احصائيات

الردود
7

المشاهدات
4805
 
ريم بدر الدين
عضو مجلس الإدارة سابقا

اوسمتي


ريم بدر الدين is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
4,267

+التقييم
0.68

تاريخ التسجيل
Jan 2007

الاقامة

رقم العضوية
2765
08-06-2010, 01:47 PM
المشاركة 1
08-06-2010, 01:47 PM
المشاركة 1
افتراضي من الأدب الياباني

نشرت في مجلة العربي الكويتية يناير / 2006
يوميورا ( قصة مترجمة ) / ياسوناري كاواباتا*

**
أقبلت ابنته تاجي لتبلغه بأن بالباب امرأة تقول إنها قد التقته منذ ثلاثين عاماً في يوميورا بجزيرة كيوشو. فكّر كوزومي شوزوكي في الأمر لحظة, وقرّر ادخال المرأة إلى غرفة الاستقبال.

قدم زوار غير منتظرين كل يوم تقريباً للقاء الروائي كوزومي شوزوكي, وحتى في الوقت الراهن كان هناك ثلاثة ضيوف في غرفة الاستقبال. وقد أقبل هؤلاء الضيوف بصورة منفصلة, ولكنهم كانوا جميعاً يتجاذبون أطراف الحديث. وكانت الساعة الثانية من بعد ظهر يوم دافيء, بصورة غير مألوفة, بالنسبة لبداية ديسمبر.

انحنت الزائرة الرابعة, المرأة, في القاعة, خارج الباب الذي فتحته مباشرة, وقد بدا جلياً أنها تشعر بالحرج أمام الضيوف الآخرين.

قال كوزومي: (ادخلي, رجاء!).

قالت المرأة بصوت يرتجف تقريباً: (حقاً, حقاً, لقد انقضى وقت طويل, اسمي الآن مورانو, ولكننا عندما التقينا كان اسمي تاي. ربما تتذكر ذلك?).

تطلع كوزومي إلى محيا المرأة, كانت قد تجاوزت الخمسين قليلاً, لكنها بدت أصغر من سنها, وكانت الحمرة تحف بخديها الشاحبين, وعيناها لاتزالان نجلاوين, على الرغم من عمرها. ولاشك في أن هذا يرجع إلى أنها لم تصبح مترهلة القوام في أواسط عمرها, كما يحدث للناس غالباً.

- تماما كما اعتقدت, إنك الرجل الذي التقيته, لاشك في ذلك.

قالتها المرأة, وقد تألقت عيناها سروراً, فيما مضت تحدق في كوزومي, وكان هناك حماس في نظرتها المحدقة غاب عن نظرة كوزومي, فيما هو يتطلع إليها, محاولاً تذكر من عساها تكون. أضافت:

- إنك لم تتغير على الإطلاق حقاً. أتراك تغيرت? الخط الممتد من أذنك إلى فكك, نعم, وهنالك - المنطقة المحيطة بحاجبيك - إنها كما لو كانت تماماً..

أشارت إلى كل ملمح من ملامحه, واحداً إثر الآخر, كما لو كانت تتلو وصفاً لشخص غائب أو مطلوب, فأحس كوزومي بالحرج, وبالقلق قليلاً لافتقاره إلى الذاكرة.

كانت المرأة ترتدي سترة هاوري سوداء, وقد زخرف شعار عائلتها عليها في مواضع عدة, ومعها كيمو وأوبي مما يلفت الأنظار. وكانت ملابسها جميعها مستخدمة كثيراً, ولكن ليس بما يكفي للايحاء بأن عائلتها قد تردت إلى أوقات صعبة. وكان قدها صغيراً, وكذلك محياها, ولم تكن تتجمل بخواتم في أصابعها القصيرة.

- قبل ثلاثين عاماً خلت, جئت إلى مدينة يوميورا, أم تراك قد نسيت? كنت من رقة الحاشية بحيث جئت إلى غرفتي. وكان ذلك في يوم مهرجان المرفأ, حوالي المساء.

- إحم..

إذ سمع كوزومي أنه كان قد مضى إلى غرفة المرأة الشابة - لم يكن هناك شك في أنها كانت جميلة - فقد حاول مجدداً أن يتذكرها. قبل ثلاثين عاماً كان كوزومي في الرابعة والعشرين أو الخامسة والعشرين من عمره, ولم يكن متزوجاً بعد.

- كنت مع كيدا هيروشي وأكياما هيسارو. وكنتم قد توقفتم أنتم الثلاثة في نجازاكي, حيث كنتم ترتحلون في جزيرة كيوشو, وقد دعوناكم لحضور احتفال كان يقام بمناسبة تأسيس صحيفة صغيرة في يوميورا.كان كيدا هيروشي وأكياما هيسارو كلاهما قد توفيا, ولكنهما في حياتهما كانا روائيين يكبرانه بعشر سنوات, كاتبين صادقاه وشجعاه منذ كان في الثانية والعشرين أو الثالثة والعشرين من العمر. وقبل ثلاثين عاماً كانا روائيين من الطراز الأول, وكان صحيحاً أنهما أمضيا بعض الوقت في نجازاكي حوالي ذلك الزمن, وتذكر كونرومي يومياتهما عن تلك الرحلات والطرائف التي حدثاه بها عنها, وهي يوميات وطرائف من المؤكد أنها كانت معروفة للجمهور الأدبي.

لم يكن كوزومي واثقاً من أنه قد دُعى للمضي في تلك الرحلة إلى نجازاكي - كان في ذلك الوقت يستهل مسيرته في الدنيا - ولكن فيما هو يبحث في ذكرياته عن كيدا وأكاياما, هذين الاثنين اللذين كانا بمنزلة قدوة بالنسبة له, رجلين أثرا فيه أعمق الأثر, نهض محياهما أمامه مراراً وتكراراً - تذكر الأيادي البيضاء العديدة التي قدماها له - واجتذب إلى حالة مزاجية رقيقة ولطيفة من التذكر. ولابد أن التعبير المرتسم على محياه قد تغيّر, فقد تحدثت المرأة.

قالت, وقد تغير صوتها كذلك:

- لقد تذكرت. أليس كذلك? كنت قد قصصت شعري قصيراً للغاية لتوي, وقد حدثتك بمدى شعوري بالحرج, ومدى إحساسي بالبرد من أذني إلى قفاي, كان الخريف قد انتهى بالكاد, لابد أن الأمر كان كذلك.. كانت تلك الصحيفة قد تأسست لتوها في المدينة, وقد استجمعت أطراف شجاعتي, وقصصت شعري قصيراً, لكي أستطيع أن أكون محررة ميدانية, وفي كل مرة تقع عيناك على عنقي كنت ألتفت كأنما لدغت, لأخفيه عنك. أوه, إنني أتذكر كل شيء بصورة جيدة للغاية! وقد رجعت إلى غرفتي معي, وفي التو فتحت علبة شرائط, وأريتك الشرائط بداخلها. وأحسب أنني لابد أنني قد أردت أن أقدم لك الدليل على أن شعري كان طويلاً, وأنني كنت أربطه بالشرائط حتى يومين أو ثلاثة أيام مضت. وقد دهشت للعدد الكبير من الشرائط الذي كان هناك, ولكنني في حقيقة الأمر طالما أحببت على الدوام الشرائط منذ كنت صغيرة.

لزم الضيوف الثلاثة الآخرون الصمت, وكانوا جميعاً قد ناقشوا مع كوزومي الأمور التي قدموا للتداول بشأنها, ولكن لما كان هناك ضيوف آخرون, فقد جلسوا في استرخاء, متحدثين عن هذا وذاك, عندما وصلت المرأة. وكان من المناسب فحسب أن يدعوا كوزومي لهذه الزائرة التالية, وأن يسمحوا له بالحديث معها, ولكن كان هناك في أسلوبها ما أجبرهم على التزام الصمت. وقد تجنب الزوار الثلاثة حقاً النظر إلى محياها, أو إلى وجه كوزومي, وعلى الرغم من أنه كان بمقدورهم سماع ما يقال, فإنهم حاولوا الظهور بمظهر من لا يستمع بصورة مباشرة.

- عندما انتهى الاحتفال الذي أقامته شركة الصحيفة, مضينا في شارع بالبلدة يفضي مباشرة إلى المحيط. كان هناك غروب بدا أنه قد ينفجر متحولاً إلى لهب في أي لحظة. لن أنسى ما قلته آنذاك, من أنه حتى أحجار القرميد على الأسطح بدت قرمزية. رددت بأن يوميورا مشهورة بمشاهد الغروب فيها, وكان ذلك صحيحاً, فحتى الآن ليس بوسعي نسيانها. ذلك كان اليوم الذي التقينا فيه, ذلك اليوم بغروبه الجميل, كان المرفأ صغيراً, مصمماً على شكل قوس, وبدا كما لو كان منحوتاً في الساحل, هنالك تحت الجبال, وذلك هو السر في أنه يسمى يوميورا, أي الخليج المقوس. وألوان الغروب كلها تتجمع هناك, في ذلك المكان المجوف. في ذلك اليوم بدت السحب العالية المتموجة في السماء عند المغيب أقرب إلى الأرض من السحب التي يراها المرء في أي مكان آخر. وبدا الأفق البعيد فوق المحيط دانياً على نحو غريب, بدا مثل أسراب من طيور سوداء تهاجر ولايتاح لها مجال كاف لتشق طريقها إلى الجانب الآخر من السحب. ولم يبد أن ألوان السماء تنعكس حقاً في المحيط, بل بدا كما لو أن اللون القرمزي قد انصب في المحيط الصغير في المرفأ فقط, وليس في أي موضع آخر. وكان هناك مركب مما يستخدم في المهرجانات مزينة بالاعلام كان الناس على متنها يقرعون الطبول, ويعزفون على النايات, وكان هناك على متنها طفل, وقد قلت إنك إذا أوقدت عود ثقاب قرب الكيمونو الأحمر الذي يرتديه الطفل, فإن المحيط بكامله والسماء سوف يتقدان في التو لهباً, باندفاعة مفاجئة. هل تذكر?

- نعم, أعتقد أنني ربما أذكر..

- منذ اقتراني بزوجي, فإن ذاكرتي فيما يتعلق بالأشياء غدت سيئة, للغاية, بحيث إنها تثير الشفقة. وأحسب أنه ليس هناك شيء من نوعية أن تكون سعيداً للغاية بحيث يمكنك أن تقرر ألا تنسى. وأنا أعرف أن أناساً سعداء ومشغولين مثلك ليس لديهم الوقت بحيث يسترخون مفكرين في الأيام الكئيبة العائدة للماضي, وأنت بالطبع لست بحاجة إلى ذلك حقاً.. ولكن يوميورا كانت أجمل مدينة عرفتها طوال حياتي.

تساءل كوزومي:

- هل قضيت الكثير من الوقت في يوميورا?

- أوه, لا. لقد تزوجت, ومضيت إلى نومازو, بعد ستة أشهر فقط من لقائنا. وقد تخرج ابننا الأكبر في الجامعة, وهو يعمل الآن, أما ابنتنا الصغرى, فهي كبيرة بما يكفي لان نعلق الآمال على العثور على زوج لها. لقد ولدتُ في شيزوكو, ولكنني لأنني لم أساير زوجة أبي, فقد تم إرسالي للإقامة مع أقارب في يوميورا. وكنت توَّاقة للعثور على طريقة للتمرد, وفور وصولي مضيت للعمل في الصحيفة. وقد تم استدعائي وتزويجي, عندما اكتشف والداي جلية الأمر, وهكذا فإنني لم أقض في يوميورا إلا سبعة شهور.

- وزوجك..

- إنه كاهن في مزار شنتوي في نومازو

لم تكن هذه هي نوعية المهنة التي كان كوزومي يتوقعها, ولذا فقد رفع ناظريه إلى محيا المرأة. وربما كان التعبير التالي عتيقاً, وربما انتهى باعطاء القاريء انطباعاً غير موات عن تسريحة المرأة, ولكن شعرها كان مصففاً بأسلوب قصة فوجي الجميلة, وقد اجتذبت عيني كوزومي إليها.

- اعتدنا أن نعيش حياة رخية في ضوء كونه كاهناً, ولكن بعد الحرب غدت الأمور أشد صعوبة بصورة يومية حتى الآن. ولايزال ابني وابنتي يقفان إلى جانبي, ولكنهما يجدان كل أنواع السبل لتحدي أبويهما. استشعر كويزومي افتقار عائلة المرأة للتناغم فيما بينها.

- المزار الواقع في نومازو ضخم للغاية بحيث إنه لا موضع لمقارنته بالمزار في ذلك المهرجان في يوميورا, وبالطبع فكلما كان المزار أضخم غدت إدارته أصعب. ولدينا بعض المشكلات الآن لأن زوجي قرّر بيع عشر أشجار أرز تقع وراء المعبد من دون استشارة أحد. وقد هربت, وجئت إلى هنا, إلى طوكيو.

-.......

- الذكريات شيء ينبغي أن نكون ممتنين له. ألا تعتقد ذلك? وأياً كانت الظروف التي ينتهي الأمر بالناس إلى الوصول لها, فإنه يظل بوسعهم تذكر أمور تنتمي إلى الماضي, وأعتقد أن تلك هبة منحتها لنا الآلهة. وكان هناك الكثير من الأطفال في المزار على الطريق الهابط مخترقاً يوميورا, ولذا فقد اقترحت أن نواصل المسير من دون توقف. ولكن على الرغم من ذلك فقد كان بوسعنا أن نرى تفتح زهرتين أو ثلاث على شجيرة الكاميليا قرب المرحاض, زهور ربمايقال لها (بتلات مزدوجة) مازلت أتذكر شجيرة الكاميليا تلك في بعض الأحيان, حتى الآن, وأفكر كم كان شخصاً رقيقاً على نحو رائع ذلك الذي غرسها.

كان من الجلي أن كوزومي قد ظهر كشخصية في أحد المشاهد في ذكريات المرأة عن يوميوراً, انبعثت صور شجيرة الكاميليا تلك وذلك المرفأ الذي يشبه القوس في ذهن كوزومي كذلك الآن, وقد استنهضها فيما يبدو ماقالته المرأة. ولكن ضايقه أنه لم يستطع العبور إلى ذلك البلد في عالم الذكرى, الذي تعيش فيه المرأة. كانا معزولين أحدهما عن الآخر, كعزلة الأحياء والموتى في ذلك البلد الآخر. كانت ذاكرة كوزومي أضعف من ذاكرة معظم من هم في مثل عمره. وفي بعض الأحيان كان يتحدث طويلاً مع أناس يعرف وجوههم, غير أنه لا يستطيع تذكر أسمائهم, وفي حقيقة الأمر أن ذلك كان طوال الوقت. وكان عدم الارتياح الذي يشعر به في مثل تلك الأوقات يختلط بالخوف. وفيما كان يحاول بلا نجاح استدعاء ذكرياته عن المرأة, بدأ رأسه يؤلمه.

- عندما أفكر في الشخص الذي غرس شجيرة الكاميليا تلك, يبدو لي أنني كان ينبغي أن أجعل غرفتي هناك في يوميورا أجمل قليلاً. ولكنني لم أفعل ذلك, وهكذا فقد جئت إليها تلك المرة الواحدة, ثم مرت ثلاثون سنة من دون أن نلتقي. وذلك على الرغم من أنني لكي أقول الحقيقة قمت بتجميل حجرتي قليلاً حتى في ذلك الوقت لأجعلها تبدو أقرب إلى غرفة امرأة شابة.

لم يستطع كوزومي تذكر شيء على الإطلاق عن غرفتها. وربما تشكلت التجعيدات على جبينه, ربما غدا التعبير المرتسم على محياه قاسياً قليلاً, ذلك أن كلمات المرأة التالية أظهرت أنها تتأهب للانصراف.

- لابد لي من الاعتذار عن قدومي بهذه الصورة المفاجئة للغاية, كان ذلك شيئاً بعيداً عن التهذيب.. لكنني أردت أن أراك على امتداد وقت طويل للغاية, وكان قدومي إلى هنا مبعث سرور لي حقاً - أتساءل عما إذا كان شيء آخر يمكنه جعلي أكثر سعادة من هذا - هل يثير انزعاجك أن أزورك مجدداً في وقت ما? - إذا كان ذلك بمقدوري - فهناك بعض الأمور التي أود مناقشتها معك.

- سيكون ذلك أمراً طيباً.

أوحت نبرة صوت المرأة بأن هناك شيئاً تتكتمه, شيئاً ترددت في قوله أمام الضيوف الآخرين. وعندما خرج كوزومي إلى القاعة ليودعها, وفي اللحظة التي أوصد الباب وراءها, تركت جسمها المشدود يتراخى. لم يستطع كوزومي إلا بالكاد تصديق عينيه, فتلك هي الطريقة التي تسيطر بها المرأة على جسمها عندما تكون مع رجل كانت تعرفه.

- أكانت تلك ابنتك التي رأيتها قبل قليل?

- أجل.

- أخشى أنني لم أر زوجتك..

سار كوزومي خارجاً إلى الدهليز, متقدماً المرأة من دون أن يحير رداً. رد عليها, فيما كانت تنحني لانتعال خفيها في الدهليز:

- هكذا فقط قطعت الطريق كله إلى غرفتك في مدينة تدعى يوميورا.

التفتت المرأة قائلة:

- نعم. لقد طلبت مني الزواج, في غرفتي.

- ماذا?

- كنت مخطوبة لزوجي في ذلك الوقت, وقد قلت لك ذلك, ورفضت. لكن..

بدا الأمر كما لو أن قلب كوزومي قد اخترقه مسمار. فبغض النظر عن مدى السوء الذي وصلت إليه ذاكرته, فإن التفكير في أنه قد نسى تماماً أن يكون قد تقدم لخطبة فتاة, أن يعجز تقريباً عن تذكر تلك الفتاة - إنه لم يشعر حتى بالدهشة, لا - بدا له أمراً بالغ الغرابة. فهو لم يكن قط من نوعية الشبان الذين ينظرون إلى الخطبة باستخفاف.

- كنت من الرقة بحيث تفهمت الظروف التي جعلت من الضروري بالنسبة لي أن أرفض.

قالتها المرأة, وقد امتلأت عيناها النجلاوان بالدموع, ثم ارتجفت أصابعها القصيرة, وأخرجت صورة من حقيبتها.

- هذان ابناي. ابنتي أطول كثيراً مما كنت عليه, ولكنها تبدو شبيهة إلى حد بعيد بما كنت عليه في مقتبل العمر.كانت الشابة صغيرة القد في الصورة, ولكن عينيها تألقتا على نحو مشع, وكان لها محيا جميل. وحدَّق كوزومي في الصورة, محاولاً حمل نفسه على تذكر لقاء شابة مثل هذه قبل حوالي ثلاثين عاماً خلال رحلة, بعد أن تقدم لخطبتها.

- سأحضر ابنتي في وقت ما, إذا لم يكن في ذلك ازعاج لك, وعندئذ وإذا أحببت فإن بمقدورك رؤية ما كنت أبدو عليه. بدا كما لو أن الدموع قد اختلطت بصوت المرأة, أضافت:

- قلت لابني وابنتي كل شيء, ولذا فإنهما يعرفان كل شيء عنك, وهما يتحدثان عنك كما لو كنت صديقاً قديماً. لقد عانيت ميلاً فظيعًا إلى القيء مرتين, وفي بعض الأحيان كانت مسحة من جنون تستبد بي, ولكن مع تحسن حالة الميل إلى القيء, في حوالي ذلك الوقت الذي يبدأ الجنين في التحرك, الأمر غريب, ولكنني على نحو ما كنت أبدأ في التساؤل عما إذا لم يكن الطفل من صلبك. وفي بعض الأحيان في المطبخ كنت أشحذ سكيناً.. لقد أبلغت ابني بذلك كله أيضاً.

- أنت.. إنك لا تفعلين ذلك أبداً..

عجز كوزومي عن مواصلة الحديث..

على أية حال, بدا أن المرأة قد عانت أشد المعاناة بسبب كوزومي. بل إن عائلتها قد عانت كذلك.. أو ربما, من جانب آخر, أن حياة قوامها المعاناة البالغة قد غدت أيسر بالنسبة لها بفضل ذكرياتها عن كوزومي. وحتى عائلتها قد تأثرت.

لكن ذلك الماضي - لقاءها غير المتوقع بكوزومي في مدينة تدعى يوميورا - قد واصل بالفعل الحياة بقوة في أعماقها, بينما في حاله كوزومي, الذي اقترف نوعاً من الخطيئة, انطفأ, وضاع تماماً.

- هل أترك الصورة لك?

رد كويزومي على سؤال المرأة بهز رأسه, وقال:

- لا, لا تفعلي ذلك!

مضت المرأة ضئيلة الجرم بخطى قصيرة عبر البوابة, ثم اختفت فيما وراءها.

التقط كوزومي خريطة تفصيلية لليابان, وكتاباً أُدرجت فيه أسماء كل مدن البلاد وبلداتها وقراها من أحد رفوف المكتبة, وجلبه إلى غرفة الجلوس. وجعل الزوار الثلاثة يبحثون نيابه عنه,لكنه وأياً منهم لم يتمكنوا من العثور على بلدة اسمها يوميورا في أي مكان من جزيرة كيوشو.

- أمر غريب للغاية.

قالها كوزومي, ثم أغمض عينيه, وراح يحدِّث نفسه: (لست أتذكر أنني ذهبت إلى كيوشو أبداً قبل الحرب. لا, إنني على يقين من أنني لم أفعل ذلك. ذلك صحيح. لقد أُرسلت على متن طائرة إلى قاعدة تابعة للقوات الهجومية الخاصة في شيكايا خلال المعركة التي دارت في أوكيناوا - ذهبت كمراسل للبحرية - وكانت تلك هي المرة الأولى التي ذهبت فيها إلى كيوشو. وكانت المرة التالية عندما ذهبت لرؤية نجازاكي بعيد إلقاء القنبلة النووية. وكان ذلك هو الوقت الذي سمعت فيه بالقصص التي دارت حول السيد كيرا والسيد أكياما, حول قدومهما إلى هناك قبل ثلاثين عاماً, من أناس في نجازاكي.

طرح الضيوف الثلاثة عدداً من الآراء حول خيالات المرأة أو أوهامها ضاحكين طوال الوقت. وكانت الخلاصة, بالطبع, هي أنها مجنونة. ولكن كوزمي لم يستطع منع نفسه من التفكير في أنه مجنون بدوره. فقد جلس مصغياً إلى قصة المرأة, ما بين مصدق ومكذب أن ما قالته كان حقيقياً, وراح يبحث في أغوار ذاكرته. وقد تصادف أنه في تلك الحالة لم تكن هناك بلدة تدعى يوميورا, ولكن من عساه يمكنه القول أي قدر من ماضي كوزومي يتذكره الآخرون على الرغم من أنه هو نفسه قد نسيه, ولم يعد موجوداً في أعماقه. من المؤكد تقريباً أن المرأة التي جاءت في ذلك اليوم ستواصل الاعتقاد, حتى بعد موت كوزومي, أنه قد خطبها في يوميورا. أياً كان ما ستمضي عليه الاوضاع, فالأمر سيان.


----------------------
* كاتب من اليابان
** مترجم من مصر














قديم 08-06-2010, 01:49 PM
المشاركة 2
ريم بدر الدين
عضو مجلس الإدارة سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: من الأدب الياباني
الصمت ( قصة مترجمة )
نشرت في مجلة العربي الكويتية بتاريخ 1/1/ 2004

يقال إن أوميا أكيفوسا لن ينبس ببنت شفة مجدداً أبداً, يقال إنه لن يكتب حرفاً من جديد أبداً, على الرغم من أنه روائي, ولا يزال في السادسة والستين من عمره فحسب. وليس المراد بهذا أنه لن يكتب روايات بعد الآن, وإنما أنه لن يكتب حرفاً واحداً.

أصيبت يمين أكيفوسا, وغدت بلا جدوى, تماماً كلسانه, لكنني سمعت أن بمقدوره تحريك يسراه قليلاً, ولذا وجدت أن من المعقول افتراض أن بوسعه الكتابة إذا أراد ذلك, وحتى مع التسليم بأنه سيجد من المستحيل كتابة فقرات إضافية, فإنه لا يزال يبدو من المحتمل أن بوسعه كتابة كلمات بحروف العامية اليابانية لدى رغبته في إنجاز شيء ما لأجله.

وبما أنه عاجز الآن عن الحديث ـ بما أنه عاجز عن الإشارة أو الإيماء بحرية ـ فإن كتابة أكثر حروف العامية التواء من شأنها السماح له بتوصيل أفكاره ومشاعره بطريقة يستحيل إنجازها بخلاف ذلك, ومن المؤكد أن ضروب سوء الفهم ستكون أقل حدوثاً.

أياً كان غموض الكلمات, فإنها أسهل يقيناً في تفهمها من لغة الجسد المرتبكة أو الإيماءات الملتبسة. وحتى إذا تم الافتراض أن أكيفوسا العجوز قد أفلح في إيضاح أنه يريد احتساء شيء ما بضم شفتيه على نحو يوحي بالامتصاص, على سبيل المثال, أو تقليد عملية رفع قدح إلى فمه, موضحاً فحسب أنه يريد ماء أو شاياً أو حليباً أو دواء, إنه يبغي أياً من هذه السوائل الأربعة, حتى ذلك من شأنه أن يكون صعباً, فكيف يميز بين الماء والشاي? لسوف يكون ما يريده واضحاً تمام الوضوح إذا كتب (ماء) أو (شاياً) بل إن حرف (م) أو (ش) يمكن أن ينقل الرسالة.

من الغريب, أليس كذلك? أن رجلاً كسب قوته, على امتداد أربعين عاماً, باستخدام الحروف والعلامات لكتابة كلمات, الآن وقد أوشك على أن يفقد كلية تقريباً تلك الحروف والعلامات وبالتالي وصل إلى تفهم القوى التي تحظى بها بأعمق المعاني وبأعظم قدر ممكن من اليقين, الآن وقد غدا بمقدوره استخدامها بمثل هذه المعرفة العميقة, من الغريب, أليس كذلك? أن يحرم نفسه من استخدامها, إن حرف (م) وحده أو حرف (ش) وحده قد يساوي ما يزيد على كل الفيض, الفيض الهائل حقاً من الكلمات والحروف التي كتبها طوال عمره, ذلك الحرف الواحد قد يكون عبارة أكثر بلاغة, عملاً أكثر أهمية, وقد يحظى بقوة أكبر.

حدثت نفسي بأنني ربما أحاول قول هذا لأكيفوسا العجوز عندما أزوره, حينما يمضي المرء بالسيارة من كاماكورا إلى زوشي, فإنه يجتاز نفقاً, وليس الطريق بالذي يدخل الكثير من البهجة على النفس, فهناك محرقة للجثث قبيل النفق, ويتردد أن شبحاً قد ظهر هناك, أخيراً, شبح امرأة في مقتبل العمر تستقل السيارات التي تمر غير بعيد عن المحرقة ليلاً, هكذا يقال في القصة التي تتردد في هذا الشأن.

كان النور سيظل منتشراً, ولذا لم يكن هناك ما يدعو للقلق, ولكنني مع ذلك سألت سائق سيارة الأجرة, الذي بدا مألوفاً, عما يعلمه عن هذا الموضوع.

قال السائق: (لم أصادفها بنفسي بعد, ولكن هناك أحد الأشخاص في شركتنا أقلها بسيارته. والأمر لا يقتصر على شركتنا فحسب, وإنما هي قد ركبت سيارات أجرة تابعة لشركات أخرى كذلك, وقد رتبنا الأمر بحيث نصطحب مساعداً إذا مضينا في هذا الطريق ليلاً). ومن خلال الحكم استناداً إلى طريقته في الحديث, فإنه قد كرر هذه القصة عدداً كافياً من المرات ليجعله يشعر بالسأم من سردها.

ـ أين تظهر?

ـ أين حقاً, إنها تظهر على الدوام في السيارات التي تعود خاوية من زوشي.

ـ إنها لا تظهر عندما يكون هناك أناس في السيارة?

ـ طيب, ما سمعته هو أنها تظهر في السيارات التي تعود خاوية. أحسب أنها تنسل منسابة إلى السيارة قرب المحرقة. ومما ترامى إلى سمعي فالأمر ليس قوامه أنك توقف السيارة فتبادر هي إلى ركوبها كذلك, فأنت لا تعلم متى تنسل إلى السيارة, وإنما السائق يساوره شعور مفارق للمألوف, فيلتفت إلى الوراء, وإذا هنالك في السيارة تلك الشابة في مقتبل العمر, ولكن بما أنها شبح فإنها لا تنعكس على صقال المرآة التي ترصد المشهد الخلفي.

ـ ذلك أمر محير, أحسب أن الأشباح لا تنعكس صورها على صقال المرايا?

ـ أحسب أنها لا تنعكس. يقولون إنها لا انعكاس لها, حتى إذا كان بمقدور عيون البشر رؤيتها.

ـ نعم, ولكنني أحسب أن عيون البشر يمكن أن تراها. أليس كذلك? المرايا ليست لاقطة على نحو دقيق.

هكذا قلت. ولكن العيون المتطلعة إلى المرآة هي, بالطبع, عيون بشرية. أليست كذلك?

قال السائق:

ـ لكن من رأوها ليسوا شخصاً أو اثنين فحسب.

ـ ما طول المسافة التي تركب خلالها السيارة?

ـ حسن. إن الخوف يستبد بك, ويبدو الأمر كما لو أنه أصابك نوع من الدوار, ولذا فإنك تشرع في الانطلاق بالسيارة مسرعاً حقاً, ثم عندما تصل إلى وسط كاماكورا, فإنك تسترخي, وعندئذ تكون قد مضت لحال سبيلها.

ـ لابد أنها من كاماكورا إذن, لابد أنها تريد العودة إلى دارها في كاماكورا, وهم لا يعرفون من تكون.

ـ آه, الآن لا علم لي..

حتى إذا كان يعرف, أو إذا كان هناك بعض الحديث بين سائقي سيارات الأجرة حول من عساها تكون, فإن من المشكوك فيه أن السائق سيكون من عدم الاكتراث بحيث يحدّث راكباً بجلية الأمر.

ـ إنها ترتدي كيمونو, المرأة الشبح. إنها بارعة الحسن, ولا يرجع إدراك ذلك إلى إطلال البعض من فوق أكتافهم, أو ما إلى ذلك, فأنت لا تحدق على وجه الدقة في محيا شبح.

ـ هل تفوهت بأي شيء?

ـ سمعت أنها لا تتحدث, ولسوف يكون أمراً جميلاً أن تقول شكراً على الأقل. أليس كذلك? ولكن, بالطبع, عندما تتحدث الأشباح فإنها تشكو على الدوام.

قبيل دخولنا النفق, تطلعت إلى الوراء عند الجبل الذي تستقر المحرقة عليه. لقد كانت محرقة مدينة كاماكورا, وهكذا فإنه يبدو أن معظم الموتى الذين أحرقوا هناك يرغبون في العودة إلى الدور في كاماكورا. وربما سيكون من الجميل أن تكون امرأة رمزاً لكل أولئك الموتى, الذين يركبون السيارات الخاوية ليلاً. ولكنني لم أصدق القصة.

ـ ما كنت لأصدق أن شبحاً سيحتاج إلى سيارة أجرة. أليس بمقدور الأشباح أن تمضي إلى حيث يطيب لها, وتظهر في أي مكان?

وصلنا إلى دار أوميا أكيفوسا بعيد خروجنا من النفق.

كانت سماء الساعة الرابعة المتشحة بالسحب تضوع, على نحو خفيف, بعبق الدراق, وهو مؤشر يوميً بمقدم الربيع. ترددت للحظة عند بوابة دار أوميا.

لم يسبق لي أن زرت العجوز أكيفوسا إلا مرتين في الشهور الثمانية التي انقضت, منذ أن أصبح هو نفسه نوعاً من الشبح الحي. كانت المرة الأولى بُعيد السكتة التي أصابته. كان أكبر مني بعشرين عاماً, رجلاً أُجله, كاتباً شملني برعايته, وكان من الصعب عليّ أن أراه على هذه الحال, بشعاً, وبائساً, على نحو ما غدا عليه.

لكنني كنت أعرف أنه إذا أصيب اكيفوسا بسكتة ثانية, فإن من المحتمل أن تكون تلك هي النهاية. كنا نقيم في مدينتين متجاورتين, فزوشي وكاماكورا تقع إحداهما على مرمى حجر من الأخرى, على نحو ما نقول, وقد بدأت تثقل على ضميري الحقيقة القائلة إنني أهملت زيارته. ولم يكن عدد الناس الذين رحلوا عن هذا العالم بينما كنت أبحث إمكان زيارتهم ولكنني لم أزرهم بالقليل, بأي حال من الأحوال. وغالباً ما حدث أنني وصلت إلى الاعتقاد بأن تلك هي سنة الحياة. وقد كنت أفكر في أن أطلب من اكيفوسا أن يكتب لي شيئاً على قطعة من ورق من نوعية هانسيتسو, ولكن الفكرة وصلت إلى حد تبدو معه عبثية. وقد حدث هذا الشيء نفسه لي مرات عديدة. ولم يكن الموت المفاجئ بالشيء الذي يمكنني التعامل معه بشكل عرضي, وكنت أدرك تمام الإدراك أنني نفسي قد أموت في أي لحظة ـ ربما ذات ليلة خلال عاصفة ـ ولم أكن حريصاً على نفسي أشد الحرص.

عرفت مؤلفين آخرين لقوا حتفهم فجأة, من جراء نزيف في الدماغ, أو نوبات قلبية, أو انسداد بالشرايين, ولكنني لم أسمع قط بشخص تم إنقاذه ولكنه شل على نحو ما حدث مع العجوز أكيفوسا. ولو أن المرء نظر إلى الموت باعتباره أعظم بلية على الإطلاق, لكان عليه القول إن أكيفوسا محظوظ إلى أبعد الحدود بمواصلته العيش, حتى على الرغم من أنه يعيش كمريض لا يرجى له شفاء, كرجل معاق, ولكن ذلك الشعور بحسن الطالع كان من الصعب للغاية على معظمنا أن يحسوا به, كما كان من المتعذر علينا أن نحدد ما إذا كان أكيفوسا نفسه يحس بأنه كان محظوظاً.

مرت ثمانية شهور فحسب منذ تعرض أكيفوسا للسكتة, ولكن مما سمعته فإن عدد الناس الذين يزورونه غدا محدود للغاية بالفعل, حيث يمكن أن يكون من الصعب التعامل مع عجوز أصم, ولكن ليس مما يقل عن ذلك صعوبة التعامل مع رجل قادر على السمع, ولكنه لا يستطيع الكلام, فهو يفهم ما تقول له, على الرغم من أنك لا تفهم ما يريد أن يقوله لك. إنه أمر أكثر غرابة من محادثة أصم.

كانت زوجة أكيفوسا قد توفيت في وقت مبكر, لكن ابنته توميكو مكثت معه. كانت هناك ابنتان, لكن الصغرى تزوجت, وغادرت الدار.

أما الابنة الكبرى, توميكو, فقد انتهت بها الحال إلى البقاء في الدار لرعاية أبيها. ولم تكن هناك حاجة حقيقية تدعو إلى أن يتزوج أكيفوسا من جديد, حيث إن توميكو قامت على شئون الدار جميعها, وقد ابتهج حقاً بحرية حياة العزوبية, ولربما يقول المرء لهذا السبب إن توميكو قد اضطرت لتقديم تضحيات معينة لأبيها.

وتشير الحقيقة القائلة إن اكيفوسا, على الرغم من أنه كانت له علاقات عاطفية عديدة, ظل على عزوبيته وأن قوة إرادته كانت من المضاء بحيث تغلبت على عواطفه, أو أنه ربما كان هناك شيء آخر يجري.

كانت الابنة الصغرى فارعة القوام وذات ملامح بديعة على نحو استثنائي, ولكن هذا لم يكن يعني القول إن توميكو كانت من نوعية الشابات اللواتي يتوقع المرء أن يبقين بلا زواج. ولم تعد, بالطبع, فتاة في ميعة الصبا, فقد كانت تدنو من الأربعين, ولذا لم تكن تضع لمسات من مواد التجميل على الاطلاق, لكن المرء يستشعر فيها نقاء. وقد بدت على الدوام إنسانة هادئة, ولكنها لا تتسم بشيء من كآبة العوانس التقليديات ولا ضيقهن, وربما أمدها إخلاصها لأبيها ببعض العزاء.

درج الزائرون على محادثة توميكو بدلاً من أكيفوسا, وكانت تجلس بجوار وسادة أبيها.

أزعجتني رؤية ما وصلت إليه من نحول, وبدا لي أن من الغريب أن تستبد بي الدهشة, الأمر الذي كان معناه أن من الطبيعي بالنسبة لها أن تكون ناحلة, ولكن على الرغم من ذلك فإن رؤيتها تغدو فجأة وقد أوغلت في العمر وغدت ناحلة أثارت الاكتئاب في نفسي, وخطر لي أن الناس في تلك الدار يعانون.

لم يكن هناك ما أقوله, بعد أن تفوهت بالكلمات العبثية التي يقولها من يعود مريضاً, وهكذا انتهى بي الأمر إلى التفوه بشيء ما كان ينبغي أن أقوله:

ـ هناك شائعة تتردد, مفادها أن شبحاً يظهر على الجانب الآخر من النفق. هل سمعت بذلك? لقد سألت السائق عنه وأنا في الطريق إلى هنا. وفي حقيقة الأمر..

ـ أهناك شيء من هذا حقاً? إنني في الدار على الدوام. ولم يتناه إلى سمعي أي شيء.

بدا جلياً أنها ترغب في معرفة المزيد. وهكذا ـ فيما حدثت نفسي طوال الوقت بأنه كان من الأفضل ألا آتي على ذكر هذا الموضوع ـ لخصت لها ما عرفته.

ـ حسن, إنها نوعية من القصص يصعب على المرء تصديقها, على الأقل إلى أن يرى الشبح. بالطبع, قد لا يصدق المرء القصة حتى لو رأى الشبح, ففي نهاية المطاف هناك أوهام دائماً.

ـ ينبغي أن تتحرى الشبح الليلة, يا سيد ميتا, وتكشف ما إذا كان له وجود حقاً!

قالتها توميكو. وكان غريباً منها أن تقول ما تفوهت به.

ـ آه. ولكنه لا يظهر والليل لم يسدل أستاره بعد.

ـ ستكون الشمس قد غربت إذا بقيت لتناول طعام العشاء.

ـ لسوء الحظ أخشى أنني ليس بمقدوري البقاء. وفضلاً عن ذلك فإن شبح المرأة لا يستقل إلا العربات الخاوية.

ـ حسن. إذا كان الأمر كذلك فليس لديك ما يثير القلق? إن أبى يقول إنه مسرور للغاية بقدومك, وإنه يأمل أن تأخذ راحتك. أبي.. لسوف يتناول السيد ميتا طعام العشاء معك. أليس كذلك?

تطلعت إلى العجوز أكيفوسا, فبدا كما لو أنه أومأ برأسه موافقاً على وسادته. هل كان مسروراً لقدومي? بدا بياض عينيه غائماً وموحياً بالإجهاد, وكانت هناك لطخ من الصفار حتى في بؤبؤيه. ولكن بدا أن بؤبؤيه يتألقان من أعماق هذه اللطخ. ولاح أنه سيعاني من سكتته الثانية عندما تندلع تلك التألقات متحولة إلى لهب. بدا أن ذلك يمكن أن يحدث في أي لحظة. وخالجني شعور بعدم الارتياح.

ـ أخشى أنني سأجهد أباك, إذا بقيت وقتاً أطول مما ينبغي, وذلك قد...

قالت يوميكو بوضوح:

ـ لا, أبي لا يشعر بالإجهاد. إنني أدرك أنه أمر غير لطيف مني أن أبقيك هنا مع مريض كأبي, ولكنه يتذكر أنه كاتب بدوره, عندما يكون هنا كاتب آخر.

ـ هو... ماذا?

أدهشني إلى حد ما التغير الذي طرأ على نغمة صوت توميكو, ولكنني أعددت نفسي للبقاء لبعض الوقت.

ـ من المؤكد أن أباك يدرك على الدوام أنه كاتب.

ـ هناك رواية لأبي كنت أفكر فيها كثيراً منذ أصبح على هذه الحال. لقد كتب عن ذلك الشاب الذي أراد أن يصبح كاتباً, كان الفتى يبعث إليه برسائل غريبة كل يوم تقريباً, ثم استبد به الجنون تماماً, فأودعوه في مصح للأمراض العقلية. والأقلام والمحابر تعد خطيرة, وقالوا إن أقلام الرصاص خطيرة أيضاً, ولذا فإنهم لم يتيحوا له الحصول عليها. وكانت أوراق المخطوطات هي الشيء الوحيد الذي سمحوا له بالحصول عليه في غرفته. وكان فيما يبدو على الدوام هناك أمام ذلك الورق, عاكفاً على الكتابة, على الأقل اعتقد أنه يكتب. ولكن الورق ظل على بياضه. إلى هنا كان الأمر من نسج الواقع, أما الباقي فهو رواية أبي. ففي كل مرة كانت أمه تجيء لزيارته, كان يقول لها: (أماه, لقد كتبتها, هل تقرئينها لي? هل تقرئينها لي يا أماه?!) وتنظر أمه إلى المخطوط الذي يعطيها إياه, فلا تجد فيه شيئاً مكتوباً على الإطلاق, فتشعر بالرغبة في الانخراط في البكاء ولكنها تقول: (آه, لقد أحسنت الكتابة, إنها جيدة للغاية. أليس كذلك!) وتبتسم, وفي كل مرة تزوره كان يلح عليها لتقرأ المخطوط على مسامعه, فتشرع في قراءة الصفحة البيضاء عليه. وخطر ببالها أن تروي عليه قصصاً من بنات أفكارها, جاعلة الأمر كما لو كانت تقرأ المخطوط. تلك هي الفكرة الرئيسية الكامنة وراء رواية أبي, وتحدث الأم الفتى عن طفولته. ولا شك في أن الفتى المجنون يعتقد أنه يجعل أمه تقرأ نوعاً من التسجيل لمذكراته, شيئاً كتبه هو نفسه, ذلك هو ما يعتقد أنه يصغي إليه, فتتألق عيناه بالفخر, وليست لدى أمه فكرة عما إذا كان يفهم ما تقوله من عدمه, ولكنها في كل مرة تزوره تكرر القصة ذاتها وتتحسن أكثر فأكثر في سردها, فهي تبدأ في الظهور بمظهر من تقرأ بالفعل قصة ابنها, وهي تتذكر أموراً كانت قد نسيتها, ويتزايد جمال مذكرات الابن, والابن يجتذب قصة الأم من مغاور الذاكرة, ويساعدها, ويغير القصة. وما من سبيل لتحديد رواية من هي, وما إذا كانت رواية الأم أو الابن, وعندما تتحدث الأم ينصب تركيزها على ما تقوله حتى لتنسى نفسها, وهي تتمكن من نسيان ان ابنها مجنون, فما دام أنه يصغي إليها بتركيز كامل, فليس هناك من سبيل إلى معرفة ما إذا كان مجنوناً من عدمه, ويمكن إلى حد كبير أن يكون عاقلاً ومجنوناً معاً, والأمر يبدو كما لو أن الأم والابن يحييان في عليين معاً, ويشعران معاً بالسعادة. وفيما هي تواصل القراءة يخيل إليها أن ابنها قد يتحسن, فتواصل قراءة المخطوط المجرد من الكلمات.

ـ تلك هي رواية (ما يمكن للأم قراءته). أليست كذلك? إحدى روائع أبيك. إنها عمل يستعصي على النسيان.

ـ الكتاب مؤلف في صيغة المتكلم. الابن هو البطل, ولكن بعض الأمور التي يتذكرها عن طفولته حدثت بالفعل لأختي ولي عندما كنا صغاراً, وكل ما هنالك أنه جعلها تحدث لصبي..

ـ هل الأمر كذلك?

ـ كانت تلك هي المرة الأولى التي أسمع فيها بهذا الأمر.

ـ أتساءل حقاً عن السر في أن أبي كتب رواية كتلك. هذا الكتاب يخيفني الآن, وقد غدا على هذه الحال. ليس أبي مجنوناً, وليس بوسعي أن أكون مثل تلك الأم واقرأ على مسامعه رواية لم يكتبها. ولكنني أتساءل عما إذا لم يكن ذهنه عاكفاً على تأليف رواية الآن تواً.

خطر ببالي أن توميكو إنسانة غريبة, بمقدورها قول أمور كهذه, على الرغم من أن اكيفوسا العجوز ربما كان يسمع كل كلمة تتفوه بها. ولم أدر كيف أرد على ما قالته.

ـ لكن أباك كتب بالفعل العديد من الأعمال المتميزة, وهو وذلك الفتى ذو العقلية الأدبية مختلفان تمام الاختلاف.

ـ هل تعتقد ذلك? أحسب أن أبي لا يزال يريد أن يكتب.

ـ بالطبع, ليس من شأن الجميع أن يوافق على هذا.

حدثت نفسي بأنني شخصياً أعتقد أنه قد كتب بالفعل ما فيه الكفاية, ولكنني لو كنت في وضع العجوز أكيفوسا لحرت فيما يتعين عليّ فعله.

ـ كل ما في الأمر أنني لا أستطيع الكتابة نيابة عن أبي. سيكون جميلاً لو كان بمقدوري كتابة (ما تستطيع ابنة قراءته) ولكنني لا أستطيع.

بدا لي صوتها كما لو كان صوت شابة في الجحيم. هل تعني الحقيقة القائلة إنها قد تحولت إلى نوعية المرأة التي قالت مثل هذه الأمور إنها من خلال قيامها المستمر على شئون أبيها, الذي كان نوعاً من الشبح الحي قد استحوذ عليها شيء ما بداخله? خطر لي أنها قد تؤلف كتاباً عن ذكريات مروعة, عندما يموت أكيفوسا. وبدأت استشعر كراهية عارمة نحوها.

ـ ماذا لو أنك تحاولين الكتابة عن أبيك?

أحجمت عن إضافة قولي: (بينما هو لا يزال على قيد الحياة) فجأة تذكرت بعض كلمات مارسيل بروست. كان نبيل بعينه قد أساء إلى الكثيرين في يومياته التي تمثل, بعد طول انتظار, للنشر, ولذا كتب يقول: (إنني على شفا الموت, وآمل ألا يمرغ اسمي في الوحل طويلاً حيث إنني سأعجز عن الرد!) ولا يرجع تذكري لهذه الكلمات على الإطلاق إلى أن الحال تشبه حال أكيفوسا وتوميكو, فهما ليسا غريبين بحال, وربما حدث حقاً بينهما تبادل انفعالي غامض, يتجاوز ما يعايشه الآباء والبنات.

أذهلتني الفكرة الغريبة القائلة إن توميكو قد تكتب عن أبيها, كما لو أنها قد أصبحت ذلك الأب.

وسواء أكان الأمر قد أصبح لعبة جوفاء أم عملاً فنياً مؤثراً, فقد بدا أنه في الحالتين كلتيهما يقدم بعض العزاء لهما كليهما, فأكيفوسا ربما يمكن إنقاذه من صمته المطلق, من سحبه إلى الكلمات, والسحب إلى الكلمات هو يقيناً شيء لا يطاق.

ـ سيتمكن أبوك من فهم ما كتبته, ولسوف يكون بمقدورك تقويمه. لن تقرئي صفحة خالية من الكلمات, وإذا ما كتبت حقاً عن أبيك, إذا جعلته يصغي إليك وأنت تقرئين...

ـ هل تظن أنه سيكون عمل أبي? حتى القليل منه...

ـ لا شك في أن بعضه سيكون كذلك, وأي شيء أكثر من ذلك... سيكون وقفاً على مشيئة السماء, وهو ما يعتمد على مدى قربكما انتما الاثنان, ليست لديّ طريقة لمعرفة ما سيكون عليه الأمر.

لكنه بدا بالفعل أن كتاباً يؤلف بمثل هذه الطريقة سيضم حياة تتجاوز كتاب ذكرياته يؤلف بعد وفاة أكيفوسا. ولو أنه مضى على نحو جيد, فإنه حتى نوعية الحياة التي يعيشها الآن يمكن أن تكون ثمينة على صعيد أدبي.

ـ حتى إذا واصل أبوك الصمت, فإنه يظل بمقدوره أن يساعدك, ويظل بإمكانه تصحيح أخطائك.

ـ لن يكون له أي معنى, إذا كان في نهاية المطاف عمليا. يتعين عليّ تدبر الأمر بعناية مع أبي.

تردد صوت توميكو مفعماً بالحياة, وهي تنطق هذه الكلمات.

من جديد بدا أنني قلت أكثر مما ينبغي. أليس ما كنت أقوم به شبيهاً بإرغام جندي جريح على نحو يدعو لليأس على العودة إلى المعركة? ألم يكن ذلك انتهاكاً لحرمة الصمت? لم يكن الأمر كما لو أن أكيفوسا كان عاجزاً عن الكتابة, فقد كان بمقدوره كتابة حروف أو علامات إذا أراد ذلك. ربما كان قد اختار الصمت, اختار ألا ينبس ببنت شفة بسبب حزن عميق, آسف. ألم تعلمني تجربتي أنه ما من كلمة يمكن أن تقول قدر ما يقوله الصمت.

ولكن لئن قدر لأكيفوسا أن يواصل التزام الصمت, ولو قدر لكلماته أن تند عن توميكو ـ ألن يكون ذلك أحد تجليات قوة الصمت أيضاً? ـ إذ لم يحر المرء قولاً فإن آخرين يتحدثون نيابة عنه, كل شيء يتحدث.

ـ أتسمح لي? إن أبي يقول إنني يتعين أن أقدم لك بعض الساكي تواً, عليّ القيام بذلك على الأقل.
انبعثت توميكو واقفة.تطلعت بشكل غريزي إلى أكيفوسا, ولكن لم يكن هناك ما يوحي بأن العجوز قد تحدث.

الآن ها نحن هنا وحدنا, بعد أن غادرت توميكو الغرفة, وهكذا أدار أكيفوسا وجهه نحوي. بدا مكتئباً. ترى هل هناك شيء يود قوله? أو ربما ضايقه أن يوضع في موقف مثير للضيق أحس فيه بأنه يتعين أن يقول شيئاً? لم يكن أمامي خيار إلا أن أتحدث.

ـ ما رأيك فيما يتعلق بما كانت توميكو تقوله?

ـ ...........................

جابهت الصمت, قائلاً:

ـ أشعر يقيناً بأن بمقدورك أن تقدم عملاً يستقطب الاهتمام, مختلفاً تماماً حقاً عن (ما تستطيع الأم قراءته), وقد بدأت في الشعور بذلك فيما كنت أتجاذب أطراف الحديث مع توميكو.

ـ ...........................

ـ إنك لم تكتب أبداً رواية شخصية, أو سيرة ذاتية. ربما الآن, إذ لم يعد بمقدورك الكتابة, فإن استخدام يد شخص آخر لتقديم عمل من ذلك النوع قد يسمح لك بالكشف عن أحد أقدار الفن. إنني لا أكتب عن نفسي, ولا أعتقد أن بوسعي الكتابة عنها حتى إذا حاولت ذلك, ولكنني لو كنت صامتاً, وإذا كان بوسعي الكتابة على ذلك النحو.. فلست أدري ما إذا كنت سأستشعر نوعاً من البهجة كأنما أدركت الحقيقة في نهاية المطاف... لو أنني حدثت نفسي بقولي: أهذا هو أنا? أو أنني سأجد الأمر برمته مثيراً للشفقة, فأتخلى عنه. ولكن أياً كان الأمر, فإنني على يقين من أنه سيكون مثيراً للاهتمام.

ـ ................

عادت توميكو بالساكي وبأطعمة خفيفة.

ـ هل بمقدوري أن أقدم لك مشروباً?

ـ شكراً لك. آمل أن تغفر لي, يا سيد أوميا, احتساء الشراب أمامك, ولكن حسن, شكراً لك.

ـ أخشى أن المرضى من أمثاله لا يتجاذبون أطراف حديث شائق.

ـ كنت بالفعل أواصل مناقشتنا السابقة.

ـ أكنت تقوم بذلك? في حقيقة الأمر إنني كنت أحدث نفسي, فيما عكفت على تدفئة الساكي بأنه قد يكون من المثير للاهتمام أن أقوم بدلاً من أبي بالكتابة عن كل العلاقات العاطفية التي خاض غمارها في السنوات التي أعقبت وفاة أمي, فقد حدثني بكل ما يتعلق به تفصيلاً, بل إن هناك بعض الأمور التي نسيها أبي ومازلت أذكرها.. إنني على يقين, يا سيد مينا, من أن هناك امرأتين اندفعتا إلى هنا عندما انهار أبي.

ـ نعم.

ـ لست أدري ما إذا كان الأمر عائداً إلى أن أبي ظل على هذه الحال لوقت طويل للغاية, أو ما إذا كان راجعاً إلى وجودي هنا, لكن المرأتين كفتا عن المجيء إلى هنا, ومع ذلك فإنني أعرف كل ما هنالك حولهما, فقد أبلغني أبي بكل ما يتعلق بهما.

ـ لكن أباك لا ينظر إلى الأمور على نحو ما تنظرين إليها.

كان هذا أمراً جلياً, ولكن على الرغم من ذلك فإن توميكو بدا عليها الضيق.

ـ من المستحيل عليّ الاعتقاد بأن أبي قد كذب عليّ. ويبدو أنني بمرور الزمن وصلت إلى تفهم مشاعره.

انبعثت واقفة, وأضافت:

ـ لكن لم لا تسأله بنفسك? لسوف أعدّ لتناول طعام العشاء, ثم أعود.

ـ أرجو ألا تزعجي نفسك بشأني!

مضيت مع توميكو, واستعرت قدحاً.

ـ يبدو أن غرامياتك أصبحت ملكاً لتوميكو الآن. أحسب أن تلك هي الطريقة التي يفرض بها الماضي منطقه.

ـ .......................

ربما ترددت في استخدام كلمة (الموت). وربما هذا هو السر في أنني استخدمت كلمة (الماضي).

لكن يقيناً أنه ما دام أكيفوسا العجوز باقيًا على قيد الحياة, فإن الماضي يظل ملكاً له! أم يتعين على المرء التفكير فيه كنوع من الملكية المشتركة?

ـ ربما إذا كان بمقدورنا أن نمنح ماضينا لشخص ما, فإننا سنود أن نمضي قدماً ونهبه له.

ـ ........................

ـ ليس الماضي بالشيء الذي ينتمي إلى أي أحد, ربما أقول إن المرء يمتلك الكلمات التي تستخدم في الحاضر للحديث عن الماضي. ليست كلمات المرء فحسب, فلا أهمية لهوية من يمتلك الكلمات. لا, مهلاً! باستثناء أن اللحظة الراهنة هي عادة لحظة صامتة. أليس كذلك? حتى عندما يتحدث الناس على نحو ما أتحدث الآن, فاللحظة الراهنة لا تعدو أن تكون صوتاً قوامه (أ) أو (ن) أو (م). إنها تظل مجرد صمت بلا معنى. أليس كذلك?

ـ .....................

ـ لا, الصمت بالتأكيد ليس مجرداً من المعنى, على نحو ما قلت أنت نفسك.. أعتقد أنني في وقت ما قبل موتي أود أن أدلف إلى رحاب الصمت, على الأقل لبعض الوقت.

ـ كنت أفكر في هذا قبل قدومي إلى هنا. ولكن يبدو أنه يتعين ان تكون قادراً على كتابة العامية اليابانية على الأقل, ومع ذلك فإنك ترفض أن تكتب حرفاً واحداً. ألا تجد هذا كله أمراً مزعجاً? إذا كان هناك شيء تريد إنجازه, على سبيل المثال, فإنك إذا كتبت حرف (م) إشارة إلى الماء أو حرف (ش) اشارة إلى الشاي...

ـ .................

ـ هل هناك سبب جذري لرفضك الكتابة?

ـ ....................

ـ آه, الآن فهمت. إذا كان الحرفان (م) و(ش) ونحوهما كافية لإنجاز الأمور, فإن الأصوات (أ) و(ن) و(م) لا ينبغي ألا تكون مجردة من المعنى أيضاً, والأمر نفسه ينطبق في حالة كلام الطفل الصغير, فهذا الطفل يدرك أن أمه تحبه. هكذا الأمر في روايتك (ما تستطيع الأم قراءته). أليس كذلك?

الكلمات تضرب جذورها في كلام الطفل الصغير, وهكذا فإنها تضرب جذورها في الحب. ولو أنك قررت كتابة حرف (ش) في كل مرة ترغب في الإعراب عن الشكر, ولو أنك بين الحين والآخر كتبت حرف (ت) لتعني توميكو... عليك فحسب أن تفكر في مدى السعادة التي ستدخلها عليها.

ـ ......................

ـ ربما كان حرف (ت) سيحتوي بداخله من الحب ما يفوق ما تحتويه كل الروايات التي كتبتها خلال الأربعين عاماً الماضية, وربما ستتمتع بقوة أكبر.

ـ ....................

ـ لم لا تتحدث? ربما بمقدورك على الأقل أن تقول: (آه ه ه) حتى لو سال لعابك. لم لا تتدرب على كتابة حرف (أ)?

ـ .......................

كنت على وشك المناداة باتجاه المطبخ, لأطلب من توميكو أن تحضر قلماً وبعض الورق, عندما أدركت فجأة ما أقوم به.

ـ ما الذي أفعله? إنني أخشى أن أكون فقدتُ الوعْي قليلاً... سامحني!

ـ .....................

ـ هأنت قد بذلت قصارى الجهد لتحقق الصمت, ثم أجيء أنا وأزعجك.

ـ .....................

حتى بعد أن عادت توميكو, ساورني الشعور كما لو أنني كنت أهذي, كل ما فعلته كان الدوران حول سور صمت أكيفوسا العجوز.

استخدمت توميكو الهاتف في متجر قريب لبيع الأسماك لاستدعاء السائق الذي أقلني.

ـ يقول أبي إنه يأمل أن تأتي للحديث معه مجدداً بين الحين والآخر.

ـ نعم, بالطبع.

بعد أن رددت عليها بهذا الرد الذي وجدته على لساني, أقلتني السيارة.

ـ أرى أنكما أنتما الاثنان قد جئتما.

ـ لا نزال في مطلع المساء, ولدينا راكب, ولذا فإنني أشك في أنها ستظهر, ولكن على سبيل الاحتياط...

خرجنا من النفق من جهة كاماكورا, وانطلقنا غير بعيد عن المحرقة, وفجأة بدأت السيارة تندفع كما لو كانت تطير.

ـ أهي هنا?

ـ إنها هنا. وهي تجلس بجوارك.

ـ ماذا?

تبددت آثار الكحول, في لمحة عين. نظرت خلسة إلى جانبي.

ـ لا ترعبني على هذا النحو, فلست في حال تسمح لي بمعالجة الأمر!

ـ إنها هنالك, هنالك بالضبط.

ـ كاذب. هدئ السرعة! عليك بذلك, فهذا الانطلاق خطر!

ـ إنها جالسة إلى جوارك مباشرة. ألا تستطيع رؤيتها?

ـ كلا, لا أستطيع ذلك. إنني عاجز تماماً عن رؤيتها.

قلت ذلك, لكنني فيما كنت أقوله بدأت في الشعور ببرد غامر, حاولت أن أبدو شجاعاً, قلت:

ـ لو أنها هنالك حقاً... فماذا تظن... هل أقول لها شيئاً?

ـ لا تنكت على هذا النحو! إن اللعنة تحل بك إذا حادثت شبحاً, فسوف يتلبسك. إنها فكرة مخيفة. لا تفعل ذلك! سيغدو كل شيء على ما يرام إذا لزمت الصمت حتى نقلها إلى كاماكورا.

ياسوناري كاواباتا



قديم 08-06-2010, 01:49 PM
المشاركة 3
ريم بدر الدين
عضو مجلس الإدارة سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: من الأدب الياباني
الصمت ( قصة مترجمة )
نشرت في مجلة العربي الكويتية بتاريخ 1/1/ 2004

يقال إن أوميا أكيفوسا لن ينبس ببنت شفة مجدداً أبداً, يقال إنه لن يكتب حرفاً من جديد أبداً, على الرغم من أنه روائي, ولا يزال في السادسة والستين من عمره فحسب. وليس المراد بهذا أنه لن يكتب روايات بعد الآن, وإنما أنه لن يكتب حرفاً واحداً.

أصيبت يمين أكيفوسا, وغدت بلا جدوى, تماماً كلسانه, لكنني سمعت أن بمقدوره تحريك يسراه قليلاً, ولذا وجدت أن من المعقول افتراض أن بوسعه الكتابة إذا أراد ذلك, وحتى مع التسليم بأنه سيجد من المستحيل كتابة فقرات إضافية, فإنه لا يزال يبدو من المحتمل أن بوسعه كتابة كلمات بحروف العامية اليابانية لدى رغبته في إنجاز شيء ما لأجله.

وبما أنه عاجز الآن عن الحديث ـ بما أنه عاجز عن الإشارة أو الإيماء بحرية ـ فإن كتابة أكثر حروف العامية التواء من شأنها السماح له بتوصيل أفكاره ومشاعره بطريقة يستحيل إنجازها بخلاف ذلك, ومن المؤكد أن ضروب سوء الفهم ستكون أقل حدوثاً.

أياً كان غموض الكلمات, فإنها أسهل يقيناً في تفهمها من لغة الجسد المرتبكة أو الإيماءات الملتبسة. وحتى إذا تم الافتراض أن أكيفوسا العجوز قد أفلح في إيضاح أنه يريد احتساء شيء ما بضم شفتيه على نحو يوحي بالامتصاص, على سبيل المثال, أو تقليد عملية رفع قدح إلى فمه, موضحاً فحسب أنه يريد ماء أو شاياً أو حليباً أو دواء, إنه يبغي أياً من هذه السوائل الأربعة, حتى ذلك من شأنه أن يكون صعباً, فكيف يميز بين الماء والشاي? لسوف يكون ما يريده واضحاً تمام الوضوح إذا كتب (ماء) أو (شاياً) بل إن حرف (م) أو (ش) يمكن أن ينقل الرسالة.

من الغريب, أليس كذلك? أن رجلاً كسب قوته, على امتداد أربعين عاماً, باستخدام الحروف والعلامات لكتابة كلمات, الآن وقد أوشك على أن يفقد كلية تقريباً تلك الحروف والعلامات وبالتالي وصل إلى تفهم القوى التي تحظى بها بأعمق المعاني وبأعظم قدر ممكن من اليقين, الآن وقد غدا بمقدوره استخدامها بمثل هذه المعرفة العميقة, من الغريب, أليس كذلك? أن يحرم نفسه من استخدامها, إن حرف (م) وحده أو حرف (ش) وحده قد يساوي ما يزيد على كل الفيض, الفيض الهائل حقاً من الكلمات والحروف التي كتبها طوال عمره, ذلك الحرف الواحد قد يكون عبارة أكثر بلاغة, عملاً أكثر أهمية, وقد يحظى بقوة أكبر.

حدثت نفسي بأنني ربما أحاول قول هذا لأكيفوسا العجوز عندما أزوره, حينما يمضي المرء بالسيارة من كاماكورا إلى زوشي, فإنه يجتاز نفقاً, وليس الطريق بالذي يدخل الكثير من البهجة على النفس, فهناك محرقة للجثث قبيل النفق, ويتردد أن شبحاً قد ظهر هناك, أخيراً, شبح امرأة في مقتبل العمر تستقل السيارات التي تمر غير بعيد عن المحرقة ليلاً, هكذا يقال في القصة التي تتردد في هذا الشأن.

كان النور سيظل منتشراً, ولذا لم يكن هناك ما يدعو للقلق, ولكنني مع ذلك سألت سائق سيارة الأجرة, الذي بدا مألوفاً, عما يعلمه عن هذا الموضوع.

قال السائق: (لم أصادفها بنفسي بعد, ولكن هناك أحد الأشخاص في شركتنا أقلها بسيارته. والأمر لا يقتصر على شركتنا فحسب, وإنما هي قد ركبت سيارات أجرة تابعة لشركات أخرى كذلك, وقد رتبنا الأمر بحيث نصطحب مساعداً إذا مضينا في هذا الطريق ليلاً). ومن خلال الحكم استناداً إلى طريقته في الحديث, فإنه قد كرر هذه القصة عدداً كافياً من المرات ليجعله يشعر بالسأم من سردها.

ـ أين تظهر?

ـ أين حقاً, إنها تظهر على الدوام في السيارات التي تعود خاوية من زوشي.

ـ إنها لا تظهر عندما يكون هناك أناس في السيارة?

ـ طيب, ما سمعته هو أنها تظهر في السيارات التي تعود خاوية. أحسب أنها تنسل منسابة إلى السيارة قرب المحرقة. ومما ترامى إلى سمعي فالأمر ليس قوامه أنك توقف السيارة فتبادر هي إلى ركوبها كذلك, فأنت لا تعلم متى تنسل إلى السيارة, وإنما السائق يساوره شعور مفارق للمألوف, فيلتفت إلى الوراء, وإذا هنالك في السيارة تلك الشابة في مقتبل العمر, ولكن بما أنها شبح فإنها لا تنعكس على صقال المرآة التي ترصد المشهد الخلفي.

ـ ذلك أمر محير, أحسب أن الأشباح لا تنعكس صورها على صقال المرايا?

ـ أحسب أنها لا تنعكس. يقولون إنها لا انعكاس لها, حتى إذا كان بمقدور عيون البشر رؤيتها.

ـ نعم, ولكنني أحسب أن عيون البشر يمكن أن تراها. أليس كذلك? المرايا ليست لاقطة على نحو دقيق.

هكذا قلت. ولكن العيون المتطلعة إلى المرآة هي, بالطبع, عيون بشرية. أليست كذلك?

قال السائق:

ـ لكن من رأوها ليسوا شخصاً أو اثنين فحسب.

ـ ما طول المسافة التي تركب خلالها السيارة?

ـ حسن. إن الخوف يستبد بك, ويبدو الأمر كما لو أنه أصابك نوع من الدوار, ولذا فإنك تشرع في الانطلاق بالسيارة مسرعاً حقاً, ثم عندما تصل إلى وسط كاماكورا, فإنك تسترخي, وعندئذ تكون قد مضت لحال سبيلها.

ـ لابد أنها من كاماكورا إذن, لابد أنها تريد العودة إلى دارها في كاماكورا, وهم لا يعرفون من تكون.

ـ آه, الآن لا علم لي..

حتى إذا كان يعرف, أو إذا كان هناك بعض الحديث بين سائقي سيارات الأجرة حول من عساها تكون, فإن من المشكوك فيه أن السائق سيكون من عدم الاكتراث بحيث يحدّث راكباً بجلية الأمر.

ـ إنها ترتدي كيمونو, المرأة الشبح. إنها بارعة الحسن, ولا يرجع إدراك ذلك إلى إطلال البعض من فوق أكتافهم, أو ما إلى ذلك, فأنت لا تحدق على وجه الدقة في محيا شبح.

ـ هل تفوهت بأي شيء?

ـ سمعت أنها لا تتحدث, ولسوف يكون أمراً جميلاً أن تقول شكراً على الأقل. أليس كذلك? ولكن, بالطبع, عندما تتحدث الأشباح فإنها تشكو على الدوام.

قبيل دخولنا النفق, تطلعت إلى الوراء عند الجبل الذي تستقر المحرقة عليه. لقد كانت محرقة مدينة كاماكورا, وهكذا فإنه يبدو أن معظم الموتى الذين أحرقوا هناك يرغبون في العودة إلى الدور في كاماكورا. وربما سيكون من الجميل أن تكون امرأة رمزاً لكل أولئك الموتى, الذين يركبون السيارات الخاوية ليلاً. ولكنني لم أصدق القصة.

ـ ما كنت لأصدق أن شبحاً سيحتاج إلى سيارة أجرة. أليس بمقدور الأشباح أن تمضي إلى حيث يطيب لها, وتظهر في أي مكان?

وصلنا إلى دار أوميا أكيفوسا بعيد خروجنا من النفق.

كانت سماء الساعة الرابعة المتشحة بالسحب تضوع, على نحو خفيف, بعبق الدراق, وهو مؤشر يوميً بمقدم الربيع. ترددت للحظة عند بوابة دار أوميا.

لم يسبق لي أن زرت العجوز أكيفوسا إلا مرتين في الشهور الثمانية التي انقضت, منذ أن أصبح هو نفسه نوعاً من الشبح الحي. كانت المرة الأولى بُعيد السكتة التي أصابته. كان أكبر مني بعشرين عاماً, رجلاً أُجله, كاتباً شملني برعايته, وكان من الصعب عليّ أن أراه على هذه الحال, بشعاً, وبائساً, على نحو ما غدا عليه.

لكنني كنت أعرف أنه إذا أصيب اكيفوسا بسكتة ثانية, فإن من المحتمل أن تكون تلك هي النهاية. كنا نقيم في مدينتين متجاورتين, فزوشي وكاماكورا تقع إحداهما على مرمى حجر من الأخرى, على نحو ما نقول, وقد بدأت تثقل على ضميري الحقيقة القائلة إنني أهملت زيارته. ولم يكن عدد الناس الذين رحلوا عن هذا العالم بينما كنت أبحث إمكان زيارتهم ولكنني لم أزرهم بالقليل, بأي حال من الأحوال. وغالباً ما حدث أنني وصلت إلى الاعتقاد بأن تلك هي سنة الحياة. وقد كنت أفكر في أن أطلب من اكيفوسا أن يكتب لي شيئاً على قطعة من ورق من نوعية هانسيتسو, ولكن الفكرة وصلت إلى حد تبدو معه عبثية. وقد حدث هذا الشيء نفسه لي مرات عديدة. ولم يكن الموت المفاجئ بالشيء الذي يمكنني التعامل معه بشكل عرضي, وكنت أدرك تمام الإدراك أنني نفسي قد أموت في أي لحظة ـ ربما ذات ليلة خلال عاصفة ـ ولم أكن حريصاً على نفسي أشد الحرص.

عرفت مؤلفين آخرين لقوا حتفهم فجأة, من جراء نزيف في الدماغ, أو نوبات قلبية, أو انسداد بالشرايين, ولكنني لم أسمع قط بشخص تم إنقاذه ولكنه شل على نحو ما حدث مع العجوز أكيفوسا. ولو أن المرء نظر إلى الموت باعتباره أعظم بلية على الإطلاق, لكان عليه القول إن أكيفوسا محظوظ إلى أبعد الحدود بمواصلته العيش, حتى على الرغم من أنه يعيش كمريض لا يرجى له شفاء, كرجل معاق, ولكن ذلك الشعور بحسن الطالع كان من الصعب للغاية على معظمنا أن يحسوا به, كما كان من المتعذر علينا أن نحدد ما إذا كان أكيفوسا نفسه يحس بأنه كان محظوظاً.

مرت ثمانية شهور فحسب منذ تعرض أكيفوسا للسكتة, ولكن مما سمعته فإن عدد الناس الذين يزورونه غدا محدود للغاية بالفعل, حيث يمكن أن يكون من الصعب التعامل مع عجوز أصم, ولكن ليس مما يقل عن ذلك صعوبة التعامل مع رجل قادر على السمع, ولكنه لا يستطيع الكلام, فهو يفهم ما تقول له, على الرغم من أنك لا تفهم ما يريد أن يقوله لك. إنه أمر أكثر غرابة من محادثة أصم.

كانت زوجة أكيفوسا قد توفيت في وقت مبكر, لكن ابنته توميكو مكثت معه. كانت هناك ابنتان, لكن الصغرى تزوجت, وغادرت الدار.

أما الابنة الكبرى, توميكو, فقد انتهت بها الحال إلى البقاء في الدار لرعاية أبيها. ولم تكن هناك حاجة حقيقية تدعو إلى أن يتزوج أكيفوسا من جديد, حيث إن توميكو قامت على شئون الدار جميعها, وقد ابتهج حقاً بحرية حياة العزوبية, ولربما يقول المرء لهذا السبب إن توميكو قد اضطرت لتقديم تضحيات معينة لأبيها.

وتشير الحقيقة القائلة إن اكيفوسا, على الرغم من أنه كانت له علاقات عاطفية عديدة, ظل على عزوبيته وأن قوة إرادته كانت من المضاء بحيث تغلبت على عواطفه, أو أنه ربما كان هناك شيء آخر يجري.

كانت الابنة الصغرى فارعة القوام وذات ملامح بديعة على نحو استثنائي, ولكن هذا لم يكن يعني القول إن توميكو كانت من نوعية الشابات اللواتي يتوقع المرء أن يبقين بلا زواج. ولم تعد, بالطبع, فتاة في ميعة الصبا, فقد كانت تدنو من الأربعين, ولذا لم تكن تضع لمسات من مواد التجميل على الاطلاق, لكن المرء يستشعر فيها نقاء. وقد بدت على الدوام إنسانة هادئة, ولكنها لا تتسم بشيء من كآبة العوانس التقليديات ولا ضيقهن, وربما أمدها إخلاصها لأبيها ببعض العزاء.

درج الزائرون على محادثة توميكو بدلاً من أكيفوسا, وكانت تجلس بجوار وسادة أبيها.

أزعجتني رؤية ما وصلت إليه من نحول, وبدا لي أن من الغريب أن تستبد بي الدهشة, الأمر الذي كان معناه أن من الطبيعي بالنسبة لها أن تكون ناحلة, ولكن على الرغم من ذلك فإن رؤيتها تغدو فجأة وقد أوغلت في العمر وغدت ناحلة أثارت الاكتئاب في نفسي, وخطر لي أن الناس في تلك الدار يعانون.

لم يكن هناك ما أقوله, بعد أن تفوهت بالكلمات العبثية التي يقولها من يعود مريضاً, وهكذا انتهى بي الأمر إلى التفوه بشيء ما كان ينبغي أن أقوله:

ـ هناك شائعة تتردد, مفادها أن شبحاً يظهر على الجانب الآخر من النفق. هل سمعت بذلك? لقد سألت السائق عنه وأنا في الطريق إلى هنا. وفي حقيقة الأمر..

ـ أهناك شيء من هذا حقاً? إنني في الدار على الدوام. ولم يتناه إلى سمعي أي شيء.

بدا جلياً أنها ترغب في معرفة المزيد. وهكذا ـ فيما حدثت نفسي طوال الوقت بأنه كان من الأفضل ألا آتي على ذكر هذا الموضوع ـ لخصت لها ما عرفته.

ـ حسن, إنها نوعية من القصص يصعب على المرء تصديقها, على الأقل إلى أن يرى الشبح. بالطبع, قد لا يصدق المرء القصة حتى لو رأى الشبح, ففي نهاية المطاف هناك أوهام دائماً.

ـ ينبغي أن تتحرى الشبح الليلة, يا سيد ميتا, وتكشف ما إذا كان له وجود حقاً!

قالتها توميكو. وكان غريباً منها أن تقول ما تفوهت به.

ـ آه. ولكنه لا يظهر والليل لم يسدل أستاره بعد.

ـ ستكون الشمس قد غربت إذا بقيت لتناول طعام العشاء.

ـ لسوء الحظ أخشى أنني ليس بمقدوري البقاء. وفضلاً عن ذلك فإن شبح المرأة لا يستقل إلا العربات الخاوية.

ـ حسن. إذا كان الأمر كذلك فليس لديك ما يثير القلق? إن أبى يقول إنه مسرور للغاية بقدومك, وإنه يأمل أن تأخذ راحتك. أبي.. لسوف يتناول السيد ميتا طعام العشاء معك. أليس كذلك?

تطلعت إلى العجوز أكيفوسا, فبدا كما لو أنه أومأ برأسه موافقاً على وسادته. هل كان مسروراً لقدومي? بدا بياض عينيه غائماً وموحياً بالإجهاد, وكانت هناك لطخ من الصفار حتى في بؤبؤيه. ولكن بدا أن بؤبؤيه يتألقان من أعماق هذه اللطخ. ولاح أنه سيعاني من سكتته الثانية عندما تندلع تلك التألقات متحولة إلى لهب. بدا أن ذلك يمكن أن يحدث في أي لحظة. وخالجني شعور بعدم الارتياح.

ـ أخشى أنني سأجهد أباك, إذا بقيت وقتاً أطول مما ينبغي, وذلك قد...

قالت يوميكو بوضوح:

ـ لا, أبي لا يشعر بالإجهاد. إنني أدرك أنه أمر غير لطيف مني أن أبقيك هنا مع مريض كأبي, ولكنه يتذكر أنه كاتب بدوره, عندما يكون هنا كاتب آخر.

ـ هو... ماذا?

أدهشني إلى حد ما التغير الذي طرأ على نغمة صوت توميكو, ولكنني أعددت نفسي للبقاء لبعض الوقت.

ـ من المؤكد أن أباك يدرك على الدوام أنه كاتب.

ـ هناك رواية لأبي كنت أفكر فيها كثيراً منذ أصبح على هذه الحال. لقد كتب عن ذلك الشاب الذي أراد أن يصبح كاتباً, كان الفتى يبعث إليه برسائل غريبة كل يوم تقريباً, ثم استبد به الجنون تماماً, فأودعوه في مصح للأمراض العقلية. والأقلام والمحابر تعد خطيرة, وقالوا إن أقلام الرصاص خطيرة أيضاً, ولذا فإنهم لم يتيحوا له الحصول عليها. وكانت أوراق المخطوطات هي الشيء الوحيد الذي سمحوا له بالحصول عليه في غرفته. وكان فيما يبدو على الدوام هناك أمام ذلك الورق, عاكفاً على الكتابة, على الأقل اعتقد أنه يكتب. ولكن الورق ظل على بياضه. إلى هنا كان الأمر من نسج الواقع, أما الباقي فهو رواية أبي. ففي كل مرة كانت أمه تجيء لزيارته, كان يقول لها: (أماه, لقد كتبتها, هل تقرئينها لي? هل تقرئينها لي يا أماه?!) وتنظر أمه إلى المخطوط الذي يعطيها إياه, فلا تجد فيه شيئاً مكتوباً على الإطلاق, فتشعر بالرغبة في الانخراط في البكاء ولكنها تقول: (آه, لقد أحسنت الكتابة, إنها جيدة للغاية. أليس كذلك!) وتبتسم, وفي كل مرة تزوره كان يلح عليها لتقرأ المخطوط على مسامعه, فتشرع في قراءة الصفحة البيضاء عليه. وخطر ببالها أن تروي عليه قصصاً من بنات أفكارها, جاعلة الأمر كما لو كانت تقرأ المخطوط. تلك هي الفكرة الرئيسية الكامنة وراء رواية أبي, وتحدث الأم الفتى عن طفولته. ولا شك في أن الفتى المجنون يعتقد أنه يجعل أمه تقرأ نوعاً من التسجيل لمذكراته, شيئاً كتبه هو نفسه, ذلك هو ما يعتقد أنه يصغي إليه, فتتألق عيناه بالفخر, وليست لدى أمه فكرة عما إذا كان يفهم ما تقوله من عدمه, ولكنها في كل مرة تزوره تكرر القصة ذاتها وتتحسن أكثر فأكثر في سردها, فهي تبدأ في الظهور بمظهر من تقرأ بالفعل قصة ابنها, وهي تتذكر أموراً كانت قد نسيتها, ويتزايد جمال مذكرات الابن, والابن يجتذب قصة الأم من مغاور الذاكرة, ويساعدها, ويغير القصة. وما من سبيل لتحديد رواية من هي, وما إذا كانت رواية الأم أو الابن, وعندما تتحدث الأم ينصب تركيزها على ما تقوله حتى لتنسى نفسها, وهي تتمكن من نسيان ان ابنها مجنون, فما دام أنه يصغي إليها بتركيز كامل, فليس هناك من سبيل إلى معرفة ما إذا كان مجنوناً من عدمه, ويمكن إلى حد كبير أن يكون عاقلاً ومجنوناً معاً, والأمر يبدو كما لو أن الأم والابن يحييان في عليين معاً, ويشعران معاً بالسعادة. وفيما هي تواصل القراءة يخيل إليها أن ابنها قد يتحسن, فتواصل قراءة المخطوط المجرد من الكلمات.

ـ تلك هي رواية (ما يمكن للأم قراءته). أليست كذلك? إحدى روائع أبيك. إنها عمل يستعصي على النسيان.

ـ الكتاب مؤلف في صيغة المتكلم. الابن هو البطل, ولكن بعض الأمور التي يتذكرها عن طفولته حدثت بالفعل لأختي ولي عندما كنا صغاراً, وكل ما هنالك أنه جعلها تحدث لصبي..

ـ هل الأمر كذلك?

ـ كانت تلك هي المرة الأولى التي أسمع فيها بهذا الأمر.

ـ أتساءل حقاً عن السر في أن أبي كتب رواية كتلك. هذا الكتاب يخيفني الآن, وقد غدا على هذه الحال. ليس أبي مجنوناً, وليس بوسعي أن أكون مثل تلك الأم واقرأ على مسامعه رواية لم يكتبها. ولكنني أتساءل عما إذا لم يكن ذهنه عاكفاً على تأليف رواية الآن تواً.

خطر ببالي أن توميكو إنسانة غريبة, بمقدورها قول أمور كهذه, على الرغم من أن اكيفوسا العجوز ربما كان يسمع كل كلمة تتفوه بها. ولم أدر كيف أرد على ما قالته.

ـ لكن أباك كتب بالفعل العديد من الأعمال المتميزة, وهو وذلك الفتى ذو العقلية الأدبية مختلفان تمام الاختلاف.

ـ هل تعتقد ذلك? أحسب أن أبي لا يزال يريد أن يكتب.

ـ بالطبع, ليس من شأن الجميع أن يوافق على هذا.

حدثت نفسي بأنني شخصياً أعتقد أنه قد كتب بالفعل ما فيه الكفاية, ولكنني لو كنت في وضع العجوز أكيفوسا لحرت فيما يتعين عليّ فعله.

ـ كل ما في الأمر أنني لا أستطيع الكتابة نيابة عن أبي. سيكون جميلاً لو كان بمقدوري كتابة (ما تستطيع ابنة قراءته) ولكنني لا أستطيع.

بدا لي صوتها كما لو كان صوت شابة في الجحيم. هل تعني الحقيقة القائلة إنها قد تحولت إلى نوعية المرأة التي قالت مثل هذه الأمور إنها من خلال قيامها المستمر على شئون أبيها, الذي كان نوعاً من الشبح الحي قد استحوذ عليها شيء ما بداخله? خطر لي أنها قد تؤلف كتاباً عن ذكريات مروعة, عندما يموت أكيفوسا. وبدأت استشعر كراهية عارمة نحوها.

ـ ماذا لو أنك تحاولين الكتابة عن أبيك?

أحجمت عن إضافة قولي: (بينما هو لا يزال على قيد الحياة) فجأة تذكرت بعض كلمات مارسيل بروست. كان نبيل بعينه قد أساء إلى الكثيرين في يومياته التي تمثل, بعد طول انتظار, للنشر, ولذا كتب يقول: (إنني على شفا الموت, وآمل ألا يمرغ اسمي في الوحل طويلاً حيث إنني سأعجز عن الرد!) ولا يرجع تذكري لهذه الكلمات على الإطلاق إلى أن الحال تشبه حال أكيفوسا وتوميكو, فهما ليسا غريبين بحال, وربما حدث حقاً بينهما تبادل انفعالي غامض, يتجاوز ما يعايشه الآباء والبنات.

أذهلتني الفكرة الغريبة القائلة إن توميكو قد تكتب عن أبيها, كما لو أنها قد أصبحت ذلك الأب.

وسواء أكان الأمر قد أصبح لعبة جوفاء أم عملاً فنياً مؤثراً, فقد بدا أنه في الحالتين كلتيهما يقدم بعض العزاء لهما كليهما, فأكيفوسا ربما يمكن إنقاذه من صمته المطلق, من سحبه إلى الكلمات, والسحب إلى الكلمات هو يقيناً شيء لا يطاق.

ـ سيتمكن أبوك من فهم ما كتبته, ولسوف يكون بمقدورك تقويمه. لن تقرئي صفحة خالية من الكلمات, وإذا ما كتبت حقاً عن أبيك, إذا جعلته يصغي إليك وأنت تقرئين...

ـ هل تظن أنه سيكون عمل أبي? حتى القليل منه...

ـ لا شك في أن بعضه سيكون كذلك, وأي شيء أكثر من ذلك... سيكون وقفاً على مشيئة السماء, وهو ما يعتمد على مدى قربكما انتما الاثنان, ليست لديّ طريقة لمعرفة ما سيكون عليه الأمر.

لكنه بدا بالفعل أن كتاباً يؤلف بمثل هذه الطريقة سيضم حياة تتجاوز كتاب ذكرياته يؤلف بعد وفاة أكيفوسا. ولو أنه مضى على نحو جيد, فإنه حتى نوعية الحياة التي يعيشها الآن يمكن أن تكون ثمينة على صعيد أدبي.

ـ حتى إذا واصل أبوك الصمت, فإنه يظل بمقدوره أن يساعدك, ويظل بإمكانه تصحيح أخطائك.

ـ لن يكون له أي معنى, إذا كان في نهاية المطاف عمليا. يتعين عليّ تدبر الأمر بعناية مع أبي.

تردد صوت توميكو مفعماً بالحياة, وهي تنطق هذه الكلمات.

من جديد بدا أنني قلت أكثر مما ينبغي. أليس ما كنت أقوم به شبيهاً بإرغام جندي جريح على نحو يدعو لليأس على العودة إلى المعركة? ألم يكن ذلك انتهاكاً لحرمة الصمت? لم يكن الأمر كما لو أن أكيفوسا كان عاجزاً عن الكتابة, فقد كان بمقدوره كتابة حروف أو علامات إذا أراد ذلك. ربما كان قد اختار الصمت, اختار ألا ينبس ببنت شفة بسبب حزن عميق, آسف. ألم تعلمني تجربتي أنه ما من كلمة يمكن أن تقول قدر ما يقوله الصمت.

ولكن لئن قدر لأكيفوسا أن يواصل التزام الصمت, ولو قدر لكلماته أن تند عن توميكو ـ ألن يكون ذلك أحد تجليات قوة الصمت أيضاً? ـ إذ لم يحر المرء قولاً فإن آخرين يتحدثون نيابة عنه, كل شيء يتحدث.

ـ أتسمح لي? إن أبي يقول إنني يتعين أن أقدم لك بعض الساكي تواً, عليّ القيام بذلك على الأقل.
انبعثت توميكو واقفة.تطلعت بشكل غريزي إلى أكيفوسا, ولكن لم يكن هناك ما يوحي بأن العجوز قد تحدث.

الآن ها نحن هنا وحدنا, بعد أن غادرت توميكو الغرفة, وهكذا أدار أكيفوسا وجهه نحوي. بدا مكتئباً. ترى هل هناك شيء يود قوله? أو ربما ضايقه أن يوضع في موقف مثير للضيق أحس فيه بأنه يتعين أن يقول شيئاً? لم يكن أمامي خيار إلا أن أتحدث.

ـ ما رأيك فيما يتعلق بما كانت توميكو تقوله?

ـ ...........................

جابهت الصمت, قائلاً:

ـ أشعر يقيناً بأن بمقدورك أن تقدم عملاً يستقطب الاهتمام, مختلفاً تماماً حقاً عن (ما تستطيع الأم قراءته), وقد بدأت في الشعور بذلك فيما كنت أتجاذب أطراف الحديث مع توميكو.

ـ ...........................

ـ إنك لم تكتب أبداً رواية شخصية, أو سيرة ذاتية. ربما الآن, إذ لم يعد بمقدورك الكتابة, فإن استخدام يد شخص آخر لتقديم عمل من ذلك النوع قد يسمح لك بالكشف عن أحد أقدار الفن. إنني لا أكتب عن نفسي, ولا أعتقد أن بوسعي الكتابة عنها حتى إذا حاولت ذلك, ولكنني لو كنت صامتاً, وإذا كان بوسعي الكتابة على ذلك النحو.. فلست أدري ما إذا كنت سأستشعر نوعاً من البهجة كأنما أدركت الحقيقة في نهاية المطاف... لو أنني حدثت نفسي بقولي: أهذا هو أنا? أو أنني سأجد الأمر برمته مثيراً للشفقة, فأتخلى عنه. ولكن أياً كان الأمر, فإنني على يقين من أنه سيكون مثيراً للاهتمام.

ـ ................

عادت توميكو بالساكي وبأطعمة خفيفة.

ـ هل بمقدوري أن أقدم لك مشروباً?

ـ شكراً لك. آمل أن تغفر لي, يا سيد أوميا, احتساء الشراب أمامك, ولكن حسن, شكراً لك.

ـ أخشى أن المرضى من أمثاله لا يتجاذبون أطراف حديث شائق.

ـ كنت بالفعل أواصل مناقشتنا السابقة.

ـ أكنت تقوم بذلك? في حقيقة الأمر إنني كنت أحدث نفسي, فيما عكفت على تدفئة الساكي بأنه قد يكون من المثير للاهتمام أن أقوم بدلاً من أبي بالكتابة عن كل العلاقات العاطفية التي خاض غمارها في السنوات التي أعقبت وفاة أمي, فقد حدثني بكل ما يتعلق به تفصيلاً, بل إن هناك بعض الأمور التي نسيها أبي ومازلت أذكرها.. إنني على يقين, يا سيد مينا, من أن هناك امرأتين اندفعتا إلى هنا عندما انهار أبي.

ـ نعم.

ـ لست أدري ما إذا كان الأمر عائداً إلى أن أبي ظل على هذه الحال لوقت طويل للغاية, أو ما إذا كان راجعاً إلى وجودي هنا, لكن المرأتين كفتا عن المجيء إلى هنا, ومع ذلك فإنني أعرف كل ما هنالك حولهما, فقد أبلغني أبي بكل ما يتعلق بهما.

ـ لكن أباك لا ينظر إلى الأمور على نحو ما تنظرين إليها.

كان هذا أمراً جلياً, ولكن على الرغم من ذلك فإن توميكو بدا عليها الضيق.

ـ من المستحيل عليّ الاعتقاد بأن أبي قد كذب عليّ. ويبدو أنني بمرور الزمن وصلت إلى تفهم مشاعره.

انبعثت واقفة, وأضافت:

ـ لكن لم لا تسأله بنفسك? لسوف أعدّ لتناول طعام العشاء, ثم أعود.

ـ أرجو ألا تزعجي نفسك بشأني!

مضيت مع توميكو, واستعرت قدحاً.

ـ يبدو أن غرامياتك أصبحت ملكاً لتوميكو الآن. أحسب أن تلك هي الطريقة التي يفرض بها الماضي منطقه.

ـ .......................

ربما ترددت في استخدام كلمة (الموت). وربما هذا هو السر في أنني استخدمت كلمة (الماضي).

لكن يقيناً أنه ما دام أكيفوسا العجوز باقيًا على قيد الحياة, فإن الماضي يظل ملكاً له! أم يتعين على المرء التفكير فيه كنوع من الملكية المشتركة?

ـ ربما إذا كان بمقدورنا أن نمنح ماضينا لشخص ما, فإننا سنود أن نمضي قدماً ونهبه له.

ـ ........................

ـ ليس الماضي بالشيء الذي ينتمي إلى أي أحد, ربما أقول إن المرء يمتلك الكلمات التي تستخدم في الحاضر للحديث عن الماضي. ليست كلمات المرء فحسب, فلا أهمية لهوية من يمتلك الكلمات. لا, مهلاً! باستثناء أن اللحظة الراهنة هي عادة لحظة صامتة. أليس كذلك? حتى عندما يتحدث الناس على نحو ما أتحدث الآن, فاللحظة الراهنة لا تعدو أن تكون صوتاً قوامه (أ) أو (ن) أو (م). إنها تظل مجرد صمت بلا معنى. أليس كذلك?

ـ .....................

ـ لا, الصمت بالتأكيد ليس مجرداً من المعنى, على نحو ما قلت أنت نفسك.. أعتقد أنني في وقت ما قبل موتي أود أن أدلف إلى رحاب الصمت, على الأقل لبعض الوقت.

ـ كنت أفكر في هذا قبل قدومي إلى هنا. ولكن يبدو أنه يتعين ان تكون قادراً على كتابة العامية اليابانية على الأقل, ومع ذلك فإنك ترفض أن تكتب حرفاً واحداً. ألا تجد هذا كله أمراً مزعجاً? إذا كان هناك شيء تريد إنجازه, على سبيل المثال, فإنك إذا كتبت حرف (م) إشارة إلى الماء أو حرف (ش) اشارة إلى الشاي...

ـ .................

ـ هل هناك سبب جذري لرفضك الكتابة?

ـ ....................

ـ آه, الآن فهمت. إذا كان الحرفان (م) و(ش) ونحوهما كافية لإنجاز الأمور, فإن الأصوات (أ) و(ن) و(م) لا ينبغي ألا تكون مجردة من المعنى أيضاً, والأمر نفسه ينطبق في حالة كلام الطفل الصغير, فهذا الطفل يدرك أن أمه تحبه. هكذا الأمر في روايتك (ما تستطيع الأم قراءته). أليس كذلك?

الكلمات تضرب جذورها في كلام الطفل الصغير, وهكذا فإنها تضرب جذورها في الحب. ولو أنك قررت كتابة حرف (ش) في كل مرة ترغب في الإعراب عن الشكر, ولو أنك بين الحين والآخر كتبت حرف (ت) لتعني توميكو... عليك فحسب أن تفكر في مدى السعادة التي ستدخلها عليها.

ـ ......................

ـ ربما كان حرف (ت) سيحتوي بداخله من الحب ما يفوق ما تحتويه كل الروايات التي كتبتها خلال الأربعين عاماً الماضية, وربما ستتمتع بقوة أكبر.

ـ ....................

ـ لم لا تتحدث? ربما بمقدورك على الأقل أن تقول: (آه ه ه) حتى لو سال لعابك. لم لا تتدرب على كتابة حرف (أ)?

ـ .......................

كنت على وشك المناداة باتجاه المطبخ, لأطلب من توميكو أن تحضر قلماً وبعض الورق, عندما أدركت فجأة ما أقوم به.

ـ ما الذي أفعله? إنني أخشى أن أكون فقدتُ الوعْي قليلاً... سامحني!

ـ .....................

ـ هأنت قد بذلت قصارى الجهد لتحقق الصمت, ثم أجيء أنا وأزعجك.

ـ .....................

حتى بعد أن عادت توميكو, ساورني الشعور كما لو أنني كنت أهذي, كل ما فعلته كان الدوران حول سور صمت أكيفوسا العجوز.

استخدمت توميكو الهاتف في متجر قريب لبيع الأسماك لاستدعاء السائق الذي أقلني.

ـ يقول أبي إنه يأمل أن تأتي للحديث معه مجدداً بين الحين والآخر.

ـ نعم, بالطبع.

بعد أن رددت عليها بهذا الرد الذي وجدته على لساني, أقلتني السيارة.

ـ أرى أنكما أنتما الاثنان قد جئتما.

ـ لا نزال في مطلع المساء, ولدينا راكب, ولذا فإنني أشك في أنها ستظهر, ولكن على سبيل الاحتياط...

خرجنا من النفق من جهة كاماكورا, وانطلقنا غير بعيد عن المحرقة, وفجأة بدأت السيارة تندفع كما لو كانت تطير.

ـ أهي هنا?

ـ إنها هنا. وهي تجلس بجوارك.

ـ ماذا?

تبددت آثار الكحول, في لمحة عين. نظرت خلسة إلى جانبي.

ـ لا ترعبني على هذا النحو, فلست في حال تسمح لي بمعالجة الأمر!

ـ إنها هنالك, هنالك بالضبط.

ـ كاذب. هدئ السرعة! عليك بذلك, فهذا الانطلاق خطر!

ـ إنها جالسة إلى جوارك مباشرة. ألا تستطيع رؤيتها?

ـ كلا, لا أستطيع ذلك. إنني عاجز تماماً عن رؤيتها.

قلت ذلك, لكنني فيما كنت أقوله بدأت في الشعور ببرد غامر, حاولت أن أبدو شجاعاً, قلت:

ـ لو أنها هنالك حقاً... فماذا تظن... هل أقول لها شيئاً?

ـ لا تنكت على هذا النحو! إن اللعنة تحل بك إذا حادثت شبحاً, فسوف يتلبسك. إنها فكرة مخيفة. لا تفعل ذلك! سيغدو كل شيء على ما يرام إذا لزمت الصمت حتى نقلها إلى كاماكورا.

ياسوناري كاواباتا



قديم 08-06-2010, 01:56 PM
المشاركة 4
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي رد: من الأدب الياباني
مجهود مبارك
سأعود أيتها الغالية
تحتاج هذه القصص إلى قراءة متأنية


محبتي ... ناريمان

قديم 08-07-2010, 03:24 AM
المشاركة 5
أمل محمد
مشرفة سابقة من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: من الأدب الياباني
قرأت القصة الأولى

وسـ أعود بـ مشيئة الرحمن لأتابع

لا حـُرمنا هذه الريم الأصيلة ~

قديم 09-28-2010, 11:01 PM
المشاركة 6
ريم بدر الدين
عضو مجلس الإدارة سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
مجهود مبارك
سأعود أيتها الغالية
تحتاج هذه القصص إلى قراءة متأنية


محبتي ... ناريمان
مساء الورد ناريمان الغالية
الادب الياباني شبه بعيد عن الذائقة العربية لكن البعد الانساني لابد واحد
أشكر مرورك الجميل
تحيتي لك

قديم 09-29-2010, 01:35 PM
المشاركة 7
ريم بدر الدين
عضو مجلس الإدارة سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
قرأت القصة الأولى

وسـ أعود بـ مشيئة الرحمن لأتابع

لا حـُرمنا هذه الريم الأصيلة ~
مساء الورد أمول
لمرورك رائحة العطر
تحيتي و محبتي

قديم 09-30-2010, 10:41 PM
المشاركة 8
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي

تقول الحكاية اليابانية القديمة
ان محاربا من الساموراي
تحـدّى أحد حكماء اليابان
وطلب منه أن يصف له الفردوس والجحيم ؟
فأجابه الحكيم في ازدراء :
ما أنت الا محارب تافه ومن الحثالة !!
ولن أضيّع وقتي مع أمثالك
في الاجابة على أسئلتك الأكثر تفاهة منك !!!
اشتعل غضب الساموراي لجرح كرامته ..
وعلى الفور أشهر سيفه صارخا :
( والآن يجب أن تموتَ أيها الحكيم
جزاء وقاحتك واستهتارك بسؤالي )!!

صمتَ الحكيمُ للحظات وأجابهُ بوداعةٍ وهو يشير اليه :
يا بني هذا هو الجحيم !!

هدأ المحاربُ حين رأى الإجابة واضحة في قول الحكيم وتصرفاته عن الغضب الذي تأجج بداخله
وكاد بلحظة أن يحولَّه الى قاتل !!
فأغمدَ سيفَه وانحنى شاكرا للحكيم على هذا الدرس العظيم !!
فقال له الحكيم على الفور : وهذا هو الفردوس يا ولدي

( بدون تعليق )



( الحكاية بتصرف عن كتاب ذكاء المشاعر لعالم النفس ( دانيال جولمان )
والذي نقله الى العربية في ترجمة لطيفة د. هشام الحناوي


.....الى هنا
ناريمان الشريف


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: من الأدب الياباني
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الذئب الياباني أ محمد احمد منبر ذاكرة الأمكنة والحضارات والأساطير 0 02-14-2024 04:59 AM
من أرقى كتب الأدب والبلاغة الإنشاء ( جواهر الأدب ) ناريمان الشريف منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 54 01-19-2021 11:23 PM
الجامع في تاريخ الأدب العربي الأدب القديم - حنا الفاخوري د. عبد الفتاح أفكوح منبر رواق الكُتب. 2 07-20-2019 08:05 PM
الليث بن سعد أ محمد احمد منبر ذاكرة الأمكنة والحضارات والأساطير 1 06-22-2019 03:05 PM

الساعة الآن 07:13 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.