احصائيات

الردود
0

المشاهدات
5
 
مُهاجر
من آل منابر ثقافية

اوسمتي


مُهاجر is on a distinguished road

    موجود

المشاركات
640

+التقييم
0.45

تاريخ التسجيل
Feb 2022

الاقامة
مسقط

رقم العضوية
16905
اليوم, 04:47 PM
المشاركة 1
اليوم, 04:47 PM
المشاركة 1
افتراضي التدين حين يفقد روحه
كنت أتصفح الكتاب الذي أهداني إياه أحد الإخوة الأعزاء، والذي كتبه في حلته القشيبة، وضمنه قصصًا لطيفة جميلة، فيها من الدروس والقيم والعبر ما لا يستغني عنه من أراد السلامة في هذه الحياة. وكنت أقرأ قصة عندما مات العصفور، وكان بطلها منصور، ذلك الشاب الملتزم الذي عشقه أهل قريته بعدما أفاض عليهم من أخلاقه، ونالوا من فضله وعطائه، إذ تعودوا منه سبق الزيارة وتلمس الحوائج، واعتاد مبادرة التحية على الصغير والكبير، فلا يستثني منهم أحدًا، فالمعيار عنده أننا جميعًا أبناء آدم وآدم من تراب.


كان مع أهله نموذجًا تشرئب له أعناق الفقد، لما لذلك الخلق العظيم الجم من أثر، في زمن شح فيه وجود أمثال من اكتسبوا تلك الخصال التي استنزفتها المصالح في ظلال التكالب على نيل الغنائم من متاع زائل. وبعد تلك الشمائل التي رقّت منصور ليكون رمزًا لتلك القرية الآمنة الصغيرة، تغير الحال وتبدل بعدما هجم على قريته ذلك السيل العرم الذي أطاح بالكثير من المنازل، فهجرها أهلها ويمموا وجوههم لمناطق أخرى يحقنون بها أرواحهم. قل وجود الناس هناك، وانشغل منصور ببيته، يرممه ويصلح ما تلف منه.


بات بعد ذلك حبيس البيت، بعدما ذهب الكثيرون، وبقي يضاجع الهموم ويناكف التفكير، حتى أتته زوجته الحنون وأشارت عليه أن يبحث عن الأصدقاء الذين يخرجونه من حال عزلته. تعرّف على قوم عرفوا بالمطاوعة، مع التحفظ على التسمية، فسار سيرتهم، وبدأ يتأخر عن الرجوع إلى البيت، فهجر بذلك أولاده، وما عاد ذلك الأب المثالي الذي كان القدوة لهم، وأخذ يعنف زوجته، ويسمعها الكلام الجارح، ويبرز لها أن القوامة له وبيده، وأنه المتحكم بها.


انقلب البيت السعيد ليغدو بيتًا خربًا، ينعق على أعتابه غراب الشؤم الكئيب، حتى ذلك العصفور الذي كان يتعاهده ويسوق له الطعام ويضع له الماء هجر عشه ونسي أمره. وبدأ مع أصحابه الجدد في تصنيف الناس، فهذا فاسد وذاك طالح، وهذه سافرة وتلك متبرجة، ليكون السلام والتسليم على حسب ما يراه من صلاح أو فساد من يلاقي، وحكم الظاهر هو الذي به يلاسن ويحاجج.
كانت زوجته زينب تحاول جاهدة أن ترده إلى صوابه ليعود منصور الذي كان يطيب الجرح بصفاته، ولكن من دون جدوى. واستنكر الناس فعله، فما عادوا يرون ذلك الخلق ولا تلك الابتسامة. وفي يوم من الأيام، وهو واقف عند الشجرة، سقط ذلك العصفور من أعلاها ميتًا، فكأن ماسًا كهربائيًا هز كيانه كله، فكانت العودة إلى الصواب، إذ عاد يصرخ وينادي زوجته، يحتضنها ويقبل رأسها ويديها، معتذرًا عن كل ما بدر منه، معاهدًا نفسه وإياها أن يعود منصور الذي قتله بيده، حين استمع إلى تلك الزمرة التي جعلت الدين مطية لنسف جسور التواصل بين الناس، وصنفتهم بأفعالها وأقوالها، وحفرت بذلك خندق الإقصاء والتمييز، متناسية أن الدين معاملة، وأن الأخلاق وحسن الفعال هي التي تقلب الموازين والمعادلات.


وفي تعقيبي المتواضع على هذه القصة، يبرز الأسف حين ننطلق بزفرات من الأسى من واقع يتجاوز الأمور إلى ذلك السواد الكثيف من المخالفات الشرعية التي باتت تصنف من البديهيات وصغائر الأمور، كتساهل بعض الناس في خروج خصلات من الشعر، أو بروز الساعد من بين ثنايا الثوب. أعلم أن بعض الأفعال لا تكون عن سابق قصد، ولكن الكثير حين تبدي له النصح يتضايق وينعتك بالتشدد وتعظيم القول.


ومع ذلك، فإن للتعامل الحسن والطريقة اللطيفة إذا اقتضى الأمر أثرًا بالغًا في نفس وقلب مرتكب الخطأ، حين ترسل له ورود الود من كلمات تفتح الصدر، فيغوص النصح في سويداء القلب، ويكون القبول ثمرة له، لا أن يبادر بقصف الجبهات وتحقير الكيان حتى يحسب الإنسان نفسه واقعًا في جحيم الموبقات.


من هنا يتبين الفارق بين الأمرين لمن أراد الرشد. فالتدين ليست له بطاقة هوية بالصورة أو الشكل، وإنما هو ما وقر في القلب وصدقه الفعل، لا بالتمني ولا بالدعوى والتجني، ولا يعني أن تكون متدينًا أن تحيط نفسك بهالة من القداسة، وتنظر إلى الناس من برج عاجي على أنك المنزه وغيره واقع في الإثم.


وفي عمق هذا المعنى، يتجلى أن الإنسان ليس بما يرفع من شعارات، ولا بما يعلّق من لافتات، وإنما بما يحمل في قلبه من نور أو ظلمة، فالقلب إذا صلح صلحت الجوارح، وإذا تعكر انعكس ذلك على السلوك والأقوال. فكم من متدين في الظاهر خواء في الباطن، وكم من بسيط في هيئته عظيم في جوهره، يحمل من صفاء السريرة ما لا تحمله المظاهر المزوقة. إن الروح إذا غذيت بالرحمة سمت، وإذا سقيت بالحكمة استقامت، وإذا خنقت بالغلظة والقسوة انطفأ فيها وهج الإيمان، وإن ظلت تردد ألفاظه.



فالدين ليس قيدًا على الفطرة، بل تحرير لها من أهواء النفس، وليس سوطًا يلهب الظهور، بل بلسم يداوي الكسور، هو سكينة تمشي على قدمين، وعدل يسكن في الضمير، ونور إذا حل في القلب أضاء ما حوله من القلوب، فلا يحتاج صاحبه إلى رفع صوته، ولا إلى تصنيف غيره، إذ إن الحق يعرف بهدوئه، ويشهد لنفسه بآثاره.


وهكذا يبقى الميزان مرفوعًا، لا يميل إلا بقدر ما يميل الإنسان عن سواء السبيل، فمن جعل الدين جسرًا إلى الناس وصل، ومن جعله خندقًا دونهم انعزل، ومن لبسه خلقًا قبل أن يرفعه قولًا، كان أقرب إلى الله، وألصق بروح الرسالة، وأصدق أثرًا في الأرض.



مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: التدين حين يفقد روحه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الولد الصغير و الرجل البدين أ محمد احمد منبر ذاكرة الأمكنة والحضارات والأساطير 1 06-22-2019 04:20 PM

الساعة الآن 06:54 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.