منبر البوح الهادئلما تبوح به النفس من مكنونات مشاعرها.
أهلا وسهلا بك إلى منتديات منابر ثقافية.
أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التكرم بزيارة صفحة التعليمـــات، بالضغط هنا.
كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل بالضغط هنا إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى، أما إذا رغبت بقراءة المواضيع والإطلاع فتفضل بزيارة القسم الذي ترغب أدناه.
كم رددتُ بناني عن لفظ الحرف في كل مرة، إذ كانت الكلمات تمضي كالسهام، وإن كانت نيتها سلامًا، فكم من كلمةٍ خرجت من القلب، فزلّت على اللسان، ففُهِمت على غير وجهها، وحُمِّلت ما لا تحتمل، فكان الندم يأتيني لاحقًا، كضيف ثقيل لا يغادر.
خشيت دومًا أن يُؤوّل حديثي على غير ما أردت، وأن يُقرأ قلبي بعيون لا ترى نبضه كما هو، فيُكتب علينا جُرم لم نقترفه، وتُنسب إلينا خطيئة لم تكن يومًا منّا، فيكون العقاب قطيعة، ويكون ثمنها فقدان من نحب، على شيء لم يكن سوى سوء فهم.
فكم من عاشق افترق، وما كان الذنب إلا همسة لم تُفهم، أو نظرة أُوّلت، أو كلمة سكنت بين السطور فأيقظت نارًا ما قصدنا إشعالها، فينتهي الوصل، لا لأن الحب انطفأ، بل لأن المعنى انكسر.
فاخترت الصمت، لا ضعفًا، بل حذرًا، وجعلته جوابي الوحيد على ما يأتيني من رسائل، وإن كانت روحي تشتعل شوقًا، وإن كان القلب ينزف القاني من التحنان، ويئن من وطأة الحنين.
أتعلم؟
ليس كل من سكت فارغًا، وليس كل من مضى ناسيًا.
أحيانًا نصمت لأننا نخاف أن تُسقِط الكلمات ما تبقّى، وأحيانًا نرحل لأننا نحب، لا لأننا مللنا.
فدعني أختبئ خلف السطور، وأكتم صدري عن كل ما يُقال، علّ الصمت يحميني، وعلّه يُبقي بيننا شيئًا لا ينكسر، شيئًا يُشبه الحنين حين يخنقنا ولا يقتلنا.
ولتلكُمُ الكرامة…
نصبنا لها خيامَ عزاءٍ في عراءِ الأرض،
والمُعزّون أشباهُ الرجال،
بعدما تجرّدوا من المروءة،
وضاعت جيناتُ الحميّةِ في صحراءِ الصمت،
فغاصوا في مستنقعِ الذلّة.
فهيهاتَ لهذه الأمةِ أن تقومَ من كبوتِها،
وهي جامدٌ فيها دمُ العزّة،
وقد استبدلتِ الإباءَ، واقتصرتْ على ذاك الدعاءِ الذي يُعاقرُه الذنبُ والغفلة!
تئنُّ الأمةُ من جراحٍ تَعاظَمَت،
وتتلوّى على سريرِ الوهنِ وقد تقادَمَت،
ذاك الجسدُ الممزّقُ بين أممٍ تتكالبُ، وقلوبٍ تتناحرُ، وراياتٍ تتنافرُ،
كلُّ جزءٍ منها يشكو،
وكلُّ طرفٍ عنها يشهدُ موتًا لا يُحزِنُ أحدًا!
في الميادينِ خفَتَ الهُتاف،
وفي صدورِ الرجالِ بردٌ وجفاف،
والأطفالُ يولدون بلا وطن،
ويكبرونَ بلا أمل،
ويموتون بلا ضجيج، كأنهم لم يكونوا نبضًا من ترابٍ حيّ!
منابرُ النورِ تحوّلتْ إلى منصّاتِ تزييف،
والرايةُ البيضاءُ باتت شعارَ الخائفِ الضعيف،
والأرضُ تُغتصبُ، والعِرضُ يُهان،
والمآذنُ تبكي، والدمعُ في عيونِ الثكالى لا يجفُّ ولا يُدان!
لكن...
ورغمَ هذا الليلِ المُطبق،
ورغمَ هذا الجرحِ الذي لم يندمل،
ورغمَ هذا الصمتِ الذي صار لغةَ أهلِ الكهف...
لا يزالُ في آخرِ النفقِ نورٌ يتّقد،
ولا يزالُ في قلبِ الظلامِ فجرٌ يتهيّأ أن يُولد!
فما خبتْ رايةُ الحقِّ، وإن سقطَ حاملوها،
وما اندثرتْ ملامحُ العزِّ، وإن استُبيحتْ صورُها،
إنها سُنةُ الله: بعد الغُمّة صحوة، وبعد الضيق فرجة، وبعد الظلمة شمسٌ لا تغيب.
سيصحُو الماردُ من رقاده،
وتستفيقُ الأمةُ من سباتها،
وتُبعثُ النخوةُ في عروقٍ حسبناها ماتت،
فإذا بها تنبض، وتثور، وتَصْرُخ: هُنا كنّا... وهنا سنعود!
أنا لستُ عينًا تُبصِر،
بل قلبًا يستشفُّ النور من بين ظلال الحيرة،
أشبه بندفةِ ضوءٍ تسقط في عمقِ ليلٍ دامس،
فتُوقِظ في الروحِ خريطةً لا يعرفها إلّا السائرون نحوي
بنور اليقين.
تسألون: من أنا؟!
أنا نورُ الساري في دياجير الحيرة...
وكهفُ أسرارِ الوجودِ الكثيرة...
وشمسُ الحقيقةِ في مجرّاتِ الكونِ الوسيعة...
وغيثُ الحياةِ للأرضِ القَفِيرة...
وطِبُّ القلوبِ المريضة...
وملاذُ اللاجئِ من العذاباتِ المريرة...
فهل عرفتني؟!
فتِّشْ في جيوبِ الحياة...
واستحضرْ وجوهَ المارّين...
واستنطِقْ حروفَ الكاتبين...
وحَرِّكْ مشاعرَ العاشقين...
وطَبْطِبْ على قلوبِ المكلومين...
ستجدني بين حرفِ العلّة،
وبين ضميرِ المتكلم،
وبين المبنيّ للمجهول...
كائنًا لا يتحرّك،
بعد أن جُرِّدَ من معناه،
فبات كريشةٍ تتقاذفها الرِّيح،
فتهوي بها في بئرٍ عميق...
فلا تسأل عن اسمي،
فأنا اسمٌ بلا صوت، وصوتٌ بلا لحن،
أنا ظلُّ الحقيقةِ حين تغيب،
وصرخةُ المعنى حين يصمتُ كل شيء.
أنا لستُ من هذا الطين وحده،
بل من سرِّ النفخةِ الأولى،
من صمتِ المعنى حين يفيض الكلام،
ومن وجعِ السؤال حين يعجز الجواب...
أنا أثرُ النورِ في أزقةِ العتمة،
والوَصلُ حين تنقطع السُّبُل،
أنا نبضُ الفكرة في صدرِ متأمِّل،
ووميضُ البصيرة في عينِ حائر.
أنا همسةُ الأمل في أذنِ اليائس،
وسجدةُ الروح في محراب الإدراك،
أنا الحكاية التي لا تُروى،
لكنها تعيش في كلّ سطر، وكلّ صمت.
فتِّش عني في شهقةِ الولادة،
في دمعةِ العارف،
في نشوةِ القصيدة،
وفي صمتِ المريد...
ستجدني نائمًا في جفنِ المعنى،
أرتِّب للفجرِ مواعيدَ قيامه،
وأجفّفُ دمعَ الليلِ حين يطول...
أنا لستُ وصفًا يُقال،
ولا حدًّا يُرسم،
أنا المَعبر،
والمعنى،
والحكاية التي ترويك... دون أن تنتهي.
دعني أُحدّثك عن قصةِ الغيدِ التي ترعى بقربِ الغدير...
كانت دومًا تحرص على وجودها هناك،
تُلاحق فراشاتِ الأحلام، وتُداعبُ خيالاتِ الأمل،
وحين تتعب، تستقي من غدير الأمنيات،
تغمس كفَّ الرجاء في مائه الرقراق، وتُمنّي النفسَ بقبسٍ من إشراق.
كثيرًا ما تبكي حين تعود ولم تُدرك المأمول،
تندب حظّها العاثر، رغم حثيث السعي، وطول نَفَسِ البحث،
تجرُّ أذيال الخيبة، وتُلملم بقايا حلمٍ تناثر بين ضلوعِ الانتظار.
تطوي ليلَها بصمتٍ ممزوجٍ بالألم،
وعن ذاتها، فقد أشبعتْها جلدًا وعتبًا،
والنفسُ تَرمقُها غَيْظًا، وهي اللصيقةُ بها، العارفةُ بمكامنِ ضعفِها، والمُدركةُ لعذرِها.
هو ذاك شَأنُها...
تتأرجح بين السعي للهدف، وأخذ السبب،
وبين الوقوع في شَركِ الإخفاق، وتعثُّر الخطوات،
تُراودها الأحلامُ، وتُقابلها الأوهامُ،
وما بين الحُلمِ والعَثرات، قصةُ روحٍ تأبى أن تموت.
ولو جعلنا من تلكم القصة رمزيّةً نُسقطُها على واقعنا،
لوجدنا تطابقًا عجيبًا، وتشابهًا مُريبًا،
من حيث رسمُ الهدف، والسعيُ خلفه،
ومن حيثُ العثراتُ، وتكرارُ الزلّاتِ في ذاتِ المواطنِ والنكبات.
فعلينا...
رسمُ الطريق، بعد وضوحِ الغاية،
وأخذُ الوسائل المُوصِلة للغاية،
ووضعُ العقبات في الحسبان، وتوقُّعُ ما قد يُعكّر صفوَ الأمان،
واستحضارُ البدائل حين تُغلَق الأبواب، ويَضيقُ المسار.
حتى لا نقفَ نبكي على الأطلال،
ولا نندبَ حظًّا عاثرًا، أو نُحمّل الدهرَ ما ليس له فيه من صُنع،
ولا تأكلَنا سباعُ الحسرات، ولا تنهشنا مخالبُ الندم.
بل ننهضُ كلما عثَرنا، ونُعيدُ الكرّةَ كلما خَسرنا،
فما الحياةُ إلا مسيرٌ، وما النجاحُ إلا لصبرٍ وفكرٍ وتدبير.