احصائيات

الردود
24

المشاهدات
11794
 
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي


رقية صالح is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
2,577

+التقييم
0.50

تاريخ التسجيل
Mar 2010

الاقامة

رقم العضوية
8808
01-16-2011, 11:10 PM
المشاركة 1
01-16-2011, 11:10 PM
المشاركة 1
افتراضي جيوب مثقلة للحجارة .. فرجينيا وولف
جيوب مثقلة للحجارة
و
"رواية لم تُكتبْ بعدْ"


تأليف: فرجينيا وولف
ترجمة ووتصدير: فاطمـة ناعـوت
مراجعة وتصدير: د. ماهر شفيق فريد


























































































إهداء

يلزمُ أن تحددي خانةً بيضاءْ
على مسافةٍ معقولةٍ
من حصواتِ رابضةٍ في قاعِ النهر
حصواتٍ
ترقبُ الواقفةَ على الشاطئ
مشجوجةَ الرأسْ
تسَّمي الأشياءَ بأسماء جديدة
لأن معجمَها
- الذي جلبتْهُ من التِبِت -
لا يناسبُ سكانَ المدينة

فاطمة ناعوت

من قصيدة "جلبابٌ أزرق"

* * *


تصدير


بقلم : د. ماهر شفيق فريد




يلتقي القارئُ – على الصفحات التالية – بثلاثة نصوص: "رواية لم تُكتب بعد"، وهي رواية قصيرة أو نوفيللا للروائية الإنجليزية فرجينيا وولف (1) ، ومحاورةٌ تخيّلية مع المؤلفة، وتقْدمة بقلم المُترجِمة (2) تحمل عنوان "جيوبٌ مُثْقلةٌ بالحجارة" في إشارةٍ إلى انتحار فرجينيا وولف المأساوي قبل خمسة وستين عامًا.


الرواية مرويّة بضمير المتكلِم، ومسرحُ أحداثِها – إن صحَّ أن فيها أحداثًا – عربةُ قطارٍ يمرُّ بالجزء الجنوبيّ الشرقيّ من الريف الإنجليزي، منطلقاً من لندن. والراوية (الأغلب أنها امرأة) تشترك في العربة مع خمسة مسافرين لا يلبثون أن يهبطوا - واحداً في إثر آخر – في محطاتهم، فلا يتبقى معها سوى امرأة تختارُ الراويةُ أن تدعوها "ميني مارش". وتتخيّل الراوية مواجهةً كبرى بين هذه العانس الفقيرة، ميني مارش، وزوجة أخيها المدعوّة "هيلدا". وثمة لمحاتٌ عن ميني مارش بأعين الآخرين، إلى جانب عينيّ الراوية: فالعاملون في المستشفى يتعجبون من نظافة ثيابها الداخلية مما يدل على أنها (وإن تكن رقيقةَ الحال) سيدةٌ حسنةُ التربية. ولا تلبث تخيّلات الراويةِ الصامتة أن تُقاطع وتنزلُ إلى الأرض من سبحاتها في الفضاء عندما تروح "ميني مارش – إذ تستعدُ لأكل وجبتها الخفيفة: بيضةً مسلوقة – تعلّق بصوتٍ عالٍ: "البيضُ أرخص". وعلى طريقة تداعي الأفكار، التي شُهِر بها جويس وفرجينيا وولف ووردورثي رتشاردسن، يستثير الفتاتُ الأصفر والأبيض المتساقط من البيضة سلسلةً من الصور.


الرواية عميقةُ الجذور في زمانِها ومكانِها. فهناك، مكانيّاً، إشاراتٌ إلى إيستبورن، وهي منتجع على شاطئ البحر، ولويس، وهي بلدة في شرقيّ مقاطعة سُسيكس، وكاتدرائية القديس بولس في لندن (المقابل الإنجليزيّ لكاتدرائية القديس بطرس في روما) وغيرها.


وهناك ذِكْرٌ لجريدة "التايمز"، كبرى الجرائد اليومية البريطانية، ولـ"الحقيقة" وهي مجلة أسبوعية كانت ذات رواجٍ شعبيّ في يومها. وهناك ابتعاثٌ لشخصيات من الماضي القريب والبعيد: مثل بول كروجر (1825 -1904)، وهو سياسيٌّ من الترنسفال، كان معارضًا للنفوذ البريطاني في جنوب إفريقيا، ثم صار رئيساً لجمهورية البوير لمدة عشرين عاماً، وتبيّنه صورُه في مِعطفٍ رسميّ بوجهٍ مُلْتحٍ صارم؛ ومثل الأمير ألبرت(1819-1861) زوج الملكة فكتوريا ملكة بريطانيا؛ ومثل السير فرنسيس وريك (1540 -1596) وكان مستكشفاً إنجليزياً وقبطاناً بحريّاً يأسرُ السفنَ الإسبانية عند عودتها من أمريكا الجنوبية، محملةً بالذهب والفضّة المسروقيْن من الهند (من صور الرواية الشعرية: صورة للهنود على شكل كتلٍ متدحرجة من الرخام على جبال "الأنديز" لسحق الغزاة الأوربيين). ومن الشخصيات التخيّلية في الرواية: مندوب مبيعات مسافر، تختار له الراوية اسم "جيمس مجردج"، وتتخيله يبيع أزراراً، ثم تردف ذلك بوصفٍ وجيز لبضائعه.


هذه - باختصار – قصة إنجليزية مغروسة في تربتها المحليّة، ولا سبيل لتذوّقها تذوّقاً كاملاً – فثمة مستويات عدة للتذوّق – إلا إذا كنت قد ركبت قطاراً إنجليزيّاً يخترق بك الريفَ الإنجليزيّ، وخالطتَ ركّابَه، وعرفت كيف يعيش هؤلاء القوم وكيف يفكرون ويشعرون ويسلكون.


لكن الرواية – وهنا مكمن تشويقها وفرادتها – ثمرةُ حساسيةٍ حداثيةٍ تخترقُ طرائقَ السرد التقليديّ والوصف الخارجي (على طريقة آرنولد بنيت وجولز ورذي و هـ.ج. ولز، ممن اشتدّت المؤلفة في نقدهم)، وتحطّم قواعد المنظور (أستعير العبارة من يوسف الشاروني)، لكي تنفذ من قشرة المظاهر الخارجية إلى اللبِّ الروحيّ العميق، إلى مركز الأرض الباطني الموّار بالحرارة والجيشان والانفعال. هذه بمعنى من المعاني، ميتا رقصة، بمعنى أنها انكفاءٌ على الذات الداخلية، وتأملٌ من جانب الراوية لطريقة كتابة رواية. وأزعم أنها تردّنا إلى مقالةٍ مؤرّخة في عام 1925 لفرجينيا وولف، أُعيد طبعها بعد وفاتها في كتابها المسمى" فراش موت الربان" 1950، وعنوانُها "السيد بنيت والسيدة براون"، وفيها تروي الكاتبةُ لقاءً بينها – في عربة قطار متجه من رتشموند إلى وترلو – وبين سيدة ستطلق عليها اسم السيدة براون، وهي نسخةٌ مبكّرة من ميني مارش. تعاني من الفقر، ويبتزها رجل يدعى السيد سميث لأسباب لا تفصح عنها الكاتبة تماما، ولكنها تظلُّ في قلب تعاستها، محتفظةً بكبريائها الإنساني وروحها النبيل. (3)



والحوار التخيليّ الذي يعقبُ الرواية، نقلته فاطمة ناعوت عن شبكة الإنترنت ثم قامت بترجمته.


يتبع
.
.
.


هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)
قديم 01-16-2011, 11:15 PM
المشاركة 2
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
وهو يلقي أضواءً على جوانب من حياة فرجينيا ولف وفكرها وفنّها: صورة الحياة في بريطانيا أثناء سنوات الحرب العالمية الثانية، نزعة الكاتبة النسوية في كتابيْها :" غرفة خاصة" (4)، و"ثلاثة جنيهات"، طفولتها وخلفيتها العائلية، علاقتها بزوجها ليونارد ولف، مقالاتها وقصصها القصيرة، طريقتها في التأليف الروائي، انتحارها غرقاً في نهر أوز القريب من بيتها، مذكراتها التي دأبت على كتابتها منذ سن الخامسة عشرة. وكلها أمور ضرورية لفهم رواياتها الكبرى التي أحلّتها مكاناً رفيعاً بين روائيي النصف الأول من القرن العشرين.



"رواية لم تُكتبْ بعد" (5) – مثل أغلب أعمال فرجينيا ولف – قصيدةُ نثرٍ متطاولة، وجوهرةٌ محكمة الصنع أحسنَ الصائغُ نحتها، ولكنها – إلى جانب إنجازها التقني، (6)، بل قبل ذلك- رحلة في أعماق النفس، تصطنع منهجَ المونولوج الداخليّ وتتوسل بتدفق تيار الشعور والصورة الشعرية المحلّقة والأسلوب الانطباعي إلى الغوص على أعماق الشخصية، وما تموج به من صفاءٍ وكدَر، وما يعتريها من تقلّبات متصلة.


هذه روائية مرهفةُ الحس، حادّة الذكاء (كان عارفوها يخشون سخريتَها اللاذعة)، مصقولةُ الأسلوب، مدربةُ الحساسية، تستحق أن يُذكر اسمها – في نَفَسٍ واحدٍ – مع عمالقة الرواية السيكولوجية من أمثال هنري جميز، وكونراد، وجويس، ولورنس، وبروست.


هذا – في تصوّري – كتابٌ يقدّم للقارئ متعةً ثلاثيّة:


فهناك أولا فنُّ فرجينيا ولف القصصي الذي يمتاز بتقمصّه دخائلَ النفسِ وقصدِه في التعبير وخلوّه من الزوائد والحواشي.



وهناك ثانيًّا تقدمة فاطمة ناعوت الجامعةُ بين سعةِ المعرفةِ بموضوعِها والقدرةِ على تقمّص خبرةِ الكاتبة على نحوٍ يجعلُ من التقدمة أثراً فنيّاً، بحقِّه الخاص، ليس فيه دوجماطيّة النقاد الأكاديميين، ولا سطحيّة النقاد الانطباعيين.



وهناك ثالثاً قصة فرجينيا ولف في ثوبها العربيّ الراهن، حيث جاورت المترجمة فيه بين أمانة النقل مع طلاقة الأداء.



في مؤتمر "الترجمة وتفاعل الثقافات"، الذي أقامه المجلس الأعلى للثقافة على امتداد أربعة أيام من 29 مايو -1 يونيو 2004، ألقتْ فاطمة ناعوت بحثاً بعنوان " ترجمة الشعر: فعلُ إبداع". وأحسبُ أن دعواها في هذا البحث يمكن أن تنسحبَ على كافة ألوان الترجمة الأدبية سواءٌ كان النصُّ المترجَم قصيدةً أو روايةً أو قصةً قصيرة أو مسرحيةً أو مقالةً. ولأن قصة فرجينيا ولف – كما أسلفتُ – تدخل، بمعنىً من المعاني، في باب الشعر المنثور، فقد حرصتْ المترجمة على أن تمتصَّ جزءاً من الطاقةِ الشعريّةِ للنصّ، وسعتْ إلى أن تَخرجَ بإبداعٍ موازٍ، لا مجردَ تابعٍ ذي درجة أدنى. وسيجد القارئُ – الذي يتجشّم جَهدَ معارضةِ ترجمتِها على الأصل – أنها قد وُفقَّتْ في مسعاها وأضافتْ إلى اللغةِ العربية – شأن الصانعِ البارع – جوهرةً صغيرةً محكمةَ الصُنْع.



هوامش:



1. فرجينيا ولف (1882-1941)، أديبة إنجليزية، ابنة السير لزلي ستيفن محرر "معجم السير القومية"، في 1912 اقترنت بليونارد ولف، وهو صحافي وكاتب. كانا يديران مطبعة هوجارث التي نشرت أغلب كتبها. أدرك الناس أن روايتها الأولى "الرحلة البحرية إلى الخارج" 1915 عملٌ مرموق، وسرعان ما أردفت النجاح الذي لاقته برواية "الليل والنهار" 1919، ثم رواية" غرفة يعقوب" 1922. في هذه الأثناء كانت قد نشرت تجارب أخرى عديدة مكتوبة على نحو جيد، جمعتها في كتابها المسمى "الاثنين أو الثلاثاء" 1921. وبهذا الأسلوب الجديد كتبت رواياتها التالية: مسز دالواي 1925، "نحو المنارة" 1927، و– إلى حدٍّ ما – "أورلاندو" التي تعد "سيرة" 1928. من بين رواياتها الأخيرة نالت رواية" السنون" 1937 استحسان النقاد(وكانت دائمة الجدل معهم). بدلاً من أن تكتب روايات تستخلص أفكار شخوصها مما يقولونه أو يفعلونه، أو تقدم تسجيلا لأفكار أفرادها نستشف منه طرازهم، اختارت أن تكتب روايات يتكشف الفكر فيها على نحو دقيق إلى الحد الذي تفقد معه الكلمات والأفعال كثيراً من أهميتها. تكمن قيمة كتبها – جزئياً – في فهمها لهذه الشخصيات التي تكتب عنها، وجزئياً في التوفيق الذي كان يصاحبها في استخدام الكلمات. جعلتها هذه المزايا من أحسن نقاد الأدب في زمانها، وقد نشرت مقالات نقدية هي: القارئ العادي 1925، القارئ العادي(الجزء الثاني) 1932. غرقت قرب لويس بمقاطعة سسكس في الثامن والعشرين من مارس عام 1941، وأثبت قاضي التحقيق في الوفيّات أنها انتحرت. (انظر دائرة المعارف البريطانية – مجلد 23 –ص 733، جامعة شيكاغو، طبعة 1945).



2. فاطمة ناعوت، شاعرة ومترجمة مصرية من جيل التسعينيات. حاصلة على بكالوريوس الهندسة المعمارية جامعة عين شمس. لها أربعة دواوين شعرية من قصائد النثر: "نقرة إصبع" –الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة كتابات جديدة 2002، "على بُعْد سنتيمتر واحد من الأرض" – في طبعتين عن دار ميريت ودار كاف نون 2002، "قطاعٌ طوليّ في الذاكرة" – الهيئة المصرية العامة للكتاب 2003، "فوق كفِّ امرأة" عن وزارة الثقافة اليمينة، ولها تحت الطبع ديوان " نصف نوتة"، و. وفي مجال الترجمة لها أنطولوجي "مشجوجٌ بفأس" – سلسلة آفاق عالمية، الهيئة العامة لقصور الثقافة 2004، مجموعة قصصية بعنوان "المشي بالمقلوب" عن منشورات وزارة الثقافة اليمينة بصنعاء. ولها قيد الطبع ديوان شعر بالإنجليزية بعنوان "Before the School Shoe Got Tight".



3. انظر ترجمة مقالة "السيد بنيت والسيدة براون" في كتاب "نظرية الرواية في الأدب الإنجليزي الحديث"، بأقلام هنري جيمز وجوزيف كونراد وفرجينيا ولف و د.هـ. لورنس و برسي لبوك، ترجمة وتقديم د. إنجيل بطرس سمعان، مراجعة د. رشاد رشدي، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1994،( يضم الكتاب مقالة أخرى مهمة لفرجينيا ولف هي "الرواية الحديثة" 1919).
وجدير بالذكر أن ثلاثاً من روايات وولف الكبرى قد تُرجمت إلى العربية:" مسز دالواي" و" إلى المنارة" و "الأمواج"، وبعض مقالات و أقاصيص لها، مثل أقصوصة "بيت مسكون". وهناك: القارئ العادي: مقالات في النقد الأدبي، وترجمة د.عقيلة رمضان، مراجعة د.سهير القلماوي، الهيئة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر 1971. و: غرفة تخص المرء وحده، ترجمة د.سميّة رمضان، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة 1999. وللدكتورة عقيلة رمضان دراسة باللغة الإنجليزية عن "روايات فرجينيا ولف الرئيسية" (مكتبة الأنجلو المصرية). وحديثا أصدرت سلسلة روايات الهلال ترجمة لرواية مايكل كاننجام "الساعات" وهي عن حياة فرجينيا ولف.



4. لا أوافق – لأسباب لغويّة – الدكتورة سميّة رمضان على ترجمة عنوان كتاب فرجينيا ولف "A Room of One's Own " إلى "غرفة تخص المرء وحده". فالمرء لا تطلق إلا على المذكر (مؤنثها: امرأة). ومدار الكتاب كله حاجة المرأة الموهوبة إلى غرفة خاصة بها ودخل سنوي يكفل لها التفرغ للكتابة.




5. نشرت الرواية لأول مرة في 1921 بين دفتي مجموعة من القصص القصيرة "الاثنين أو الثلاثاء".



6. يقول أحد نقاد فرجينيا ولف (ضاع مني اسمه –أو اسمها– منذ ترجمت كلماته هذه منذ سنوات، واحتفظت بها بين أوراقي) في تقدمة لطبعة حديثة لإحدى رواياتها: "لعل أبرز ما يميز إنتاج فرجينيا ولف هو تكنيكها الباهر، ذلك التكنيك الذي يشبه تكنيك هنري جيمز وبروست من حيث الحذق الانفعاليّ والتفسير المركب للحالات النفسية. إن روايتها المسماة "العلامة على الحائط" بمثابة عرض تطبيقي لمنهجها هذا: فهي تدع الشيء ثابتاً، وتجعل العقل يدور حوله وحول كل التداعيات التي يستثيرها، محققة ذلك بمرونة اللاعب الرياض وانطلاقه. ومنهجها هو المنهج الذي سبق لبروست أن طوره قبلها بسنوات، والذي يتضمن توازنا بالغ الدقة من حيث الانتباه: فهناك، من ناحية، رهافة الحس باللاشعور، وحركة الفكر أو الانفعال من ثمة. وهناك السيطرة الذهنية على ذلك الحس من ناحية أخرى. إنه منهج قريب من التحليل النفسي، مع اختلاف واحد هو أن الموضوع والمراقِب المتحكم يغدوان عندها شخصا واحدا. إن بروست في روايته " في ظل الفتيات الشابات بين السطور"، يصف فن ألبستر، مشيراً إلى علّة وجود" هذا المنهج : ألا وهي تحرير الحواس من الكبح الذي تفرضه المواصفات أو العادة على الانطباع، وتمكين الفنان من أن يقدم الشيء تقديما يتسم بالوضوح وجمال الجدة في عين الوقت، كأنما نراه لأول مرة.





ولعل خير ما يمثل تكنيك فرجينيا ولف هو الصفحات الأولى من روايتها "غرفة يعقوب"، خصوصاً حين تصور انطباعات الطفل عن الرمال والبركة بين الصخور، والصانعين المستغرقين في النوم، والسفينة: وهي الانطباعات التي تقدمها الكاتبة بتضارب ظاهري، محدثة فينا تلك الهزة التي يستثيرها التقاء المرء بشيء ما لأول مرة. وتركز الكاتبة الأحداث في بؤرة واحدة بنفس القدر من الذكاء والمفاجأة اللذين لا يفتآن ينتقلان من شيء إلى شيء إلى شيء، كأنما تنظر في منظار سحري. تقول الفنانة: انظر أولاً، ثم اربط بين المرئيات ثانياً. وهكذا ففي وصفها دمعة مسز أمبروز في "الرحلة البحرية إلى الخارج"، نرى أولاً – كأنما من خلال غمامة – الدمعة المستديرة المرتعشة.




* * *


تقدمة المُترجِمة

هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)
قديم 01-16-2011, 11:20 PM
المشاركة 3
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
جيوبٌ مُثْقَلةٌ بالحجارة





فرجينيا وولف، "الثورة الهادئة"، بتعبير مايكل بننجام وكما وصفها بعض أصدقائها المقربين. وهي أحد أهم القامات في الأدب الإنجليزيّ وروّاده في حركة التحديث الروائيّ. صنعتْ إسهاماً مهمّاً في تغيير شكل الرواية الإنجليزية إذ نجحَ حسُّها التجريبيّ في تطويرِ الأسلوبِ الشعريّ خلال السرد القصصيّ والروائيّ عبر اعتمادها التقنيات التجريبية مثل: المونولوج الداخلي، الانطباعية الشعرية، السرد غير المباشر، المنظور التعدديّ، إضافةً إلى ما يُعرف نقديًا بـ "تيار الوعي".


يعتمدُ منهجُها الكتابيّ على استشفاف حيوات شخوصِها من خلال الغَور داخل أفكارِهم واستدعاءِ خواطرِهم وهو ما يسمى "استثارة حالات الذهن الإدراكية"، حسيّاً ونفسيّاً، والذي يُشكّل نموذجاً لطرائق تداعيات الوعي البشريّ. تُفعّل وولف ذلك من خلال رصد وتسجيلِ لحظات الوعي المتناثرة داخل الذات وداخل المخ البشري لتعيدَ ترتيبها وفق صورة تشكيلية ترسمُها وولف بحنكتها الروائية.



تلتقي تقنياتها تلك مع تقنيات كلٍّ من "بروست" و"جويس"، متجاوزةً بذلك التقنية التقليدية في القصّ والرواية، التي انتهجت الوصفَ الخطّيّ المتنامي زمنيّاً والرصدَ الموضوعيّ للحدث، والتي ميّزت رواية القرن التاسع عشر.



عمدَ أسلوبها إلى تصاعد الوعي الذهنيّ لشخوص روايتها في تزامنٍ مع التصاعد السرديّ للحدث. الكتل الزمنية تتراص متوازيةً في الذاكرة وبالتالي في الرؤية الدرامية. المشاهِدُ غيرُ المكتملة تتقاطع وتشتبكُ لتخلقَ لوحةً أرحبَ وأشدَّ تعقيدًا. التنوّع الأسلوبيّ للقصِّ داخل الرواية الواحدة يذكِّر القارئَ دائماً أن ثمةَ خطّاً شعريّاً أو خيالياً متورطٌ في العمل.



إن تبنّي تيار الوعي في السرد القصصيّ والذي يتراوح بين التفاصيل الدنيوية اليومية العادية وبين الإسهاب الغنائي، إضافةً إلى الخبرة العالية بطرائق تشكّل المشهد، هما من أهم أدوات وولف الكتابيّة، التي أظهرتْ لقارئها مدى أهمية استغلال وتنمية قدرات المخيال التشكيلي في حياتنا اليومية، كما هو لدى المبدع، في بناء النص.



اشتهرت وولف باستدعاءاتها الشِّعرية التي تستخلصها من ميكانيزم التفكير والشعور البشري. كانت، مثل بروست وجويس، قادرةً بامتياز على استحضار كافة التفاصيل الواقعية والحسيّة من الحياة اليومية، غير إنها دأبتْ على انتقاد أسلوب مجايليْها "آرنولد بينيت"و"جون جولز وورثي" بشأن اهتمامهما البالغ برسم واقعية ميكروسكوبية وثائقية مفرّغةٍ من الفن، وهو ما انسحب عليهما من روائيي القرن ال 19. كانت ترى أن الواقعيين المعاصرين الذين يزعمون الموضوعيةَ العلمية الحيادية هم زائفون بالضرورة، طالما لا يعترفون بحقيقة أنه لا حيادَ تاماً في الرؤية، لأن "الواقعية "يتمُّ رصدها على نحوٍ مختلفٍ باختلاف راصديها. الأسوأ من ذلك، من وجهة نظرها، أن محاولتهم الوصول للموضوعية العلميّة الدقيقة تلك غالباً ما ينتجُ عنها محضُ تراكمٍ زمنيٍّ للتفاصيل.



كانت وولف تطمح إلى الوصول إلى طريقة أكثر شخصانيّة وأكثرَ دقّة كذلك في التعامل مع الواقع روائيّاً. لم تكن بؤرةُ اهتمامها "الشيء" موضوع الرصد، ولكن " الطريقة التي يُرصد بها الشيء" من قِبَل "الراصد". وقالت في هذا الأمر:" دعونا نرصدُ الذرّاتِ أثناء سقوطها فوق العقل بنفس ترتيب سقوطها، دعونا نتتبعُ التشكيلَ مهما كان مفككاً وغيرَ مترابطِ التكوين، سنجد أن كلَّ مشهدٍ وكلَّ حدثٍ سوف يصيبُ رميةً في منطقة الوعي".



قارنَ النقادُ بين كتابات وولف وبين ما أنتجه فنانو المدرسة ما بعد الانطباعية post-impressionism في الفنِّ التشكيليّ من حيث التأكيد على التنظيم التجريديّ لمنظور الرؤية من أجل اقتراح شبكة أوسع للدلالات والرؤى.


تُعتبر وولف، إلى مدى أبعد من أي روائيٍّ آخر باستثناء جويس، أول من أنتج الرواية الإنجليزية الحديثة، التي نأت بشدة عن الشكل التقليديّ المطمئن آنذاك منذ القرن التاسع عشر، بكل ما تحمله تلك الرواية من ملحميّة البطولة، وفرط العاطفة، والإعلاء الأخلاقي المتزمّت، وكذا رؤاها الجامدة المتجمدة الدوجمائية، ثم الهيكل الكلاسيكيّ الثابت: استهلال مباشر واضح، متن وذروة، ثم نهاية ختامية تبشيرية أو إصلاحية.


أضحتِ الروايةُ في يد وولف أكثر بريقاً والتباساً وتوترّاً، موشاةً بخيطٍ رهيفٍ من الفوضوية والتحرّر والشعرية أيضاً، كما أنها اهتمت بالأساس بالبشر المهمشين أو الذين يعانون من مشاكل نفسية ما. لم تهتم كثيراً بكتابة رواية تبشيرية أو إصلاحية، لكنها عمدت إلى إظهار كيف تنصهر الحياةُ في ألوانها الخاصة بكل ما فيها من تقاطعات اليوميّ البسيط والعميق الفلسفيّ. وبطبيعة الحال استمرت الرواية التقليدية تُكتب منذ وبعد عصر فرجينيا وولف، لكنها بعد وولف لم تعد مطلقًا كما كانت.


آمنت وولف بأن الرواية التي كُتبت في عصرها وما قبله: ببنائها المحكم وزخم العاطفة والحماس بها، كانت تتصل بالعالم وبالبشر على نحو عبثيّ. وشبهّت ذلك بقاربٍ مليء بالمستعمرين والمبشرّين الذين يغامرون باقتحام دغلٍ متشابكٍ وكثيف بقصد غزوه وإخضاعه. وتقول وولف عبر رواياتها إن العالمَ أشدُّ ضخامةً وتعقيداً وغيرُ قابل للاختراق والإخضاع على أي نحو، وإن القيمة الجماليّة الفنيّة هي الهدف الأوحد للقصّ، ولذا فإن أي كاتب يحاول أن يطهّر الدغلَ من أشجارِ كرمْه أو من نباتاته الشيطانيّة المتسلّقة سوف يثيرُ ذعرَ الضواري والوحوش ولن يسلمَ من غضبتِها. كأنما يحاول أن يفردَ طاولةً للشاي أمام تلك الكواسرِ ثم يذهب في شرح البروتوكولات والتقاليد حول ما يجب وما لا يجب فعله من تقاليد المائدة. هذا ما يفعله الكاتبُ حين يكتبُ تلك النهايات السليمة والنافعة الطوباويةَ ذات الطابع الإصلاحيّ.


قدمتْ وولف شهادةً للعالم، عبر كتاباتها، رصدتْ وسجلتْ فيها طُرُزَه ونماذجَه، لكنها لم تسعَ مطلقا إلى تقويمه أو إخضاعه ضمن أي منظومةٍ خاصة، لأنها آمنت أن الكونَ يُنتجُ نظامَه الخاصَ بنفسِه. من أجل هذه الرؤية الحداثية، اِتُهمت وولف دائماً، من قِبَل الإصلاحيين، بأنها تكتبُ من أجل لا شيء.


الملمحُ الأساسيّ لعبقريةِ وولف، الظاهرة منذ بداية مشروعِها الأدبي،ّ هو إصرارُها على تأكيدِ مراوغة العالَم بوصفِه أوسعَ وأكثرَ تعقيداً من أن نضعَ اشتباكاتِه تحت بؤرةِ النقدِ من خلال أيّة حياة فردية. "جرِّب أن تدخل "وعي" إنسان، أي إنسان، وسوف تجد نفسَك فوراً منقاداً إلى حيوات العشراتِ من البشر الآخرين الذين يكملون، ويتقاطعون مع، حياة هذا الإنسان، كلّ على نحوٍ مختلف."


فهمت وولف أن أيّة (شخصية) كتبتْ عنها، حتى الشخصيات الهامشية، كانت (تزور) روايتها من خلال (رواية) ذاتية تخصُّ تلك الشخصية، وأن تلك الرواية غير المكتوبة تضمُّ، إلى جانب مشروعها الرئيس، آلامَ وأقدارَ تلك الشخصية: هذه الأرملة، أو ذاك الطفل، أو تلك العجوز المسنّة، أو حتى المرأة الشابة التي لم تظهر في رواية " الخروج في رحلة بحرية" إلا في مشهد عبورها الحديقة العامة فقط.


* * *


يتبع
.
.
.

هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)
قديم 01-16-2011, 11:24 PM
المشاركة 4
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


بعد روايتين تقليديتيْن نسبيّاً، بدأت وولف في تطويع مداخلِها التي مهّدت لها اللعِبَ على بنيةٍ مخياليّةٍ أكثر رحابةً حيث:

- التطوّر المشهديّ المتصاعِد حلَّ محلَّه التشكيلُ عن طريق التراصِّ الرؤيويّ.

- الاشتباكُ المباشر مع الواقع والتراكمُ الزمنيّ اِستُبِدلَ بهما التراوحُ الملتَبس للعقل بين الذاكرة وبين الوعي.


ومن ناحية أخرى يربط المشهدُ المركّب للتيمة الرمزية بين شخوصٍ ليس من علاقة واضحةٍ بينهم في القصة ذاتها.

كل تلك التقنيات ألقت على عاتق القارئ متطلباتٍ جديدةً في فنِّ التلقي من مقدرةٍ على تخليقِ وإعادةِ بناءِ الصورةِ الكليّةِ من جزئياتٍ متناثرةِ ليست بادية الصلة. من هنا كانت صعوبة قراءة فرجينيا وولف.


في رواية "غرفة يعقوب" 1922 نجد أن صورة البطل الكليّة تتركّب من سلسلةٍ من وجهاتِ النظر الجزئيّة المختبئة داخل النص والتي ترسم بورتريها إنسانيّاً وسيكولوجيّاً له من خلال شخوص العمل. وفي رواية "الأمواج" 1931، ثمة منظورٌ - متعدد الرؤى لشخوص الرواية في حواراتهم الذاتية مع أنفسهم خلال علاقة كلٍّ منهم بالشخص الميّت - في الرواية - "بيرسيفال" - يتم تكسيره على عشرة فصول، تلك الفصول بدورها تُكوّن منظوراً إضافيّاً يصف رحلةَ يومٍ واحد من الفجر إلى وقت الغسق.


الرواية الأخرى التي تلعب فيها وولف لعبةَ الزمن أيضّاًً، أي رواية اليوم الواحد، هي "مسز دالواي"، عملها الأشهر، حيث ترتّب البطلةُ، السيدة دالواي، لحفل المساء وفي أثناء ذلك تستدعي - ذهنيًّا - كاملَ حياتها مثل شريط سينمائيّ منذ الطفولة حتى عمرها الراهن في الخمسين.


مشكلات الهُوية ومدى التحقّق والإخفاق لدى شخوص سردها هي الهمُّ الثابت لدى وولف والمحرّك الأول وراء تلك الإزاحات المنظورية في أعمالها. ولذا غالباً ما تلجأُ وولف إلى تجسيد الشخصيات غير المتحقّقة وغير المكتملة ومن ثَّم إلى البحث عن الشيء الذي سوف يحقّق اكتمالها.

ترتكز كتابة وولف على لحظات الوعي العليا، وبالمقارنة ببعض أعمال جويس التي تتناول البصيرةَ كنوعٍ من القوى الأسطورية، نجد أن وولف تعالج الأمرَ كملَكةٍ ذهنيّة حين يُفعِّل العقلُ أقصى طاقاته ليعتمد الخيال.

لا أحد يقرأ وولف بغير أن يُؤخذَ بالاهتمامِ الفائقِ الذي تعطيه للمخيّلة الإبداعيّة. فشخوصها الرئيسيون يفعلّون حواسَهم فيما وراء المنطق العقليّ، كما أن أسلوبَها السرديّ يحتفي بالدوافع الجماليّة التي تنظّم الأبعادَ المتنافرة في كلٍّ متناغمٍ متسّق. ترى وولف أن الكائنَ البشريّ لا يكونُ مكتملاً إذا لم يشحذْ طاقاتِه الحَدْسيّة والتخيليّة في أقصى درجاتها. ومثل كل كُتّاب الحداثة، نجد وولف مفتونةً بالعمليةِ الإبداعية ولحظات الكتابة، وغالبا ما تضع إشارةً لها في أعمالها، فنجدها حيناً تصف كفاحَ الرسامِ من أجل بناء لوحته في "صوبَ المنارة"، وفي حين آخر تجسّد حالَ الكاتب وانهمامه من أجل بناء روايته، كما في "رواية لم تُكتَب بعد" التي تناولناها بالترجمة. إذ تحاول وولف في هذين العمليْن استكشاف طرائقَ تَخلّق العمل الإبداعيّ في مخيّلة العقل البشريّ. فقد لاحظت وولف أنه لا يمكن لقارئ الرواية (المكتملة) أو لمُشاهد اللوحة التشكيلية (المكتملة) أن يستقرئَ خطوات ميكانيزم هذا التخلّق الإبداعيّ المعقد: الملاحظة، الغربلة، التنظيم الإحداثيّ والحدثيّ (من إحداثيات وحدث)، رسم خريطة العلاقات والتأويلات.. إلخ، ثم الصياغة وإعادة الصياغة حتى يكتمل العمل فنّاً سويّاً. فالعقل البشريّ يقوم بأشد العمليات تعقيداً لتنظيم الوعي والإدراك مع الملموسات، الأمر الذي لا يمكن رصده أو نقله بشكل كليّ وتام داخل إطارٍ وصفيٍّ محدد مهما بلغت دقته. ومن هنا جاءت فكرة هذه الرواية التي لم تُكتَب بعد.


في " رواية لم تُكتب بعد" ترصدُ وولف حالاتِ التخلّق الذهني لجنين روايةٍ في طريقها للتخلّق عن طريق أخذ القارئ عبر بداياتِ روايةٍ لم تكتمل بعد، راصدةً كيف يمكن أن تكتملَ على أنحاء متباينة. تتحرك القصة أماماً وخلفاً بين حائطين من الخيال والواقع، كلٌّ يسهم في احتماليات الرواية ليحفرَ نهراً من الاقتراحات والاقتراحات البديلة، كلُّ ذلك يتمُّ داخل ذهن الراوية التي تختبر وتعالجُ كلَّ الرؤى الممكنة اتكاءً على مراقبتها شخصية امرأةٍ معيّنة تجلسُ أمامها في إحدى كبائن القطار عبر رحلةٍ إلى جنوب لندن. على الجانب الآخر، ترصد الراوية كلَّ الكلمات الفعليّة والإيماءات التي يأتي بها راكبو نفس الكابينة، ومن ثم ترسم – ذهنيًا – اقتراحاتٍ مُتخيلَةً لكلٍّ منهم عبر خلقٍ روائيٍ تمَّ من خلال الملاحظة، التقمّص العاطفيّ، وتجسيد ما تشاهده خلال الرحلة ليتفق وتصورها المبدئيّ. يظهر هذا في آلية استدعاء التداعيات الذهنية للمحيطين من خلال قراءةِ أفكارِهم وسلوكِهم ثم التعامل ذهنيّاً ونفسيّاً مع تلك التداعيات.


ترسم وولف عمليةَ الخلقِ الإبداعيّ كتجربةٍ كاملة، بداياتٌ خاطئةٌ يتم استبدالُها، ثم تصحيح النغمة ودرجة التماسك الدراميّ، فمثلاً، لابد أن يجد الراوية جريمةً مُتخيّلَة ارتكبتها البطلة "ميني مارش" لتتفق الحالُ مع ملامح الأسى المرسومة على وجهها، كذلك استبدال نبات السرخس بنبات الخلنج ليكون أكثر مناسبةً مع المشهد المرسوم (بمعرفة الراوية) فيكتمل على نحوٍ أفضل، إضافةُ أو طرحُ شخوصٍ للرواية. ولا تغفل وولف حساب "الراوية" ذاتها كقوة دافعة في العمل، بالرغم من سعيه عادةً في معظم الروايات، أعني الراوية، إلى التعالي فوق الحدث والشخوص، حيث يبدأ من أرض الرصد الصلبة، بعين العليم غير المتورط، لكن روح الفنان داخل وولف أجبرتها على الضلوع في الدراما طوال الوقت كراوٍ غير عليم ومشارك ومتورطٍ في الحدث.


ومثلما فعل بودلير في قصيدة "النوافذ" حين اعتمدَ الخيالَ كحيلةٍ ذهنية لانتزاع الأمن من الحياة وخلق شيء من الثقة بالنفس، أكدّت وولف في تلك الرواية على حتمية انتصار روح الخلق الإبداعيّ داخل الفنان على روح العدميّةِ والقنوط التي تصيب المبدعَ أحياناً. فكلما أثبتت حكايتُها الأولى فشلَها و تراءى لها كم أن حبكتَها تبدو مضحكةً سرعان ما تستجيب لروح المبدع داخلها وتشرعُ في نسجِ حبكةٍ جديدة.


في هذه النوفيللا الثريّة غزيرة التفاصيل، التي هي مشروعُ روايةٍ لم تكتملْ وفي ذات الوقت عملٌ مكتمل البنية على نقصانه المتعمد، نلمس اشتجار الأبعاد الكثيفة للواقع الموضوعيّ، مع الراوية والناقد في آن، مع المحلل الذاتي داخل الراصد، بما لا يعطي مجالا للنهاية أن تكتمل. يتنامى الهاجس الإلهاميّ داخل المبدعة التي تنشد "عالماً رائعاً، مشاهدَ ملوّنةً، وشخصياتٍ أسطوريةً تنتظر أن تُخلق"، لتقف الرواية على الحافّة الحرجة بين النقصِّ والاكتمال.

* * *


يتبع
.
.
.

هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)
قديم 01-16-2011, 11:31 PM
المشاركة 5
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
فرجينيا وولف: النشأةُ والمأساة





ولدَتْ فرجينيا ستيفن في 25 يناير 1882، لأسرة شديدة المحافظة أو ما كان يُطلق عليها أسرة فيكتورية (نسبة إلى العصر الفيكتوريّ ).



الأب هو" ليزلي ستيفن"، وكان مؤرّخاً بارزاً، وناقداً أدبيّاً ويعدّ أحدَ أفرادِ الطبقة "الأرستقراطية الفكرية" في بريطانيا آنذاك. عُرف كأحد رواد المدرسة الفلسفية الأجنوستيكية أو ما تعرف بـ "اللاأدري". وله إصدارات في مجالات الفلسفة والشِّعر والأدب والنقد الاجتماعيّ. كما أصدر "المعجم القوميّ للسيَر الذاتية". كان له أثر هائل على تكوّن ذهنية فرجينيا ومنظومتها العقائدية.



الأم هي "جوليا جاكسون داكوورث" من نسل عائلة "داكوررث" التي اشتُهرت بريادتها عالم الطباعة والنشر. كان لأسرة فرجينيا اهتمامٌ بالتيارات الفكرية والفنيّة السائدة آنذاك حتى أن بعض أشهر الفنانين – ما قبل الرافائليين - وقتها أعجبوا بجوليا (الأم) ورسموا بورتريهاتٍ عديدة لها.



كان أبوها صديقاً لكلٍّ من "هنري جيمس، تينيسون، ماثيو آرنولد، وجورج إليوت". على أنه، برغم ثقافته الواسعة، وفق عادة تلك الأيام، قد دفع فقط بشقيقيها، "أدريان وثوبي"، إلى التعليم النظاميّ في المدارس والجامعات، في حين تلقَّت "فرجينيا " وشقيقتها "فينيسا" (التي ستغدو الرسامة فينيسيا بيل فيما بعد) تعليمهما في المنزل بحيّ هايد بارك جيت، واعتمدتا على مكتبة أبيهما الضخمة لتحصيل الثقافة والعلوم.




علِقتِ المرارةُ بروح فرجينيا، على نحو ذاتي، استياءً من عدم ذهابها إلى المدرسة، وعلى نحوٍ موضوعيّ، استياءً من عدم المساواة في معاملة الولد والبنت، احتجاجاً على ما تنطوي عليه تلك التفرقة من دلالة تشي بصغر قيمة المرأة في نظر المجتمع ومن ثم انحطاط نظرته إلى فكرها وشكه في جدارتها الذهنيّة للتعلّم. وكذلك ساءها استكانةُ المرأة ذاتها وقبولها الأمر على ذلك النحو السلبيّ غير المقاوم وانصياعها لذلك التمايز وكأنه مسلّمةٌ لا جدال فيها. وقد عبرّت عن تلك الفكرة في كثير من مقالاتها المؤيدة للحركات النسوية التحررية.




ثمة صدمات في طفولة وولف وشبابها ظللّت حياتها بمِسحة حزنٍ لازمتها حتى لحظة انتحارها في النهر عام 1941:


أولا التحرّش الجسديّ من قِبل أخيها غير الشقيق "جيرالد داكوورث"، ثم موت أمِّها في فجر مراهقتها. (تلك الحادثة كانت الإرهاصة المباشرة التي سببت انهيارها العقلي الأول). أخذت أختها غير الشقيقة "ستيللا داكوورث" مكانَ الأم لها لكنها لم تلبث أن ماتت أيضاً بعد أقلِّ من عامين، كما عايش "ليزلي ستيفن"، الأب، موتاً بطيئاً مؤجلاً منذ داهمه السرطان، وفي الأخير تزامن موت شقيقها "ثوبي" عام 1906 مع توغّل الانهيارِ النفسيّ والعقليّ المزمن بها، فرافق حياتها ولم يفرقهما غير الموت.



إثر موت أبيها عام 1904، ضربَ المرضُ العقليّ فرجينيا للمرة الثانية وحاولت الانتحار. ثم انتقلتْ مع شقيقتها "فينيسا" وشقيقها "آدريان" إلى منزلٍ في مجاورة "بلوومز بيري" جوار المتحف البريطانيّ وسط لندن. البيت الذي سيصبح فيما بعد مركزاً لنشاط "جماعة بلوومز بيري" الأدبية "Bloomsbury group ".




في 10 أغسطس عام 1912 تزوجت فرجينيا من المنظِّر السياسيّ والناقد "ليونارد وولف" الذي كان عائداً من الخدمة كمدير إدارة في "سيلان "(سريلانكا الآن). وكان لزوجها دورٌ إيجابيّ مهم في تشجيع فرجينيا على الكتابة والنشر. وكانا قررا أن يتعيّشا من الكتابة والصحافة. وفي عام 1917 اشتريا آلةَ طباعةٍ صغيرة جدًّاً (قالت أن بوسعها وضعها على طاولة مطبخ) على سبيل الهواية، غير إن تلك المطبعة كانت نواةً لدار نشر "هوجارث" التي تحوّلت إلى مشروعٍ مهمٍّ عام 1922. قد نشرت فرجينيا كلَّ أعمالها تقريباً عن تلك الدار. كما نشرت تلك الدار أعمالاً مهمّة لأدباءَ آخرين مثل (ت إس إليوت في قصيدة "الأرض الخراب"، وأيضاً بعض أعمال كلٍّ من: ماكسيم جوركي، إي إم فورستر، كاترين مانسفيلد وغيرهم) . كما أصدرت ترجمةً للأعمال الكاملة لسيجموند فرويد في 24 مجلداً. وبالرغم من أن وولف لم تتوقف عن الكتابة والنشر خلال الثلاثينيات من القرن الماضي، إلا أن الحزنَ بسبب موت الكثير من أصدقائها في الحرب، وأيضا التوتّر من حال الحرب ذاتها والترويع الدائم الذي عايشوه بسبب التهديد النازيّ، كلُّ تلك الأمور قد أثرَّت بالسلب عليها وعلى كتابتها كما يقول الخبراء.




بعد الحرب العالمية الأولى(1914-1919) ظنَّ الناس استحالةَ نشوبِ حربٍ بهذا الحجم مجدداً بعد كل الهول الذي رأوه وعِظم حجم الخسائر التي تكبدّها العالم بأسره من جرّاء الحرب الأولى؛ لهذا سببت الحربُ العالمية الثانية (1939-1945) صدمةً مروِّعةً وانهياراً للكثيرين. شهدت وولف انفجارَ بيتها بقنبلة عام 1940. وكانت مرتعبةً من فكرة فقد أصدقاء جدد في الحرب بعدما فقدت الكثير منهم في الحرب الأولى، هذا إضافةً إلى خوفها من غزو النازيين لانجلترا، فعقدت العزم وزوجُها على الانتحار سويًّا بالغاز حال حدوث ذلك.



واستكمالاً للتأثير السلبيّ للحروب على نفسية فرجينيا وولف وجهازها العصبيّ، لنا أن نشيرَ أيضاً إلى الحرب الأهلية الإسبانية التي وقعت بين عاميْ 1936 و1939. تلك الحرب التي اشتعلت إثر صراعٍ نشبَ بين حزب المحافظين الفاشستي وبين الحكومة الديمقراطية الإسبانية. كانت إيطاليا وألمانيا تنظران إلى إسبانيا باعتبارها أرضَ اختبارٍ خصبةً للأسلحة والتكتيكات القتالية ولذا تحالفتا مع حزب المحافظين الإسباني ضد الحكومة. وعبثاً حاولت عُصبة الأمم تفعيل سياسة عدم الإنحياز. أقامت حاجزاً بشريّاً من خفر الحدود في محاولةٍ منها لمنع وصول المؤن إلى كلا الجانبيْن المتصارعيْن؛ لكن في الأخير هَزمَ المحافظون الحكومةَ الشرعية للبلاد وفرضوا على إسبانيا النظامَ الفاشستي الديكتاتوري.



في تلك الحرب قُتل جوليان بيل، ابن شقيق فرجينيا، أثناء مشاركته كأحد أفراد الحائط البشريّ. ربما نفهم من تلك الأحداث لماذا كرهت وولف الحرب دائماً، ولمَ كانت في كثيرٍ من مقالاتها داعيةً للسلام.




* * *


يتبع

.
.
.

هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)
قديم 01-16-2011, 11:36 PM
المشاركة 6
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
جماعة "بلوومز بيري" الأدبية





بدأت فكرة جماعة "بلوومز بيري" في التكوّن عام 1906، حين بدأ "ثوبي" شقيق فرجينيا في عقد اجتماعاتٍ أسبوعيٍّة للأصدقاء الأدباء من زملاء كامبريدج. أسموها "أمسيات الثلاثاء". تلك الأمسيات التي ستشكّل إسهاماتُها النواةَ الأولى لجماعة "بلوومز بيري" فيما بعد. واختاروا مكان اللقيا ذات الحي الذي كانت تسكنه فرجينيا وشقيقتها فينيسا أي: ميدان جوردون. كان المحرّك في توحيد المفاهيم والاهتمامات الجمالية والفكرية لدى أعضاء الجماعة نابعاً في الأساس من تأثير الفيلسوف ج. إ. موور (1873-1958) وكتابه العمدة "مبدأ الأخلاق".



ضمَّت الجماعةُ، ضمنَ آخرين: إ. إم. فورستر، ليتون ستراتشي، كليف بيل، فينيسا بيل (شقيقة وولف)، دانكين جرانت، و ليونارد وولف (زوجها). ومع مطلع الثلاثينيات توقفت الجماعة عن الظهور المنتظم مثلما كانت في صورتها الأولى.




من كلمات وولف عن لقاءات تلك الجماعة كما جاء في كتاب "لحظات الوجود" لـ"جيني سكالكيند": "" … ومن أسباب سِحْر وجمال أمسيات الثلاثاء تلك، اصطباغُها بروح التجريد والذهنية على نحوٍ مدهش. لم يكن فقط الكتاب الشهير "مبادئ الأخلاق" للفيلسوف موور" هو الذي أغرقنا في مناقشاتٍ وحواراتٍ حول الفلسفةِ والفن والدين والوجود؛ لكنه الجو العام أيضاً، الذي يمكنني وصفه بـ"المثالية في أقصى طاقاتها". الشباب، الذين وصفتهم ذات مرة في هايد بارك بأنهم "عديمو الأخلاق"، كانوا يناقشون وينتقدون حواراتنا بنفس الحماس والحدّة كما يفعلون فيما بينهم، لم يكادوا يلحظون ما نرتدي من ثياب أو كيف كان مظهرنا الأنثوي، لم يُشعرونا أننا نساء، هذا شيء رائع!"



* * *






بدايات الكتابة




مع نهاية عام 1904 شرعت فرجينيا في كتابة مقالات وتحقيقات لجريدة "الجارديان" ، ثم انتقلت مع عام 1905 إلى الكتابة في ملحق " التايمز" الأدبيّ ، واستمرت في الكتابة بها لعدة سنوات. وكانت في تلك الآونة تقوم بالتدريس في جامعة مسائية للعمّال من الرجال والنساء.



نشرت أولى رواياتها " الخروج في رحلة بحرية" عام 1915. أولى أعمال وولف التي خطّتها حين كان عمرها 24 عاما. استغرقت كتابتها تسع سنوات بدأتها عام 1908 وانتهت منها عام 1913، لكنها لم تُنشر إلا بعد ذلك التاريخ بعامين بواسطة أخيها نصف الشقيق " جيرالد دوكوورث"، تزامنًا مع بداية إصابتها بالمرض العقلي آنذاك.



في عام 1919 ظهرت روايتها الواقعية "الليل والنهار" التي تدور أحداثها في لندن وترصد التناقض بين حياتيْ صديقتيْن، كاترين وماري، وطرائق تعامل كلٍّ منهما مع مدينة الضباب. وتعدُّ روايةً تقليدية إصلاحية كتبتها وولف ربما لتثبت لنفسها وللآخرين أن بوسعها كتابة نمطٍ روائيٍّ كلاسيكيّ.



عام 1921 أصدرت أولى مجموعاتها القصصية بعنوان "الاثنين أو الثلاثاء" وتتكون من ثمان قصص. من بينها "رواية لم تكتب بعد" التي نحن بصدد ترجمتها.



أما "غرفة يعقوب" عام 1922، فكانت مستوحاةً من حياة وموت شقيقها "ثوبي". وتعدُّ روايتها التجريبية الأولى.


على أنها برواياتها الثلاث: "مسز دالواي" 1925، "صوب المنارة " 1927، ثم " الأمواج" 1931، استطاعت وولف ترسيخ اسمها كأحد رواد الحداثة في الأدب الإنجليزيّ.



تُعدُّ "الأمواج" من أعقد رواياتها، إذ تتتبع فيها حيوات ستة أشخاص منذ الطفولة الأولى وحتى مراحل الشيخوخة عبر حوارٍ ذاتي أحاديّ (مونولوج) يناجي كلُّ واحد ٍفيه نفسه.



كتب الناقد "كرونيبيرجر" في نيويورك تايمز: "أن وولف لم تكن حقاً مهتمّةً بالبشر، لكن اهتمامها الأكبر كان بالإشارات الشعريّة في الحياة، مثل لحظات التحوّل بين الفصول، بين الليل والنهار، الخبز والنبيذ، النار والصقيع، الزمن والفضاء، الميلاد والموت، أي التحوّل و التناقض بوجهٍ عام."



"أورلاندو" 1928، رواية استوحت خيوطَها من خلال ارتباطها الحميم بالروائية والشاعرة الأرستقراطية فيتا ساكفيل-ويست. ويعدّها النقاد بمثابة سيرة ذاتية.



رواية "السنوات" عام 1937 التي أجمع النقاد تقريبا على جمالها، ثم المجموعة القصصية الثانية التي نشرت بعد موتها "بيت مسكون بالأشباح" التي صدرت عام 1943.



أثناء الحرب العالمية، كانت وولف قد أصبحت في بؤرة المشهد الأدبيّ تماما، سواء في لندن أو في بلدتها الأم "رومديل" بالقرب من ليويز وسُسيكس. عاشت وولف في "ريتش موند" في الفترة ما بين عامي1915 و 1924، ثم في "بلوومز بيري" من عام 1924 وحتى عام 1939. لكنها ظلت مداومةً على زيارتها لمنزلها في "رومديل" منذ 1919 حتى لحظة مصرعها انتحاراً عام 1941.



* * *



عملت وولف على تطوير تقنياتها الأدبية فكرّست قلماً نسائياً رفيعاً يناقشُ وينتقد هموم المرأة وحياتها في مقابل الهيمنة الذكوريّة وسيادة وجهة نظر الرجل في الواقع والوجود والكتابة.


في مقالها "السيد بينيت والسيدة براون"، ساجلت وولف بعض الروائيين الواقعيين الإنجليز مثل جون جولز وورثي، هـ ج ويلز وغيرهما، حيث اتهمتهم بمعالجة القشور واللعب فوق منطقةِ السطح، بينما ينبغي، من أجل اختراق العمق، تقليص المساحة المحظورة في تناول الحياة، والاستفادة من أدوات الكتابة المتاحة مثل تفعيل تيار الوعي، والحوارات الذاتية للشخوص، وكذا الانصراف عن السرد الخطيّ والبناء الهندسي للحدث والزمن.



* * *



يتبع
.
.
.

هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)
قديم 01-16-2011, 11:44 PM
المشاركة 7
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


الملمح النقديّ لأهم رواياتها






"الخروج في رحلة بحرية" رواية توظّف أكثر التيمات الروائية قِدماً وقداسةً: الرحلة. تدور حول قَدَر "راشيل فينريز" التي ماتت أمها النشطة المتسلطة وهي بعد طفلة في الحادية عشرة، لتتركها تشبُّ مع أبيها الخامل وعمتيْها العانسيْن. لم تتواءم راشيل عضويّاً كما ينبغي حتى غدا عمرها 24 عاماً لدرجة أنها لم تكن تعرف شيئاً عن الجنس اللهم عدا الشذرات السطحية المستقاة من المدرسة. مع هذا كانت عازفةَ بيانو بارعة. أسرها الفنُّ والبيانو فتلخَّصَ حلمُها ومثالُها الأعلى في كلمة "فنانة"، حدّ أن غدت غير متوائمة مع كل مفردات الحياة باستثناء "الفن".




تبدأ الرواية برحلةٍ بحْريةٍ في المحيط على سطح باخرةٍ متواضعة تدعى "إفروزين". الباخرة تبحر من إنجلترا صوب جنوب أمريكا ثم إلى أعلى حيث الأمازون. كانت راشيل في رفقة عمتها هيلين آمبرووز، وهي امرأة في بدايات الأربعين حاسمة وغير عاطفية وهي إحدى الشخصيات المحورية في الرواية إلى جانب راشيل.




هبطت المرأتان في سانتا مارينا، إحدى قرى الساحل الجنوب الأمريكي، أخذتا مقامهما في فيلا بدائية ذات حديقةٍ مهملة وتورطتا في التعامل مع مرتادي الفندق الوحيد في القرية، الذين كان من بينهم شابان هما: القديس جون هيريست، الذي يشبه إلى حد بعيد ليتون ستراتشي وسيقع في حب هيلين، والآخر هو تيرينس هيوات، وهو روائي طموح، (الشخصية التي من خلالها ستعبّر وولف عن معظم آرائها حول فن الكتابة عبر الكثير من الجدل والحوارات التي سيقيمها ذلك الشخص)، وهو سوف يحب راشيل.




أخيراً يقوم بعض أعضاء الفوج بعمل الرحلة الثانية في النهر صوب الغابة وهنا تأخذ الأحداث مسارات أخرى ويتبدل كل شيء.


"الخروج في رحلة بحرية" تحكي قصة العشاق التعسين المنهزمين ويتم رصدهم ضمن أصداء كورال من قصص أخرى ووجهات نظر مغايرة، أي عبر منهج التعدد المنظوريّ.




" السيدة دالواي" 1925( الرواية التي نُسجت حولها رواية "الساعات" للروائيّ "مايكل كاننجام" الصادرة عام 2002 – والفائزة بجائزة بارتليز)، عبارة عن شبكة شديدة الاشتباك والتعقيد مجدولة من أفكار مجموعة من البشر خلال يوم واحد من حياتهم. ثمة حدثٌ واحد بسيط، وراءه حركة شديدة التسارع والديناميكية من الحاضر إلى الماضي ثم إلى الحاضر ثانيةً من خلال ذاكرة الشخوص. البطلة المحورية "كلاريسا دالواي" مضيفةٌ لندنية ثريّة، تقضي نهار أحد الأيام في الإعداد لحفل المساء، تستدعي حياتها قبل الحرب العالمية الأولى: ذكرياتها قبل زواجها من "سبتيمس دالواي" وقبل صداقتها للمرأة غريبة الأطوار "سالي سيتون" التي ستعود بلقبها الجديد "السيدة روستر"، ثم تستدعي علاقتها بـ"بيتر ويلش" الذي مازال متيّماً بها. وأثناء الحفل، الذي لم يحضره المجنّد الإنجليزي ريتشارد سبتيمس" (صديقها القديم الشاعر، الذي أُقيم الحفل على شرفه من أجل تكريمه لفوزه بجائزة في الأدب، وكان قد آثر العزلة في منزله البسيط إثر أصابته في الحرب العالمية بصدمة نفسية تسمى "صدمة القذيفة". وكان أحد أول المتطوعين في الحرب).




عند وصول رئيس الوزراء بالضبط إلى مكان الحفل في بيت كلاريسّا، يقوم "سبتيمس" بإلقاء نفسه من شرفة منزله المنعزل على مرأى من "مسز دالواي" التي راحت إليه لتصطحبه إلى الحفل فباغتها وانتحر بعد حوارٍ قصير معها فحواه أنه يفضّل الذهاب إلى الموت عوضاً عن انتظاره.






من المقاطع الشهيرة في الرواية:




" كان أول ما تبدّى لها، تلك الممارسات الطائشة التي تخرق الآداب الاجتماعية وتقاليد اللياقة، لكن تلك الممارسات في جانبٍ آخر تحولت إلى رمية سهمٍ في السؤال الوجوديّ الأكبر الذي يلازم حياتنا. بينما تغادر مسز دالواي الحفل خلسةً لتتجه نحو شرفتها، تتأمل القضبان الحديدية الرأسية التي تشكّل سور الحديقة وتفكر: ثمة قضبان مماثلة تسوِّر جسد "سبتيمس" التعس، وتسأل عما إذا كان هناك هدفٌ وخطّة وراء حياتنا؟ لماذا نستمر في الحياة في وجه الألم والمأساة؟"






"صوبَ المنارة": رواية ذات بناء ثلاثي الأبعاد:





الجزء الأول: يتعرض لحياة أسرة فيكتورية (كلاسيكية محافظة)، الثاني، يرصد حقبةً زمنيةً مدتها أعوام عشرة، بينما يتناول الجزء الثالث: أحد الصباحات التي تخلد الأشباح فيها للنوم. الشخصية المحورية في الرواية، مسز رامساي، مستوحاة من شخصية والدة وولف، وكذا بقية الشخصيات في الدراما كلها متكئة، بشكلٍ أو بآخر، على ذكريات وولف مع عائلتها.






" أورلاندو " 1928 رواية خيالية فانتازية:






يتتبّع السردُ فيها مصيرَ البطل الذي تحوّل من هُويّة ذكورية، داخل بلاط المحكمة الإليزابيثيةّ، إلى الهويّة المؤنثة. الكتاب مزوّد بصور لصديقة وولف "فيتا ساكفيل ويست" في ثياب أورلاندو الرجل. وعن العلاقة الملتبسة بين وولف وفيتا، حسب "نيجل نيكلسون"، فإن المبادرة كانت من جانب وولف الخجول رغم اتساع خبرة فيتا. وقد تزامنت تلك العلاقة مع أعلى ما أبدعته وولف أدبيّاً. في عام 1994 استثمرت "إليين أتكينس" خطابات وولف وفيتا في خلقِ إبداعٍ دراميٍّ خلال مسرحية "فيتا وفرجينيا" بطولة "أتكينس" و"فانيسا ريدجريف".




* * *





يتبع


.


.


.

هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)
قديم 01-16-2011, 11:48 PM
المشاركة 8
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
النسوية في كتابات وولف




في رسالةٍ لصديقتها "فيتا ساكفيل" تكلمت فرجينيا عن تلك المرحلة المبكرة من حياتها قائلةً: "هل تتخيلين في أي بيئةٍ نشأتُ؟ لا مدرسة أقصدُ إليها؛ أقضي يومي مستغرقةً في التأمل وسط تلالٍ من كتب أبي؛ لا فرصة على الإطلاق لالتقاط ما يحدث خلف أسوار المدارس: اللعب بالكرة، المشاحنات الصغيرة، تبادل الشتائم، التحدث بالسوقية، الأنشطة المدرسية، وأيضاً الشعور بالغيرة!".




* * *




عبر مشروعها الأدبيّ؛ ظهرت ملامح الرفض والثورة في مقالاتٍ كثيرة رصدت وولف خلالها تباين التوجّهات الاجتماعية نحو كلٍّ من المرأة والرجل. رافضةً أن تكون الحتمية البيولوجية أساساً للتمايز الحقوقيّ بين الجنسين. أهمّها تلك المقالات مجموعة بعنوان "غرفة تخصُّ المرء"، ناقشت فيها موضوعة كتابة النساء، أو النساء وفعل الكتابة. ورصدت صمتَ النساء اللواتي "خدمن طيلة قرون باعتبارهن مرايا تمتلك قوةً سحريّة بوسعها أن تعكسَ صورةَ الرجلِ بضعفِه الحقيقيّ". تحدثت عن النساء اللواتي تمَّ إقصاؤهن خلال قرون طويلة مضت ومنعهن من الدخول إلى المكتبات، أو السير على عشب الجامعة "المقدس". غير أنه فيما أُقصي جسدُ المرأة (الحقيقيّ) عن المؤسسة الثقافية، ظلّتِ المرأةُ، كـ(جسد)، دوماً موضوعَ المجاز الأدبيّ والتعبير الفنيّ لدى الكاتب الرجل، وكذلك مادةَ استقراءٍ لدى مختلف الدراسات السيكولوجية والسوسيولوجية، واعتمد الرجال على النساء ليكُنَّ الشاخصَ الجاهز لتصويبِ السهام، والشاشةَ التي تُعرض عليها النظريات والإخفاقات الذكورية. فـ"الرجل لا يرى المرأة سوى في أحمر العاطفة لا في أبيض الحقيقة".



وربما تُذكرُنا تلك الفكرة – الحقيقية إلى حدٍّ بعيد – عن المرأة من خلال منظور الرجل ومنظور المجتمع بكتاب "الجنس الآخر" للكاتبة سيمون دو بوفوار حين قالت ما معناه إن المرأة لا تولد أنثى بالمعنى التداوليّ التنميطيّ للكلمة، لكن المجتمع يجعلها كذلك.




ظهر اهتمام فرجينيا البالغ بقضايا المرأة في تلك المحاضرتيْن اللتين ألقتهما عام 1928 في جامعة كامبريدج والتي فيهما أطلقت مقولتها الشهيرة "إن النساءَ لكي يكتبن بحاجة إلى دخل ماديّ خاص بهن، وإلى غرفة مستقلّة ينعزلن فيها للكتابة." نُشرت المحاضرتان في الكتاب السابق ذكره وصدر عام 1929.

تناولت فيه تاريخَ مشروعٍ أدبيّ تحاول أن تكتبَه امرأة، وأشارت، للتدليل على التباين بين المتاح للرجل الكاتب والمتاح للمرأة الكاتبة، إلى "جوديث" أخت شكسبير وكيف أن الحَيف الذكوريّ أزاحها عما يفترض أن تكونه ككاتبة مرموقة انتصارًا لحقوق شكسبير(الذكر)، رغم إقرار الجميع بفطنتِها ونبوغها في الكتابة. أشارت أيضا إلى "جين أوستن" وكيف كانت تخبئ كتابتها بمجرد أن تسمع صريرَ مزلاج الباب. تلك الأمثلة، وغيرها مما ساقت فرجينيا في كتابها، تَخلُصَ إلى المبرر الإنسانيّ والعمليّ الذي يحتّم حصولَ المرأة الكاتبة على مُناخٍ يشبه ذات المناخ المتاح للكاتب الرجل: مثل غرفة مستقلة توفِّر قدراً من الخصوصيةِ للمبدعة، وأيضاً حقها في شيء من الاستقلال الاقتصاديّ. حيث لم يكن مقبولاً في عصر فرجينيا أن يكون للمرأة مالُها الخاص ولم يكن متاحاً لها أن تختار مصيرها على نحوٍ مستقل مثل الرجل. من أقوالها الشهيرة في هذا الكتاب: "كم من البغيض أن يُسجن المرءُ داخلَ غرفةٍ، وكم هو أسوأ، ربما، أن يُحرم من دخول غرفة مغلقة".



وتتعرض وولف في ذات الكتاب للعراقيل والممارسات الإجحافية التي تعترض تطوّر مشروع المرأة الأدبيّ والثقافيّ، وتحلّل الاختلافات بين المرأة بوصفها "شيئاً " أو "موضوعاً" يمكن الكتابة(عنه) وبينها كـ "مؤلفٍ أو كمبدع". أكدّت وولف أن ثمة تغييراً واجب الحدوث في شكل الكتابة بوجهٍ عام لأن: "معظم المنجز الأدبيّ كتبه رجالٌ انطلاقاً من احتياجاتهم الشخصية ومن أجل استهلاكهم الشخصيّ".


وفي الفصل الأخير تكلمت عن إمكانية وجود عقلٍ بلا نوع (أي لا يحمل السمةَ الذكورية أو النسوية ). واستشهدت وولف بمقولة كولريدج: "العقل العظيم هو عقل لا يحمل نوعاً، فإذا ما تمَّ هذا الانصهار النوعيّ يغدو العقل في ذروة خصوبته ويشحذ كافة طاقاته." وأضافت وولف: "العقل تام الذكورية ربما لا ينتج شيئاً أكثر من العقل تام الأنثوية."



"ثلاث جنيهات" 1938، وهي مقالة تناقش فكرة المساواة والدعوة للسلام وتعدُّ المقالة المتممة لمقالة "غرفة تخص المرء" وفيها تختبر إمكانية مطالبة النساء بإنشاء تاريخٍ خاصٍّ وأدبٍ يخصُّ المرأةَ وحسب.



ككاتبة مقالات، كانت فرجينيا وافرة الإنتاج حيث نشرت حواليّ 500 مقالة في دوريات ثقافية وكتب، بدايةً من عام 1905. اتسمت مقالات وولف بالطابع الحواريّ والتساؤليّ الذي يجعل من القارئ مُخاطَباً ومطالباً بالإدلاء برأيه أكثر منه متلقياً سلبيّاً. اعتمدت مقالاتها الملمح الجدليّ حيث تخفت نبرةُ المؤلّف الذي يدلي ببيان للقارئ.



كان لفرجينيا وولف دورٌ اجتماعيّ بارز في مناهضة العنف كما كانت أحد الناشطين في حركات التحرّر النسائية وهذا ما أظهرته بوضوح في مقالاتٍ كثيرة، وكانت عضواً بارزاً في جماعة بلوومز بيري الأدبية. نُشرت مقالاتها النقدية والتحرّرية في ملحق التايمز الأدبيّ، أما مؤلفاتها فقد أصدرتها دار "هوجارث" التي أنشأتها وزوجُها الناقد والكاتب ليونارد وولف، تلك الدار التي بدأت بطابعة صغيرة يمكن وضعها على طاولة ثم تطورت حتى أصدرت مؤلفات مهمّةً لقامات أدبيةٍ عالية، كما أسلفنا.




* * *




يتبع
.
.
.

هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)
قديم 01-16-2011, 11:53 PM
المشاركة 9
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي

آخر أعمالِها:




"بين فصول العرض"




تلك الرواية هي آخر ما كتبت وولف، والتي ماتت قبل أن تشهد صدورها في كتاب. تشعر منذ الوهلة الأولى أنك أمام أغنية بجعة تطلق وداعاً حزيناً للوطن في عشية الحرب العالمية الثانية التي بات من المتوقع أن تطلق تعويذة دمارها الشامل خلال ساعات.

النسخة النهائية من آخر أعمال وولف وأكثرها غنائية هي التي تحتوي على النص الأصليّ التي كانت تتوفر على كتابته حتى لحظة موتها.

تجري الأحداث في قرية "بوينتز هول"، موطن عائلة أوليفر منذ 120 عاماً، وتدور الأحداث حول مهرجان القرية السنوي الذي يُسقِطُ على تاريخ إنجلترا (ويتهكم عليه) منذ العصور الوسطي وحتى صيف 1939.

الأحداث الكوميدية على منصة العرض، ردود أفعال القرويين حيال النظارّة، مزج الحاضر بالماضي، كل تلك الأمور تؤكد معتقد فرجينيا وولف أن الفنَّ هو مبدأ وحدة الحياة.


خلال منهج التجريب الحداثي ذاته، الذي شخّصت به "صوب المنارة"، يمكن للقارئ بسهولة متابعة أحداث الرواية. لكن تظل إعادة القراءة ضرورة لسبر غور النصِّ واستكشاف عمقه وإسقاطاته السياسية والاجتماعية بل والوجودية.

تقع الرواية في أحد أيام شهر يونيو 1939 في عزبة بالريف الإنجليزيّ تُدعى "بوينتز هول"، مملوكة لعائلة "أوليفر" ذات الارتباط المَرضيّ بالماضي والجذور السَّلفية إذ تولي ولاءً حميمًا للسلف إلى درجة الاعتقاد بأن "الساعة" التي أوقفتها رصاصةٌ في معركةٍ قديمةٍ جديرةٌ بالمحافظةِ عليها وإقامة مَعرِضٍ خاص لها.

كل عام في نفس ذلك الوقت، يهيئ آل أوليفر حدائقهم لإقامة فعاليات الحفل، ويُسمح للفلاحين بارتياد الموكب ورفع المال إلى الكنيسة. وكان من المقرر في برنامج ذلك العام أن يكون الموكب سلسلةً من التابلوهات التي تمجّد تاريخ إنجلترا منذ عهد شوسر وحتى الزمن الراهن.

آل أوليفر أنفسهم كانوا تابلوهات للشخوص، كلٌّ يجسّد ملمحاً بشريّاً ما، يفصل بين كل منهم حائطٌ من عدم التواصل والاغتراب. وتُظهر الرواية تباين مواقفهم وردود أفعالهم تجاه الحرب الوشيكة التي ستغيّر خارطة التاريخ.

العجوز "بارثولوميو أوليفر" وشقيقته "لوسي سويزن"، كل منهما أرمل، يعيشان مع بعضهما الآن بنفس العلاقة المتذبذبة التي عاشا عليها خلال الطفولة. "جايلز"، نجل أوليفر، مقامر في البورصة، يسافر إلى لندن يوميّاً من أجل العمل، ويعتبر ذلك الحفل شيئاً مزعجاً لا فرارَ من تحملّه. "آيزا"، زوجته غير القانعة، تخفي أشعارها عنه، وتفكّر في إقامة علاقة غير شرعية مع مزارعٍ في القرية.

في نهاية الحفل، تخطط مخرجةُ العرض شيئاً خاصاً وفريداً من أجل الاحتفال بالحاضر،( شيئاً له إسقاطات ذات أبعاد سياسية كانت تعنيها وولف): تجعل الممثلين يوجّهون مراياهم صوب الجمهور وكأنها تقول: انظروا إلى وجوهكم، انظروا كيف أصبحت إنجلترا. يلفّها العار والجمود، أليس كذلك؟".

على النحو نفسه أشهرت وولف مرآةً في وجه البشرية، مرآةً تعكس حزننا وخيباتنا عبر شخوص روايتها.

ربما تلك الدلالة، غير المبهجة، هي الأكثر مناسبةً لتلخيص مصير كاتبة مثل وولف، أحد أعظم رموز الحزن في التاريخ.


* * *





شبح الموت حول فرجينيا




إبّان الاجتياح النازيّ، أعدّت وولف وزوجها المؤن واتخذا تدابير الاستعداد حال الخطر. فاتفقا على تصفيّة نفسيهما جسديّاً، عن طريق الانتحار بالغاز السام، إذا ما هوجما من قِبل النازيين (نظرا لكون زوجها يهوديّ الأصل).


لم تكن ظلال الخوف من الاجتياح النازيّ بكل ما تحمل من رائحة الموت وحدها التي مثلت شبحاً ضاغطاً على روح وعقل فرجينيا. فقد أُثقلت المرأة بحوادثَ فاجعةٍ كثيرة ليس بدءا ًبموت أمها المبكر ولا بموت أبيها البطيء ولا شقيقها المحبوب، ولا انتهاءً بالأصدقاء الذين كانوا يذهبون إلى الحرب ولا يعودون بعد ذلك أبداً. فكأنما كان الموت يترصدها كما ترصّد محيطها فقررت أن تذهب إليه بدلا من أن تنتظر مجيئه على مبدأ "بيدي لا بيد عمرو".


تقول في يومياتها التي كتبتها بين عامي 1931 و 1935، وهي ما صدرت في كتاب حديث بالترجمة الألمانية، إنها ذهبت مع زوجها ليونارد وولف بعدما حصد الموت فجأة صديقهما المشترك "لايتون استراشي" من أجل مواساة حبيبته دورا كارينجتون التي بدت غير مصدقةٍ حتى اللحظة فقدان حبيبها، تقول وولف "كم بدت خائفةً!! بدت كطفلٍ يخشى أن يُخطئ كيلا يطوله العقاب. وحين هممنا بالانصراف رافقتنا دورا إلى الطابق السفليّ حتى باب المنزل، قبّلتني مراتٍ عديدةً. قلت لها تأتين لزيارتنا إذن في الأسبوع المقبل؟ قالت نعم سآتي، وربما لن آتي. ثم قبّلتني مرةً أخرى قائلةً "وداعاً". ثم دلفتْ إلى الداخل. التفتُ لألوِّح لها، فوجدتها تقف هناك تشخصُ فينا. لوحّت لي أكثر من مرة، ثم اختفت."

كان ذلك المشهد هو آخر ما عرف الزوجان عن صديقتهما. في اليوم التالي عند الثامنة والنصف أطلقت دورا الرصاص على نفسها من بندقيةِ صيد. ولم يبرح عينَ فرجينيا مشهدُ الوداع المستطيل والتلويح المتكرر، والالتفاتات المتواترة، وشخوص الصديقة الراحلة فيها عند باب البيت، ثم الحدس السيئ الذي باغتها في تلك اللحظة بالذات بأن ثمة نذيرًا في الأفق الوشيك. شبح الموت الذي طفق يدوّم ويحوّم في أفق وولف يحصد كلَّ من أحبتهم واحداً إثر واحد حتى أنه لم يغفل "بينكا"، كلبتها المحبوبة.


* * *

يتبع
.
.
.

هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)
قديم 01-17-2011, 12:03 AM
المشاركة 10
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


النهاية



حين استشعرتْ أن ضربةً عقليةً أخرى في طريقها إليها، أثقلتْ فرجينيا وولف جيوبَ ثوبها بالأحجار وأغرقت نفسها في نهر "أووز" بالقرب من منزلها ببلدة "سُسيكس" في 28 مارس 1941. وكانت قد انتهت لتوّها من مسوّدة كتاب "بين فصول العرض".


وُجِدت بين أوراقها رسالتان تُعلن فيهما عن انتحارها، إحداهما لشقيقتها فنيسا والأخرى لزوجها. الأولى بتاريخ يسبق توقيت الانتحار بعشرة أيام مما يشي بأن محاولةً فاشلةً للانتحارِ قد تمت في ذاك التوقيت، سيما وقد عادت مرةً إلى البيتِ مبتلّة الثياب من جولة لها على الأقدام وفسرّت الأمر بأنها سقطت في الماء.



في رسالتها الأخيرة لزوجها كتبت وولف:




"أيها الأعز، لديّ يقينٌ أنني أقترب من الجنون ثانيةً. وأشعر أننا لن نستطيع الصمود أمام تلك الأوقات الرهيبة مجدداً. فلن أُشفى هذه المرة. بدأت أسمع الأصوات ولم يعد في وسعي التركيز. لهذا سأفعل الشيء الذي أظنّه الأفضل. لقد وهبتني أعظم سعادة ممكنة. كنتَ دائما لي كلَّ ما يمكن أن يكونَه المرء. لا أظن أن ثمة زوجين حصّلا ما حصّلناه من سعادة إلى أن ظهر هذا المرض اللعين. لقد كافحتُ طويلاً ولم يعد لدي مزيد من المقاومة. أعرف أنني أفسدتُ حياتَكَ، لكنك في غيابي سيمكنك العمل. وسوف تواصل العمل، أعرف هذا. أنت ترى أنني حتى لا يمكنني كتابة هذه الرسالة على نحوٍ سليم. لم أعد أستطيع القراءة. ما أودُّ أن أقول هو أنني أُدينُ لك بكل سعادةٍ مرّت في حياتي. لقد كنتَ صبوراً إلى أقصى حدٍّ، وطيّباً على نحوٍ لا يُصدّق. أودُّ أن أقولَ هذا – كل الناس يعلمون هذا. إذا كان ثمة من أنقذني فقد كان أنتَ. كلُّ شيءٍ ضاع مني إلا يقيني بطيبتك. لا أستطيع أن أستمر في إفساد حياتك أكثر."

ف. و



بعدما أنهت تلك الرسالة، غادرت منزلها الريفيّ في رودميل في الساعة 11:30 صباحاً، ومعها عصا التجوال، عبرت المرج الذي يفصل بيتها عن النهر، ثم أثقلت جيوب معطفها بالأحجار. لم يُنتشَل جثمانُها حتى يوم 18 أبريل، حين اكتشفته مجموعة من الصبية أسفل مجرى النهر. تعرّف زوجها على الجثمان، ثم أُجري التحقيق في اليوم التالي في "نيوهافين" . وجاء الحكم حسب الصياغة القياسية في ذاك الوقت بأنه "انتحارٌ أثناء حال اضطرابِ في الميزان العقليّ". في "برايتون" يوم 21 من أبريل، تم إحراق الجثمان في عزلةٍ وصمت، ثم نُثر رمادُه تحت إحدى شجرتيّ الدردار حول منزلها.



* * *






أيام فرجينيا الأخيرة


تقول فرجينيا وولف "لا حدثَ يحدثُ بالفعل إذا لم يدوّن" وربما تفسّر تلك العبارة اهتمامَها بتدوين يومياتها التي من خلالها، ومن خلال يوميات زوجها وتقارير الأطباء والأصدقاء، سنحاول أن نرسم شهورها الأخيرة، وما هي الأعراض والأحداث التي سبقت موتها؟ وكم من الزمن لازمها الاكتئاب؟

بعد حوالي أربعين سنة من موتها تكلّم زوجها ليونارد وولف عن العام الأخير في حياتها وعن حادثة الانتحار تحديداً في أحد مجلدات سيرته الذاتية. وقد شكك في دوافعه عدد من النقاد المناصرين لحركات التحرّر النسائي، لكن يومياته وأنشطته خلال فترة زواجه من فرجينيا بدت دقيقة ولا تفتقر إلى التفاصيل رغم التكثيف وعدم الإسهاب، على عكس ما كانت تفعل فرجينيا في يومياتها.



قال واصفا تلك الفترة:



" 319 ليلةً عاصفةً تمشي ببطء صوب الكارثة". كان ذلك توصيفه للفترة الزمنية ما بين إرسالها أوراق مسودة السيرة الذاتية التي كتبتها عن "روجر فراي" لطباعتها، وكان ذلك يوم 13 مايو 1940، وبين يوم انتحارها في 28 مارس 1941. لكنه ذكر أنها كانت قد مرضت فقط منذ وقت قريب : "فقدان التحكم في العقل بدأ فقط قبل شهر أو شهرين قبل واقعة الانتحار."


وبالرغم من إقراره أن تلك الفترة بين التاريخين السابقين كانت مشحونةً بالتوتّر والضغط على الجميع، سيما في منطقة كجنوب إنجلترا آنذاك، حيث الغارات الجوية وتزايد فرص التهديد بالاجتياح، إلا أنه كتب: "إن فرجينيا كانت سعيدة معظم الوقت، وبدا عقلُها هادئًا أكثرَ من المعتاد."


في شهريْ مايو ويونيو عام 1940، كانا قد تناقشا، آل وولف، فيما بينهما وبين أصدقائهما حول الخطوة التي يجب أن يتخذاها حال الاجتياح النازي. لم يكن لديهما شك حول الكيفية التي يمكن أن يُعامل بها نشطاء سياسيون مثلهما: مثقف يهودي وزوجته، من قِبل النظام النازي. "اتفقنا أننا حين تحينً اللحظة سوف نغلق باب الجراج وننتحر بالغاز السام." في يونيو 1940، زودهما "آدريان ستيفن"، شقيق فرجينيا المحلل النفسي ، بجرعات قاتلة من المورفين لتساعدهما على الموت في حال الغزو. كان هذا قراراً مشتركاً بين الزوجيْن وليس من دلالة له على حالة الاكتئاب لديها ولم يكن نتاجَ فكرٍ ذي ملمحٍ تدميريٍّ انتحاريٍّ من جانبها. حتى أنها لم تستخدم المورفين حين قررت إنهاء حياتها.


في فبراير 1940 أصيبتْ فرجينيا بالأنفلونزا، وأمضت ثلاثة أسابيع في الفراش. لم يكن قد سُيطر بعد على هذا المرض من قِبل الطب في ذلك الزمن، فكان يسبب لها، ضمن أعراضه، صداعاً طويلاً، وربما يخلّف لوناً من الاضطراب المزاجي إذا لم يعالج جيداً مع الراحة التامة.


خلال بقية العام كانت نشطةً ومنتجةً، إذ كانت متوفرةً على كتابة ثلاثة أعمال في وقت واحد خلال نوفمبر 1940. ومع ديسمبر كانت انتهت من مسوّدة روايتها الأخيرة "بين فصول العرض". غير أن حروف المخطوطة في ذاك الشهر وشت بأن يدها كانت ترتعش أثناء الكتابة. وعلى نهاية العام كان ملمحٌ من الإحباط وعدم الثقة بالنفس قد أعلن عن نفسه في خطابها لصديقتها الطبيبة، الممارس العام، "أوكتافيا ويلبرفورس" :" فقدتُ كلَّ سيطرةٍ على الحروف، ليس بوسعي صياغة شيئًا منها."


آثار الحرب كانت تمتد إليهم. منزلهم في لندن ومكان عملهم في ميدان ميكلنبرج كانا قد فُجّرا بقذيفة. وتم نقل كل أثاث المنزلين والأوراق الخاصة بفرجينيا وزوجها وكذلك معدات الطباعة لتخزّن في كوخ ملحق بالمنزل الريفي خاصتهما. في أوائل عام 1941 خططت فرجينيا إعادة قراءة كلِّ تراث الأدب الإنجليزي وشرعت بالفعل في تنفيذ مشروعها.



سجّل ليونارد وولف أول أعراض ما أسماه "اضطراب عقلي حاد" في 25 يناير عام 1940، وهو يوم عيد ميلادها، أثناء مراجعتها بروفة "بين فصول العرض". كانت قد استمتعت بكتابة تلك الرواية، وكتبت حين انتهت من المسودة الأولى في نوفمبر السابق: "أشعرُ بأنني حققتُ انتصارًا صغيراً بهذا الكتاب ... استمتعتُ بكتابة كل صفحةٍ تقريباً." ولما أحكم الاكتئابُ الأخير قبضته عليها، تملكتها فكرة أن هذا الكتاب كان فشلاً ذريعاً.


اعتاد ليونارد أن يأخذ موقفاً فورياً. قال في يومياته: "لسنواتٍ كنت اعتدت أن أرصدَ أيَّ علاماتٍ تنبئ بقدوم خطر على عقل فرجينيا، في البداية كانت الأعراض الإنذارية تجيء بطيئةً لكن غير مضللة: الصداع؛ عدم النوم، فقدان المقدرة على التركيز. كنا تعلمنا أن الانهيار يمكن دوماً تجنبه إذا ما تقوقعت داخل شرنقة السكون بمجرد أن تعلنَ الأعراضُ عن نفسها. لكن في هذه المرة لم تظهر الأعراض المنذرة. " الانهيار الآخر الذي حدث بغير مقدمات كان الأول في عام 1915 – وهو انهيارها الأطول والأكثر حدّة.


يتبع
.
.
.


هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)

مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: جيوب مثقلة للحجارة .. فرجينيا وولف
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
فرجينيا وولف و رواية " إلى المنارة" ريم بدر الدين منبر الآداب العالمية. 20 01-27-2015 02:02 PM
فيرجينيا وولف – د. زياد الحكيم د. زياد الحكيم منبر الآداب العالمية. 3 08-26-2012 11:06 AM
فيرجينيا وولف- هل كان انتحارها آخر صرخاتها ايوب صابر منبر الآداب العالمية. 1 10-04-2011 01:55 PM

الساعة الآن 08:02 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.