احصائيات

الردود
12

المشاهدات
10635
 
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6


ناريمان الشريف will become famous soon enoughناريمان الشريف will become famous soon enough

    غير موجود

المشاركات
25,777

+التقييم
4.65

تاريخ التسجيل
Feb 2009

الاقامة

رقم العضوية
6405
01-15-2011, 03:42 PM
المشاركة 1
01-15-2011, 03:42 PM
المشاركة 1
افتراضي الإمتاع والمؤانسة .. لأبي حيان التوحيدي
الإمتاع والمؤانسة
أبو حيان التوحيدي
الكتاب من عيون الأدب العربي، ويضم مسامرات سبع وثلاثين ليلة قضاها التوحيدي في منادمة الوزير أبي عبد الله العارض وهو ثلاثة أجزاء،
ويضم الكتاب أضواء كاشفة لحياة الأمراء في النصف الثاني من القرن الرابع، وما كان يدور في مجالسهم من حديث وجدال وخصومة وشراب.
ومن نوادره: وصف مناظرة السيرافي ومتى بن يونس في المفاضلة بين المنطق اليوناني والنحو العربي، وسؤال الوزير عن رسائل أخوان الصفا وحقيقة مؤلفيها، وإحصاء عدد القيان العاملات في ملاهي الكرخ سنة 360هـ. وطريقة الكتاب أن الوزير يقترح الخوض في موضوع، وأبو حيان يجيبه عما اقترح، حتى إذا أراد الوزير الإخلاد إلى النوم سأل أبا حيان ملحة الوداع، وربما اقترح أن تكون ملحة الوداع شعراً بدوياً،
يشم من رائحة الشيح والقيصوم.



... للقراءة والمتابعة
استمتع بما يلي




.... ناريمان


قديم 01-15-2011, 03:44 PM
المشاركة 2
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي

الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم


قال أبو حيان التوحيدي:
نجا من آفات الدنيا من كان من العارفين ووصل إلى خيرات الآخرة من كان من الزاهدين، وظفر بالفوز والنعيم من قطع طمعه من الخلق أجمعين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبيه وعلى آله الطاهرين.

أما بعد، فإني أقول منبهاً لنفسي، ولمن كان من أبناء جنسي: من لم يطع ناصحه بقبول ما يسمع منه، ولم يملك صديقه كله فيما يمثله له، ولم ينقد لبيانه فيما يريغه إليه ويطلعه عليه؛ ولم ير أن عقل العالم الرشيد، فوق عقل المتعلم البليد؛ وأن رأى المجرب البصير، مقدمٌ على رأي الغمر الغرير فقد خسر حظه في العاجل، ولعله أيضاً يخسر حظه في الآجل؛ فإن مصالح الدنيا معقودةٌ بمراشد الآخرة، وكليات الحس في هذا العالم، في مقابلة موجودات العقل في ذلك العالم؛ وظاهر ما يرى بالعيان مفضٍ إلى باطن ما يصدق عنه الخبر؛ وبالجملة، الداران متفقتان في الخير المغتبط به، والشر المندوم عليه؛ وإنما يختلفان بالعمل المتقدم في إحداهما، والجزاء المتأخر في الأخرى؛ وأنا أعوذ بالله الملك الحق الجبار العزيز الكريم الماجد أن أجهل حظي، وأعمى عن رشدي، وألقي بيدي إلى التهلكة، وأتجانف إلى ما يسوءني أولاً ولا يسرني آخراً؛ هذا وأنا في ذيل الكهولة وبادئة الشيخوخة، وفي حال من إن لم تهده التجارب فيما سلف من أيامه، في حالي سفره ومقامه؛ وفقره وغنائه، وشدته ورخائه، وسارئه وضرائه، وخيفته ورجائه؛ فقد انقطع الطمع من فلاحه ووقع اليأس من تداركه واستصلاحه؛ فإلى الله أفزع من كل ريثٍ وعجل وعليه أتوكل في كل سؤل وأمل، وإياه أستعين في كل قول وعمل.
قد فهمت أيها الشيخ - حفظ الله روحك، ووكل السلامة بك، وأفرغ الكرامة عليك، وعصب كل خير بحالك، وحشد كل نعمةٍ في رحابك ورحم هذه الجماعة الهائلة - من أبناء الرجاء والأمل - بعنايتك، ولا قطعك من عادة الإحسان إليهم، ولا ثنى طرفك عن الرقة لهم، ولا زهدك في اصطناع حاليهم وعاطلهم، ولا رغب بك عن قبول حقهم لبعض باطلهم، ولا ثقل عليك إدناء قريبهم وبعيدهم، وإنالة مستحقهم وغير مستحقهم أكثر مما في نفوسهم وأقصى ما تقدر عليه من مواساتهم، من بشرٍ تبديه، وجاهٍ تبذله، ووعدٍ تقدمه، وضمانٍ تؤكده، وهشاشةٍ تمزجها ببشاشة، وتبسمٍ تخلطه بفكاهة فإن هذه كلها زكاة المروءة، ورباط النعمة، وشهادةٌ بالمحتد الزكي والعرق الطيب والمنشأ المحمود، والعادة المرضية؛ وهي مؤذنةٌ بأن المنحة راهنة، والموهبة قاطنة، والشكر مكسوب، والأجر مذخور، ورضوان الله واقع؛ وأسأل الله بعد هذا كله ألا يسهم وجهي عندك، ولا يزل قدمي في خدمتك ولا يزيغني إلى ما يقطع مادة إحسانك وعائدة رأيك ونافع نيتك وجميل معتقدك، بمنه ولطفه.
فهمت جميع ما قلته لي بالأمس فهماً بليغاً، ووعيته وعياً تاماً؛ وبان لي الرشد في جملته وتفصيله، والصلاح في طرفيه ووسطه، والغنيمة في ظاهره وباطنه، والشفقة من أوله إلى آخره. وأنا أعيده ههنا بالقلم، وأرسمه بالخط وأقيده باللفظ، حتى يكون اعترافي به أرسى واثبت، وشهادتي على نفسي أقوى وأوكد، ونكولي عنه أبعد وأصعب، وحكمك به لي وعلي أمضى وأنفذ.
قلت لي - أدام الله تعالى توفيقك في كل قولٍ وفعل، وفي كل رأيٍ ونظر -: إنك تعلم يا أبا حيان أنك انكفأت من الري إلى بغداد في آخر سنة سبعين بعد فوت مأمولك من ذي الكفايتين - نضر الله وجهه - عابساً على ابن عباد مغيظاً منه، مقروح الكبد، لما نالك به من الحرمان المر، والصد القبيح، واللقاء الكريه، والجفاء الفاحش، والقدع المؤلم والمعاملة السيئة، والتغافل عن الثواب على الخدمة، وحبس الأجرة على النسخ والوراقة، والتهجم المتوالي عند كل لحظةٍ ولفظة.
وذكرت في الجملة شقاءً اتصل بك في سفرك ذلك، وعناءً نال منك في عرض أحوالك؛ ولعمري إن السفر فعول لهذا كله ولأكثر منه؛ فأرعيتك بصري، وأعرتك سمعي، وساهمتك في جميع ما وقرته في أذني بالجزع والتوجع والاستفظاع والتفجع؛ وضمنت لك تلافي ذلك كله بحاق الشفقة وخالص الضمير، ووعدتك صلاح الحال عن ثبات النية، وصحة العقيدة، وقلت: أنا أرعى حقك القديم حين التقينا بأرجان، وأنا على باب ابن شاهويه الفقيه، وعهدك الحديث حين اجتمعنا بمدينة السلام سنة ثمان وخمسين؛ وأوصلك إلى الأستاذ أبي عبد الله العارض - أدام الله تأييده - وأخطب لك قبولاً منه، وتخفيف الإذن عليك، وامتلاء الطرف بك، ونيل الحظوة بخدمتك وملازمتك؛ وفعلت ذلك كله حتى استكتبك كتاب الحيوان لأبي عثمان الجاحظ، لعنايتك به، وتوفرك على تصحيحه، ثم حضنت لك هذه الحال إلى يومنا هذا؛ وهو الوزير العظيم الذي افتقرت الدولة إلى نظره وأمره ونهيه، وإلى أن يكون هو المبرم والناقض، والرافع والواضع، والكافي والوافي، والمقرب لخدمها ونصحائها، والمزحزح لحسدتها وأعدائها؛ والراعي لرعيتها ودهمائها، والناهض بأثقالها وأعبائها، أعانه الله على ما تولاه، وكفاه المهم في دنياه وأخراه، بمنه وقدرته.
نعم ورتبت ذلك كله، ولم أقطع عنك عادتي معك في الاسترسال والانبساط، والبر والمواساة، والمساعدة والمواتاة، والتعصب والمحاماة.
أفكان من حقي عليك في هذه الأسباب التي ذكرتها، وفي أخواتها التي تركتها كراهة الإطالة بها أنك تخلو بالوزير - أدام الله أيامه - ليالي متتابعةً ومختلفة، فتحدثه بما تحب وتريد، وتلقي إليه ما تشاء وتختار، وتكتب إليه الرقعة بعد الرقعة؛ ولعلك في عرض ذلك تعدو طورك بالتشدق وتجوز حدك بالاستحقار، وتتطاول إلى ما لبس لك، وتغلط في نفسك، وتنسى زلة العالم، وسقطة المتحري، وخجلة الواثق؛ هذا وأنت غرٌ لا هيئة لك في لقاء الكبراء، ومحاورة الوزراء؛ وهذه حالٌ تحتاج فيها إلى عادة غير عادتك، وإلى مرانٍ سوى مرانك، ولبسةٍ لا تشبه لبستك؛ وقل من قرب من وزيرٍ خدم فأجاد، وتكلم فأفاد، وبسط فزاد؛ وإلا سكر، وقل من سكر إلا عثر وقل من عثر فانتعش، وما زهد في هذه الحال كثيرٌ من الحكماء الأولين والعباد الربانيين؛ إلا لغلظها وصعوبتها، ومكروه عاقبتها، وشدة الصبر على فوارضها ورواتبها، وتفسخ المتن بين حوادثها ونوائبها.
والعجب أنك مع هذه الخلة تظن أنها مطويةٌ عني وخافية دوني، وأنك قد بلغت الغاية وادع القلب، وملكت المكانة ثاني العنان؛ وقد انقطعت حاجتك عني وعمن هو دوني، ووقع الغنى عن جاهي وكلامي ولطفي وتوصيلي؛ وجهلت أن من قدر على وصولك، يقدر على فصولك، وأن من صعد بك حين أراد، ينزل بك إذا شاء، وأن من يحسن فلا يشكر، يجتهد في الاقتصاد حتى يعذر.
وبعد، فما أطيل، ولعل لهب الموجدة يزداد، ولسان الغيظ يغلو، وطباع الإنسان تحتد، والندم على ما أسلفت من الجميل يتضاعف؛ ولست أنت أول من بر فعق، ولا أنا أول من جفى فنق. وهذا فراق بيني وبينك وآخر كلامي معك، وفاتحة يأسي منك؛ قد غسلت يدي من عهدك بالأشنان البارقي، وسلوت عن قربك بقلب معرض وعزمٍ حي؛ إلا أن تطلعني طلع جميع ما تحاورتما وتجاذبتما هدب الحديث عليه، وتصرفتما في هزله وجده، وخيره وشره، وطيبه وخبيثه، وباديه ومكتومه؛ حتى كأني كنت شاهداً معكما ورقيباً عليكما، أو متوسطاً بينكما، ومتى لم تفعل هذا، فانتظر عقبى استيحاشي منك، وتوقع قلة غفولي عنك، وكأني بك وقد أصبحت حران حيران يا أبا حيان، تأكل أصبعك أسفاً، وتزدرد ريقك هفاً، على ما فاتك من الحوطة لنفسك، والنظر في يومك لغدك، والأخذ بالوثيقة في أمرك، أتظنن بغرارتك وغمارتك، وذهابك في فسولتك التي اكتسبتها بمخالطة الصوفية والغرباء والمجتدين الأدنياء الأردياء؛ أنك تقدر على مثل هذه الحال، وأنام منك على حسن الظن بك، والثقة بصدرك ووردك، وأطمئن إلى حكك وجردك وأتعامى عن حرك وبردك؛ هيهات؛ رقدت فحلمت، فخيراً رأيت وخيراً يكون على هذا الحد كان مقطع كلامك في موجدتك، وإلى ههنا بلغ فيض عتبك ولائمتك؛ وفي دون ذلك تنبيه للنائم، وإيقاظٌ للساهي، وتقويمٌ لمن يقبل التقويم؛ وقد قال الأول:
ألا إنما يكفي الفتى عند زيغه من الأود البادي ثقاف المقوم
فقلت لك: أنا سامع مطيع، وخادم شكور، لا أشتري سخطك بكل صفراء وبيضاء في الدينا؛ ولا أنفر من التزام الذنب والاعتراف بالتقصير؛ ومثلي يهفو ويجمح، ومثلك يعفو ويصفح؛ وأنت مولىً وأنا عبد، وأنت آمرٌ وأنا مؤتمر، وأنت ممتثلٌ وأنا ممتثل، وأنت مصطنع وأنا صنيعةٌ، وأنت منشىءٌ وأنا منشأ، وأنت أول وأنا آخر، وأنت مأمول وأنا آملٌ، ومتى لم تغفر لي الذنب البكر، والجناية العذراء، والبادرة النادرة؛ فقد أعنتني على ما كان مني، ودللت على ملكك لي؛ وأنك كنت مترصداً لهذه الهفوة ومعتقداً في مقابلتها هذه الجفوة؛ وكرمك يأبى عليك هذا، ومثولي بين يديك خدمةً لك يحظره عليك.
هذا وأنا أفعل ما طالبتني به من سرد جميع ذلك، إلا أن أغوص فيه على البديهة في هذه الساعة يشق ويصعب بعقب ما جرى من التفاوض، فإن أذنت جمعته كله في رسالة تشتمل على الدقيق والجليل، والحلو والمر، والطري والعاسي، والمحبوب والمكروه؛ فكان من جوابك لي: افعل. ونعم ما قلت وهو أحب إلي وأقرب إلى إرادتي، وأحضر لما أريغ منه، وأدخل في الحجة عليك ولك؛ وأغسل للوسخ الذي بيني وبينك، وأزهر للسراج الذي طفىء عني وعنك، وأجذب لعنان الحجة إن كانت لك، وأنطق عن العذر إن اتضح بقولك؛ وإذا عزمت فتوكل على الله؛ وليكن الحديث على تباعد أطرافه، واختلاف فنونه مشروحاً، والإسناد عالياً متصلاً، والمتن تاماً بيناً، واللفظ خفيفاً لطيفاً، والتصريح غالباً متصدراً، والتعريض قليلاً يسيراً وتوخ الحق في تضاعيفه وأثنائه، والصدق في إيضاحه وإثباته؛ واتق الحذف المخل بالمعنى، وإلحاق المتصل بالهذر، واحذر تزيينه بما يشينه، وتكثيره بما يقلله، وتقليله عما لا يستغنى عنه؛ واعمد إلى الحسن فزد في حسنه، وإلى القبيح فانقص من قبحه؛ واقصد إمتاعي بجمعة نظمه ونثره، وإفادتي من أوله إلى آخره؛ فلعل هذه المثاقفة تبقى وتروى، ويكون في ذلك حسن الذكرى؛ ولا تومىء إلى ما يكون الإفصاح عنه أحلى في السمع، وأعذب في النفس، وأعلق بالأدب؛ ولا تفصح عما تكون الكناية عنه أستر للعيب، وأنفى للريب؛ فإن الكلام صلفٌ تياه لا يستجيب لكل إنسان، ولا يصحب كل لسان؛ وخطره كثير، ومتعاطيه مغرور، وله أرنٌ كأرن المهر وإباءٌ كإباء الحرون، وزهوٌ كزهو الملك، وخفقٌ كخفق البرق؛ وهو يتسهل مرةً ويتعسر مراراً، ويذل طوراً ويعز أطواراً؛ ومادته من العقل والعقل سريع الحؤول خفي الخداع؛ وطريقه على الوهم، والوهم شديد السيلان ومجراه على اللسان، واللسان كثير الطغيان؛ وهو مركب من اللفظ اللغوي والصوغ الطباعي، والتأليف الصناعي، والاستعمال الاصطلاحي، ومستملاه من الحجا، ودريه بالتمييز؛ ونسجه بالرقة، والحجا في غاية النشاط وبهذا البون يقع التباين ويتسع التأويل، ويجول الذهن، وتتمطى الدعوى، ويفزع إلى البرهان، ويبرأ من الشبهة، ويعثر بما أشبه الحجة وليس بحجة؛ فاحذر هذا النعت وروادفه، واتق هذا الحكم وقوائفه؛ ولا تعشق اللفظ دون المعنى ولا تهو المعنى دون اللفظ؛ وكن من أصحاب البلاغة والإنشاء في جانب، فإن صناعتهم يفتقر فيها أشياء يؤاخذ بها غيرهم، ولست منهم، فلا تتشبه بهم، ولا تجر على مثالهم، ولا تنسج على منوالهم، ولا تدخل في غمارهم، ولا تكثر ببياضك سوادهم، ولا تقابل بفكاهتك براعتهم، ولا تجذب بيدك رشاءهم، ولا تحاول بباعك مطاولتهم واعرف قدرك تسلم، والزم حدك تأمن، فليس الكودن من العتيق في شيء، ولا الفقير من الغني على شيء، أما سمعت قول الناس: ليس الشامي للعراقي بصاحب، ولا الكردي من الدندي بساخر، فإن طال فلا تبل، وإن تشعب فلا تكترث، فإن الإشباع في الرواية أشفى للغليل، والشرح للحال أبلغ إلى الغاية، وأظفر بالمراد، وأجرى على العادة.
فكتبت: "بسم الله الرحمن الرحيم"، أقول أيها الشيخ - عطف الله قلبك علي، وألهمك الإحسان إلي - في جواب جميع ما قلته واجداً علي وعاتباً، وقابضاً، وباسطاً، ومرشداً، وناصحاً؛ ما يعرف الحق فيه، ويستبين الصواب منه، غير خائنٍ لك، ولا جانحٍ إلى مخالفتك، ولا مريغٍ للباطل معك، ولا جاحدٍ لأياديك القديمة، والحديثة، ولا منكرٍ لنعمتك الكافية الشافية، ولا غاظٍ على فواضلك المجتمعة والمتفرقة، ولا تاركٍ لشيء هو علي من أجل شيء هو لي، ولا معرض عن شيء هو لي بسبب شيء هو علي؛ بل أجهز دقة وجله إليك حتى تراه بسده وغباره، وأجلوه عليك حتى تلحظه بردائه وإزاره. كأني لم أسمع قول الأول:
والكفر مخبثةٌ لنفس المنعـم والشكر مبعثةٌ لنفس المفضل
أأنا أدعك واجداً علي، وأرقد وأنت ماقتٌ لي، وأجد حس نعمة أنت وهبتها إلي، وألذ عيشاً أنت أذقتني حلاوته. أأنسى أياديك وهي طوق رقبتي، وتجاه عيني، وحشو نفسي، وراحة حلمي، وزاد حياتي، ومادة روحي هيهات، هذا بعيد من القياس، وغير معهود بين أحرار الناس؛ الذين لهم اهتمام بصون أعراضهم، وحرصٌ على إكرام أنفسهم؛ قد عبقوا بفوائح الفتوة، وعلقوا بحبائل المروءة، وشدوا من الحكمة أشرف الأبواب؛ واعتزوا من الأدب إلى أعز حرم؛ وحازوا شرفاً بعد شرف، وانحازوا عن نطف بعد نطف ونظروا إلى الدنيا بعين بصيرة، وعزفوا أنفسهم عن زهراتها بتجربة صادقة.
فأول ما أبدؤك به أنني طننت ظناً لا كيقين أن شيئاً مما كنت فيه مع الوزير - أدام الله أيامه، وقصم أعداءه - ليس مما يهمك، ولا هو مما يقرع سمعك سماعك له؛ وحسبت أيضاً أنني إن بدأت بشيء منه رذلتني عليه وتنقصتني به، وزريت علي فيه؛ وأنك ربما قلت: لم بدأت بما أسئلك عنه ولم أرخص لك فيه، هلا كظمت على جرتك، وطويت ما بين جنبيك وما علي مما يدور بين الصاحب وخادمه والرؤوساء، والناظرين في أمور الدهماء والمتصفحين لأحوال العامة والخاصة، ولهم أسرار وعيوبٌ لا يقف عليها أقرب الناس إليهم، وأعز الناس عليهم، وأنت أيضاً فلم تسألني عنه، فكان في تقديري أنك قد عرفت وصولي في وقت دون وقت، وأنك قد حملت أمري على الخدمة التي ليس للعلم بها فائدة، ولا في الإعراض عنها فائتة.
وإذ جرى الأمر على غير ما كان في حسابي وتلبس بظني، فإني أهدي ذلك كله بغثاثته وسمانته، وحلاوته ومرارته، ورقته وخثارته في هذا المكان؛ ثم أنت أبصر بعد ذلك في كتمانه وإفشائه، وحفظه وإضاعته وستره وإشاعته؛ ووالله ما أرى هذا أمراً صعباً إذا وصل إلى مرادك ولا كلفةً شاقةً إذا أكسبني مرضاتك؛ وإن كان ذلك يمر بأشياء كثيرةٍ ومختلفةٍ، متعصية غريبةٍ، منها ما يشيط به الدم المحقون، وينزع من أجله الروح العزيز، ويستصغر معه الصلب، ولا يقنع فيه بالعذاب الأدنى دون العذاب الأكبر؛ وإن كان فيها أيضاً غير ذلك مما يضحك السن، ويفكه النفس، ويدعو إلى الرشاد، ويدل على النصح، ويؤكد الحرمة، ويعقد الذمام، وينشر الحكمة، ويشرف الهمة، ويلقح العقل، ويزيد في الفهم والأدب ويفتح باب اليمن والبركة، وينفق بضاعة أهل العلم في السوق الكاسدة، ويوقظ العيون الناعسة، ويبل الشن المتغضف، ويندى الطين المترشف؛ ويكون سبباً قوياً على حسن الحال وطلب العيش، فإن هذا العاجلة محبوبة، والرفاهية مطلوبة، والمكانة عند الوزراء بكل حولٍ وقوةٍ مخطوبة، والدناي حلوةٌ خضرة وعذبةٌ نضرة، ومن شف أمله شق عمله؛ ومن اشتد إلحاحه، توالى غدوه ورواحه، ومن أسره رجاؤه، طال عناؤه، وعظم بلاؤه؛ ومن التهب طمعه وحرصه، ظهر عجزه ونقصه.
وفي الجملة:
من لم يكن لله متهـمـاً لم يمس محتاجاً إلى أحد
ولابد من فتى يعين على الدهر، ويغني عن كرام الناس فضلاً عن لئامهم، ويذلل قعود الصبر، ويجم راحلة الأمل، ويحلي مر اليأس؛ والعزلة محمودةٌ إلا أنها محتاجة إلى الكفاية، والقناعة مزة فكهةٌ ولكنها فقيرةٌ إلى البلغة وصيانة النفس حسنة إلا أنها كلفة محرجة إن لم تكن لها أداةٌ تجدها وفاشيةٌ تمدها، وترك خدمة السلطان غير الممكن ولا يستطاع إلا بدينٍ متين، ورغبةٍ في الآخرة شديدة، وفطامٍ عن دار الدنيا صعب، ولسانٍ بالحلو والحامض يلغ.
قال ابن السماك: لولا ثلاثٌ لم يقع حيف، ولم يسل سيف، لقمةٌ أسوغ من لقمة، ووجه أصبح من وجه، وسلك أنعم من سلك، وليس كل أحد له هذه القوة، ولا فيه هذه المنة والإنسان بشر، وبنيته متهافتة وطينته منتثرة، وله عادةٌ طالبة، وحاجةٌ هاتكة، ونفسٌ جموح، وعينٌ طموح؛ وعقلٌ طفيف، ورأي ضعيف، يهفو لأول ريح، ويستخيل لأول بارق؛ هذا إذا تخلص من قرناء السوء، وسلم من سوارق العقل، وكان له سلطان على نفسه، وقهرٌ لشهواته، وقمعٌ لهوائجه وقبولٌ من ناصحه، وتهيؤٌ في سعيه، وتبوءٌ في معان حظه، وائتمامٌ بسعادته، واستبصارٌ في طلب ما عند ربه، واستنصافٌ من هواه المضل لعقله المرشد، هذا قليلٌ وصعب ولو قلت: معدومٌ أو محال في هذا الزمن العسير والدهر الفاسد، لما خفت عائقاً يعوقني، ولا حسوداً يرد قولي. قال ابن السماك: الله المستعان على ألسنٍ تصف وقلوبٍ تعترف، وأعمالٍ تختلف. وقال معاوية لأبي بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث - ورآه لا يلي له عملاً، ولم يقبل منه نائلاً -: يا ابن أخي، هي الدنيا، فإما أن ترضع معنا؛ وإما أن ترتدع عنا. وربما قال بعض المتكلفين قد قال بعض السلف: ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة، ولا من ترك الآخرة للدنيا، ولكن خيركم من أخذ من هذه وهذه. وهذا كلام مقبول الظاهر موقوف الباطن. وربما قال آخر من المتقدمين: "اعمل لآخرتك كأنك تموت غداً، واعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً". وهذا أيضاً كلامٌ منمق، لا يرجع إلى معنىً محقق؛ أين هو من قول المسيح - عليه السلام - حين قال: الدنيا والآخرة كالمشرق والمغرب متى بعد أحدكم من أحدهما قرب من الآخر؛ ومتى قرب من أحدهما بعد من الآخر. وأين هو من قول الآخر: الدنيا والآخرة ضرتان، متى أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى، ومتى أسخطت إحداهما أرضيت الأخرى.
وهذا لأن الإنسان صغير الحجم، ضعيف الحول، لا يستطيع أن يجمع بين شهواته وأخذ حظوظ بدنه وإدراك إرادته، وبين السعي في طلب المنزلة عند ربه بأداء فرائضه، والقيام بوظائفه، والثبات على حدود أمره ونهيه، فإن صفق وجهه وقال: نعمل تارة لهذه الدار وتارة لتلك الدار: فهذا المذبذب الذي لا هو من هذه ولا من هذه؛ ومن تخنث وتليث لم يكن رجلاً ولا امرأة، ولا يكون أباً ولا أماً؛ وهذا كما نرى.
ونرجح فنقول: ونعوذ بالله من الفقر خاصة إذا لم يكن لصاحبه عياذٌ من التقوى، ولا عمادٌ من الصبر، ولا دعامةٌ من الأنفة، ولا اصطبارٌ على المرارة.
وقد بلينا بهذا الدهر الخالي من الديانين الذين يصلحون أنفسهم ويصلحون غيرهم بفضل صلاحهم، الخاوي من الكرام الذين كانوا يتسعون في أحوالهم، ويوسعون على غيرهم من سعتهم، وكانوا يهتمون بذخائر الشكر المعجل في الدنيا، يحرصون على ودائع الأجر المؤجل في الأخرى؛ ويتلذذون بالثناء، ويهتزون للدعاء؛ وتملكهم الأريحية عند مسئلة المحتاج، وتعتريهم الهزة معها والابتهاج؛ وذلك لعشقهم الثناء الباقي؛ والصنيع الواقي؛ ويرون الغنيمة في الغرامة، والربح في البذل، والحظ في الإيثار، والزيادة في النقص؛ أعني بالزيادة. الخلف المنتظر من الله؛ وبالنقص: العطاء؛ ورأيت الناس يعيبون ابن العميد حين قال: أنا أعجب من جهل الشاعر الذي قال:
أنت للمال إذا أمسكته فإذا أنفقته فالمال لك
قال: ولو كان هذا صحيحاً كان لا ينبغي أن يكتسب المال، لأنه ليس في ترك كسبه أكثر من إخراجه بالإنفاق. هذا لقولهم بحكمته وعقله وتحصيله وصواب الجاهل لا يستحسن كما يستقبح خطأ العاقل؛ نعم، وكانوا إذا ولوا عدلوا، وإذا ملكوا أفضلوا، وإذا أعطوا أجزلوا، وإذا سئلوا أجابوا وإذا جادوا أطابوا، وإذا عالوا صبروا، وإذا نالوا شكروا؛ وإذا أنفقوا واسوا، وإذا امتحنوا تأسوا؛ وكانوا يرجعون إلى نقائب ميمونة، وإلى ضرائب مأمونة؛ وإلى ديانات قوية، وأماناتٍ ثخينة؛ وكان لهم مع الله أسرار طاهرة، وعلانيةٌ مقبولة؛ ومع عباد الله معاملةٌ جميلة، ورحمةٌ واسعة ومعدلةٌ فاشية؛ وكانت تجارتهم في العلم والحكمة، وعادتهم جارية على الضيافة والتكرمة؛ وكانت شيمتهم الصفح والمغفرة وربحهم من هذه الأحوال النجاة والكرامة في الأولى والعاقبة؛ وكانوا إذا تلاقوا تواصوا بالخير، وتناهوا عن الشر؛ وتنافسوا في اتخاذ الصنائع، وادخار البضائع أعني صنائع الشكر، وبضائع الأجر فذهب هذا كله، وتاه أهله؛ وأصبح الدين وقد أخلق لبوسه، وأوحش مأنوسه، واقتلع مغروسه؛ وصار المنكر معروفاً، والمعروف منكراً، وعاد كل شيء إلى كدره وخاثره، وفاسده وضائره؛ وحصل الأمر على أن يقال: فلانٌ خفيف الروح، وفلان حسن الوجه، وفلان ظريف الجملة، حلو الشمائل، ظاهر الكيس، قوي الدست في الشطرنج، حسن اللعب في النرد، جيدٌ في الاستخراج، مدبر للأموال، بذولٌ للجهد، معروفٌ بالاستقصاء لا يغضى عن دانق، ولا يتغافل عن قيراط؛ إلى غير ذلك مما يأنف العالم من تكثيره، والكاتب من تسطيره.
وهذه كلها كنايات عن الظلم والتجديف، والخساسة والجهل وقلة الدين وحب الفساد، وليس فيها شيءٌ مما قدمنا وصفه عن القوم الذين اجتهدوا أن يكونوا خلفاء الله على عباد الله بالرأفة والرحمة والاصطناع والعدل والمعروف.
وأرجع عن هذه الشكلية الطويلة اللاذعة والبلية العامة الشاملة؛ إلى عين ما رسمت لي ذكره، وكلفتني إعادته؛ عائذاً بالله في صرف الأذى عني وسوق الخير إلي؛ ولائذاً بكرمك الذي رشتن به إلى الساعة، وكفيتني به مؤونة الخدمة لغيرك من هذه الجماعة؛ والأعمال بخواتيمها، والصدور بأعجازها؛ وأنت أولى الناس بالصفح والتجاوز عني إذا عرفت براءتي في كل ما يتعلق بي من ذمامك؛ ويجب علي من الحق في مودتك، والاعتصام بحبلك والانتجاع من عشبك، والارتغاء من لبنك.



....يتبع
ناريمان

قديم 01-16-2011, 10:04 PM
المشاركة 3
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي

فعلاً من الكتب القيمة والجامعة ومن أمتع الكتب
وهو من أكبر الكتب شبهاً بكتاب ألف ليلة وليلة

الصديقة نسمتي الناعمة ناريمان
بارك الله في جهودك التي تبذلينها في منابر
سلمت يداك وزادك الله من علمه وحماك
دمتِ بصحة وعافية وخير

هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)
قديم 01-16-2011, 10:30 PM
المشاركة 4
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
أبو حيان التوحيدي

(923–1023) فيلسوف متصوف، وأديب بارع، من أعلام القرن الرابع الهجري ، عاش أكثر أيامه في بغداد وإليها ينسب.
وقد امتاز أبو حيان بسعة الثقافة وحدة الذكاء وجمال الاسلوب، كما امتازت مؤلفاته بتنوع المادة، وغزارة المحتوى؛ فضلا عما تضمنته من نوادر وإشارات تكشف بجلاء عن الأوضاع الفكرية والاجتماعية والسياسية للحقبة التي عاشها، وهي -بعد ذلك- مشحونة بآراء المؤلف حول رجال عصره من سياسيين ومفكرين وكتاب.

وجدير بالذكر أن ما وصلنا من معلومات عن حياة التوحيدي -بشقيها الشخصي والعام- قليل ومضطرب، وأن الأمر لا يعدو أن يكون ظنا وترجيحا؛ أما اليقين فلا يكاد يتجاوز ما ذكره أبو حيان بنفسه عن نفسه في كتبه ورسائله.
ولعل هذا راجع إلى تجاهل أدباء عصر التوحيدي ومؤرخيه له؛ ذلك الموقف الذي تعّجب منه ياقوت الحموي في معجمه الشهير معجم الأدباء (كتاب), مما حدا بالحموي إلى التقاط شذرات من مما ورد في كتب التوحيدي عرضا عن نفسه وتضمينها في ترجمة شغلت عدة صفحات من معجمه ذاك، كما لّقبه بشيخ الصوفية وفيلسوف الأدباء؛ كنوع من رد الاعتبار لهذا العالم الفذ ولو بصورة غير مباشرة.


اسمه وكنيته

هو علي بن محمد بن العباس التوحيدي البغدادي، كنيته "أبو حيان", وهي كنية غلبت على اسمه فاشتهر بها حتى أن ابن حجر العسقلاني ترجم له في باب الكنى، وأورد اسمه مسبوقا بإحدى صيغ التمريض حين قال: (قيل اسمه علي بن محمد بن العباس...).
مولده ووفاته

كانت ولادة أبي حيان في بغداد سنة 310 هجرية؛ أما وفاته فكانت في شيراز سنة 414 هجرية وفي هذين التاريخين خلاف؛ والمقطوع به أنه كان حيا سنة 400 هجرية حسب ما تفيد بذلك بعض رسائله.
ومما يروى عن بعض أصحاب أبي حيان أنه لما حضرته الوفاة كان بين يديه جماعة من الناس فقال بعضهم لبعض: (اذكروا الله فإن هذا مقام خوف وكل يسعى لهذه الساعة) ثم جعلوا يذكرونه ويعظونه، فرفع أبو حيان رأسه إليهم وقال: (كأني أقدم على جندي أو شرطي !!! إنما أقدم على رب غفور) ومات من ساعته.
أصله ونسبته

اختلفت الآراء وتعددت حول أصل أبو حيان, فقيل أن أصله من شيراز وقيل من نيسابور ولكن الراجح أنه عربي الأصل .
وكذلك اختلف في نسبته إلى التوحيد, فقيل سببها أن أباه كان يبيع نوعا من التمر العراقي ببغداد يطلق عليه "التوحيد"" وهو الذي عناه المتنبي حين قال:
يترشفن من فمي رشفات ** هن فيه أحلى من التوحيدِ
وقيل: يحتمل أن يكون نسبة إلى التوحيد الذي هو جوهر دين الإسلام؛ لأنه معتزلي والمعتزلة يلقبون أنفسهم بـأهل العدل والتوحيد وممن مال إلى هذا الرأي ابن حجر العسقلاني نقله عنه جلال الدين السيوطي، وقال ابن خلكان في وفيات الأعيان (كتاب) بأنه لم يقف على هذه النسبة (يعني إلى التوحيد) في شيء من كتب الأنساب العربية.
نشأته وسماته

في عائلة من عائلات بغداد الفقيرة؛ نشأ أبو حيان يتيما, يعاني شظف العيش ومرارة الحرمان؛ لا سيما بعد رحيل والده, وانتقاله إلى كفالة عمه الذي كان يكره هذا الطفل البائس ويقسو عليه كثيرا.

وحين شب أبو حيان عن الطوق، امتهن حرفة الوراقة، ورغم أنها أتاحت لهذا الوراق الشاب التزود بكم هائل من المعرفة جعل منه مثقفا موسوعيا إلا أنها لم ترضِ طموحه ولم تتلّبِ حاجاته، مما جعله يتجه إلى وجهة أخرى، فاتصل بكبار متنفذي عصره من أمثال ابن العميد والصاحب بن عباد والوزير المهلبي غير أنه كان يعود في كل مرة صفر اليدين، خائب الآمال، ناقما على عصره ومجتمعه.
هذه الإحباطات الدائمة، والإخفاقات المتواصلة؛ انتهت بهذا العبقري إلى غاية اليأس فأحرق كتبه بعد أن تجاوز التسعين من العمر، وقبل ذلك فّر من مواجهة ظروفه الصعبة إلى أحضان التصوف عساه يجد هنالك بعض العزاء فينعم بالسكينة والهدوء.
ولعل السر في ما لاقاه أبو حيان في حياته من عناء وإهمال وفشل يعود إلى طباعه وسماته؛ حيث كان مع ذكائه وعلمه وفصاحته: واسع الطموح، شديد الاعتداد بالنفس، سوداوي المزاج... إلى غير ذلك من صفات وضعت في طريقه المتاعب وحالت دون وصوله إلى ما يريد.
سيرته العلمية

حين نتحدث عن أبي حيان التوحيدي فنحن إنما نتحدث عن شخص متميز؛ سواء من حيث المخزون المعرفي الهائل أو من حيث امتلاكه لقلم سيال يبهر القارئ بأسلوبه الأنيق، وبحذاقته في التعامل مع اللغة وتوظيفها في خدمة ما يرمي إليه.
وفي ما يلي سنلقي الضوء على السيرة العلمية لهذا الكاتب المبدع.
مصادره العلمية

عمله بالوراقة
شكل عمل أبي حيان التوحيدي ردحا كبيرا من حياته في نسخ الكتب وبيعها رافدا أساسيا من روافده المعرفية؛ فقد جعلته القراءة المستمرة لما ينسخ بحكم حرفته على اتصال دائم بثقافة عصره، وعلى وعي كبير أيضا بنتاجات العصور السابقة في مجالات الفكر والعلم والأدب، على أن أبا حيان كثيرا ما تذمر من هذه المهنة في كتبه.


--------------

صفاته وسمات شخصيته تؤكد على يتمه من هنا اتت عبقريته وخلوده ورغم انه من معاصري المتنبي ما يزال ما خطه مدهش وجميل وبالغ الاثر.

قديم 02-25-2011, 08:46 PM
المشاركة 5
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي
فعلاً من الكتب القيمة والجامعة ومن أمتع الكتب
وهو من أكبر الكتب شبهاً بكتاب ألف ليلة وليلة

الصديقة نسمتي الناعمة ناريمان
بارك الله في جهودك التي تبذلينها في منابر
سلمت يداك وزادك الله من علمه وحماك
دمتِ بصحة وعافية وخير
أشكرك حبيبتي الراقية رقية
حضورك أبهجني




تحية ... ناريمان

قديم 07-28-2011, 10:05 AM
المشاركة 6
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي
سلام الله عليك أخي أيوب
وباركك الله تعالى على هذه الإضافة



تحية... ناريمان

قديم 07-28-2011, 10:13 AM
المشاركة 7
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي
الليلة الأولى
وصلت أيها الشيخ - أطال الله حياتك - أول ليلة إلى مجلس الوزير - أعز الله نصره، وشد بالعصمة والتوفيق أزره - فأمرني بالجلوس، وبسط لي وجهه الذي ما اعتراه منذ خلق العبوس؛ ولطف كلامه الذي ما تبدل منذ كان لا في الهزل ولا في الجد، ولا في الغضب ولا في الرضا.
ثم قال بلسانه الذليق، ولفظه الأنيق: قد سألت عنك مراتٍ شيخنا أبا الوفاء، فذكر أنك مراعٍ لأمر البيمارستان من جهته، وأنا أربأ بك عن ذلك، ولعلي أعرضك لشيء أنبه من هذا وأجدى، ولذلك فقد تاقت نفسي إلى حضورك للمحادثة والتأنيس، ولأتعرف منك أشياء كثيرةً مختلفة تردد في نفسي على مر الزمان، لا أحصيها لك في هذا الوقت، لكني أنثرها في المجلس بعد المجلس على قدر ما يسنح ويعرض، فأجبني عن ذلك كله باسترسال وسكون بال؛ بملء فيك، وجم خاطرك، وحاضر علمك؛ ودع عنك تفنن البغداديين مع عفو لفظك، وزائد رأيك، وربح ذهنك؛ ولا تجبن جبن الضعفاء، ولا تتأطر تأطر الأغبياء؛ واجزم إذا قلت، وبالغ إذا وصفت؛ واصدق إذا أسندت، وافصل إذا حكمت، إلا إذا عرض لك ما يوجب توقفاً أو تهادياً؛ وما أحسن ما قال الأول:
لا تقدح الظنة في حكمه ... شيمته عدلٌ وإنصاف
يمضي إذا لم تلقه شبهةٌ ... وفي اعتراض الشك وقاف
وقد قال الأول:
أبالي البلاء وإني امرؤٌ ... إذا ما تبينت لم أرتب
وكن على بصيرة أني سأستدل مما أسمعه منك في جوابك عما أسألك عنه على صدقك وخلافه، وعلى تحريفك وقرافه.
فقلت قبل: كل شيء أريد أن أجاب إليه يكون ناصري على ما يراد مني فإني إن منعته نكلت، وإن نكلت قل إفصاحي عما أطالب به وخفت الكساد، وقد طمعت بالنفاق وانقلبت بالخيبة، وقد عقدت خنصري على المسألة. فقال - حرس الله روحه - : قل - عافاك الله - ما بدا لك، فأنت مجاب إليه ما دمت ضامناً لبلوغ إرادتنا منك، وإصابة غرضنا بك.


....يتبع

قديم 07-28-2011, 10:14 AM
المشاركة 8
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي
قلت: يؤذن لي في كاف المخاطبة، وتاء المواجهة، حتى أتخلص من مزاحمة الكناية ومضايقة التعريض، وأركب جدد القول من غير تقية ولا تحاش ولا محاوبة ولا انحياش.
قال: لك ذلك، وأنت المأذون فيه، وكذلك غيرك، وما في كاف المخاطبة وتاء المواجهة؟ إن الله تعالى - على علو شأنه، وبسطه ملكه، وقدرته على جميع خلقه - يواجه بالتاء والكاف، ولو كان في الكناية بالهاء رفعةٌ وجلالةٌ وقدر ورتبة وتقديس وتمجيد لكان الله أحق بذلك ومقدماً فيه، وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله - عليهم السلام - وأصحابه - رضي الله عنهم - والتابعون لهم بإحسان - رحمة الله عليهم - وهكذا الخلفاء، فقد كان يقال للخليفة: يا أمير المؤمنين أعزك الله، ويا عمر أصلحك الله؛ وما عاب هذا أحد، وما أنف منه حسيب ولا نسيب، ولا أباه كبيرٌ ولا شريف؛ وإني لأعجب من قومٍ يرغبون عن هذا وشبهه، ويحسبون أن في ذالك ضعةً أو نقيصةً أو حطاً أو زرايةً، وأظن أن ذلك لعجزهم وفسولتهم، وانخزالهم وقلتهم وضؤولتهم، وما يجدونه من الغضاضة في أنفسهم، وأن هذا التكلف والتجبر يمحوان عنهم ذلك النقص، وذلك النقص ينتفي بهذا الضلف؛ هيهات، لا تكون الرياسة حتى تصفو من شوائب الخيلاء ومن مقابح الزهو والكبرياء.
فقلت: أيها الوزير، قد خالطت العلماء، وخدمت الكبراء وتصفحت أحوال الناس في أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم، فما سمعت هذا المعنى من أحدل على هذه السياقة الحسنة والحجة الشافية والبلاغ المبين؛ وقد قال بعض السلف الصالح: " ما تعاظم أحد على من دونه إلا بقدر ما تصاغر لمن فوقه " . والتصاغر دواء النفس، وسجية أهل البصيرة في الدنيا والدين؛ ولذلك قال ابن السماك للرشيد - وقد عجب من رقته وحسن إصاخته لموعظته وبليغ قبوله لقوله وسرعة دمعته على وجنته - : " يا أمير المؤمنين، لتواضعك في شرفك أشرف من شرفك، وإني أظن أن دمعتك هذه قد أطفأت أوديةً من النار وجعلتها برداً وسلاماً " .
قال: هذا باب مفترقٌ فيه، ورجعنا إلى الحديث فإنه شهي، سيما إذا كان من خطرات العقل قد خدم بالصواب في نغمةٍ ناغمة، وحروف متقاومة؛ ولفظٍ عذب، ومأخذٍ سهل؛ ومعرفة بالوصل والقطع، ووفاء بالنثر والسجع؛ وتباعدٍ من التكلف الجافي، وتقاربٍ في التلطف الخافي، قاتلالله ذا الرمة حيث يقول:
لها بشرٌ مثل الحرير ومنطقٌ ... رخيم الحواشي لا هراءٌ ولا نزر
وكنت أنشد أيام الصبا هذا بالذال، وكان ذلك من سوء تلقين المعلم؛ وبالعراق رد علي وقيل: هو بالزاي؛ وقد أجاد القطامي أيضاً وتغزل في قوله:
فهن ينبذن من قول يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلة الصادي
قلت: ولهذا قال خالد بن صفوان حين قيل له: أتمل الحديث؟ قال: إنما يمل العتيق، والحديث معشوق الحس بمعونة العقل، ولهذا يولع به الصبيان والنساء، فقال: وأي معونة لهؤلاء من العقل ولا عقل لهم؟ قلت: ههنا عقلٌ بالقوة وعقلٌ بالفعل، ولهم أحدهما وهو العقل بالقوة، وههنا عقلٌ متوسط بين القوة والفعل مزمع، فإذا برز فهو بالفعل، ثم إذا استمر العقل بلغ الأفق؛ ولفرط الحاجة إلى الحديث ما وضع فيه الباطل، وخلط بالمحال ووصل بما يعجب ويضحك ولا يؤول إلى تحصيل وتحقيق، مثل هزار أفسان وكل ما دخل في جنسه من ضروب الخرافات؛ والحسن شديد اللهج بالحادث والمحدث والحديث، لأنه قريب العهد بالكون، وله نصيب من الطرافة. ولهذا قال بعض السلف: " حادثوا هذه النفوس فإنها سريعة الدثور " ، كأنه أراد اصقلوها واجلو الصدأ عنها، وأعيدوها قابلةً لودائع الخير، فإنها إذا دثرت - أي صدئت، أي تغطت؛ ومنه الدثار فوق الشعار - لم ينتفع بها؛ والتعجب كله منوطٌ بالحادث؛ وأما التعظيم والإجلال فهما لكل ما قدم: إما بالزمان، وإما بالدهر؛ ومثال ما يقدم بالزمان الذهب والياقوت وما شابههما من الجواهر التي بعد العهد بمبادئها، وسيمتد العهد جداً إلى نهاياتها؛ وأما ما قدم بالدهر، فكالعقل والنفس والطبيعة؛ فأما الفلك وأجرامه المزدهرة في المعانقة العجيبة، ومناطقه الخفية، فقد أخذت من الدهر صورةً إلهية، وأحدثت فيما سلف منها صورةً زمانية.

.....
يتبع

قديم 07-28-2011, 10:16 AM
المشاركة 9
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي
فقال: بقي أن يتصل به نعت العتيق والخلق، فكان من الجواب أن العتيق يقال على وجهين: فأحدهما يشار به إلى الكرم والحسن والعظمة، وهذا موجودٌ في قول العرب: البيت العتيق؛ والآخر يشار به إلى قدم من الزمان مجهول. فأما قولهم: عبد عتيق، فهو داخل في المعنى الأول، لأنه أكرم بالعتق، وارتفع عن العبودية، فهو كريم. وكذلك وجه عتيق لأنه أعتقته الطبيعة من الدمامة والقبح. وكذلك فرس عتيق.
وأما قولهم: هذا شيء خلق، فهو مضمن معنيين: أحدهما يشار به إلى أن مادته بالية؛ والآخر أن نهاية زمانه قريبة. وكان ابن عباد قال لكاتبه مرة - أعني ابن حسولة - في شيء جرى... نعم، العالم عتيق ولكن ليس بقديم أي لو كان قديماً لكان لا أول له، ولما كان عتيقاً كان له أعول، ومن أجل هذا الاعتقاد وصفوا الله تعالى بأنه قديم، واستحسنوا هذا الإطلاق. وقد سألت العلماء البصراء عن هذا الإطلاق، فقالوا: ما وجدنا هذا في كتاب الله - عز وجل - ولا كلام نبيه - صلى الله عليه وسلم - ولا في حديث الصحابة والتابعين. وسألت أبا سعيد السيرافي الإمام: هل تعرف العرب أن معنى القديم ما لا أول له؟ فقال: هذا ما صح عندنا عنهم ولا سبق إلى وهمنا هذا منهم، إلا أنهم يقولون: هذا شيء قديم وبنيان قديم ويسرحون وهمهم في زمانٍ مجهول المبدأ.
فقل: قد مر في كلامك شيء يجب البحث عنه، ما الفرق بين الحادث والمحدث والحديث؛ فكان من الجواب أن الحادث ما يلحظ نفسه والمحدث ما يلحظ مع تعلقٍ بالذي كان عنه محدثاً. والحديث كالمتوسط بينهما مع تعلقٍ بالزمان ومن كان منه.
وههنا شيء آخر، وهو الحدثان والحدثان؛ فأما الأول فكأنه لما هو مضارعٌ للحادث، وأما الحدثان فكأنه اسم للزمان فقط، لأنه يقال: كان كذا وكذا في حدثان ما ولي الأمير، أي في أول زمانه، وعلى هذا يدور أمر الحدث والأحداث والحادثات والحوادث. وفلان حدث ملوكٍ كله من ديوان واحد وواد واحد وسبك واحد. قال: ما الفرق بين حدث وحدث؟ قلت: لا فرق بينهما إلا من جهة أن حدث تابع لقدم، لأنه يقال: أخذه ما قدم وما حدث؛ فإذا قيل لإنسان: حدث يا هذا. فكأنه قيل له: صل شيئاً بالزمان يكون به في الحال، لا تقدم له من قبل.
ثم رجعت فقلت. ولفوائد الحديث ما صنف أبو زيد رسالة لطيفة الحجم في المنظر، شريفة الفوائد في المخبر، تجمع أصناف ما يقتبس من العلم والحكمة والتجربة في الأخبار والأحاديث، وقد أحصاها واستقصاها وأفاد بها، وهي حاضرة. فقال احملها واكتبها، ولا تمل إلى البخل بها على عادة أصحابنا الغثاث. قلت: السمع والطاعة.
ثم رويت أن عبد الملك بن مروان قال لبعض جلسائه: قد قضيت الوطر من كل شيء إلا من محادثة الإخوان في الليالي الزهر، على التلال العفر.
وأحسن من هذا ما قال عمر بن عبد العزيز قال: والله إني لأستري المحادثة من عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود بألف دينار من بيت مال المسلمين. فقيل: يا أمير المؤمنين، أتقول هذا مع تحريك وشدة تحفظك وتنزهك؟ فقال: أين يذهب بكم؟ والله إني لأعود برأيه ونصحه وهدايته على بيت مال المسلمين بألوف وألوف دنانير، إن في المحادثة تلقيحاً للعقول، وترويحاً للقلب، وتسريحاً للهم، وتنقيحاً للأدب.
قال: صدق هذا الإمام في هذا الوصف، إن فيه هذا كله.
قلت: وسمعت أبا سعيد السيرافي يقول: سمعت ابن السراج يقول: دخلنا على ابن الرومي في مرضه الذي قضى فيه، فأنشدنا قوله:
ولقد سئمت مآربي ... فكأن أطيبها خبيث
إلا الحديث فإنه ... مثل اسمه أبداً حديث


....يتبع

قديم 07-28-2011, 10:17 AM
المشاركة 10
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي
وقال سليمان بن عبد الملك: قد ركبنا الفاره، وتبطنا الحسناء، ولبسنا اللين، وأكلنا الطيب حتى أجمناه، وما أنا اليوم إلى شيء أحوج مني إلى جليس يضع عني مؤونة التحفظ ويحدثني بما لا يمجه السمع، ويطرب إليه القلب. وهذا أيضاً حقٌ وصواب، لأن النفس تمل، كما أن البدن يكل؛ وكما أن البدن إذا كل طلب الراحة، كذلك النفس إذا ملت طلبت الروح وكما لابد للبدن أن يستمد ويستفيد بالجمام الذاهب بالحركة الجالبة للنصب والضجر، كذلك لابد للنفس من أن تطلب الروح عند تكاثف الملل الداعي إلى الحرج فإن البدن كثيف النفس، ولهذا يرى بالعين، كما أن النفس لطيفة البدن، ولهذا لا توجد إلا بالعقل؛ والنفس صفاء البدن، والبدن كدر النفس. فقال: أحسنت في هذه الروايات على هذه التوشيحات وأعجبني ترحمك على شيخك أبي سعيد، فما كل أحد يسمح بهذا في مثل هذا المقام، وما كل أحد يأبه لهذا الفعل؛ هات ملحه الوداع حتى نفترق عنها، ثم نأخذ ليلة أخرى في شجون الحديث.
قلت: حدثنا ابن سيف الكاتب الراوية، قال: رأيت جحظة قد دعا بناءً ليبني له حائطاً فحضر، فلما أمسى اقتضى البناء الأجرة، فتماكسا وذلك أن الرجل طلب عشرين درهماً؛ فقال جحظة: إنما عملت يا هذا نصف يوم وتطلب عشرين درهماً؟ قال: أنت لا تدري، إني قد بنيت لك حائطاً يبقى مائة سنة؛ فبينما هما كذلك وجب الحائط وسقط؛ فقال جحظة: هذا عملك الحسن؟ قال: فأردت أن يبقى ألف سنة؟ قال: لا، ولكن كان يبقى إلى أن تستوفي أجرتك. فضحك - أضحك الله سنه - .
******************


الليلة الثانية

ثم حضرت ليلة أخرى، فقال: أول ما أسألك عنه حديث أبي سليمان المنطقي كيف كان كلامه فينا، وكيف كان رضاه عنا ورجاؤه بنا، فقد بلغني أنك جاره ومعاشره، ولصيقه وملازمه وقافي خطوه وأثره، وحافظ غاية خبره.
فقلت: والله أيها الوزير، ما أعرف اليوم ببغداد - وهي الرقعة الفسيحة الجامعة، والعرصة العريضة الغاصة - إنساناً أشكر لك، وأحسن ثناءً عليك، وأذهب في طريق العبودية معك، منه؛ ولقد سكر الآذان وملأ البقاع بالدعاء الصالح، رفعه الله إليه، والثناء الطيب أشاعه الله؛ وقد عمل رسالةً في وصفك ذكر فيها ما آتاك الله وفضلك به من شرف أعراقك، وكرم أخلاقك وعلو همتك، وصدق حدسك وصواب رأيك، وبركة نظرك، وظهور غنائك، وخصب فنائك، ومحبة أوليائك، وكمد أعدائك، وصباحة وجهك، وفصاحة لسانك، ونبل حسبك، وطهارة غيبك، ويمن نقيبتك، ومحمود شيمتك، ودقيق ما أودع الله فيك، وجليل ما نشر الله عنك، وغريب ما يرى منك، وبديع ما ينتظر لك من المراتب العلية، والخيرات الواسعة والدولة الوادعة، وهي تصل إلى مجلسكم في غد أو بعده - إن شاء الله - وكان هذا منه قياماً بالواجب، فإنك نعشت روحه وكان خفت، وبصرته وكان عشي؛ وأنبت جناحه وكان قد حص، بالرسم الذي وصل إليه لأنه كن قنط منه وهو قنوطٌ، وسمعته مراراً: من يذكرني وقد مضى الملك - رضوان الله عليه - ومن يخلفه في مصلحتي، ويجري على عادته معي؟ ومن يسأل عني، ويهتم بحالي؟ هيهات، فقد والله بالأمس من يطول تلفتنا إليه ويدوم تلهفنا عليه إن الزمان بمثله لبخيل كان والله شمس المعالي وغرة الزمن وحامل الأثقال، وملقتى القفال، ومحقق الأقوال والأفعال، ومجرى لجم الأحوال على غاية الكمال؛ كان والله فوق المتمنى، وأعلى من أن يلحق به نظير، أو يوجد له مماثل؛ لذته لمحٌ في تهذيب الأمور، وهواه وقفٌ على صلاح من في إصلاحه صلاح ونفي من في نفيه تطهير؛ ولولا أن عمر الفتى الأريحي قصير، لكنا لا نبتلى بفقده، ولا نتحرق على فوت ما كان لنا بحياته؛ الدنيا ظلوم، والإنسان فيها مظلوم.
فلما وصل إليه ذلك الرسم - وهو مائة دينار - وحاجته ماسة إلى رغيف، وحوله وقوته قد عجزا عن أجرة مسكنه، وعن وجه غدائه وعشائه عاش.
ومما زاد في حديث الرسم أنه وصل إليه مع العذر الجميل، والوعد العريض الطويل؛ ولو رأيته وهو يترفل ويتحنك لعجبت. فقال: سررتني لسروره بما كان مني، وإن عشت كففت الزمان عن ضيمه، وفللت عنه حد نابه، ولولا الضمانة مانعةٌ عن نفسه، وتمنع معها بنفسه؛ لغشي هذا المجلس فيكم فاستأنس وآنس، ولكنه على حال لا محتمل له عليها، ولا صبر عليه معها؛ أتحفظ ما قال البديهي فيه؟ قلت: نعم، قال: أنشدنيه، فرويت:
أبو سليمان عالمٌ فطن ... ما هو في علم بمنتقص

.... يتبع


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: الإمتاع والمؤانسة .. لأبي حيان التوحيدي
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
حيان شرارة: الحياة الرمزية عادل صالح الزبيدي منبر الآداب العالمية. 0 09-26-2017 07:27 PM
خيط دخان ...و( يحكى أن ) فاطمة جلال منبر القصص والروايات والمسرح . 5 03-20-2015 06:45 PM
أبو حيان التوحيدي /نقد ماجد جابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 10 03-15-2012 11:50 AM
فن رائع من دخان احراق عود الثقاب تيمه الشمري منبر الفنون. 1 04-19-2011 12:11 AM
خداج..اعتذارٌ عن (الإرضاع والمؤانسة واخصهم عددا) عمر ابو غريبة منبر الشعر العمودي 0 09-21-2010 11:42 PM

الساعة الآن 06:24 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.