم يسمح الطقس والمطر بالخروج وعمل أي شيء أبداً.
*أدخل يا بني، أفطر عندنا، لدينا زعتر وزيتون.
*عمي، إني أثقل عليكم، لا تؤاخذني، اعفني أرجوك.
*لا يمكن، يجب أن تفطر عندنا ثم يمكنك أن تذهب بعد ذلك.
ودخل قاسم وجلس، وكله سعادة ورغبة، وقد كان قبل يدعو الله أن يقوم أبو محسن بدعوته للدخول بل وأن يلح عليه، وإلا فكيف يمكن له أن يشاهد صاحبة الشال مرة أخرى.
في هذه المرة، فصاحبة الشال هي التي حضّرت الشاي، وهي من وضعته أمام قاسم، وهي أيضاً من ابتسم.
صار قلبه يطرق بقوة، نبضة إثر نبضة، تراجع قليلاً في جِلسته، خشي أن يَسمعَ قلبَه الجالسون، فيشي بما ينتابه، صواريخ العدو وصوت الانفجارات لم ترهبه يوماً، وابتسامة صغيرة قلبت كيانه.
لا يدري كيف تناول الطعام، ولم يدرِ كيف شرب الشاي الساخن بهذه السرعة، ولكنه كان يريد الهروب والاستئثار لنفسه بالابتسامة المشرقة التي تسلمها من صاحبة الوشاح، يريد أن يستذكر اللحظة، فلا تشرد منه ولا تتوه منه في زحام الحياة.
نما الحب وتجمع في القلوب المراهقة، التي تلقفته بلطف وحنان، ولم يعترض من العائلتين أحد، وصار الشغل الشاغل لصاحبة الوشاح أن تنتظر قاسم كل يوم ليجلس بينهم، وقد أصبح فرداً لا غنى عنه تحت ظل هذه الخيمة، ولو تأخر يوماً، فنظرة العتاب تقلب كيانه قلباً.
وبالقروش القليلة التي يتسلمها من وحدة الإعانة، كان قاسم يتحين الفرص ليشتري الهدايا لصاحبة الوشاح، وقد تمكن بمساعدة والدته أن يشتري لها خاتماً ذهبياً بسيطاً، فرحت به كثيراً، حتى أنها لم تستطع كبح دمعتها حين وضعه في كفها، وكانت نظرتها إليه حينها تكفي حباً لكل البشر، وبالمقابل فقد استعملت الحبيبة خيطاً غليظاً قامت بجدله ثم شكلته على هيئة خاتم وأهدته لقاسم، الذي فرح به فرح طفل فقد أمه ثم وجدها بعد عناء.
عاود العدو الجبان قصف المدنيين في بيوتهم وفي المخيمات قصفاً عشوائياً يركز على الهدم والإبادة، وأخذ المخيم نصيبه بوفرة، قذائف تحصد الأرواح والممتلكات، في ظل صمت عالمي مريب ليس له في الإنسانية عذر ولا تفسير، وكلما توالى القصف، كان قاسم يهرع إلى خيمة صاحبة الشال يشجع الأهل ولا يتركهم في مثل تلك الظروف الاستثنائية العصيبة.
توقف القصف، وامتد الهدوء لأيام متتالية، وعادت شاحنات المساعدات للتوزيع اليومي، وعاد قاسم إلى عمله وزيارته اليومية لحبيبته التي كانت تنتظره كل يوم على أحرّ من الجمر، وقد صار بمقدورها أن تسلم عليه وتتكلم معه، ونظرات من الحب تجمع بينهما، وتبني لهما مستقبلاً آمناً ووعوداً يتمنيانها أن تتحقق.
في يوم شتوي سوداء سماؤه، فجأة وبدون سابق إنذار، دوّت قذيفة غادرة توجهت إلى شاحنة المساعدات، وكان قاسم يباشر حمل الخبز لتوزيعه، وحوله زملاؤه وعدد من المسؤولين، أتت القذيفة على كل شيء، وتركت في الأرض فجوة واسعة، دلّت على قوة الضربة ومدى شناعتها.
لم ينجُ من المجموعة أحد، بل إن الأجساد اختفت وأصبحت مِزَقاً، ولم ينجُ إلا الخاتم المجدول، وجدوه ملقى بين الركام، ونهاية بائسة مفزعة شريدة أخرى، كتبت لقصة حب كادت أن تكون حلماً يتحقق.




مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 16 ( الأعضاء 0 والزوار 16)
 

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:45 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.