احصائيات

الردود
3

المشاهدات
29709
 
حاتم الحمَد
مؤسس ومدير شبكة ومنتديات منابر ثقافية

اوسمتي


حاتم الحمَد will become famous soon enoughحاتم الحمَد will become famous soon enough

    غير موجود

المشاركات
631

+التقييم
0.09

تاريخ التسجيل
Jun 2004

الاقامة

رقم العضوية
3
08-25-2010, 02:47 PM
المشاركة 1
08-25-2010, 02:47 PM
المشاركة 1
افتراضي كتاب ( الإيضاح لتلخيص المفتاح ) للخطيب القزويني
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

كتاب ( الإيضاح ) وهو في علوم البلاغة

وهذا الكتاب هو شرح وتوسع لكتاب ( تلخيص المفتاح )
وكتابا (الإيضاح) و ( تلخيص المفتاح)
ألفهما العلامة الخطيب القزويني أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن المتوفى سنة 739 هـ
في علم البلاغة .

فالكتاب الثاني لخص فيه كتاب ( مفتاح العلوم) للسكاكي والأول شرح مالم يدركه
في تلخيصه ذلك وغلق على فهم القارئ
ولانريد أن نتطرق إلا لكتابنا ( الإيضاح ) كي لاتتشعب بنا الطرق ونفقد الهدف الأصلي
لطرح موضوع هذا الكتاب ، وهذا ماتعانيه الكتب التراثية

عند التطرق لها ، فتجد المعرج عليها يدخل في شبكة معقدة

من التعاريف لا تهم غير المتخصص الدقيق ،

ونحن لايهمنا هنا سوى إيصال الدرس للقارئ

والإيضاح كتاب يشرح علوم البلاغة الثلاثة :

1- علم المعاني.

2- علم البيان .

3- البديع.


وسنبدأ من أول الكتاب إلى نهايته على شكل حلقات مغلقة

لايسمح التعليق عليها لتتسق المعلومات ويكون سرد الكتاب

واضحاً للقارئ وطالب العلم .

==========


بسم الله الرحمن الرحيم

قال الشيخ الإمام العلامة خطيب الخطباء مفتي المسلمين جلال

الدين أبو عبد الله محمد ابن قاضي القضاة سعد الدين أبي محمد

عبد الرحمن ابن إمام الدين أبي حفص عمر القزويني الشافعي

متع الله المسلمين بمحياه وأحسن عقباه

الحمد لله رب العالمين وصلاته على محمد وعلى آل

محمد أجمعين .

أما بعد فهذا كتاب في علم البلاغة وتوابعها ترجمته

بالإيضاح وجعلته على ترتيب مختصري الذي سميته

تلخيص المفتاح وبسطت فيه القول ليكون كالشرح له

فأوضحت مواضعه المشكلة وفصلت معانيه المجملة

وعمدت إلى ما خلا عنه المختصر مما تضمنه مفتاح العلوم

وإلى ما خلا عنه المفتاح من كلام الشيخ الإمام

عبد القاهر الجرجاني رحمه الله في كتابيه :

دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة وإلى ما تيسر النظر

فيه من كلام غيرهما فاستخرجت زبدة ذلك كله وهذبتها

ورتبتها حتى استقر كل شيء منها في محله ،

وأضفت إلى ذلك ما أدى إليه فكري ولم أجده لغيري

فجاء بحمد الله جامعا لأشتات هذا العلم وإليه أرغب

أن يجعله نافعا لمن نظر فيه من أولي الفهم

وهو حسبي ونعم الوكيل .


مقدمة في الكشف عن معنى الفصاحة والبلاغة

وانحصار علم البلاغة في المعاني والبيان

للناس في تفسير الفصاحة والبلاغة أقوال مختلفة

لم أجد فيما بلغني منها ما يصلح لتعريفهما به ،

ولا ما يشير إلى الفرق بين كون الموصوف بهما الكلام

وكون الموصوف بهما المتكلم فالأولى أن نقتصر على

تلخيص القول فيهما بالاعتبارين فنقول كل واحدة منهما

تقع صفة لمعنيين أحدهما الكلام كما في قولك قصيدة

فصيحة أو بليغة ورسالة فصيحة أو بليغة والثاني المتكلم

كما في قولك شاعر فصيح أو بليغ وكاتب فصيح أو بليغ

والفصاحة خاصة تقع صفة للمفرد فيقال كلمة فصيحة

ولا يقال كلمة بليغة .


فصاحة المفرد :

أما فصاحة المفرد فهي خلوصه من تنافر الحروف

والغرابة ومخالفة القياس اللغوي فالتنافر منه ما تكون

الكلمة بسببه متناهية في الثقل على اللسان وعسر

النطق بها كما روي أن أعرابيا سئل عن ناقته فقال :

تركتها ترعى الهعخع

ومنه ما هو دون ذلك كلفظ مستشزر في قول امرؤ القيس :

( غدائره مستشزرات إلى العلا ** )

والغرابة أن تكون الكلمة وحشية لا يظهر معناها فيحتاج

في معرفتها إلى من ينقر عنها في كتب اللغة المبسوطة

كما روى عيسى بن عمر النحوي أنه سقط عن حمار

فاجتمع عليه الناس فقال :

ما لكم تكأكأتم علي تكأكؤكم على ذي جنة افرنقعوا عني

أي اجتمعتم تنحوا ،

ويخرج لها وجه بعيد كما في قول العجاج :

( وفاحما ومرسنا مسرجا ** )


فإنه لم يعرف ما أراد بقوله مسرجا حتى اختلف

في تخريجه فقيل هو من قولهم للسيوف سريجية

منسوبة إلى قين يقال له سريج يريد أنه في

الاستواء والدقة كالسيف السريجي وقيل

من السراج يريد أنه في البريق كالسراج

وهذا يقرب من قولهم سرج وجهه بكسر الراء أي

حسن وسرج الله وجهه أي بهجه وحسنه

ومخالفة القياس كما في قول الشاعر :

( الحمد لله العلي الأجلل ** )


فإن القياس الأجل بالإدغام وقيل هي خلوصه

مما ذكر ومن الكراهة في السمع بأن تمج الكلمة

ويتبرأ من سماعها كما يتبرأ من سماع الأصوات

المنكرة فإن اللفظ من قبيل الأصوات والأصوات منها

ما تستلذ النفس سماعها ومنها ما تكره سماعه

كلفظ ( الجرشي ) في قول أبي الطيب :

( كريم الجرشي شريف النسب ** )

أي كريم النفس وفيه نظر

ثم علامة كون الكلمة فصيحة أن يكون استعمال

العرب الموثوق بعربيتهم لها كثيرا أو أكثر من

استعمالهم ما بمعناها .


فصاحة الكلام :


وأما فصاحة الكلام فهي خلوصه من ضعف التأليف

وتنافر الكلمات والتعقيد مع فصاحتها فالضعف

كما في قولنا ضرب غلامه زيدا فإن رجوع الضمير

إلى المفعول المتأخر لفظا ممتنع عند الجمهور

لئلا يلزم رجوعه إلى ما هو متأخر لفظا ورتبة

وقيل يجوز لقول الشاعر :

( جزى ربه عني عدي بن حاتم

جزاء الكلاب العاويات وقد فعل )


وأجيب عنه بأن الضمير لمصدر (جزى) أي :

رب الجزاء ، كما في قوله تعالى :

{ اعدلوا هو أقرب للتقوى } أي العدل .


والتنافر منه ما تكون الكلمات بسببه متناهية في

الثقل على اللسان وعسر النطق بها متتابعة كما في

البيت الذي أنشده الجاحظ :

( وقبر حرب بمكان قفر

وليس قرب قبر حرب قبر )


ومنه ما دون ذلك ، كما في قول أبي تمام :

( كريم متى أمدحه والورى

معي وإذا ما لمته لمته وحدي )


فإن في قوله : (أمدحه) ثقلا

ما لما بين الحاء والهاء من تنافر ،

والتعقد أن لا يكون الكلام ظاهر الدلالة

على المراد به ، وله سببان :

أحدهما: ما يرجع إلى اللفظ وهو يختل نظم الكلام

ولا يدري السامع كيف يتوصل منه

إلى معناه كقول الفرزدق :

( وما مثله في الناس إلا مملكا

أبو أمه حي أبوه يقاربه )


كان حقه أن يقول وما مثله في الناس حي يقاربه

إلا مملك أبو أمه أبوه فإنه يمدح إبراهيم بن هشام

بن إسماعيل المخزومي خال هشام بن عبد الملك

بن مروان فقال وما مثله يعني إبراهيم الممدوح في

الناس حي يقاربه أي أحد يشبهه في الفضائل

إلا مملكا يعني هشاما أبو أمه أي أبو أم هشام أبوه

أي أبو الممدوح فالضمير في أمه للملك وفي

أبوه للممدوح ففصل بين أبو أمه وهو مبتدأ

وأبوه وهو خبره بحي وهو أجنبي وكذا فصل بين

حي ويقاربه وهو نعت حي بأبوه وهو أجنبي وقدم

المستثنى على المستثنى منه فهو كما تراه في غاية

التعقيد فالكلام الخالي من التعقيد اللفظي ما سلم نظمه

من الخلل فلم يكن فيه ما يخالف الأصل من تقديم

أو تأخير أو إضمار أو غير ذلك إلا وقد قامت

عليه قرينة ظاهرة لفظية أو معنوية كما سيأتي

تفصيل ذلك كله وأمثلته اللائقة به .


والثاني :ما يرجع إلى المعنى وهو

أن لا يكون انتقال الذهن من المعنى الأول

إلى المعنى الثاني الذي هو لازمه والمراد به

ظاهرا كقول العباس بن الأحنف :

( سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا

وتسكب عيناي الدموع لتجمدا )


كنى بسكب الدموع عما يوجبه الفراق من الحزن

وأصاب لأن من شأن البكاء أن يكون كناية

عنه كقولهم : أبكاني وأضحكني أي أساءني وسرني .

وكما قال الحماسي :

( أبكاني الدهر ويا ربما

أضحكني الدهر بما يرضي )


ثم طرد ذلك في نقيضه فأراد أن يكني عما يوجبه

دوام التلاقي من السرور بالجمود لظنه أن الجمود

خلو العين من البكاء مطلقا من غير اعتبار شيء

آخر وأخطأ لأن الجمود خلو العين من البكاء في حال

إرادة البكاء منها فلا يكون كناية عن المسرة

وإنما يكون كناية عن البخل ، كما قال الشاعر :

( ألا إن عينا لم تجد يوم واسط

عليك بجاري دمعها لجمود )


ولو كان الجمود يصلح أن يراد به عدم البكاء في حال

المسرة لجاز أن يدعي به للرجل فيقال لا زالت عينك

جامدة كما يقال لا أبكى الله عينك وذلك مما

لا يشك في بطلانه ،

وعلى ذلك قول أهل اللغة سنة جماد لا مطر فيها

وناقة جماد لا لبن لها فكما لا تجعل السنة والناقة

جمادا إلا على معنى أن السنة بخيلة بالقطر والناقة

لا تسخو بالدر لا تجعل العين جمودا إلا وهناك

ما يقتضي إرادة البكاء منها وما يجعلها إذا بكت محسنة

موصوفة بأنها قد جادت وإذا لم تبك مسيئة موصوفة

بأنها قد ضنت فالكلام الخالي عن التعقيد المعنوي

ما كان الانتقال من معناه الأول إلى معناه الثاني الذي

هو المراد به ظاهرا حتى يخيل إلى السامع أنه فهمه

من سياق اللفظ كما سيأتي من الأمثلة المختارة

للاستعارة والكناية وقيل فصاحة الكلام وهي خلوصه

مما ذكر ومن كثرة التكرار وتتابع الإضافات ،

كما في قول أبي الطيب :

( سبوح لها منها عليها شواهد ** )

وفي قول ابن بابك :

( حمامة جرعا حومة الجندل اسجعي ** )

وفيه نظر لأن ذلك إن أفضى باللفظ إلى الثقل

على اللسان فقد حصل الاحتراز عنه بما تقدم وإلا

فلا يخل بالفصاحة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم

الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن

يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم .


قال الشيخ عبد القاهر قال الصاحب إياك والإضافات

المتداخلة فإنها لا تحسن وذكر أنها تستعمل في الهجاء

كقول القائل :

( يا علي بن حمزة بن عمارة

أنت والله ثلجة في خيارة )


ثم قال الشيخ ولا شك في ثقل ذلك في الأكثر لكنه

إذا سلم من الاستكراه ملح ولطف ،

ومما حسن فيه قول ابن المعتز أيضا :

( وظلت تدير الراح أيدي جآذر

عتاق دنانير الوجود ملاح )

ومما جاء فيه حسنا جميلا قول الخالدي يصف غلاما له :

( ويعرف الشعر مثل معرفتي

وهو على أن يزيد مجتهد )

( وصير في القريض وزان

دينار المعاني الدقاق منتقد )



وأما فصاحة المتكلم :

فهي ملكة يقتدر بها على التعبير عن المقصود

بلفظ فصيح فالملكة قسم من مقولة الكيف التي

هي هيئة قارة لا تقتضي قسمة ولا نسبة وهو

مختص بذوات الأنفس راسخ في موضوعه ،

وقيل ملكة ولم يقل صفة ليشعر بأن الفصاحة

من الهيئات الراسخة حتى لا يكون المعبر عن

مقصوده بلفظ فصيح إلا إذا كانت الصفة التي اقتدر

بها على التعبير عن المقصود بلفظ فصيح راسخة

فيه وقيل يقتدر بها ولم يقل يعبر بها ليشمل حالتي

النطق وعدمه وقيل بفظ فصيح ليعم المفرد والمركب .



بلاغة الكلام :


وأما بلاغة الكلام فهي مطابقته لمقتضى الحال

مع فصاحته ومقتضى الحال مختلف فإن مقامات

الكلام متفاوتة فمقام التنكير يباين مقام التعريف

ومقام الإطلاق يباين مقام التقييد ومقام التقديم

يباين مقام التأخير ومقام الذكر يباين مقام الحذف

ومقام القصر يباين مقام خلافه ومقام الفصل يباين

مقام الوصل ومقام الإيجاز يباين مقام الإطناب

والمساواة وكذا خطاب الذكي يباين خطاب الغبي

وكذا لكل كلمة مع صاحبتها مقام إلى غير ذلك

كما سيأتي تفصيل الجميع وارتفاع شأن الكلام

في الحسن والقبول بمطابقته للاعتبار المناسب

وانحطاطه بعدم مطابقته له فمقتضى الحال هو الاعتبار

المناسب وهذا أعني تطبيق الكلام على مقتضى الحال

هو الذي يسميه الشيخ عبد القاهر بالنظم حيث يقول

النظم تآخي معاني النحو فيما بين الكلام على حسب

الأغراض التي يصاغ لها الكلام .


فالبلاغة صفة راجعة إلى اللفظ باعتبار إفادته المعنى

عند التركيب وكثيرا ما يسمى ذلك فصاحة أيضا

وهو مراد الشيخ عبد القاهر بما يكرره في دلائل الإعجاز

من أن الفصاحة صفة راجعة إلى المعنى دون اللفظ

كقوله في أثناء فصل منه علمت أن الفصاحة

والبلاغة وسائر ما يجري في طريقهما أوصاف

راجعة إلى المعاني وإلى ما يدل عليه بالألفاظ دون

الألفاظ نفسها وإنما قلنا مراد ذلك لأنه صريح

في مواضع من دلائل الإعجاز بأن فضيلة الكلام

للفظ لا لمعناه منها أنه حكى قول من ذهب إلى

عكس ذلك فقال فأنت تراه لا يقدم شعرا حتى يكون

قد أودع حكمة أو أدبا أو اشتمل على تشبيه

غريب ومعنى نادر ثم قال والأمر بالضد إذا جئنا

إلى الحقائق وما عليه المحصلون لأنا لا نرى

متقدما في علم البلاغة مبرزا في شأوها إلا وهو

ينكر هذا الرأي ثم نقل عن الجاحظ في ذلك كلام منه

قوله والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي

والعربي والقروي والبدوي وإنما الشأن في

إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وصحة الطبع

وكثرة الماء وجودة السبك ثم قال ومعلوم

أن سبيل الكلام سبيل التصوير والصيانة وأن سبيل المعنى

الذي يعبر عنه سبيل الشيء الذي يقع التصوير فيه

كالفضة والذهب يصاغ منها خاتم أو سوار فكما أنه محال

إذا أردت النظر في صوغ الخاتم وجوده العمل ورداءته

أن تنظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة أو الذهب

الذي وقع فيه ذلك العمل كذلك محال إذا أردت أن تعرف

مكان الفضل والمزية في الكلام أن تنظر في مجرد معناه

وكما لو فضلنا خاتما على خاتم بأن تكون فضة هذا أجود

أو فضة ذاك أنفس لم يكن ذلك تفضيلا له من حيث

هو خاتم كذلك ينبغي إذا فضلنا بيتا على بيت من أجل معناه

أن لا يكون ذلك تفضيلا له من حيث هو شعر وكلام

هذا لفظه وهو صريح في أن الكلام من حيث هو كلام

لا يوصف بالفضيلة باعتبار شرف معناه ولا شك أن

الفصاحة من صفاته الفاضلة فلا تكون راجعة

إلى المعنى وقد صرح فيما سبق بأنها راجعة إلى المعنى

دون اللفظ فالجمع بينهما بما قدمناه يحمل كلامه حيث

نفى أنها من صفات اللفظ على نفي أنها من صفات

المفردات من غير اعتبار للتركيب وحيث أثبت أنها

من صفاته على أنها من صفاته باعتبار إفادته المعنى

عند التركيب .


وللبلاغة طرفان :

أعلى إليه تنتهي وهو حد الإعجاز وما يقرب منه ،

وأسفل منه تبتدىء وهو ما إذا غير الكلام عنه إلى

ما هو دونه التحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات ،

وإن كان صحيح الإعراب وبين الطرفين مراتب كثيرة متفاوتة ،


وإذ قد عرفت معنى البلاغة في الكلام وأقسامها ومراتبها

فاعلم أنه يتبعها وجوه كثيرة غير راجعة إلى مطابقة

مقتضى الحال ولا إلى الفصاحة تورث الكلام حسنا وقبولا .



بلاغة المتكلم :


وأما بلاغة المتكلم فهي ملكة يقتدر بها على

تأليف كلام بليغ .

وقد علم بما ذكرنا أمران : أحدهما أن كل بليغ كلاما

كان أو متكلما فصيح وليس كل فصيح بليغا ،

الثاني أن البلاغة في الكلام مرجعها إلى الاحتراز

عن الخطأ في تأدية المعنى المراد وإلى تمييز

الكلام الفصيح من غيره ،

والثاني أعني التمييز منه ما يتبين في علم متن اللغة

أو التصريف أو النحو أو يدرك بالحس وهو

ما عدا التعقيد المعنوي ،

وما يحترز به عن الأول أعني الخطأ هو (علم المعاني )

وما يحترز به عن الثاني أعني التعقيد المعنوي هو (علم البيان )

وما يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال وفصاحته

هو (علم البديع ) ،

وكثير من الناس يسمي الجميع علم البيان وبعضهم

سمى الأول علم المعاني والثاني والثالث علم البيان

والثلاثة علم البديع وهو علم يعرف به أحوال اللفظ العربي

التي بها يطابق مقتضى الحال ،

قيل يعرف دون يعلم رعاية لما اعتبره بعض الفضلاء

من تخصيص العلم بالكليات المعروفة بالجزئيات

كما قال صاحب القانون في تعريف الطب الطب علم

يعرف به أحوال بدن الإنسان .


وكما قال الشيخ أبو عمر رحمه الله : التصريف علم بأصول

يعرف بها أحوال أبنية الكلم

وقال السكاكي : علم المعاني هو تتبع خواص تراكيب

الكلام في الإفادة وما يتصل بها من الاستحسان وغيره

ليحترز بالوقوف عليها عن الخطأ في تطبيق الكلام على

ما تقتضي الحال ذكره وفيه نظر إذ التتبع ليس بعلم

ولا صادق عليه فلا يصح تعريف شيء من العلوم به

ثم قال وأعني بالتراكيب تراكيب البلغاء .


ولا شك أن معرفة البليغ من حيث هو بليغ متوقفة

على معرفة البلاغة وقد عرفها في كتابه بقوله البلاغة

هي بلوغ المتكلم في تأدية المعنى حدا له اختصاص

بتوفية خواص التراكيب حقها وإيراد أنواع التشبيه

والمجاز والكناية على وجهها فإن أراد التراكيب في

حد البلاغة تراكيب البلغاء وهو الظاهر فقد جاء الدور

وإن أراد غيرها فلم يبينه على أن قوله وغيره مبهم

لم يبين مراده به ثم المقصود من علم المعاني منحصر

في ثمانية أبواب :


أولها : أحوال الإسناد الخبري .

وثانيها : أحوال المسند إليه .

وثالثها : أحوال المسند .

ورابعها : أحوال متعلقات الفعل .

وخامسها : القصر .

وسادسها : الإنشاء .

وسابعها : الفصل والوصل .

وثامنها : الإيجاز والإطناب والمساواة .


ووجه الحصر أن الكلام إما خبر أو إنشاء لأنه إما

أن يكون لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه أو لا

يكون لها خارج الأول الخبر والثاني الإنشاء ثم

الخبر لا بد له من إسناد ومسند إليه ومسند

وأحوال هذه الثلاثة هي الأبواب الثلاثة الأولى ،

ثم المسند قد يكون له متعلقات إذا كان فعلا

أو متصلا به أو في معناه كاسم الفاعل ونحوه

وهذا هو الباب الرابع ثم الإسناد والتعلق كل واحد

منهما يكون إما بقصر أو بغير قصر

وهذا هو الباب الخامس ، والإنشاء هو الباب السادس

ثم الجملة إذا قرنت بأخرى فتكون الثانية إما معطوفة

على الأولى أو غير معطوفة وهذا هو الباب السابع ،

ولفظ الكلام البليغ إما زائد على أصل المراد لفائدة

أو غير زائد عليه وهذا هو الباب الثامن .


تنبيه :


اختلف الناس في انحصار الخبر في الصادق والكاذب

فذهب الجمهور إلى أنه منحصر فيهما ثم

اختلفوا فقال الأكثر منهم صدقه مطابقة حكمه للواقع،

وكذبه عدم مطابقة حكمه له هذا هو المشهور

وعليه التعويل وقال بعض الناس صدقه مطابقة

حكمه الاعتقاد المخبر صوابا كان أو خطأ وكذبه

عدم مطابقة حكمه له واحتج بوجهين :

أحدهما أن من اعتقد أمرا فأخبره به ثم ظهر خبره

بخلاف الواقع يقال ما كذب ولكنه أخطأ

كما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت فيمن

شأنه كذلك ما كذب ولكنه وهم ورد بأن المنفي

تعمد الكذب لا الكذب بدليل تكذيب الكافر كاليهودي

إذا قال الإسلام باطل وتصديقه إذا قال الإسلام حق

فقولها ما كذب متأول بما كذب عمدا .


الثاني قوله تعالى { والله يشهد إن المنافقين لكاذبون }

كذبهم في قولهم إنك لرسول الله وإن كان مطابقا للواقع

لأنهم لم يعتقدوه وأجيب عنه بوجوه :

أحدها : أن المعنى نشهد شهادة واطأت فيها قلوبنا

ألسنتنا كما يترجم عنه أن واللام وكون الجملة اسمية

في قولهم إنك لرسول الله فالتكذيب في قولهم نشهد

وادعائهم فيه المواطأة لا في قولهم إنك لرسول الله


وثانيها : أن التكذيب في تسميتهم إخبارهم شهادة

لأن الإخبار إذ خلا عن المواطأة لم يكن شهادة

في الحقيقة .


وثالثها : أن المعنى لكاذبون في قولهم إنك لرسول الله

عند أنفسهم لاعتقادهم أنه خبر على خلاف

ما عليه المخبر عنه .


وأنكر الجاحظ انحصار الخبر في القسمين ،

وزعم أنه ثلاثة أقسام :

صادق وكاذب وغير صادق ولا كاذب ،

لأن الحكم إما مطابق للواقع مع اعتقاد المخبر له

أو عدمه وإما غير مطابق مع الاعتقاد أو عدمه

فالأول أي المطابق مع الاعتقاد هو الصادق والثالث

أي غير المطابق مع عدم الاعتقاد هو الكاذب

والثاني والرابع أي المطابق مع عدم الاعتقاد

وغير المطابق مع عدم الاعتقاد كل منهما ليس

بصادق ولا كاذب فالصدق عنده مطابقة الحكم للواقع

مع اعتقاده والكذب عدم مطابقته مع اعتقاده

وغيرهما ضربان مطابقته مع عدم اعتقاده وعدم

مطابقته مع عدم اعتقاده واحتج بقوله تعالى

{ أفترى على الله كذبا أم به جنة }

فإنهم حصروا دعوى النبي صلى الله عليه وسلم

الرسالة في الافتراء والإخبار حال الجنون بمعنى

امتناع الخلو وليس إخباره حال الجنون كذبا لجعلهم

الافتراء في مقابلته ولا صدقا لأنهم لم يعتقدوا صدقه

فثبت أن من ا لخبر ما ليس بصادق ولا كاذب .


وأجيب : عنه بأن الافتراء هو الكذب عن عمد فهو

نوع من الكذب فلا يمتنع أن يكون الإخبار حال الجنون

كذبا أيضا لجواز أن يكون نوعا آخر من الكذب

وهو الكذب لا عن عمد فيكون التقسيم للخبر الكاذب

لا للخبر مطلقا والمعنى افترى أم لم يفتر وعبر

عن الثاني بقوله أم به جنة لأن المجنون لا افتراء له .



تنبيه آخر :


وهو مما يجب أن يكون على ذكر الطالب

لهذا العلم قال السكاكي : ليس من الواجب في صناعة

وإن كان المرجع في أصولها وتفاريعها إلى مجرد

العقل أن يكون الدخيل فيها كالناشىء عليها في

استفادة الذوق منها فكيف إذا كانت الصناعة مستندة

إلى تحكمات وضعية واعتبارات إلفية فلا على

الدخيل في صناعة علم المعاني أن يقلد صاحبه

في بعض فتاواه إن فاته الذوق هناك إلى أن

يتكامل له على مهل موجبات ذلك الذوق .


وكثيرا ما يشير الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز

إلى هذا كما ذكر في موضع ما تلخيصه هذا اعلم أنه

لا يصادف القول في هذا الباب موقعا من السامع

ولا يجد لديه قبولا حتى يكون من أهل الذوق

والمعرفة ومن تحدثه نفسه بأن لما تومىء إليه

من الحسن أصلا فيختلف الحال عليه عند تأمل

الكلام فيجد الأريحية تارة ويعرى منها أخرى

وإذا عجبته تعجب وإذا نبهته لموضع المزية انتبه

فأما من كانت الحالات عنده على سواء وكان

لا يتفقد من أمر النظم إلا الصحة المطلقة

وإلا إعرابا ظاهرا فليكن عندك بمنزلة من عدم

الطبع الذي يدرك به وزن الشعر ويميز به مزاحفه

من سالمه في أنك لا تتصدى لتعريفه لعلمك أنه قد

عدم الأداة التي بها يعرف .


واعلم أن هؤلاء وإن كانوا هم الآفة العظمى في

هذا الباب فإن من الآفة أيضا من زعم أنه لا سبيل

إلى معرفة العلة في شيء مما تعرف المزية فيه ولا يعلم

إلا أن له موقعا من النفس وحظا من القبول فهذا

بتوانيه في حكم القائل الأول ،

واعلم أنه ليس إذا لم يكن معرفة الكل وجب

ترك النظر في الكل ولأن تعرف العلة في بعض

الصور فتجعله شاهدا في غيره أحرى من أن

تسد باب المعرفة على نفسك وتعودها الكسل والهوينا .


قال الجاحظ : وكلام كثير جرى على ألسنة الناس

وله مضرة شديدة وثمرة مرة فمن أضر ذلك قولهم

لم يدع الأول للآخر شيئا فلو أن علماء كل عصر

مذ جرت هذه الكلمة في أسماعهم تركوا الاستنباط لما

ينته إليهم عمن قبلهم لرأيت العلم مختلا .

=========

يتبع في الحلقة القادمة بعون الله تعالى.


قديم 08-26-2010, 10:21 PM
المشاركة 2
حاتم الحمَد
مؤسس ومدير شبكة ومنتديات منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


القول في أحوال الإسناد الخبري

من المعلوم لكل عاقل أن قصد المخبر بخبره إفادة المخاطب

إما نفس الحكم كقولك زيد قائم لمن لا يعلم أنه قائم ويسمى

هذا فائدة الخبر وإما كون المخبر عالما بالحكم كقولك لمن زيد

عنده ولا يعلم أنك تعلم ذلك زيد عندك ويسمى هذا لازم فائدة الخبر .

قال السكاكي : والأول بدون هذه تمتنع وهذه بدون الأولى لا تمتنع

كما هو حكم اللازم المجهول المساواة أي يمتنع أن لا يحصل

العلم الثاني من الخبر نفسه عند حصول الأول منه لامتناع حصول الثاني

قبل حصول الأول مع أن سماع الخبر من المخبر كاف في حصول الثاني

منه ولا يمتنع أن لا يحصل الأول من الخبر نفسه عند سماع الثاني

منه لجواز حصول الأول قبل الثاني وامتناع حصول الحاصل

وقد ينزل العالم بفائدة الخبر ولازم فائدته منزلة الجاهل لعدم جريه

على موجب العلم فيلقى إليه الخبر كما يلقى على الجاهل بأحدهما .


قال السكاكي : وإن شئت فعليك بكلام رب العزة :

{ ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق

ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون }


كيف تجد صدره يصف أهل الكتاب بالعلم على سبيل التوكيد

القسمي وآخره ينفيه عنهم حيث لم يعلموا بعلمهم ونظيره

في النفي والإثبات :{ وما رميت إذ رميت } ، وقوله تعالى :

{ وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا

أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون }


هذا لفظه وفيه إيهام أن الآية الأولى من أمثلة تنزيل العالم

بفائدة الخبر ولازم فائدته منزلة الجاهل بهما وليست منها بل

هي من أمثلة تنزيل العالم بالشيء منزلة الجاهل به لعدم جريه

على موجب العلم والفرق بينهما ظاهر وإذا كان غرض المخبر

بخبره إفادة المخاطب أحد الأمرين فينبغي أن يقتصر

من التركيب على قدر الحاجة فإن كان المخاطب خالي الذهن

من الحكم بأحد طرفي الخبر على الآخر والتردد فيه استغنى

عن مؤكدات الحكم كقولك جاء زيد وعمرو ذاهب فيتمكن في

ذهنه لمصادفته إياه خاليا وإن كان متصور الطرفية مترددا

في إسناد أحدهما إلى الآخر طالبا له حسن تقويته بمؤكد كقولك :

( لزيد عارف ) أو ( إن زيدا عارف )وإن كان حاكما بخلافه وجب توكيده

بحسب الإنكار فتقول : (إني صادق ) لمن ينكر صدقك ، ولا يبالغ في إنكاره

و( إني لصادق ) لمن يبالغ في إنكاره ،وعليه قوله تعالى :

{ واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا

إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون قالوا

ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم

إلا تكذبون قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون }


حيث قال في المرة الأولى : ( إنا إليكم مرسلون )

وفي الثانية : ( إنا إليكم لمرسلون ).


ويؤيد ما ذكرناه جواب أبي العباس الكندي عن قوله:

إني أجد في كلام العرب حشوا ، يقولون عبد الله قائم

وإن عبد الله القائم والمعنى واحد بأن قال بل المعاني

مختلفة فعبد الله قائم إخبار عن قيامه وأن عبد الله قائم جواب

عن سؤال سائل وإن عبد الله لقائم جواب عن إنكار

منكر ويسمى النوع الأول من الخبر ابتدائيا والثاني طلبيا

والثالث إنكاريا وإخراج الكلام على هذه الوجوه إخراجا

على مقتضى الظاهر وكثيرا ما يخرج على خلافه فينزل

غير السائل منزلة السائل إذا قدم إليه ما يلوح له بحكم الخبر

فيستشرف له استشراف المتردد الطالب ،

كقوله تعالى : { ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون }

وقوله : { وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء }

وقول بعض العرب :

( فغنها وهي لك الفداء ** إن غناء الإبل الحداء )

وسلوك هذه الطريقة شعبة من البلاغة فيها دقة

وغموض ، روى الأصمعي أنه قال :

كان أبو عمرو بن العلاء وخلف الأحمر يأتيان

بشارا فيسلمان عليه بغاية الإعظام ثم يقولان :

يا أبا معاذ ما أحدثت فيخبرهم وينشدهما ويكتبان

عنه متواضعين له حتى يأتي وقت الزوال ثم

ينصرفان فأتياه يوما فقالا ما هذه القصيدة التي

أحدثتها في ابن قتيبة قال :هي التي بلغتكما

قالا : بلغنا أنك أكثرت فيها من الغريب قال نعم

إن ابن قتيبة يتباشر بالغريب فأحببت أن أورد

عليه ما لا يعرف ، قالا: فأنشدناها يا أبا معاذ فأنشدهما

( بكرا صاحبي قبل الهجير

إن ذاك النجاح في التكبير )


حتى فرغ منها فقال له خلف لو قلت:

يا أبا معاذ مكان إن ذاك النجاح بكرا فالنجاح

كان أحسن فقال بشار إنما بنيتها أعرابية وحشة

فقلت : إن ذاك النجاح كما يقول الأعراب البدويون

ولو قلت بكرا فالنجاح كان هذا من كلام المولدين

ولا يشبه ذلك الكلام ولا يدخل في معنى

القصيدة ، قال : فقام خلف فقبل بين عينيه

فهل كان ما جرى بين خلف وبشار بمحضر

من أبي عمرو بن العلاء وهم من فحولة

هذا الفن إلا للطف المعنى في ذلك وخفائه


وكذلك ينزل غير المنكر منزلة المنكر

إذا ظهر عليه شيء من أمارات الإنكار

كقوله :

( جاء شقيق عارضا رمحه

إن بني عمك فهيم رماح )


فإن مجيئه هكذا مدلا بشجاعته قد وضع رمحه

عارضا دليل على إعجاب شديد منه واعتقاد

أنه لا يقوم إليه من بني عمه أحد كأنهم كلهم

عزل ليس مع أحد منهم رمح ،

وكذلك ينزل المنكر منزلة غير المنكر إذا كان

معه ما إن تأمله ارتدع عن الإنكار ،

كما يقال لمنكر الإسلام : الإسلام حق ،

وعليه قوله تعالى في حق القرآن :

{ لا ريب فيه } ومما يتفرع على هذين

الاعتبارين ، قوله تعالى :

{ ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون }

أكد إثبات الموت تأكيدين وإن كان مما لا ينكر

لتنزيل المخاطبين منزلة من يبالغ في إنكار الموت

لتماديهم في الغفلة والإعراض عن العمل لما بعده

ولهذا قيل : (ميتون) دون (تموتون) كما سيأتي الفرق بينهما .


وأكد إثبات البعث تأكيدا واحدا وإن كان مما ينكر

لأنه لما كانت أدلته ظاهرة كان جديرا بأن لا ينكر

بل إما أن يعترف به أو يتردد فيه فنزل المخاطبون

منزلة المترددين تنبيها لهم على ظهور أدلته

وحثا على النظر فيها ولهذا جاء تبعثون على

الأصل هذا كله اعتبارات الإثبات وقس عليه

اعتبارات النفي كقولك ليس زيد أو ما زيد منطلقا

أو بمنطلق ووالله ليس زيد أو ما زيد منطلقا أو

بمنطلق وما ينطلق أو ما ينطلق زيد

وما كان زيد ينطلق وما كان زيد لينطلق

ولا ينطلق زيد ولن ينطلق زيد ووالله ما ينطلق

أو ما أن ينطلق زيد .


فصل : الإسناد منه: 1) حقيقة عقلية ، ومنه 2)مجاز عقلي:

أما الحقيقة : فهي إسناد الفعل أو معناه إلى ما هو له

عند المتكلم في الظاهر والمراد بمعنى الفحل نحو:

المصدر واسم الفاعل وقولنا في الظاهر ليشمل

ما لا يطابق اعتقاده مما يطابق الواقع ،

وما لا يطابقه فهي أربعة أضرب :

أحدهما: ما يطابق الواقع واعتقاده ،

كقول المؤمن: ( أنبت الله البقل وشفى الله المريض).

والثاني: ما يطابق الواقع دون اعتقاده ،

كقول المعتزلي لمن لا يعرف حاله وهو يخفيها منه :

(خالق الأفعال كلها هو الله تعالى).

والثالث: ما يطابق اعتقاده دون الواقع،

كقول الجاهل: (شفى الطبيب المريض معتقدا شفاء المريض من الطبيب)

ومنه قوله تعالى حكاية عن بعض الكفار: { وما يهلكنا إلا الدهر }

ولا يجوز أن يكون مجازا والإنكار عليهم من جهة

ظاهر اللفظ ، لما فيه من إيهام الخطأ ، بدليل قوله تعالى عقيبه:

{ وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون }

والمتجوز المخطىء في العبارة لا يوصف بالظن ،

وإنما الظان من يعتقد أن الأمر على ما قاله .

والرابع: ما لا يطابق شيئا منها ،

كالأقوال الكاذبة التي يكون القائل عالما

بحالها دون المخاطب .


وأما المجاز : فهو إسناد الفعل أو معناه

إلى ملابس له غير ما هو له بتأويل ،

وللفعل ملابسات شتى يلابس الفاعل ،والمفعول به ،

والمصدر ،والزمان ،والمكان ،والسبب

فإسناده إلى الفاعل إذا كان مبنيا له حقيقة

كما مر ، وكذا إلى المفعول إذا كان مبنيا له ،

وقولنا : ما هو له يشملها وإسنادها إلى غيرهما

لمضاهاته لما هو له في ملابسة الفعل مجاز ،

كقولهم في المفعول به: { عيشة راضية } ، و { ماء دافق }

وفي عكسه : (سيل مفعم) وفي المصدر: (شعر شاعر)

وفي الزمان: (نهاره صائم وليله قائم)

وفي المكان: (طريق سائر ونهر جار)

وفي السبب: (بنى الأمير المدينة ) ،

وقال :

( إذا رد عافي القدر من يستعيرها ** )


وقولنا: [بتأويل] يخرج نحو قول الجاهل :

(شفى الطبيب المريض) فإن إسناده الشفاء

إلى الطبيب ليس بتأويل ، ولهذا لم يحمل

نحو قوله الشاعر الحماسي:


( أشاب الصغير وأفنى الكبير

كر الغداة ومر العشي )


على المجاز ما لم يعلم أو يظن أن قائله

لم يرد ظاهره ، كما استدل على أن إسناد ميز

إلى كذب الليالي في قول أبي النجم:

( قد أصبحت أم الخيار تدعي

علي ذنبا كله لم أصنع )

( من أن رأت رأسي كرأس الأصلع

ميز عنه قنزعا عن قنزع )

( جذب الليالي أبطئي أو أسرعي )


مجاز بقوله عقيبة :

( أفناه قيل الله للشمس اطلعي

حتى إذا واراك أفق فارجعي )


وسمى الإسناد في هذين القسمين من الكلام عقليا ،

لاستناده إلى العقل دون الوضع ،لأن إسناد الكلمة شيء

يحصل بقصد المتكلم دون واضع اللغة ،

فلا يصير (ضرب خبرا) عن (زيد) بواضع اللغة بل بمن

قصد إثبات الضرب فعلا له ، وإنما الذي يعود إلى واضع

اللغة أن (ضرب) لإثبات الضرب ، لا لإثبات الخروج

وأنه لإثباته في زمان ماض، وليس لإثباته في

زمان مستقبل ،فأما تعيين من ثبت له فإنما يتعلق

بمن أراد ذلك من المخبرين ،ولو كان لغويا لكان

حكمنا بأنه مجاز في مثل قولنا : (خط أحسن مما وشى الربيع)

من جهة أن الفعل لا يصح إلا من الحي القادر

حكما بأن اللغة هي التي أوجبت أن يختص الفعل بالحي القادر

دون الجماد ، وذلك مما لا يشك في بطلانه .


وقال السكاكي: الحقيقة العقلية هي الكلام المفاد به

ما عند المتكلم من الحكم فيه، قال :

وإنما قلت : (ما عند المتكلم) دون أن أقول:

(ما عند العقل ) ليتناول كلام الجاهل إذا قال:

( شفى الطبيب المريض ) رائيا شفاء المريض

من الطبيب حيث عد منه حقيقة ، مع أنه غير مفيد

لما في العقل من الحكم فيه ،

وفيه نظر لأنه غير مطرد لصدقه على

ما لم يكن المسند فيه فعلا ولا متصلا به ،

كقولنا : (الإنسان حيوان)
مع أنه لا يسمى حقيقة ولا مجازا ولا منعكسا لخروج

ما يطابق الواقع دون اعتقاد المتكلم ،

ومالا يطابق شيئا منهما منه مع كونهما حقيقتين عقليتين ،

كما سبق .

وقال : المجاز العقلي هو الكلام المفاد به خلاف ما عند المتكلم

من الحكم فيه ، لضرب من التأول ،إفادة للخلاف ،لا بوساطة وضع .

كقولك : (أنبت الربيع البقل ،وشفى الطبيب المريض ،وكسا الخليفة الكعبة)


قال وإنما قلت خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه ،

دون أن أقول خلاف ما عند العقل ،

لئلا يمتنع طرده بما إذا قال الدهري عن

اعتقاد أجهل وجاهل غيره: (أنبت الربيع البقل)

رائيا إنباته من الربيع ، فإنه لا يسمى كلامه ذلك مجازا

وإن كان بخلاف العقل في نفس الأمر ، واحتج ببيت الحماسة

وقول أبي النجم على ما تقدم ، ثم قال ولئلا يمتنع عكسه

بمثل: (كسا الخليفة الكعبة وهزم الأمير الجند) فليس في

العقل امتناع أن يكسو الخليفة نفسه الكعبة ،

ولا أن يهزم الأمير وحده الجند ولا يقدح ذلك في كونهما

من المجاز العقلي ، وإنما قلت لضرب من التأويل ،

ليحترز به عن الكذب ، فإنه لا يسمى مجازا مع كونه

كلاما مفيدا ، خلاف ما عند المتكلم ،وإنما قلت إفادة للخوف

لا بوساطة وضع ، ليحترز به عن المجاز اللغوي في صورة

وهي إذا ادعى أن (أنبت) موضع لاستعماله في القادر المجاز

أو وضع لذلك وفيه نظر لأنا لا نسلم بطلان طرده بما ذكر

لخروجه بقوله: لضرب من التأويل ولا بطلان عكسه ،

بما ذكر إذ المراد بخلاف ما عند العقل خلاف ما في

نفس الأمر ، وفي كلام الشيخ عبد القاهر إشارة إلى ذلك ،

حيث عرف الحقيقة العقلية بقوله: كل جملة وضعتها على أن

الحكم المفاد بها على ما هو عليه في العقل واقع موقعه

فإن قوله واقع موقعه معناه في نفس الأمر وهو بيان

لما قبله .

وكذا في كلام الزمخشري حيث عرف المجاز العقلي

بقوله : إن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة

له ، فإن قوله في الحقيقة معناه في نفس الأمر، ونحو

(كسا الخليفة الكعبة) إذا كان الإسناد فيه مجازا كذلك ،

ثم القول بأن الفعل موضع لاستعماله في القادر ضعيف ،

وهو معترف بضعفه ،وقد رده في كتابه بوجوه منها:

أن موضع الفعل لاستعماله في القادر قيد لم ينقل عن

واحد من رواة اللغة ،وترك القيد دليل في العرف على

الإطلاق فقوله: ( إفادة الخلاف لا بوساطة) وضع لا حاجة إليه ،

وإن ذكر فينبغي أن لا يذكر إلا بعد ذكر الحد على المذهب المختار،

على أن تمثيله بقول الجاهل : (أنبت الربيع البقل) ينافي هذا الاحتراز

تنبيه :

قد تبين بما ذكرنا أن المسمى بالحقيقة العقلية والمجاز العقلي

على ما ذكره السكاكي هو الكلام لا الإسناد ،

وهذا يوافق ظاهر كلام الشيخ عبد القاهر في

مواضيع من دلائل الإعجاز ،

وعلى ما ذكرناه هو الإسناد لا الكلام ، وهذا ظاهر

ما نقله الشيخ أبو عمرو بن الحاجب رحمه الله

عن الشيخ عبد القاهر وهو قول الزمخشري

في (الكشاف) وقول غيره ، وإنما اخترناه لأن نسبة المسمى

حقيقة أو مجازا إلى العقل على هذا لنفسه بلا وساطة شيء،

وعلى الأول لاشتماله على ما ينتسب إلى العقل ،أعني الإسناد

ثم المجاز العقلي باعتبار طرفيه (أعني المسند والمسند إليه)

أربعة أقسام لا غير لأنهما حقيقتان ،

كقولنا : (أنبت الربيع البقل) ، وعليه قوله :

( فنام ليلي ** وتجلى همي )

وقوله:

( وشيب أيام الفراق مفارقي ** )

وقوله:

( ونمت وما ليلي المطي بنائم ** )


وإما مجازا ، كقولنا: (أحيا الأرض شباب الزمان)

وإما مختلفان ، كقولنا: ( أنبت البقل شباب الزمان) ،

وكقولنا: ( أحيا الأرض الربيع ) ،وعليه قول الرجل لصاحبه:

( أحيتني رؤيتك أي آنستني وسرتني )

فقد جعل الحاصل بالرؤية من الأنس والمسرة

حياة ، ثم جعل الرؤية فاعلة له ، ومثله قول أبي الطيب :

( وتحيا له المال الصوارم والقنا

ويقتل ما تحيي التبسم والجدا )


جعل الزيادة والوفور حياة للمال ، وتفريقه في العطاء

قتلا له ، ثم أثبت الإحياء فعلا للصوارم ، والقتل فعلا للتبسم

مع أن الفعل لا يصح منهما ونحوه قولهم أهلك الناس الدينار

والدرهم جعلت الفتنة إهلاكا ثم أثبت الإهلاك فعلا للدنيا

والدراهم .

وهو في القرآن كثير ،

كقوله تعالى :{ وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا }

نسبت الزيادة التي هي فعل الله إلى الآيات،

لكونها سببا فيها وكذا قوله تعالى :

{ وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم } ،

ومن هذا الضرب قوله { يذبح أبناءهم }

الفاعل غيره ونسب الفعل إليه لكونه الآمر به ،

وكقوله: { ينزع عنهما لباسهما } نسب النزع

الذي هو فعل الله تعالى إلى إبليس ، لأن سببه

أكل الشجرة ،وسبب أكلها وسوسته ومقاسمته إياهما

إنه لهما لمن الناصحين، وكذا قوله:

{ ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار }

نسب الإحلال الذي هو فعل الله إلى أكابرهم ،لأن سببه كفرهم

وسبب كفرهم أمر أكابرهم إياهم بالكفر ،

وكقوله تعالى :{ يوما يجعل الولدان شيبا }

نسب الفعل إلى الظرف لوقوعه فيه،

كقولهم : (نهاره صائم) ، وكقوله تعالى :

{ وأخرجت الأرض أثقالها }

وهو غير مختص بالخبر ، بل يجري في الإنشاء،

كقوله تعالى: { وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا }

وقوله: { فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا } ،

وقوله: { فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى } .


ولا بد له من قرينة ، إما لفظية كما سبق في قول أبي النجم ،

أو غير لفظية كاستحالة صدور المسند من المسند إليه المذكور،

أو قيامه به عقلا ،كقولك : (محبتك جاءت بي إليك)

أو عادة ،كقولك: (هزم الأمير الجند ،وكسا الخليفة الكعبة،

وبنى الوزير القصر) ، وكصدور الكلام من الموحد ،

في مثل قوله : (أشاب الصغير البيت)

واعلم أنه ليس كل شيء يصلح لأن تتعاطى فيه

المجاز العقلي بسهولة ، بل تجدك في كثير من

الأمر تحتاج إلى أن تهيء الشيء وتصلحه له

بشيء نتوخاه في النظم ، كقول من يصف جملا:

( تجوب له الظلماء عين كأنها

زجاجة شرب غير ملأى ولا صفر )


يريد أن يهتدي بنور عينه في الظلماء ،

ويمكنه بها أن يخرقها ويمضي فيها ،

ولولاها لكانت الظلماء كالسد الذي لا يجد السائر

شيئا يفرجه به ،ويجعل لنفسه فيه سبيلا ،

فلولا أنه قال : (تجوب له) فعلق له بتجوب ،

لما تبين جهة التجوز في جعل الجوب فعلا للعين

كما ينبغي ، لأنه لم يكن حينئذ في الكلام دليل

على أن اهتداء صاحبها في الظلمة ومضيه فيها بنورها ،

وكذلك لو قال : تجوب له الظلماء عينه ،

لم يكن له هذا الموقع ولا تقطع السلك من حيث

كان يعيبه حينئذ أن يصف العين بما وصفها به ،

واعلم أن الفعل المبني للفاعل في المجاز العقلي

واجب أن يكون له فاعل في التقدير إذا أسند إليه

صار الإسناد حقيقة لما يشعر بذلك تعريفه كما سبق ،

وذلك قد يكون ظاهرا ، كما في قوله تعالى :

{ فما ربحت تجارتهم } أي فما ربحوا في تجارتهم،

وقد يكون خفيا لا يظهر إلا بعد نظر وتأمل ،

كما في قولك : (سرتني رؤيتك) أي سرني الله وقت رؤيتك،

كما تقول :أصل الحكم في (أنبت الربيع البقل) أنبت الله البقل

وقت الربيع ، وفي: (شفى الطبيب المريض) شفى الله المريض

عند علاج الطبيب ، وكما في قوله :

(أقدمني بلدك حق لي على فلان) أي:

أقدمتني نفسي بلدك لأجل حق لي على فلان ،

أي قدمت لذلك ونظيره: (محبتك جاءت بي إليك) ،أي:

جاءت بي نفسي إليك لمحبتك ، أي جئتك لمحبتك ،

وإنما قلنا :أن الحكم فيهما مجاز ،لأن الفعلين فيهما مسندان

إلى الداعي والداعي لا يكون فاعلا ،

وكما في قول الشاعر :

( وصيرني هواك وبي

لحيني يضرب المثل )


أي وصيرني الله لهواك وحالي هذه ،

أي أهلكني الله ابتلاء بسبب هواك ،


وكما في قول الآخر وهو أبو نواس :

( يزيدك وجهه حسنا

إذا ما زدته نظرا )


أي يزيدك الله حسنا في وجهه ، لما أودعه من

دقائق الجمال متى تأملت .

وأنكر السكاكي وجود المجاز العقلي في الكلام ،

وقال: الذي عندي نظمه في سلك الاستعارة بالكناية ،

بجعل الربيع استعارة بالكناية عن الفاعل الحقيقي

بواسطة المبالغة في التشبيه على ما عليه مبني الاستعارة،

كما سيأتي وجعل نسبة الإنبات إليه قرينة للاستعارة .

ويجعل الأمير المدبر لأسباب هزيمة العدو استعارة

بالكناية عن الجند الهازم وجعل نسبة الهازم قرينة

للاستعارة، وفيما ذهب إليه نظر لأنه يستلزم

أن يكون المراد بعيشه في قوله تعالى :

{ فهو في عيشة راضية } صاحب العيشة لا العيشة ،

وبـ(ماء) في قوله: { خلق من ماء دافق }

فاعل الدفق لا المني لما سيأتي من تفسيره للاستعارة

بالكناية ،وأن لا تصح الإضافة في نحو قولهم:

(فلان نهاره صائم وليله قائم) لأن المراد بالنهار

على هذا فلان لا نفسه ،وإضافة الشيء إلى نفسه

لا تصح ، وأن لا يكون الأمر بالإيقاد على الطين

في إحدى الآيتين ،وبالبناء فيهما لهامان مع أن النداء

له وأن يتوقف جواز التركيب في نحو قولهم:

( أنبت الربيع البقل وسرتني رؤيتك)

على الإذن الشرعي ، لأن أسماء الله تعالى توقيفية

وكل ذلك منتف ظاهر الانتفاء .

ثم ذكره منقوص ، بنحو قولهم :

(فلان نهاره صائم) ، فإن الإسناد فيه مجاز ،

ولا يجوز أن يكون النهار استعارة بالكناية عن فلان،

لأن ذكر طرفي التشبيه يمنع من حمل الكلام على الاستعارة،

ويوجب حمله على التشبيه ، ولهذا عد نحو قولهم:

( رأيت بفلان أسدا ولقيني منه أسد) تشبيها لا استعارة،

كما صرح السكاكي أيضا بذلك في كتابه .


تنبيه :

إنما لم نورد الكلام في الحقيقة والمجاز العقليين

في علم البيان كما فعل السكاكي ومن تبعه لدخوله

في تعريف علم المعاني دون تعريف علم البيان .

=========

ونلتقي في الحلقة القادمة إن شاء المولى.


قديم 08-28-2010, 12:54 AM
المشاركة 3
حاتم الحمَد
مؤسس ومدير شبكة ومنتديات منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
القول في أحوال المسند إليه

أما حذفه فإما لمجرد الاختصار والاحتراز عن

العبث بناء على الظاهر، وإما لذلك مع ضيق

المقام ، وإما التخييل أن في تركه تعويلا على

شهادة العقل ، وأن في ذكره تعويلا على شهادة

اللفظ من حيث الظاهر ، وكم بين الشهادتين

وإما لاختبار تنبه السامع له عند القرينة ، أو

مقدار تنبهه ، وإما الإيهام أن في تركه تطهيرا

له عن لسانك ، أو تطهيرا للسانك عنه ، وإما

ليكون لك سبيل إلى الإنكار إن مست إليه

حاجة ، وإما لأن الخبر لا يصلح إلا له حقيقة

أو ادعاء ، وإما لاعتبار آخر مناسب لا يهدي

إلى مثله إلا العقل السليم والطبع المستقيم ،


كقول الشاعر :


قال لي كيف أنت قلت عليل

سهر دائم وحزن طويل



وقوله :


سأشكر عمرا إن تراخت منيتي

أيادي لم تمنن وإن هي جلت

فتى غير محجوب الغنى عن صديقه

ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت


وقوله :


أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم

دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه

نجوم سماء كلما انقض كوكب

بدا كوكب تأوي إليه كواكبه


وقول بعض العرب في ابن عم له موسر

سأله فمنعه ، وقال كم أعطيك مالي

وأنت تنفقه فيما لا يعنيك ، والله لا أعطيتك

فتركه حتى اجتمع القوم في ناديهم ،

وهو فيهم فشكاه إلى القوم وذمه ،

فوثب إليه ابن عمه فلطمه فأنشأ يقول :


سريع إلى ابن العم يلطم وجهه

وليس إلى داعي الندا بسريع

حريص على الدنيا مضيع لدينه

وليس لما في بيته بمضيع



وعليه قوله تعالى : ( صم بكم عمي ) ،

وقوله تعالى : ( وما أدراك ما هيه نار حامية )

وقيام القرينة شرط في الجميع ،

وأما ذكره فإما : لأنه الأصل ولا مقتضى للحذف ،

وإما للاحتياط لضعف التعويل على القرينة ،

وإما للتنبيه على غباوة السامع ،

وإما لزيادة الإيضاح والتقرير ،

وإما لإظهار تعظيمه أو إهانته كما في

بعض الأسامي المحمودة أو المذمومة ،

وإما للتبرك بذكره ، وإما لاستلذاذه ،

وإما لبسط الكلام حيث الإصغاء مطلوب ،

كقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام :

( هي عصاي) ولهذا زاد على الجواب ،

وإما لنحو ذلك.

قال السكاكي : وإما لكون الخبر عام النسبة

إلى كل مسند إليه ، والمراد تخصيصه بمعين،

كقولك : (زيد جاء وعمرو ذهب وخالد في الدار)،

وقوله :

الله أنجح ما طلبت به

والبر خير حقيبة الرجل

وقوله :

والنفس راغبة إذا رغبتها

وإذا ترد إلى قليل تقنع



وفيه نظر ، لأنه إن قامت قرينة تدل

عليه إن حذف فعموم الخبر وإرادة

تخصيصه بمعين وحدهما لا يقتضيان ذكره ،

وإلا فيكون ذكره واجبا .




وأما تعريفه فلتكون الفائدة أتم ،

لأن احتمال تحقق الحكم متى كان أبعد،

كانت الفائدة في الإعلام به أقوى،

ومتى كان أقرب كان أضعف ،

وبعده بحسب تخصيص المسند إليه .


والمسند كلما ازداد تخصيصا ازداد الحكم بعدا،

وكلما ازداد عموما ازداد الحكم قربا،

وإن شئت فاعتبر حال الحكم في قولنا :

( شيءٌ ما موجود ) وفي قولنا :

( فلان ابن فلان يحفظ الكتاب )

والتخصيص كما له بالتعريف


ثم التعريف مختلف ، فإن كان بالإضمار

فإما : لأن المقام مقام التكلم كقول بشار :


أنا المرعث لا أخفي على أحد

ذرت بي الشمس للقاصي وللداني



وإما لأن المقام مقام الخطاب كقول الحماسية:


وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني

وأشمت بي من كان فيك يلوم



وإما لأن المقام مقام الغيبة لكون المسند إليه

مذكورا أو في حكم المذكور لقرينة كقوله :


من البيض الوجوه بني سنان

لو أنك تستضيء بهم أضاءوا

هم حلوا من الشرف المعلى

ومن حسب العشيرة حيث شاءوا



وقوله تعالى : ( اعدلوا هو أقرب للتقوى )

أي العدل وقوله تعالى :

( ولأبويه لكل واحد منهما السدس ) ،

أي ولأبوي الميت ، وأصل الخطاب أن يكون

لمعين ، وقد يترك إلى غير معين ، كما تقول:

( فلان لئيم إن أكرمته أهانك ، وإن أحسنت إليه

أساء إليك ) ، فلا تريد مخاطبا بعينه ،

بل تريد إن أكرم أو أحسن فتخرجه في

صورة الخطاب ليفيد العموم ، أي سوء معاملته

غير مختص بواحد دون واحد ،

وهو في القرآن كثير كقوله تعالى:

( ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم )

أخرج في صورة الخطاب لما أريد العموم للقصد

إلى تفظيع حالهم ، وأنها تناهت في الظهور

حتى امتنع خفاؤها فلا تختص بها رؤية راء،

بل كل من يتأتى منه رؤية داخل في هذا الخطاب .


وإن كان بالعملية ، فإما لإحضاره بعينه في ذهن

السامع ابتداء باسم مختص به، كقوله تعالى:

( قل هو الله أحد ) ، وقول الشاعر :


أبو مالك قاصر فقره

على نفسه ومشيع غناه

وقوله :

الله يعلم ما تركت قتالهم

حتى علوا فرسي بأشقر مزبد



وإما لتعظيمه أو لإهانته ، كما في الكنى

والألقاب المحمودة والمذمومة ،

وإما للكناية حيث الاسم صالح لها .


ومما ورد صالحا للكناية من غير باب

المسند إليه قوله تعالى: ( تبت يدا أبي لهب)

أي جهنمي ، وإما لإيهام استلذاذه أو التبرك به ،

وإما لاعتبار آخر مناسب .



وإن كان بالموصولية فإما :لعدم علم المخاطب

بالأحوال المختصة به ، سوى الصلة ، كقولك:

( الذي كان معنا أمس رجل عالم )

وإما لاستهجان التصريح بالاسم ،

وإما لزيادة التقرير ، نحو قوله تعالى :

( وراودته التي هو في بيتها عن نفسه )

فإنه مسوق لتنزيه يوسف عليه السلام

عن الفحشاء ، والمذكور أدل عليه من

امرأة العزيز وغيره .


وإما للتفخيم ، كقوله تعالى :

( فغشيهم من اليم ما غشيهم )

وقول الشاعر :

مضى بها ما مضى من عقل شاربها

وفي الزجاجة باق يطلب الباقي



ومنه في غير هذا الباب ، قوله تعالى:

( فغشاها ما غشى ) ، وبيت الحماسة :


صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه

فلما علاه قال للباطل أبعد



وقول أبي نواس:


ولقد نهزت مع الغواة بدلوهم

وأسمت سرح اللحظ حيث أساموا

وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه

فإذا عصــــارة كــل ذاك أثام



وإما لتنبيه المخاطب على خطأ ، كقول الآخر:


إن الذين ترونهم إخوانـــــكم

يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا


وإما للإيماء إلى وجه بناء الخبر ، نحو:

( إن الذين يستكبرون عن عبادتي

سيدخلون جهنم داخرين )

ثم إنه ربما جعل ذريعة إلى التعويض

بالتعظيم لشأن الخبر ، كقوله :

إن الذي سمك السماء بنى لنا

بيتا دعائمه أعز وأطول



أو لشأن غيره ، نحو :

( الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين).

قال السكاكي : وربما جعل ذريعة إلى تحقيق

الخبر ، كقوله :

إن التي ضربت بيتا مهاجرة

بكوفة الجند غالت ودها غول



وربما جعل ذريعة إلى التنبيه للمخاطب

على خطأ ، كقوله:

إن الذين ترونهم . . . .? (البيت).

وفيه نظر ، إذ لا يظهر بين الإيماء إلى وجه

بناء الخبر وتحقيق الخبر فرق ،

فكيف يجعل الأول ذريعة إلى الثاني ؟


والمسند إليه في البيت الثاني ليس فيه إيماء

إلى وجه بناء الخبر عليه ، بل لا يبعد أن

يكون فيه إيماء إلى بناء نقيضه عليه ،

وإن كان بالإشارة فإما لتمييزه أكمل تمييز ،

لصحة إحضاره في ذهن السامع بوساطة

الإشارة حسا ، كقوله :

هذا أبو الصقر فردا في محاسنه

وقوله :

أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا

وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شهدوا

وقوله :

وإذا تأمل شخص ضيف مقبل

متسربل سربال ليل أغبر

أوما إلى الكرماء هذا طارق

نحرتني الأعداء إن لم تنحري


وقوله :

ولا يقيم على ضيم يراد به

إلا الأذلان عير الحي والوتد

هذا على الخف مربوط برمسته

وذا يشج فلا يرثي له أحد



وإما للقصد إلى أن السامع غبي ،

لا يتميز الشيء عنده إلا بالحسن ،

كقول الفرزدق :


أولئك آبائي فجئني بمثلهم

إذا جمعتنا يا جرير المجامع



وإما لبيان حاله في القرب أو البعد أو التوسط ،

كقولك: (هذا زيد وذاك عمرو وذاك بشر)،

وربما جعل القرب ذريعة إلى التحقير،

كقوله تعالى : ( وإذا رآك الذين كفروا إن

يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم ).


وقوله تعالى : (وإذا رأوك إن يتخذونك إلا

هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا).

وقوله تعالى: (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب)،

وعليه من غير هذا الباب قوله تعالى:

( ماذا أراد الله بهذا مثلا )

وقول عائشة رضي الله عنها

لعبد الله بن عمرو بن العاص :

(يا عجبا لابن عمرو هذا ) ،

وقول الشاعر:

تقول ودقت نحرها بيمينها

أبعلي هذا بالرحا المتقاعس


وربما جعل البعد ذريعة إلى التعظيم ،

كقوله تعالى: ( الم ذلك الكتاب )

ذهابا إلى بعد درجته ،ونحوه:

( وتلك الجنة التي أورثتموها )

ولذا قالت: ( فذلكن الذي لمتنني فيه )

لم تقل فهذا وهو حاضر رفعا لمنزلته

في الحسن وتمهيدا للعذر في الافتتان به.


وقد يجعل ذريعة إلى التحقير، كما يقال:

( ذلك اللعين فعل كذا ) ،

وإما للتنبيه إذا ذكر قبل المسند إليه مذكور،

وعقب بأوصاف على أن ما يرد بعد اسم

الإشارة ، فالمذكور جدير باكتسابه

من أجل تلك الأوصاف ، كقول حاتم الطائي :


ولله صعلوك يساور همه ويمضي

على الأحداث والدهر مقدما

فتى طلبات لا يرى الخمص ترحة

ولا شعبة إن نالها عد مغنما

إذا ما رأى يوما مكارم أعرضت

تيمم كبراهن ثمت صمما

ترى رمحه ونبله ومجنه

وذا شطب عضب الضريبة مخذما

وأحناء سرج قاتر ولجامه

عتاد أخي هيجا وطرفا مسوما

فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه

وإن عاش لم يقعد ضيفا مذمما



فعدد له كما ترى خصالا فاضلة من المضار

على الأحداث مقدما ، والصبر على ألم الجوع،

والأنفة من أن يعد الشبعة مغنما ،

وتيمم كبرى المكرمات والتأهب للحرب بأدواتها،

ثم عقب بذلك بقوله: ( فذلك ) فأفاد أنه جدير

باتصافه بما ذكر بعده ، وكذا قوله تعالى:

( أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون )

أفاد اسم الإشارة زيادة الدلالة على المقصود

من اختصاص المذكورين قبله باستحقاق الهدى

من ربهم والفلاح وإما لاعتبار آخر مناسب ،


وإن كان باللام فإما لإشارة إلى معهود بينك

وبين مخاطبك ، كما إذا قال لك قائل:

جاءني رجل من قبيلة كذا ، فتقول :

ما فعل الرجل ؟ ،

وعليه قوله تعالى: (وليس الذكر كالأنثى)

أي وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى

التي وهبت لها ،

وإما لإرادة نفس الحقيقة ، كقولك:

الرجل خير من المرأة والدينار خير من الدرهم،

ومنه قول أبي العلاء المعري :

والخل كالماء يبدي لي ضمائره

مع الصفا ويخفيها مع الكدر



وعليه من غير هذا الباب ، قوله تعالى:

(وجعلنا من الماء كل شيء حي)

أي جعلنا مبدأ كل شيء حي هذا الجنس ،

الذي هو الماء ، روي أنه تعالى خلق الملائكة

من ريح خلقها من الماء ، والجن من نار خلقها

منه ،وآدم من تراب خلقه منه ، ونحوه :

( أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة )

والمعرف باللام قد يأتي لواحد باعتبار عهديته

في الذهن لمطابقته الحقيقة ، كقولك:

أدخل السوق ، وليس بينك وبين مخاطبك

سوق معهود في الخارج ،

وعليه قول الشاعر :

ولقد أمر على اللئيم يسبني


وهذا يقرب في المعنى من النكرة ،

ولذلك يقدر يسبني وصفا للئيم لا حالا ،

وقد يفيد الاستغراق ، وذلك إذا امتنع حمله

على غير الإفراد وعلى بعضها دون بعض ،

كقوله تعالى:

(إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا)


والاستغراق ضربان:

1) حقيقي ، كقوله تعالى :

(عالم الغيب والشهادة )

أي كل غيب وشهادة وعرفي ،

كقولنا: جمع الأمير الصاغة ،

إذا جمع صاغة بلده أو أطراف مملكته

فحسب لا صاغة الدنيا .


واستغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع،

بدليل أنه لا يصدق (لا رجل في الدار)

في نفي الجنس ، إذا كان فيها رجل أو رجلان،

ويصدق (لا رجال في الدار)،

ولا تنافي بين الاستغراق وإفراد اسم الجنس،

لأن الحرف إنما يدخل عليه مجردا على الدلالة

على الوحدة والتعدد ، ولأنه بمعنى كل الإفرادي

لا كل المجموعي ، أي معنى قولنا : (الرجل)

كل فرد من أفراد الرجال لا مجموع الرجال ،

ولهذا امتنع وصفه بنعت الجمع ،وللمحافظة على

التشاكل بين الصفة والموصوف أيضا

فالحاصل أن المراد باسم الجنس المعرف باللام

إما : نفس الحقيقة ، لأن ما يصدق عليه من الأفراد

وهو تعريف الجنس والحقيقة ونحوه: (علم الجنس)

كأسامة .

وإما: فرد معين وهو العهد الخارجي ، ونحوه:

( العلم الخاص) كزيد ،

وإما: فرد غير معين ، وهو العهد الذهني ،

ونحوه: (النكرة) كرجل ،

وإما: كل الأفراد وهو الاستغراق ، ونحوه:

( لفظ كل مضافا إلى النكرة)

كقولنا: كل رجل


وقد شكك السكاكي على تعريف

الحقيقة والاستغراق بما خرج الجواب عنه

مما ذكرنا ، ثم اختار بناء على ما حكاه عن

بعض أئمة أصول الفقه من كون اللام موضوعة

لتعريف العهد لا غير أن المراد بتعريف الحقيقة

تنزيلها منزلة المعهود بوجه من الوجوه الخطابية،

إما لكون الشيء حاضرا في الذهن

لكونه محتاجا إليه على طريق التحقيق أو التهكم ،

أو لأنه عظيم الخطر معقود به الهمم

على أحد الطريقين ،

وإما لأنه لا يغيب عن الحسن على أحد الطريقين

لو كان معهودا ، وقال الحقيقة من حيث هي هي

لا واحدة ولا متعددة لتحققها مع الوحدة تارة ،

ومع التعدد أخرى ،

وإن كانت لا تنفك في الوجود عن أحدهما فهي

صالحة للتوحيد والتكثير ، فكون الحكم استغراقا

أو غير استغراق إلى مقتضى المقام ،

فإذا كان خطابيا مثل: (المؤمن غر كريم والفاجر

خب لئيم) ، حمل المعرف باللام مفردا كان أو جمعا

على الاستغراق بعلة إيهام أن القصد إلى فرد

دون آخر مع تحقق الحقيقة فيهما ترجيح لأحد

المتساوين ، وإذا كان استدلاليا حمل على أقل

ما يحتمل وهو الواحد في المفرد والثلاثة في الجمع،


وإن كان بالإضافة فإما لأنه ليس للمتكلم إلى إحضاره

في ذهن السامع طريق أخصر منها كقوله :


هواي مع الركب اليمانين مصعد

جنيب وجثماني بمكة موثق



وإما لإغنائها عن تفصيل معتذر

أو مرجوح لجهة ، كقوله :


بنو مطر يوم اللقاء كأنهم

أسود لها في غيل خفان أشبل

وقوله :

قومي هم قتلوا أميم أخي

فإذا رميت يصيبني سهمي



وإما لتضمنها تعظيما لشأن المضاف إليه ،

كقولك: (عبدي حضر) ،

فتعظم شأنك أو لشأن المضاف ،

كقولك : (عبد الخليفة ركب)

فتعظم شأن العبد ،

أو لشأن غيرهما ،كقولك :

( عبد السلطان عند فلان ) ،

فتعظم شأن فلان ،

أو تحقيرا ، نحو: (ولد الحجام حضر)،

وإما لاعتبار آخر مناسب .


وأما تنكيره فللأفراد ، كقوله تعالى:

( وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى )


أي فرد من أشخاص الرجال ،

أو للنوعية ، كقوله تعالى :

( وعلى أبصارهم غشاوة ) ،

أي نوع من الأغطية غير ما يتعارفه الناس ،

وهو غطاء التعامي عن آيات الله ،

ومن تنكير غير المسند إليه للإفراد،

قوله تعالى: (ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء

متشاكسون ورجلا سلما لرجل )،

وللنوعية، قوله تعالى:

(ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ) ،

أي نوع من الحياة مخصوص ،

وهو الحياة الزائدة ، كأنه قيل ولتجدنهم

أحرص الناس وإن عاشوا ما عاشوا

على أن يزدادوا إلى حياتهم في الماضي

والحاضر حياة في المستقبل فإن الإنسان

لا يوصف بالحرص على شيء ،

إلا إذا لم يكن ذلك الشيء موجودا له

حال وصفه بالحرص عليه ،

وقوله تعالى: (والله خلق كل دابة من ماء)

يحتمل الإفراد والنوعية أي خلق كل فرد

من أفراد الدواب من نطفة معينة أو كل نوع

من أنواع الدواب من نوع من أنواع المياه

أو للتعظيم والتهويل أو للتحقير ،

أي ارتفاع شأنه أو انحطاطه إلى حد لا يمكن

معه أن يعرف ، كقول ابن أبي السمط :

له حاجب في كل أمر يشينه

وليس له عن طالب العرف حاجب



أي له حاجب ، أي حاجب وليس له حاجب ما،

أو للتكثير ،كقولهم: (إن له لإبلا وإن له لغنما)

يريدون الكثرة .

وحمل الزمخشري التنكير في قوله تعالى:

( قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا ) عليه .


أو للتقليل ، كقوله تعالى:

(وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري

من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة

في جنات عدن ورضوان من الله أكبر)

أي: وشيء ما من رضوانه أكبر من ذلك

كله لأن رضاه سبب كل سعادة وفلاح ،

ولأن العبد إذا علم أن مولاه راض عنه

فهو أكبر في نفسه مما وراءه من النعم ،

وإنما تهنأ له برضاه كما إذا علم بسخطه

تنغصت عليه ولم يجد لها لذة ،

وإن عظمت وقد جاء التعظيم والتكثير جميعا،

كقوله تعالى: (وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك)

أي رسل عددهم كثير وآيات عظام وأعمار طويلة ،

ونحو ذلك .

والسكاكي لم يفرق بين التعظيم والتكثير ،

ولا بين التحقير والتقليل ، ثم جعل التنكير

في قولهم : (شر أهر ذا ناب) للتعظيم،

وفي قوله تعالى :

( ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك )

لخلافه وفي كليها نظر ،

أما الأول :فلما سيأتي ،

وأما الثاني: فلأن خلاف التعظيم مستفاد من

البناء للمرة ومن نفس الكلمة لأنها

إما : من قولهم : (نفحت الريح)

إذا هبت أي هبة ، أو من قولهم:

( نفح الطيب) إذا فاح أي فوحة ،

كما يقال: شمة ، واستعماله بهذا المعنى في الشر

استعارة ، إذ أصله أن يستعمل في الخير،

يقال له: (نفحة طيبة) أي: هبة من الخير ،

وذهب أيضا إلى أن قوله تعالى:

( يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن)

بالتنكير دون (عذاب الرحمن ) بالإضافة ،

إما للتهويل أو لخلافه ، والظاهر أنه لخلافه،

وإليه ميل الزمخشري ، فإنه ذكر أن إبراهيم

صلى الله عليه وسلم لم يخل هذا الكلام من حسن

الأدب مع أبيه ، حيث لم يصرح فيه أن العذاب

لاحق له لاصق به ولكنه قال:

(إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن ).

فذكر الخوف والمس ونكر العذاب ،

وأما التنكير في قوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة)

فيتحمل النوعية والتعظيم ، أي:

لكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص

حياة عظيمة ، لمنعه عما كانوا عليه من قتل

جماعة بواحد متى اقتدروا أو نوع من الحياة

وهو الحاصل للمقتول والقاتل بالارتداع عن

القتل للعلم بالاقتصاص ، فإن الإنسان إذا هم

بالقتل تذكر الاقتصاص فارتدع فسلم صاحبه

من القتل ، وهو من القود فتسبب لحياة نفسين .


ومن تنكير غير المسند إليه للنوعية :

(وأمطرنا عليهم مطرا ) أي:

وأرسلنا عليهم نوعا من المطر عجيبا

يعني الحجارة ، ألا ترى إلى قوله تعالى:

(فساء مطر المنذرين) .

وللتحقير ، ( إن نظن إلا ظنا ).


أغراض وصف المسند إليه :

وأما وصفه : فلكون الوصف تفسيرا له كاشفا

عن معناه ، كقولك: (الجسم الطويل العريض

العميق محتاج إلى فراغ يشغله) ، ونحوه في

الكشف قول أوس :

الألمعي الذي يظن بك الظن

كأن قد رأى وقد سمعا


حكي أن الأصمعي سئل عن الألمعي ،

فأنشد ولم يزد .

وكذلك قوله تعالى: (إن الإنسان خلق هلوعا

إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا)

قال الزمخشري: الهلع سرعة الجزع عند مس

المكروه وسرعة المنع عند مس الخير

من قولهم : (ناقة هلوع) سريعة السير ،

وعن أحمد بن يحيى قال لي محمد بن عبد الله

بن طاهر: ما الهلع ؟ قلت قد فسره الله تعالى . . .

انتهى كلام الزمخشري.


أو لكونه مخصصا له ، نحو: ( زيد التاجر عندنا )

أو لكونه مدحا له ، كقولنا: (جاء زيد العالم)

حيث يتعين فيه ذكر زيد قبل ذكر العالم ،

ونحوه من غيره قوله تعالى:

( بسم الله الرحمن الرحيم )

وقوله تعالى : (هو الله الخالق البارئ المصور)

أو لكونه ذما له، كقولنا : (ذهب زيد الفاسق)

حيث يتعين فيه زيد قبل ذكر الفاسق ،

ونحوه من غيره قوله تعالى:

( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم)


أو لكونه تأكيدا له ، كقولك: (أمس الدابر كان

يوما عظيما )

أو لكونه بيانا له ، كقوله تعالى:

(لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد)

قال الزمخشري: الاسم الحامل لمعنى الإفراد

والتثنية دال على شيئين :1-على الجنسية

2-والعدد المخصوص،

فإذا أريدت الدلالة على أن المعنى به منهما

والذي يساق له الحديث هو العدد شفع بما يؤكده

فدل به على القصد إليه والعناية به ،

ألا ترى أنك لو قلت: (إنما هو إله)

ولم تؤكده بواحد لم يحسن، وخيل أنك تثبت

الإلهية لا الوحدانية ،وأما قوله تعالى:

(وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه)


فقال السكاكي: شفع دابة في الأرض وطائر يطير

بجناحيه لبيان أن القصد بهما إلى الجنسين .


وقال الزمخشري: معنى ذلك زيادة التعميم والإحاطة

كأنه قيل وما من دابة قط في جميع الأرضين السبع

وما من طائر قط في جو السماء من جميع

ما يطير بجناحيه .


واعلم أن الجملة قد تقع صفة للنكرة ،

وشرطها أن تكون خبرية ، لأنها في المعنى حكم

على صاحبها كالخبر ،

فلم يستقم أن تكون إنشائية مثله .


وقال السكاكي: لأنه يجب أن يكون المتكلم

يعلم تحقيق الوصف للموصوف ،

لأن الوصف إنما يؤتى ليميز به الموصوف

مما عداه ،وتمييز المتكلم شيئا من شيء

بما لا يعرفه له محال ، فما لا يكون عنده

محققا للموصوف يمتنع أن يجعله وصفا له

بحكم عكس النقيض ومضمون الجمل الطلبية ،

كذلك لأن الطلب يقتضي مطلوبا غير متحقق

لامتناع طلب الحاصل فلا يقع شيء منها صفة

لشيء ، والتعليل الأول أعم لأن الجملة الإنشائية

قد لا تكون طلبية ، كقولنا: (نعم الرجل زيد

وبئس الصاحب عمرو ، وربما يقوم بكر،

وكم غلام ملكت ؟ ،وعسى أن يجيء بشر،

وما أحسن خالدا ) ،

وصيغ العقود ، نحو: (بعت واشتريت)

فإن هذه كلها إنشائية وليس شيء منها بطلبي

ولامتناع وقوع الإنشائية صفة أو خبرا ،

قيل في قوله :

جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط


تقديره: جاءوا بمذق مقول عنده هذا القول ،

أي: بمذق يحمل رائية أن يقول لمن يريد

وصفه له: هل رأيت الذئب قط؟ فهو مثله في

اللون ، لإيراده في خيال الرائي لون الذئب

لزرقته ،

وفي مثل قولنا: (زيد اضربه أو لا تضربه)

تقديره في حقه: اضربه أو لا تضربه .


أغراض توكيد المسند إليه :

وأما توكيده فللتقرير، كما سيأتي في باب تقديم

الفعل وتأخيره ،

أو لدفع توهم التجوز أو السهو ،

كقولك: (عرفت أنا وعرفت أنت

وعرف زيد) .

أو عدم الشمول ، كقوله: (عرفني الرجلان كلاهما

أو الرجال كلهم )


قال السكاكي : ومنه (كل رجل عارف وكل إنسان حيوان)

وفيه نظر لأن كلمة (كل) تارة تقع تأسيسا

وذلك إذا أفادت الشمول من أصله حتى لولا مكانها

لما عقل ، وتارة تقع تأكيدا ، وذلك إذا لم تفده

من أصله بل تمنع أن يكون اللفظ المقتضى له

مستعملا في غيره ،

أما الأول: فهو أن تكون مضافة إلى نكرة ،

كقوله تعالى: (كل حزب بما لديهم فرحون)

وقوله: (وكل شيء فصلناه تفصيلا) ،

وقوله: (وهم من كل حدب ينسلون)

وأما الثاني: فما عدا ذلك ،كقوله تعالى:

(فسجد الملائكة كلهم)

وهي في قوله: (كل رجل عارف وكل إنسان حيوان)

من الأول لا الثاني لأنها لو حذفت منهما

لم يفهم المشمول أصلا .

أغراض عطف البيان :

وأما بيانه وتفسيره

فلإيضاحه باسم مختص به،

كقولك: (قدم صديقك خالد)


أغراض الإبدال عن المسند إليه:

وأما الإبدال منه فلزيادة التقرير والإيضاح،

نحو : (جاءني زيد أخوك)

و (جاء القوم أكثرهم وسلب عمرو ثوبه)

ومنه في غيره، قوله تعالى:

(اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم)


أغراض عطف النسق :

وأما العطف فلتفصيل المسند إليه مع اختصار،

نحو: (جاء زيد وعمرو وخالد)

أو لتفصيل المسند إليه مع اختصار،

نحو: (جاء زيد فعمرو) أو ثم عمرو ،

أو (جاء القوم حتى خالد)

ولا بد في (حتى) من تدريج ،

كما ينبىء عنه قوله:


وكنت فتى من جند إبليس فارتمى

بي الحال حتى صار إبليس من جندي



أو لرد السامع عن الخطأ في الحكم إلى الصواب،

كقولك: (جاءني زيد لا عمرو) لمن اعتقد

أن عمرا جاءك دون زيد ، أو أنهما جاءاك جميعا

وقولك: (ما جاءني زيد لكن عمرو)

لمن اعتقد أن زيدا جاءك دون عمرو

أو لصرف الحكم عن محكوم له إلى آخر،

نحو: (جاءني زيد بل عمرو)

و(ما جاءني زيد بل عمرو)

أو للشك فيه أو التشكيك ، نحو:

( جاءني زيد أو عمرو)

أو (إما زيد وإما عمرو)

أو (إما زيد أو عمرو).


أو للإيهام ، كقوله تعالى:

(وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين).


أو للإباحة أو التخيير: وهو أن يفيد ثبوت

الحكم لأحد الشيئين أو الأشياء فحسب،

مثالهما قولك: (ليدخل الدار زيد أو عمرو)


والفرق بينهما واضح فإن الإباحة لا تمنع

من الإتيان بهما أو بها جميعا .


وأما توسط الفصل بينه وبين المسند

فلتخصصه به ، كقولك:

(زيد هو المنطلق) أو (هو أفضل من عمرو)

أو (خير منه) أو (هو يذهب)


وأما تقديمه ، فلكون ذكره أهم ،

إما لأنه الأصل ولا مقتضى للعدول عنه،

وإما ليتمكن الخبر في ذهن السامع ،

لأن في المبتدأ تشويقا إليه كقوله:

والذي حارت البرية فيه

حيوان مستحدث من جماد



وهذا أولى من جعله شاهدا لكون

المسند إليه موصولا ، كما فعل السكاكي.

وإما لتعجيل المسرة أو المساءة ،

لكونه صالحا للتفاؤل أو التطير ،

نحو: (سعد في دارك والسفاح في دار صديقك)


وإما لإيهام أنه لا يزول عن الخاطر،

أو أنه يستلذ فهو إلى الذكر أقرب،

وإما لنحو ذلك، قال السكاكي :

وإما لأن كونه متصفا بالخبر يكون

هو المطلوب لا نفس الخبر

كما إذا قيل له: كيف الزاهد؟ فيقول:

الزاهد يشرب ويطرب.


وإما لأنه يفيد زيادة تخصيص، كقوله :

متى تهزز بني قطن تجدهم

سيوفا في عواتقهم سيوف

جلوس في مجالسهم رزان

وإن ضيف ألم فهم خفوف

والمراد: هم خفوف .


وفيه نظر لأن قوله: [لا نفس الخبر] يشعر

بتجويز أن يكون المطلوب بالجملة الخبرية

نفس الخبر، وهو باطل لأن نفس الخبر

تصور لا تصديق والمطلوب بها إنما

يكون تصديقا ، وإن أراد بذلك وقوع الخبر

مطلقا فغير صحيح أيضا لما سيأتي أن

العبارة عن مثله لا يتعرض فيها إلى

ما هو مسند إليه ، كقولك:

(وقع القيام) ثم في مطابقة الشاهد الذي

أنشده للتخصيص نظرا لما سيأتي

أن ذلك مشروط بكون الخبر فعليا ،

وقوله: [والمراد هم خفوف] تفسير للشيء

بإعادة لفظه.

قال عبد القاهر: وقد يقدم المسند إليه ليفيد

تخصيصه بالخبر الفعلي إن ولى حرف النفي،

كقولك: (ما أنا قلت هذا) أي: لم أقله ،

مع أنه مقول ، فأفاد نفي الفعل عنك وثبوته لغيرك،

فلا تقول ذلك إلا في شيء ثبت أنه مقول ،

وأنت تريد نفي كونك قائلا له ،

ومنه قول الشاعر :

وما أنا أسقمت جسمي به

ولا أنا أضرمت في القلب نارا


إذ المعنى: أن هذا السقم الموجود ،

والضرم الثابت ، ما أنا جالبا لهما ،

فالقصد إلى نفي كونه فاعلا لهما لا

إلى نفيهما ، ولهذا لا يقال:

(ما أنا قلت ولا أحد غيري)

لمناقضة منطوق الثاني مفهوم الأول ،

بل يقال: (ما قلت أنا ولا أحد غيري)،

ولا يقال: (ما أنا رأيت أحدا من الناس) ،

ولا (ما أنا ضربت إلا زيدا)،

بل يقال: (ما رأيت) أو (ما رأيت أنا أحدا

من الناس ، وما ضربت) ،

أو (ما ضربت أنا إلا زيدا) ،

لأن المنفي في الأول الرؤية الواقعة على

كل واحد من الناس ،

وفي الثاني الضرب الواقع على كل واحد منهم

سوى زيد ، وقد سبق : أن ما يفيد التقديم ثبوته

لغير المذكور هو ما نفي عن المذكور،

فيكون الأول : مقتضيا لأن إنسانا غير المتكلم

قد رأى كل الناس ،

والثاني : مقتضيا لأن إنسانا غير المتكلم

قد ضرب من عدا زيدا منهم وكلاهما محال.


وعلل الشيخ عبد القاهر والسكاكي

امتناع الثاني: بأن نقض النفي بألا يقتضي

أن يكون القائل له قد ضرب زيدا ،

وإيلاء الضمير حرف النفي يقتضي

أن لا يكون ضربه .

وذلك تناقض وفيه نظر لأنا لا نسلم أن

إيلاء الضمير حرف النفي يقتضي ذلك

فإن قيل الاستثناء الذي فيه مفرغ ،

وذلك يقتضي أن لا يكون ضرب أحدا

من الناس ، وذلك يستلزم أن لا يكون

ضرب زيدا ، قلنا إن لزم ذلك فليس للتقديم

لجريانه في غير صورة التقديم أيضا ،

كقولنا: (ما ضربت إلا زيدا) هذا إذا ولى

المسند إليه حرف النفي ، وإلا فإن كان معرفة

كقولك: (أنا فعلت) كان القصد إلى الفاعل ،

وينقسم قسمين:

أحدهما: ما يفيد تخصيصه بالمسند للرد

على من زعم انفراد غيره به ،

أو مشاركته فيه ، كقولك: (أنا كتبت في معنى فلان

،وأنا سعيت في حاجته)

ولذلك إذا أردت التأكيد قلت للزاعم في الوجه الأول:

(أنا كتبت في معنى فلان لا غيري)، ونحو ذلك.


وفي الوجه الثاني: (أنا كتبت في معنى فلان وحدي)

ونحو ذلك ، فإن قلت: (أنا فعلت كذا وحدي)

في قوة (أنا فعلته لا غيري) فلم اختص كل منهما

بوجه من التأكيد دون وجه ؟

قلت: لأن جدوى التأكيد لما كانت إماطة

شبهة خالجت قلب السامع ، وكانت في الأول

أن الفعل صدر من غيرك ، وفي الثاني أنه صدر

منك بشركة الغير، أكدت وأمطت الشبهة في الأول

بقولك: (لا غيري) وفي الثاني بقولك: (وحدي)

لأنه محزه ولو عكست أحلت.


ومن البين في ذلك المثل:

(أتعلمني بضب أنا حرشته)

وعليه قوله تعالى: (ومن أهل المدينة

مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم)

أي لا يعلمهم إلا نحن ، ولا يطلع على أسرارهم

غيرنا لإبطانهم الكفر في سويدات قلوبهم ،


الثاني: ما لا يفيد إلا تقوى الحكم وتقرره

في ذهن السامع وتمكنه ، كقولك:

(هو يعطي الجزيل) لا تريد أن غيره لا يعطي

الجزيل ولا أن تعرض بإنسان ،

ولكن تريد أن تقرر في ذهن السامع ،

وتحقق أنه يفعل إعطاء الجزيل ،

وسبب تقويه هو:أن المبتدأ يستدعي أن

يستند إليه شيء ، فإذا جاء بعده ما يصلح

أن يستند إليه صرفه إلى نفسه ، فينعقد بينهما

حكم سواء كان:

خاليا عن ضميره ، نحو: (زيد غلامك)

أو متضمنا له ، نحو: (أنا عرفت ، وأنت عرفت ،

وهو عرف ، أو زيد عرف)

ثم إذا كان متضمنا لضميره صرفه

ذلك الضمير إليه ثانيا ، فيكتسي الحكم قوة ،

ومما يدل على أن التقديم يفيد التأكيد أن هذا

الضرب من الكلام يجيء فيما سبق فيه إنكار

من منكر ، نحو أن يقول الرجل:

(ليس لي علم بالذي تقول)

فتقول: (أنت تعلم أن الأمر على ما أقول)

وعليه قوله تعالى:

(ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون)

لأن الكاذب ــ لا سيما في الدين ــ لا يعترف بأنه

كاذب فيمتنع أن يعترف بالعلم بأنه كاذب.


وفيما اعترض فيه شك : نحو أن تقول للرجل:

(كأنك لا تعلم ما صنع فلان)

فيقول: (أنا أعلم)

وفي تكذيب مدع ، كقوله تعالى:

(وإذا جاؤوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر

وهم قد خرجوا به) .

فإن قولهم: (آمنا) دعوى أنهم لم يخرجوا بالكفر

كما دخلوا به .

وفيما يقتضي الدليل أن لا يكون:

كقوله تعالى: (والذين يدعون من دون الله

لا يخلقون شيئا وهم يخلقون)

فإن مقتضى الدليل أن لا يكون ما يتخذ إلها

مخلوقا .

وفيما يستغرب ، كقولك:

(ألا تعجب من فلان؟ يدعي العظيم وهو

يعيا باليسير).

وفي الوعد والضمان ، كقولك للرجل:

(أنا أكفيك أنا أقوم بهذا الأمر)

لأن من شأن من تعده وتضمن له أن

يعترضه الشك في إنجاز الموعد والوفاء

بالضمان فهو من أحوج شيء إلى التأكيد ،

وفي المدح والافتخار:لأن من شأن المادح أن

يمنع السامعين من الشك فيما يمدح به ويبعدهم

عن الشبهة وكذلك المفتخر ،

أما المدح : فكقول الحماسي :

هم يفرشون اللبد كل طمرة


وقول الحماسية :

هما يلبسان المجد أحسن لبسة


وقول الحماسي :

فهم يضربون الكبش يبرق بيضه




وأما الافتخار: فكقول طرفة :

نحن في المشتاة ندعو الجفلى



ومما لا يستقيم المعنى فيه إلا على ما جاء

عليه من بناء الفعل على الاسم ،

قوله تعالى: (إن وليي الله الذي نزل الكتاب

وهو يتولى الصالحين)

وقوله تعالى: (وقالوا أساطير الأولين اكتتبها

فهي تملى عليه بكرة وأصيلا)

وقوله تعالى: (وحشر لسليمان جنوده من الجن

والإنس والطير فهم يوزعون)

فإنه لا يخفى على من له ذوق أنه لو جيء

في ذلك بالفعل غير مبني على الاسم لوجد اللفظ قد

نبا عن المعنى ، والمعنى قد زال عن الحال التي

ينبغي أن يكون عليها ، وكذا إذا كان الفعل منفيا ،

كقولك: (أنت لا تكذب) فإنه أشد لنفي الكذب عنه

من قولك: (لا تكذب) وكذا من قولك: (لا تكذب أنت)

لأنه لتأكيد المحكوم عليه لا الحكم ،

وعليه قوله تعالى: (والذين هم بربهم لا يشركون)

فإنه يفيد من التأكيد في نفي الإشراك عنهم

ما لا يفيد قولنا: (والذين لا يشركون بربهم)

ولا قولنا: (والذين بربهم لا يشركون)

وكذا قوله تعالى: (لقد حق القول على أكثرهم

فهم لا يؤمنون)

وقوله تعالى: (فعميت عليهم الأنباء يومئذ

فهم لا يتساءلون)

وقوله تعالى: (إن شر الدواب عند الله

الذين كفروا فهم لا يؤمنون)

هذا كله إذا بني الفعل على معرف ،

فإن بني على منكر: أفاد ذلك تخصيص الجنس

أو الواحد بالفعل ،كقولك: (رجل جاءني)

أي: لا امرأة أو لا رجلان ، وذلك لأن أصل

النكرة أن تكون للواحد من الجنس فيقع القصد

بها تارة إلى الجنس فقط ، كما إذا كان المخاطب

بهذا الكلام قد عرف أن قد أتاك آت ولم يدر جنسه

أرجل هو أو امرأة أو اعتقد أنه امرأة وتارة

إلى الوحدة فقط كما إذا عرف أن قد أتاك

من هو من جنس الرجال ولم يدر أرجل هو

أم رجلان أو اعتقد أنه رجلان .


واشترط السكاكي في إفادة تقديم الاختصاص أمرين:


أحدهما: أن يجوز تقدير كونه في الأصل

مؤخرا بأن يكون فاعلا في المعنى فقط ،

كقولك: (أنا قمت) فإنه يجوز أن تقدر أصله

قمت أنا ،على أن (أنا) تأكيد للفاعل الذي هو

(التاء) في قمت ، فقدم أنا وجعل مبتدأ.


وثانيهما: أن يقدر كونه كذلك فإن انتفى الثاني

دون الأول كالمثال المذكور إذا أجري على

الظاهر وهو أن يقدر الكلام من الأصل مبنيا

على المبتدأ والخبر ، ولم يقدر تقديم وتأخير

أو انتفى الأول بأن يكون المبتدأ اسما ظاهرا ،

فإنه لا يفيد إلا تقوي الحكم.

واستثنى المنكر ، كما في نحو: (رجل جاءني)

بأن قدر أصله (جاءني رجل) لا على أن (رجل)

(فاعل) جاءني ، بل على أنه (بدل من الفاعل)

الذي هو الضمير المستتر في جاءني،

كما قال تعالى: (وأسروا النجوى الذين ظلموا)

إن الذين ظلموا بدل من الواو في أسروا ،

وفرق بينه وبين المعرف بأنه لو لم يقدر ذلك فيه

انتفى تخصيصه ، إذ لا سبب لتخصيصه سواه،

ولو انتفى تخصيصه لم يقع مبتدأ ، بخلاف المعرف

لوجود شرط الابتداء فيه ، وهو التعريف ثم قال:

وشرطه أن لا يمنع من التخصيص مانع،

كقولنا: (رجل جاءني) أي: لا امرأة أو لا رجلان

دون قولهم: (شر أهر ذا ناب)


أما على التقدير الأول فلامتناع أن يراد:
(المُهرُّ شر لا خير) ، وأما على الثاني

فلكونه نابيا عن مكان استعماله ،

وإذ قد صرح الأئمة بتخصيصه حيث تأولوه

بـ (ما أهر ذا ناب إلا شر) فالوجه تفظيع شأن

الشر بتنكيره كما سبق .


هذا كلامه وهو مخالف لما ذكره الشيخ عبد القاهر

لأن الظاهر كلام الشيخ فيما يليه حرف النفي

القطع بأنه يفيد التخصيص مضمرا كان أو مظهرا

معرفا أو منكرا من غير شرط ، لكنه لم يمثل

إلا بالمضمر ،

وكلام السكاكي صريح في أنه لا يفيده

إلا إذا كان مضمرا أو منكرا بشرط تقدير

التأخير في الأصل ، فنحو: (ما زيد قام)

يفيد التخصيص على إطلاق قول الشيخ ،

ولا يفيده على قول السكاكي ،ونحو:

(ما أنا قمت) يفيده على قول الشيخ مطلقا ،

وعلى قول السكاكي بشرط .



وظاهر كلام الشيخ أن المعرف إذا لم يقع

بعد النفي وخبره مثبت أو منفي قد يفيد

الاختصاص مضمرا كان أو مظهرا ،

ولكنه لم يمثل إلا المضمر ،

وكلام السكاكي صريح في أنه لا يفيده إلا المضمر،

فنحو: (زيد قام) قد يفيد الاختصاص على إطلاق

قول الشيخ ،ولا يفيده عند السكاكي ،

ثم فيما احتج به لِما ذهب إليه نظر،

إذ الفاعل وتأكيده سواء في امتناع التقديم ،

ما دام الفاعل فاعلا والتأكيد تأكيدا ،

فتجويز تقديم التأكيد دون الفاعل ،

تحكم ظاهر ثم لا نسلم انتفاء التخصيص

في صورة المنكر لولا تقدير أنه كان في الأصل

مؤخرا فقدم ، لجواز حصول التخصيص

فيها بالتهويل ــ كما ذكرــ وغير التهويل.


ثم لا نسلم امتناع أن يراد: المُهِرُّ شر لا خير،

قال الشيخ عبد القاهر: إنما قدم (شر) لأن المراد

أن يعلم أن الذي أهر ذا ناب هو من

جنس الشر لا من جنس الخير ،

فجرى مجرى أن تقول: (رجل جاءني)

تريد أنه رجل لا امرأة ، وقول العلماء:

أنه إنما صلح لأنه بمعنى (ما أهر ذا ناب إلا شر)

بيان لذلك ،وهذا صريح في خلاف ما ذكره .

ثم قال السكاكي :ويقرب من قبيل (هو عرف) في

اعتبار تقوي الحكم (زيد عارف) وإنما قلت

(يقرب) دون أن أقول (نظيره) لأنه لما لم يتفاوت

في التكلم والخطاب والغيبة في (أنا عارف ،

وأنت عارف ، وهو عارف ) أشبه الخالي

عن الضمير ، ولذلك لم يُحكم على عارف بأنه

جملة ولا عومل معاملتها في البناء ،

حيث أعرب في نحو: (رجل عارف) رجلا عارفا ،

ورجلٍ عارفٍ ،وأتبعه في حكم الإفراد نحو:

(زيد عارف أبوه) يعني أُتْبِع (عارف) (عرف)

في الإفراد ، إذا أسند إلى الظاهر مفردا كان

أو مثنى أو مجموعا .


ثم قال : ومما يفيد التخصيص ما يحكيه

ــ علت كلمته ــ عن قوم شعيب عليه السلام :

(وما أنت علينا بعزيز ) أي: العزيز علينا يا شعيب

رهطك لا أنت ، لكونهم من أهل ديننا ،

ولذلك قال عليه السلام في جوابهم:

(أرهطي أعز عليكم من الله) أي: من نبي الله ،

ولو كان معناه معنى (ما عززت علينا)

لم يكن مطابقا.

وفيه نظر لأن قوله: (وما أنت علينا بعزيز)

من باب (أنا عارف) لا من باب (أنا عرفت)

والتمسك بالجواب ليس بشيء ،

لجواز أن يكون عليه السلام فهم كون رهطه

أعز عليهم من قولهم: (ولولا رهطك لرجمناك)

وقال الزمخشري: دل إيلاء ضميره حرف النفي

على أن الكلام في الفاعل لا في الفعل كأنه قيل:

(وما أنت علينا بعزيز بل رهطك هم الأعزة علينا)

وفيه نظر ، لأنا لا نسلم أن إيلاء الضمير

حرف النفي إذا لم يكن الخبر فعليا يفيد الحصر،

فإن قيل: الكلام واقع فيه وأنهم الأعزة عليهم دونه،

فكيف صح قوله: (أرهطي أعز عليكم من الله)؟

قلنا: قال السكاكي: معناه: من نبي الله فهو على

حذف المضاف ،

وأجود منه ما قال الزمخشري:

وهو أن تهاونهم به ــ وهو نبي الله ــ تهاون بالله،

فحين عز عليهم رهطه دونه كان رهطه

أعز عليهم من الله ، ألا ترى إلى قوله تعالى:

(من يطع الرسول فقد أطاع الله).


ويجوز أن يقال: لا شك أن همزة الاستفهام هنا

ليست على بابها ، بل هي للإنكار للتوبيخ ،

فيكون معنى قوله: (أرهطي أعز عليكم من الله)

إنكار أن يكون مانعهم من رجمه رهطه ،

لانتسابه إليهم دون الله تعالى مع انتسابه إليه أيضا،

أي: أرهطي أعز عليكم من الله حتى كان امتناعكم

من رجمي بسبب انتسابي إليهم بأنهم رهطي ،

ولم يكن بسبب انتسابي إلى الله تعالى بأني رسوله؟

والله أعلم .


ومما يرى تقديمه كاللازم لفظ (مثل)

إذا استعمل كناية من غير تعريض ،

كما في قولنا: (مثلك لا يبخل)

ونحوه مما لا يراد بلفظ (مثل) غير ما أضيف إليه ،

ولكن أريد أن من كان على الصفة التي هو عليها

كان من مقتضى القياس وموجب العرف أن يفعل

ما ذكر أو أن لا يفعل ، ولكون المعنى هذا

قال الشاعر:

ولم أقل مثلك أعني به

سواك يا فردا بلا مشبه


وعليه قوله:

مثلك يثني المزن عن صوبه

ويسترد الدمع عن غربه



وكذا قول القبعثري للحجاج لما توعده بقوله:

(لأحملنك على الأدهم ): (مثل الأمير حمل

على الأدهم والأشهب) أي: من كان على هذه الصفة

من السلطان وبسطة اليد ، ولم يقصد أن يجعل أحدا مثله.


وكذلك حكم (غير) إذا سلك به هذا المسلك

فقيل: (غيري يفعل ذاك) على معنى: (أني لا أفعله)

فقط من غير إرادة التعريض بإنسان ،

وعليه قوله:


غيري بأكثر هذا الناس ينخدع




فإنه معلوم أنه لم يرد أن يعرض بواحد هناك

فيصفه بأنه ينخدع ، بل أراد أنه ليس ممن ينخدع.

وكذا قول أبي تمام :

وغيري يأكل المعروف سحتا

ويشحب عنده بيض الأيادي


فإنه لم يرد أن يعرض بشاعر سواه فيزعم

أن الذي قرف به عند الممدوح من أنه هجاء

كان من ذلك الشاعر لا منه بل ،

أراد أن ينفي عن نفسه أن يكون ممن يكفر

النعمة ويلؤم لا غير .


واستعمال (مثل) و(غير) هكذا مركوز في الطباع،

وإذا تصفحت الكلام وجدتهما يقدمان أبدا على

الفعل إذا نحي بهما نحو ما ذكرناه ،

ولا يستقيم المعنى فيهما إذا لم يقدما ،

والسر في ذلك أن تقديمهما يفيد تقوي الحكم

كما سبق تقريره ، وسيأتي أن المطلوب بالكناية

في مثل قولنا: (مثلك لا يبخل وغيرك لا يجود)

هو الحكم ، وأن الكناية أبلغ من التصريح

فيما قصد بها ، فكان تقديمهما أعون للمعنى

الذي جلبا لأجله.


قيل: ( .. وقد يقدم لأنه دال على العموم كما تقول:

( كل إنسان لم يقم) فيقدم ليفيد نفي القيام عن كل

واحد من الناس ، لأن الموجبة المعدولة المهملة

في قوة السالبة الجزئية المستلزمة نفي الحكم

عن جملة الأفراد ، دون كل واحد منها

فإذا سورت بـ (كل) وجب أن تكون لإفادة العموم ،

لا لتأكيد نفي الحكم عن جملة الأفراد ،

لأن التأسيس خير من التأكيد ، ولو لم تقدم فقلت:

(لم يقم كل إنسان) كان نفيا للقيام عن جملة الأفراد

دون كل واحد ،لأن السالبة المهملة في قوة

السالبة الكلية المقتضية سلب الحكم عن كل فرد،

لورود موضوعها في سياق النفي ، فإذا سورت

بـ(كل) وجب أن تكون لإفادة نفي الحكم عن جملة الأفراد،

لئلا يلزم ترجيح التأكيد على التأسيس .

وفيه نظر ، لأن النفي عن جملة الأفراد في

الصورة الأولى ، أعني الموجبة المعدولة المهملة ،

كقولنا: (إنسان لم يقم) وعن كل فرد في

الصورة الثانية ، أعني السالبة المهملة ،

كقولنا: (لم يقم إنسان) إنما أفاد الإسناد

إلى (إنسان) فإذا أضيف (كل) إلى (إنسان)

وحول الإسناد إليه ، فأفاد في الصورة الأولى

نفي الحكم عن جملة الأفراد ،

وفي الثانية نفيه عن كل فرد منها ،

كان (كل) تأسيسا لا تأكيدا ، لأن التأكيد لفظ

يفيد تقوية ما يفيده لفظ آخر ، وما نحن فيه ليس كذلك.


ولئن سلمنا أنه يسمى تأكيدا فقولنا: (لم يقم إنسان)

إذا كان مفيدا للنفي عن كل فرد كان مفيدا

للنفي عن جملة الأفراد لا محالة ،

فيكون (كل) في (لم يقم كل إنسان)

إذا جعل مفيدا للنفي عن جملة الأفراد تأكيدا

لا تأسيسا كما قال: (في كل إنسان لم يقم)

فلا يلزم من جعله للنفي عن كل فرد

ترجيح التأكيد على التأسيس.


ثم جعله قولنا: (لم يقم إنسان) سالبة مهملة

في قوة سالبة كلية ــ مع القول بعموم موضوعها

لوروده نكرة في سياق النفي ـــ خطأ لأن النكرة

في سياق النفي إذا كانت للعموم كانت القضية

التي جعلت هي موضوعا لها سالبة كلية ،

فكيف تكون سالبة مهملة؟


ولو قال: (لو لم يكن الكلام المشتمل على

كلمة (كل) مفيدا لخلاف ما يفيده الخالي عنها ،

لم يكن في الإتيان بها فائدة ) لثبت مطلوبة في

الصورة الثانية دون الأولى ،

لجواز أن يقال: إن فائدته فيها الدلالة على نفي

الحكم عن جملة الأفراد بالمطابقة .



واعلم أن ما ذكره هذا القائل من كون (كل)

في النفي مفيدة للعموم تارة وغير مفيدة أخرى،

مشهور ، وقد تعرض له الشيخ عبد القاهر وغيره.


قال الشيخ: كلمة (كل) في النفي إن أدخلت

في حيزه بأن قدم عليها لفظا ،

كقول أبي الطيب :

ما كل ما يتمنى المرء يدركه


وقول الأخر:

ما كل رأي الفتى يدعو إلى الرشد




وقولنا: (ما جاء القوم كلهم)

و (ما جاء كل القوم) و (لم آخذ الدراهم كلها)

و (لم آخذ كل الدراهم) أو تقديرا ،

بأن قدمت على الفعل المنفي وأعمل فيها ،

لأن العامل رتبته التقدم على المعمول ،

كقولك: (كل الدراهم لم آخذ) توجه النفي إلى

الشمول خاصة دون أصل الفعل ،

وأفاد الكلام ثبوته لبعض ، أو تعلقه ببعض ،

وإن أخرجت من حيزه ، بأن قدمت عليه لفظا ،

ولم تكن معمولة للفعل المنفي ،

توجه النفي إلى أصل الفعل ، وعم ما أضيف إليه

(كل) كقول النبي صلى الله عليه وسلم لما قال

له ذو اليدين: (أقصرت الصلاة أم نسيت

يا رسول الله؟)

(كل ذلك لم يكن) أي: لم يكن واحدا منهما ،

لا القصر ولا النسيان ،

وقول أبي النجم:

قد أصبحت أم الخيار تدعي

علي ذنبا كله لم أصنع



ثم قال: وعلة ذلك أنك إذا بدأت بـ(كل)

كنت قد بنيت النفي عليه وسلطت الكلية

على النفي ،وأعملتها فيه ، وإعمال معنى الكلية

في النفي يقتضي أن لا يشذ شيء عن النفي،

فاعرفه .

هذا لفظه ، وفيه نظر .


وقيل: إنما كان التقديم مفيدا للعموم دون

التأخير لأن صورة التقديم تفهم سلب لحوق

المحمول للموضوع ، وصورة التأخير تفهم

سلب الحكم من غير تعرض للمحمول بسلب

أو إثبات.

وفيه نظر أيضا ، لاقتضائه أن لا تكون (ليس)

في نحو قولنا: (ليس كل إنسان كاتبا)

مفيدة لنفي كاتب.

هذا إن حمل كلامه على ظاهره ،

وإن تؤول بأن مراده أن التقديم يفيد سلب لحوق

المحمول عن كل فرد ، والتأخير يفيد سلب لحوقه

لكل فرد اندفع هذا الاعتراض،

لكن كان مصادرة على المطلوب.


واعلم أن المعتمد في المطلوب الحديث

وشعر أبي النجم ، وما نقلناه عن الشيخ

عبد القاهر وغيره لبيان السبب ،

وثبوت المطلوب لا يتوقف عليه.


والاحتجاج بالخبر من وجهين:

أحدهما :أن السؤال بـ(أم) عن أحد الأمرين

لطلب التعيين بعد ثبوت أحدهما

عند المتكلم على الإبهام ،

فجوابه إما بالتعيين ، أو بنفي كل واحد منهما،

وثانيهما : ما روي أنه لما قال رسول الله

صلى الله عليه وسلم: (كل ذلك لم يكن )

قال له ذو اليدين: (بعض ذلك قد كان)

والإيجاب الجزئي نقيضه السلب الكلي .


وبقول أبي النجم ما أشار إليه الشيخ عبد القاهر،

وهو أن الشاعر فصيح والفصيح الشائع في مثل

قوله نصب (كل) وليس فيه ما يكسر له وزنا،


وسياق كلامه أنه لم يأت بشيء مما ادعت

عليه هذه المرأة ، فلو كان النصب مفيدا لذلك

والرفع غير مفيد لم يعدل عن النصب إلى

الرفع من غير ضرورة .



ومما يجب التنبيه له في فصل التقديم أصل ،

وهو أن تقديم الشيء على الشيء ضربان:

1) تقديم على نية التأخير: وذلك في شيء أقر

مع التقديم على حكمه الذي كان عليه،

كتقديم الخبر على المبتدأ والمفعول على الفاعل،

كقولك: (قائم زيد) و(ضرب عمرا زيد)

فإن (قائم) و(عمرا) لم يخرجا بالتقديم

عما كانا عليه ، من كون هذا مسندا

ومرفوعا بذلك ، وكون هذا مفعولا ومنصوبا من أجله.


2) وتقديم لا على نية التأخير: ولكن أن ينقل الشيء

عن حكم إلى حكم ، ويجعل له إعراب غير إعرابه،

كما في اسمين يحتمل كل منهما أن

يجعل مبتدأ والآخر خبرا له ، فيقدم تارة هذا على هذا،

وأخرى ذاك على هذا،

كقولنا: (زيد المنطلق) و(المنطلق زيد)

فإن (المنطلق) لم يقدم على أن يكون متروكا

على حكمه الذي كان عليه مع التأخير،

فيكون خبر مبتدأ كما كان ، بل على أن ينقل

عن كونه خبرا إلى كونه مبتدأ،

وكذا القول في تأخير (زيد).


وأما تأخيره فلاقتضاء المقام تقديم المسند .

هذا كله مقتضى الظاهر.

=======

ونتابع في الدرس القادم بعون الله تعالى.

قديم 07-15-2011, 05:29 PM
المشاركة 4
ماجد جابر
مشرف منابر علوم اللغة العربية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أشكرك أستاذنا القدير حاتم الحمّد على هذا الموضوع البلاغي الرائع ، وهو من بلاغة الحجاج العقلي ، وتركز البلاغة التداولية على مثل هذه الموضوعات .
نتابع ما تكتب أستاذنا وأديبنا ، نحن بحاجة ماسّة إلى يراعك العذب ، لننهل من موارده ، فكن بيننا.
موضوع يستحق التثبيت ، ويرفع.
بوركت ، وبورك اليراع.


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: كتاب ( الإيضاح لتلخيص المفتاح ) للخطيب القزويني
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
أبو يحيى زكريا القزويني أ محمد احمد منبر ذاكرة الأمكنة والحضارات والأساطير 2 09-20-2022 05:50 AM
المفتاح..!!! ق.ق.ج محمد أبو الفضل سحبان منبر القصص والروايات والمسرح . 12 06-27-2021 05:57 PM
كتاب المصاحف لابن أبي داود كتاب الكتروني رائع عادل محمد منبر البوح الهادئ 0 07-01-2011 12:18 PM
كتاب الأموال لابن سلام كتاب الكتروني عادل محمد منبر رواق الكُتب. 0 03-11-2011 02:47 PM

الساعة الآن 12:08 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.