كنز ممتاز بك
رواية قصيرة
نزار ب. الزين*
*****
      جلس ممتاز بك في صدر الليوان و قد ارتدى قمبازه* من قماش الصاية  مداعبا مسبحته  (الكهرمان*) و كأنما يعد خرزاتها ، بينما انشغلت عيناه بتأمل البحرة* الرخامية التي تتوسط أرض الديار* ،  بمائها الدافق و صوته الرخيم مضفيا شعورا بالراحة و الاسترخاء؛ ثم سرح بفكره الى الماضي السحيق يوم كان ضابطا في الجيش العثماني مسؤولا عن التموين في متصرفية جبل لبنان ، كانت حقا أيام عز أين منها الآن ، همست ذاته لذاته .     
     اختلس نظرة الى سيفه  المعلق بقبضته الذهبية ، فتداعت للحال صور بذته العسكرية و أوسمته البراقة التي كانت تنتشر على صدره في المناسبات الرسمية ، و شركسيته* السوداء تزينها شارة رتبته المذهبة ، و عصاه القصيرة الملبسة بالجلد المزخرف ؛ كانت حقا أيام عز أين منها الآن ؟
  وصل شريط الذكريات الآن الى دارته هناك ، كانت قصرا من طبقتين تطل احدى شرفتيه الكبيرتين على وادي حمانا بصنوبراته الباسقة و غيماته العابثة، التي كانت لا تكف عن الرقص على أنغام النسيم العليل ، بينما تطل الأخرى على سكة القطار و من خلفها طريق العربات السفرية - التي تجر كل منهاستة من الخيول - و المؤدية الى بيروت شرقا و دمشق غربا.
  تخيل أنه يعيش تلك اللحظات ؛ الدارة تعج بالخدم و العسكر و العربة ذات الحصانين و سائقها الأرنؤوطي في انتظاره ليتوجه الى مكتبه أو يعود منه ، و الخيرات التي كانت تتدفق من كل صوب ؛ فقد كان يملك التصرف بأطنان من الأرزاق و اللوازم ، و يتحكم برقاب عشرات المقاولين و المنتفعين الذين ما كانوا ليكفوا عن تقديم الهدايا و الخدمات له أو لأفراد أسرته ، فتسربت الى صندوقه الحديدي غير القابل للإحتراق ، آلاف المجيديات* و مئات الليرات الذهبية العثمانية و الإنكليزية ؛ كانت حقا أيام عز أين منها الآن ؟!
     تجسد له الآن منظر العجائز و الصبايا و حتى اليافعات ، يمشين الهوينى على طول سكة القطار و ظهورهن محنية و عيونهن تبحث عن حبيبات القمح أو الشعير أو الذرة مما يتسرب من مقطورات قطار مر في الليل أو عند الصباح الباكر ؛ كانت سعيدة الحظ منهن من تتمكن في آخر اليوم من التقاط حفنة تصنع منها (رغيف صاج*) تسد به رمق أطفالها، فقد وقع  ذلك البلد الجميل تحت وطأة مجاعة استمرت استمرار الحرب العالمية الأولى التي كانت السلطنة العثمانية شريكة بها .  .
  أما هو- وعائلته - فقد كان يعيش عيشة أمراء ألف ليلة و ليلة ، مما أوغر صدور الضباط الأتراك و خاصة بعد أن أصبح الضابط العربي الوحيد في بلدة صوفر– فقد تشتت الضباط العرب الآخرون بسبب سياسة التتريك* -  فلما شعر أنه أصبح غريبا بينهم و أنه مراقب أوقف كل مظاهر البذخ و ابتدأ يستعد لما هو أسوأ ، فاشترى بيتا جميلا في حي القيمرية في دمشق و أراضٍ زراعية في غوطتيها الشرقية و الغربية ثم سجلها جميعا باسماء أهل بيته و اخوته و أخواته ، و أخفى ثروته من الذهب و الفضة و كل  ذي  قيمة  في  مكان  سري  في  منزله الدمشقي . 
    كانت أياما عصيبة – همس لنفسه – و خاصة عندما ابتدأت محاكمات بلدة (عاليه)* و ما تبعها من اعدام لعدد كبير من السياسيين و المثقفين العرب بتهمة التآمر على السلطة ؛ تذكر كيف أرسل أفراد أسرته الى دمشق و مكث في صوفر لوحده مشدود الأعصاب ؛ و لحسن حظه- و رضا الوالدين- ؛ لم يفطنوا اليه الا متأخرين .
     تذكر كيف استدعاه من ثم  أحد المسؤولين في المحكمة العسكرية ببيروت موجها اليه تهمة استغلال مركزه - التي تحمل في طياتها عقوبة الاعدام  .
     ابتسم ممتاز بك ابتسامة عريضة عندما تذكر المحققين و كيف قاموا بتفتيش دارته في "صوفر"  شبرا شبرا و كيف حفروا حديقته فقلبوها رأسا على عقب ، بينما قام آخرون بتفتيش منزل العائلة في دمشق ، و سجله العقاري ، دون أن يتمكنوا  من العثور  على أي دليل يدينه ، فكان أن أطلقوا سراحه بعد احالته على التقاعد المبكر .
      لعنهم الله – همس لنفسه – فبقدر ما تجبروا و طغوا في آخر عهدهم ، بقدر ما كانت هزيمتهم سريعة إبّان الثورة العربية المدعومة من الإنكليز ؛ ثم تذكر اعلان المملكة السورية التي لم تدم أكثر  من  سنة ، حين  استجاب الملك  فيصل  الأول لإنذار  الفرنسيين ، و كيف  تمرد  يوسف  العظمة  – جعله الله من أهل الجنة – فجمع ما استطاع جمعه من أفراد الجيش المسرح و خاض بهم معركة ميسلون غير المتكافئة .
     القى – الآن – نظرة على الساعة المعلقة في الصالة فأدرك أن صلاة الجمعة حانت ثم ما لبث كَوْرس من المؤذنين أن ابتدأ بالأذان من مئذنة العروس القريبة – و هي من مآذن الجامع الأموي-  و وفق طريقتهم الفريدة .
     قام الى البحرة فتوضأ بينما وقفت زوجته الى جانبه حاملة له المنشفة ، و بعد أن جفف الماء عن وجهه و يديه قالت له داعية : "من زمزم سيدي ، الله يتقبل" .
      -2-
  - المهم كيف أحوالك... أختي أم سعيد ؟
  سألها الأستاد عبد الباقي ، فهو ابن عمتها و شقيقها الرضعي و وضعها هذا سمح لها أن تستقبله سافرة، فأجابته متنهدة : 
   - من سيئ إلى أسوأ يا أخي ، انه يزداد بخلا و تقتيرا ، الأمر الذي لم نعتد عليه ، سواء أنا أو الأولاد .
  - لا حول و لا قوة الا بالله  
  قالها أبو سمير متأسفا . 
  ثم أكملت شاكية :
  - عيد الأضحى على الأبواب و يرفض أن يعطينا أي مبلغ يفرح الأولاد بملبس جديد ، و حتى أنه رفض أن أن يضحي بهذه المناسبة القدسية ، فقد جرت على لسانه عبارة : (ما معي) .
  - لعله فعلا معذور يا أختي أم سعيد ؟!
  - أنا أعرف أنه مليء ، صحيح أنه بعثر الكثير من ماله على مشاريع فاشلة و لكن بقي لديه الكثير لا أعلم أين يخفيه ، لقد نقبت في كل زاوية فلم أعثر على (متليك*) و حتى لو فرضنا أنه مفلس فلديه أملاك فليبع منها يا أخي  ليفرج عنا  . 
  - أملاكه  مسجلة بأسماء إخوته ، و هم يتهربون من اعادتها اليه ؛ لقد جاءني الى المكتب ناويا مقاضاتهم الا أنه لا يملك أي  سند ،  و ليس  لديه  شاهد  واحد .
   صمتت لحظة ثم قالت هامسة  و قد دمعت عيناها :
  - هل لديك مكان لسر ؟
  - سرك في( بير).. اختي أم سعيد .
  - لقد بدأ يتغير مند أن تعرف على الشيخ ابراهيم ، يأتيه بعد صلاة  كل يوم جمعة ، فيجلسا في القاعة حتى منتصف الليل ، و لا أحد يدري ما يفعلان ؛ هؤلاء العرافين – لعنهم الله - اذا دخلوا بيتا خربوه ؛ أجابته فسألها متعجبا :
  -  ألم تناقشيه بالأمر ؟
  - من يجرؤ ؟ فقد  حاول سعيد مرة الدخول الى القاعة لحاجة  فأشبعه والده ضربا .
   ضرب كفا على كف و هو يجيبها منزعجا:
  - لا حول و لا قوة الا بالله ...ألهذه الدرجة ؟ 
   ثم أردف :
  - يجب  أن  ينبهه أحد ، دعيني أفعل .
  -  إياك ثم إياك يا أخي ، فسوف يحرمنا من رؤيتك ،  فلم يبقَ لنا سواك .
  و بعد فترة صمت ثقيلة ، سألته خجلة :
  - هل بامكانك اقراضي بعض المال ؟
    - 3-
  - هل  تحب  الفرجة  على  الشيخ  ابراهيم  و ما يفعله برفقة أبي ? 
  سأل سعيد صديقه سمير ، فأجابه ملهوفا :
  - و لِمَ لا  ؟ و لكن هل سيسمح والدك ؟
  ( كان سعيد قد رجا خاله الرضعي أن يسمح لسمير بالبقاء في زيارته الليلة فسمح له بعد الحاح منه و من أمه )
  - لا تخشى شيئا فلدي موقع آمن يمكننا من مشاهدة كل شيء دون أن ينتبه الينا أحد . 
  -  و لكن ما الذي يفعلانه و لِمَ كل هذه الأسرار ؟
  - انهما يحضران الجن ليرشدوا والدي الى الكنز !
  استبدت بسمير عاطفتان متناقضتان ، الرعب الشديد و الفضول الأشد ، و لكن الصبيين تسللا ثم اندسا خلف مستودع خشبي للحبوب التي ترد الأسرة من أراضي أبيه الزراعية .
  كان أبو سعيد قد أعد للجلسة عندما قرع الباب فهرع لاستقبال الشيخ ابراهيم ، و أخذ سمير من ثم يصغي الى كل ما يدور مسترقا النظر كلما تسنى له ذلك .
    -4-
  الشيخ :- قرأت الورد* الأول يا أبا سعيد ؟
  أجابه ممتاز بك 
  - أجل سبع مرات كما أوصتني .
  -  أمتأكد أنك كنت متوضئا ؟
  - مؤكد شيخي ! أتلوها بعد كل صلاة ..
  - أخيرا استطعت احضار البخور و العنبر ، أما العنبر فبعد مشقة ، اذ أصبح على ما يبدو سلعة نادرة ، يلزمني خمس و عشرون ليرة سورية أخرى لسداد بقية ثمنه .
  -  ( تكرم عيونك شيخي ) فقط ذكرني بها آخر الجلسة ... 
  همس سعيد باذن سمير : (( الشيخ  ابراهيم تكرم عيونه أما الفريخ سعيد فعمى بعيونه !  ثم أضاف ساخرا  "و ما نفع ( الشراطيط* ) ؟" أجابني هازئا  عندما أعلمته أنني بحاجة الى ثياب جديدة ))
  قال أبو سعيد شاكيا :
  - الأمر طال شيخي ، أكثر من سنة حتى الآن  !
  - أعوذ بالله منك .... أعوذ بالله منك ؛ أنت تفسد كل شيء بلهفتك و تعجلك !.
  - و لكن قلت أنهم سيحضرون اليوم ، ألا زلت عند وعدك ؟
    نهض الشيخ واقفا و هو يقول بغضب شديد :
  -  خذ لي طريق ، أريد الانصراف ، إنهم لا يحبون  المتعجلين ، أفسح لي الدرب كي أنصرف  قبل أن نتعرض لأذاهم سواء أنا أو أنت ، و الأفضل لكلينا أن نتوقف في الحال .
  فأمسك ممتاز بك بتلابيبه مقسما :
  - عليّ  الطلاق  ثلاثا ، ما  أنت  متحرك  من  هذا  المكان .
  -  اذاً تجمل بالصبر ، 
  ثم أضاف سائلا :
  - هل تجمّر الفحم ؟
  - أعتقد ذلك شيخي سأحضر "المنقل*" في الحال .
    - 5-
  طأطأ الشيخ ابراهيم برأسه قائلا :
  - فلنقرأ معا الورد الثاني !
  ثم أخذا يهمهمان بينما عبقت رائحة البخور ؛ و فجأة صاح الشيخ بطريقة هستيرية :
  - الآن .. الآن .. الآن !
  ثم ألقى فوق الجمر مسحوقا فارتفع لسان من النار لثانية واحدة ، كانت كفيلة بأن يدب الذعر في قلب سمير فصاح هلعا  ، و فر من ثم هاربا ، ثم تبعه سعيد .
    - 6-
     قامت القيامة في منزل أبي سعيد ، فقد خرج ممتاز بك و بيده عصا من الخيرزان ، و هو يصيح غاضبا :
  - (( أين هذا الكلب ؟  و الله لن أتركه قبل أن أقطعه ارباً إربا ، لقد أفسد كل شيء !! )) .
  بينما كانت أم سعيد تتبعه باكية متوسلة أن "يكسر الشر" و يهدئ أعصابه ، أما سعيد فقد كان ينفر من حجرة الى أخرى ، و والده يتبعه ، ثم لم يجد مناصا من الفرار خارج المنزل .
    الا أن والده تبعه  باصرار الى أن استطاع الامساك به على درجات الجامع الأموي ، و ابتدأ يجلده و هو يصيح :
  -  لقد خربت بيتي يا ابن الحرام !!!
  و كاد يقضي عليه ، لولا أن هب أبو محيي الدين الخضري و أبو حسن البقال و أبو عرب الزهوراتي ، الذين استطاعوا إبعاده عنه  بعد جهد كبير ؛ أما سمير الذي أثاره هذا المشهد  ، فقد انسحب الى بيته حاملا معه أسوأ ذكرى لأسوأ تجربة مرت في حياته .
    - 7 -
  بعد أشهر توفي ممتاز بك  و بعد أقل من سنة - و بناء على نصيحة شقيقها الرضعي أبي سمير ، باعت أم سعيد البيت الكبير لشتري بجزء من ثمنه بيتا صغيرا  و تركت  باقي  الثمن  للإنفاق على احتياجات الأسرة .
  و بينما كان المالك الجديد يقوم بترميم  البيت اكتشف تحت أخشاب أرضية (القاعة*) حجرة صغيرة يمكن الهبوط اليها بسلم ذي بضع درجات ، و هناك وجد  صندوقا خشبيا  كبيرا و آخر حديدي صغير ، الأول وجد فيه مجموعة من الثياب العسكرية و الأوسمة و رزمة رسائل معنونة باسم اليوزباشي ممتاز حجازي ، أما الصندوق الحديدي فلم يتمكن من فتحه سوى مختص .
  كان في الصندوق بضع طاسات نحاسية فارغة ، عدا واحدة  كانت  مليئة  بعملات  عثمانية  قديمة 
  ( مجيديات* ، بيشليات* و متاليك* ) و بضع رزم من النقود الورقية  النمسوية الباطلة ! .
     بعد  أن  أفرغ  الصندوق  الخشبي  من  محتواه لاحظ أن قاعه يمكن تحريكه ففعل  ، و لدهشته الشديدة و فرحته الغامرة كانت هناك  ثروة من الليرات الذهبية الرشادية و الانكليزية ، يبدو أن ممتاز بك لفرط نذالته ، مات دون أن يبلغ أحدا من أفراد أسرته بسرها .
    ------------------------------
  * سياسة التتريك* : و هي إجبار الناس في البلاد التابعة للحكم العثماني - في أعقاب الإنقلاب على حكم السلطان عبد الحميد ، ثم إلغاء السلطنة تحت راية حزب تركيا الفتاة - على جعل اللغة التركية بديلة للغات الأخرى في جميع الدوائر الحكومية و المراكز الدينية .
  * صوفر : مصيف  لبناني يقع على طريق دمشق بيروت ، كانت مركزا عسكريا رئيسيا أيام العثمانيين
  * البحرة : بركة ماء صغيرة تتوسطها نافورة .
  * قمبازه : ثوب فضفاض من من قماش الصاية الحريري ، كان يرتديه القادرون في بيوتهم .
  * الكهرمان : نوع من الأحجار الكريمة تضيء إذ حركها صاحبها ضاغطا بين راحتي كفيه .
  * أرض الديار : ساحة الدار
  * شركسيته : نوع من القبعات السوداء كان يرتديها عسكر الجيش العثماني .
  * المجيدي : عملة معدنية عثمانية ، كل عشر منها تعادل ليرة ذهبية .
  * البيشلي : عملة عثمانية معدنية تعادل عُشْر المجيدي .
  * المتليك : اصغر عملة عثمانية تعادل كل مائة منها مجيدي واحد ، 
  * رغيف الصاج : الصاج وعاء كبير صُنِع  من معدن يحتمل الحرارة العالية يوضع مقلوبا فوق النار ، ثم توضع فوقه رقائق العجين ، إلى أن تتحول إلى خبز رقيق .
  * بلدة عاليه تطل على بيروت من علِ ، تقع في منتصف الطريق  بين صوفر و بيروت . 
  * الشراطيط : قطع قماش لا قيمة لها ، من ملابس قديمة ، أو من مخلفات الخياطين .
  * المنقل : وعاء نحاسي ذي ثلاثة أرجل يُملأ بالرمل و الرماد ، و يوضع على سطحه الفحم بعد أن يتجمر خارج الغرف . 
  * الوِرْد : ضرب من الأدعية ، تُتلى طلبا لنحقيق غاية .
  * القاعة : أكبر غرفة في البيوت الشامية القديمة ذات أرضية خشبية مرتفعة عن مستوى عتبتها ..
  ------------------------------
    سوري مغترب
  إتحاد كتاب الأنترنيت العرب