احصائيات

الردود
1

المشاهدات
2133
 
أحمد فؤاد صوفي
كاتب وأديـب

اوسمتي


أحمد فؤاد صوفي is on a distinguished road

    موجود

المشاركات
1,880

+التقييم
0.31

تاريخ التسجيل
Feb 2009

الاقامة

رقم العضوية
6386
09-16-2023, 11:00 AM
المشاركة 1
09-16-2023, 11:00 AM
المشاركة 1
افتراضي قصة قصيرة *العمر يبدأ من جديد*


*العمر يبدأ من جديد*

دخلت المجمع التجاري من بوابته العريضة ، لاحظت شخصاً يرمقني من بعيد ، ويراقب خطواتي ، ثم أصبح يتابعني ، عندما أمشي هو ببطء يمشي ، وإذا وقفت ، أجده بعيداً قد وقف.
المجمع مليء بالمتسوقين ، لا داعي للخوف ، هكذا قلت لنفسي ، ولكن لما طالت الحكاية ، خشيت أن يلاحقني الشخص الغامض حتى البيت ، ففي لحظة قررت أن ألاحقه بدل أن يلاحقني وأفاجئه.
دخلت إلى محل ، كان محلاً كبيراً له بابان ، افتقدني الرجل الغامض بين أرفف الملابس ، تمكنت من خداعه والتملص منه ، وأفلت إلى الخارج من الباب الآخر ، ثم توجهت إليه ، كان يبحث عني ، ولم يخطر بباله أني صرت خلفه.
- لماذا تلاحقني !!
فوجىء الغامض وارتبك وزلزل كيانه ، ولم يفعل شيئاً سوى أنه خلع نظارته الداكنة ونظر إلي ، عندما واجهت عيناي عينيه ، أسقط في يدي ، فقد عرفته ، فالعين لا تكذب ، صادقة دوماً ، مهما تقدم بنا العمر.
في البداية لم أتبين مشيته ، فقد اكتسب قليلاً من الصحة ، وكنت قبلُ أطلب منه أن يزيد وزنه قليلاً ، فقد كان نحيفاً ، يسهر كل يوم ، يفكر ويتذكر ولا يأكل.
- نادية .. إنها ثلاثون سنة ، هل تصدقين ذلك !
أردت أن أبكي ، لا أريد لفت الأنظار ، ولكن دمعي بلحظة واحدة كان قد ملأ وجهي ولم أستطع الإتيان بأي كلام ، كدت أن أقع ، أحاطني وأمسكني من ذراعي وضمني.
- لنجلس في المقهى.
مشيت معه ، ملتصقة به ، أشعر بحرارة جسمه ، أريد لو أغيب عن هذا العالم ولا أتحرك من مكاني.
في المقهى ، لم نجلس متقابلين ، بل متجاورين متلاصقين ، لو أمكنني لالتصقت أكثر ، ما زلت لا أستطبع الكلام ولا النظر ، كذلك لم أستطع ألا أبكي ، يحق لي ذلك بعد هذا العمر ، أريد لو يتوقف الزمن ، لا أريد شيئاً آخر.
ينساب من التسجيل في المقهى صوت فرانك سيناترا وديميس روسس و انجلبرت هامبردينغ وأغنيته التي تعودنا على سماعها:

** طاولة منفردة لشخص واحد فقط**
طاولة منفردة لشخص واحد فقط
في المقهى المزدحم بالزبائن
ينساب صوت الموسيقى
فتغمرني الذكريات في الظلام
كما اعتدنا عليها كل يوم من قبل
أعيد سماع الأغنية مراراً قبل أن أغادر
وقبل أن يتحول عالمي إلى الحزن القديم
الأصدقاء يتوقفون ويرحبون
أضحك معهم وأخفي الألم
سهل للغاية حتى يذهبوا
أن يتحول كل شيء إلى اكتئاب وهمّ

هي أغانينا ، كنا نسمعها سوياً منذ ما يزيد على ثلاثين سنة ، لقد مضى العمر ، ولكن القلب لا يتغير ، مازال ينبض بالرغبة ، والروح لا تكتمل إلا بالحب.
المشهد الذي أنا فيه الآن لا أريده أن يتبدل ، ولكن للأسف فقد قطع النادل صوت الصمت الذي أحاط بنا ، ليسأل عن طلباتنا ، قهوة فرنسية وكرواسان ، حبيبي لم يسألني ، هي طلباتنا القديمة نفسها.
اتكأت على كتفه ، كنا حتى اللحظة لم نتكلم ، نحن لا نحتاج أي كلام ، فقلوبنا تعرف ما نريد ، وتتفاهم بدون كلام.
تجتاحنا الذكريات ، وتعيث بشعورنا لطفاً وجمالاً ، ونعيد كل مشهد في ذهننا ونكرره مرات ومرات ، وكأن الأمس أصبح أمامنا واقعاً ، ننهل منه ما نشاء وقت ما نشاء.
مر وقت طويل ، بردت قهوتنا ، لم ننتبه ، الدفء لذيذ معه ، لا أريد أن أتحرك أو إلى أي مكان أذهب ، لو أستطيع أن استمر بالعيش في لحظتي ، لأصبحت حياتي جميلة ، ولنسيت كل الألم.
في الساعة التالية ، شعرنا ببعض الإحراج من نظرات الزبائن وابتسامة النادل ، الذي أحس بنا ، فما كان منه إلا أن أعاد نفس التسجيل ونفس الأغاني القديمة ، التي كنا نعشقها.
- منذ اليوم ، ستكونين معي الوقت كله ، لا تتركيني ، إني بحاجة إليك.
-أتركك ! بل قل لا تتركني ، أنا التي بحاجة إليك ، لحظة واحدة لن أتركك.
زاد شعورنا بالإحراج ، حاول أن يساعدني كي أقوم من مكاني لنذهب في طريقنا ، تمسكت به وبدفئه ، وقمنا كشخص واحد ، وتحركنا كشخص واحد ، مشينا قليلاً في الشارع ، الصباح بارد جميل ، مطر خفيف ترسله السماء ، ليفرّج الغم عن قلوب العباد ، دلفنا إلى مقهى آخر ، واخترنا طاولة منفردة في الزاوية المعتمة ، جلسنا كشخص واحد ، التغلغل في معطفه يعطيني دفئاً لا أريد عمري أن أغادره.
مرت ساعتان ، قارب الوقت الظهيرة ..
*هل تأخرنا ! هو يسألني ..
*تقصد ثلاثون عاماً التي مضت !.. لا يهمني شيء .. فأنا معك.
*هل نتزوج قبل أن نخبر أحدا .. مازال لدينا ساعتين لمكتب الزواج .. يمكننا أن ننهي الاجراءات قبل نهاية الدوام ، والخواتم نشتريها في طريقنا.
*علينا أن نسرع .. سوف تتفاجأ أمي كثيراً .. ولكنها لن تغضب مني .. سأعوضهم بحفلة صغيرة بعد شهر العسل .. هل لديك بيت !
*اطمئني .. البيت جاهز لا ينقصه إلا أن تكوني فيه.
*علينا أن نسرع .. أخشى أن نضطر إلى الانتظار حتى الغد .. لن أتحمل ذلك .. قم بنا .. أرجوك أن تسرع ..




أحمد فؤاد صوفي
اللاذقية – سوريا
أيلول 2023


قديم اليوم, 03:42 PM
المشاركة 2
أحمد فؤاد صوفي
كاتب وأديـب

اوسمتي

  • موجود
افتراضي رد: قصة قصيرة *العمر يبدأ من جديد*
قراءة سياقية–وجودية في القصة القصيرة «العمر يبدأ من جديد» للكاتب أحمد فؤاد صوفي
نقد/ عباس علي العكري
الملخص
تتناول هذه الدراسة القصة القصيرة «العمر يبدأ من جديد» للكاتب أحمد فؤاد صوفي من خلال مقاربة سياقية–وجودية، حيث تسعى إلى الكشف عن كيفية إعادة بناء الزمن والذاكرة والحب عبر السرد. اعتمدت الدراسة منهجًا تكامليًا يجمع بين التحليل السياقي–التاريخي، والفلسفة الوجودية، والمقاربات المساندة مثل التحليل النفسي، النقد النسوي، والدراسات السوسيولوجية. وقد خلصت النتائج إلى أن القصة لا تُختزل في حكاية عاطفية متأخرة، بل تقدم رؤية فلسفية عميقة تعيد تعريف الهوية والحرية والذاكرة. كما تبرز الدراسة أن النص يُحوّل اللقاء العاطفي بعد ثلاثين عامًا إلى لحظة ولادة جديدة، حيث يصبح الحب فعل مقاومة للزمن والعدم.

الكلمات المفتاحية:
القصة القصيرة – أحمد فؤاد صوفي – الوجودية – السياق الثقافي – الذاكرة – الزمن – الهوية – التناص

المقدمة
تسعى هذه الدراسة إلى تقديم قراءة سياقية–وجودية للقصة القصيرة «العمر يبدأ من جديد» للكاتب أحمد فؤاد صوفي، وهي قصة تُبنى على جدلية الذاكرة والحب والزمن، حيث يتقاطع الماضي مع الحاضر عبر لقاء عاطفي يعيد تشكيل الوعي والهوية. إنّ أهمية هذه القصة لا تكمن في أحداثها البسيطة فحسب، بل في قدرتها على استحضار قضايا إنسانية كبرى مثل الغياب والحنين والانتظار، وما يرتبط بها من أبعاد نفسية واجتماعية ورمزية.

وتأتي هذه القراءة في إطار نقدي يسعى إلى المزج بين المقاربة السياقية، التي تربط النص بفضائه التاريخي والاجتماعي والثقافي، والمقاربة الوجودية التي تسلط الضوء على قضايا الحرية والاختيار والقلق، لتبيّن أن النص ليس مجرد قصة حب متأخرة، بل هو تأمل فلسفي في معنى الوجود ذاته.

تعتمد الدراسة على منهج تكاملي يجمع بين:
1. المنهج السياقي: من خلال ربط النص بالظروف التاريخية والاجتماعية والثقافية التي أحاطت به، وبالخطاب الأدبي الذي يتفاعل معه من خلال التناصّ والإحالات المرجعية.
2. المنهج الوجودي: عبر التركيز على البعد الفلسفي للنص، خاصة ما يتعلق بالحرية والقلق والاختيار، وكيفية مواجهة الشخصيات للزمن والموت الرمزي.
3. المقاربات المساندة: الاستعانة بعلم النفس التحليلي (فرويد، لاكان، يونغ)، والدراسات الاجتماعية (بورديو، هابرماس)، والنقد النسوي، إضافة إلى نظريات السرد الحديثة (جينيت، بروب، باختين).
هذا التداخل المنهجي يتيح قراءة متعددة الأبعاد، تُبرز غنى النص وقدرته على استيعاب مستويات تحليلية متباينة.


تهدف الدراسة إلى:
1. كشف البنية السردية للقصة وإظهار آلياتها الفنية في بناء الزمن والذاكرة والحب.
2. توضيح البعد الوجودي–الفلسفي للنص، عبر إبراز علاقة اللقاء المتأخر بفكرة الحرية والاختيار وتجديد الحياة.
3. تحليل الرموز والإشارات التناصّية (الأغاني، الأمكنة، المطر) ودورها في إعادة إنتاج المعنى داخل القصة.
4. إبراز التداخل بين الفردي والجماعي في تشكيل الذاكرة والهوية، وكيفية انعكاس البنية الاجتماعية على التجربة الشخصية.
5. إغناء الخطاب النقدي حول القصة القصيرة العربية المعاصرة، من خلال تقديم قراءة تجمع بين الأفق السياقي والعمق الفلسفي الوجودي.

أظهرت القراءة السياقية–الوجودية للقصة القصيرة «العمر يبدأ من جديد» أن النص يتجاوز حدود الحكاية العاطفية ليطرح أسئلة فلسفية وإنسانية عميقة عن الزمن والهوية والذاكرة. لقد تبيّن أن السرد عند أحمد فؤاد صوفي لا يقوم على تسلسل زمني تقليدي، بل على جدلية الماضي والحاضر، حيث يُعاد تشكيل المعنى في لحظة واحدة مكثفة. كما كشفت الدراسة عن حضور قوي للرموز والتناصّات (الأغنية، المطر، المكان) التي تعمل كوسائط دلالية تعيد إنتاج التجربة الوجودية للشخصيات. إن القصة تُثبت أن الحب، حين يقترن بالذاكرة والانتظار، يصبح مقاومةً للعدم وتجاوزًا لسطوة الزمن، وأن اللقاء العاطفي المتأخر يمكن أن يكون لحظة ولادة ثانية تعيد للذات معناها وللحياة بريقها.


تمهيد
النص الذي بين أيدينا هو قصة قصيرة للكاتب أحمد فؤاد صوفي، تقوم بنيتها السردية على استدعاء الماضي من خلال لقاءٍ عابر يعيد تشكيل الحاضر، ويجعل من الذاكرة والحنين والانتظار عناصر محركة للأحداث والشخصيات. هذا النص يتأسس على ثنائية الغياب/الحضور، الزمن/الحب، وهو ما يفتح باب القراءة النقدية عبر مقاربات متعددة تجمع بين التحليل السياقي–التاريخي، والبعد الوجودي–النفسي، في إطار لغة رقيقة تنسج تفاصيل اللقاء على إيقاع موسيقى وأغنيات قديمة تحولت بدورها إلى شخوص رمزية داخل السرد.

يُعد أحمد فؤاد صوفي كاتباً يميل إلى الأسلوب الوصفي الدقيق الذي يلتقط المشهدية اليومية ويغمرها بطابع وجداني، حيث يختلط السرد بالذاكرة ويذوب الحاضر في الماضي. لغته سلسة لكنها محمّلة بالشجن، وهو بذلك يقف على تقاطع الرومانسية: التي تعلي من شأن العاطفة والخيال والواقعية: التي تصف الحياة كما هي بتفاصيلها الدقيقة. أسلوبه يتيح إمكان قراءة نصوصه من خلال علم السرد: دراسة البنية السردية، كما من خلال التحليل النفسي: تفسير الشخصيات والدوافع.

عند اختيار نوعية القراءة المناسبة للنص، بدا واضحاً أن التأويل السياقي: ربط النص بالظروف الثقافية والتاريخية والاجتماعية مع الفلسفة الوجودية: التي تركز على الحرية والاختيار والقلق يشكلان المدخل الأمثل لفهم البنية العاطفية والزمنية في القصة. فالنص لا يمكن عزله عن مفهوم الذاكرة: استدعاء الماضي في الحاضر ولا عن مفهوم الزمن: الخط المستقيم الذي يتحول إلى دائرة عبر الحنين.
من زاوية البنيوية: التي تركز على العلاقات الداخلية للنص، نلحظ أن القصة تنبني على بنية التوازي: مطاردة/مطاردة معكوسة، غياب/لقاء، ماضي/حاضر، خوف/طمأنينة. أما عبر فيلسوف التأويل بول ريكور: ركز على العلاقة بين الفهم والتفسير والمعنى، يمكن تبيّن وسائطه الأربعة، حيث يتجلى القصدية: وعي الشخصيات بالفعل واللقاء، والفهم: إعادة تركيب التجربة المشتركة، والتفسير: عقلنة الحدث العاطفي، والمعنى: خلاصات الحب والوجود.

في بعد آخر، تستحضر القصة مفاهيم الحنين: استعادة الماضي بلهفة عاطفية والرغبة: القوة المحركة للشخصيات، كما تستحضر الهوية: إعادة تعريف الذات بعد ثلاثين عاماً والآخرية: كيف يصبح الحبيب هو المرآة التي يرى الفرد ذاته من خلالها. على مستوى الفلسفة الوجودية، يمكن استحضار سارتر: الحرية والالتزام، وكامو: عبثية الزمن، وهايدغر: الوجود–في–العالم، حيث يلتقي الثلاثة في تأكيد أن الحب واللقاء يشكلان مقاومة للعدم.

على الصعيد النفسي، تتيح القصة قراءة عبر فرويد: اللاوعي والذكريات المكبوتة، ويونغ: النماذج الأصلية والظل، ولاكان: المرآة والهوية، وكريستيفا: الحزن والاكتئاب كفضاء نصي. كل شخصية من هؤلاء تضيف زاوية تفسيرية، فدموع البطلة يمكن فهمها كتطهير: تنفيس عاطفي، والمطاردة الأولى كرمز القلق: خوف من الفقد المتكرر.

كما يتضح حضور البعد الاجتماعي عبر بورديو: رأس المال الرمزي والاجتماعي، وغرامشي: الهيمنة الثقافية، وسعيد: المثقف والذاكرة، وهابرماس: الفضاء العمومي. فالمقهى والمجمع التجاري ليسا مجرد أماكن، بل فضاءات اجتماعية حيث تنعكس بنية المجتمع ونظرات الآخرين، مما يضاعف من الإحراج والوعي الجمعي.

أما من منظور دراسات الجندر، فالقصة تتيح قراءة عبر دي بوفوار: المرأة والحرية، وبتلر: الهوية الجندرية كأداء، وشووالتر: النقد النسوي، وهوكس: الحب كقوة مقاومة. البطلة هنا لا تُعرّف ذاتها إلا بقرارها الحر أن تستعيد الحب، وهو فعل مقاومة في وجه العمر والذاكرة والسلطة الاجتماعية.

البنية الرمزية للنص تكشف حضور باشلار: جمالية المكان والذاكرة، وكافكا: الاغتراب، وتودوروف: نظرية العجائبي، إذ يتحول المجمع والمقهى إلى فضاءات رمزية بين الانفصال والوصال، بينما المطر الخفيف يصبح رمز التطهير: تجديد الحياة. أما الأغاني التي تسردها القصة فتعمل كتَناص: إحالات نصية/فنية، حيث يصبح صوت فرانك سيناترا أو ديميس روسوس حضوراً متجاوزاً للزمن.
تكشف القصة أن العمر يمكن أن يبدأ من جديد حين تتجدد الحب: الطاقة التي تهزم الزمن، وأن النص نفسه يعمل كميتاسرد: قصة عن الذاكرة والزمن والحب. بذلك، يتضح أن اختيار القراءة السياقية–الوجودية كان مناسباً، لأنها تسمح بدمج البعد النفسي والاجتماعي والرمزي، وتبين أن النص ليس مجرد قصة حب متأخرة، بل هو تأمل في معنى الوجود ذاته، وكيف يمكن للإنسان أن يستعيد ذاته عبر الآخر، مهما مر الزمن.

إن جوهر الفائدة من هذه القصة القصيرة يكمن في أنها تعلّمنا أن الزمن ليس خطاً قاسياً، بل دائرة يمكن أن تفتح من جديد بالحب والذاكرة. النص يذكّرنا أن الأمل: انتظار المستقبل المشرق والإيمان: التصديق بإمكانية الحياة يفتحان باباً يتجاوز ثلاثين عاماً من الغياب. إنها قصة تثبت أن الحياة لا تُقاس بالسنوات، بل باللحظات الصادقة التي تُعاش بكامل القلب.

التحليل النقدي
في مشهد اللقاء العاطفي بعد ثلاثين عامًا، يتبدى أن الزمن لم يُضعف الهوية العاطفية للشخصيتين، بل أعاد تشكيلها عبر فضاء مزدوج: اجتماعي وذهني. وهو ما يقارب ما ورد في دراسة حول منرو [1]. البطلة هنا تعيش في فضاء واقعي هو المقهى ونظرات الزبائن، لكنها في الوقت نفسه تصوغ فضاءً داخليًا موازياً حيث لا وجود إلا للحب، وهذا ما يفسر دموعها الصامتة التي لا تحتاج إلى كلمات.

كما أن الأغنية المستعادة في النص [2] تشكل صورة نصية متداخلة مع السرد ذاته، بحيث تتحول إلى جزء من الحوار الداخلي للشخصيات. وفق مقاربة التناص، يؤكد جينيو [3]. هذا يعني أن الأغنية ليست مجرد خلفية موسيقية، بل نص حاضر داخل النص، يعمل كذاكرة مشتركة تعيد بناء الماضي في الحاضر.

أما على المستوى النفسي، فإن لقاء الحبيبين يكشف اندفاعات مكبوتة ظهرت في شكل بكاء متواصل ورغبة في تعليق الزمن. فرويد يرى أن الأحلام تحقق الرغبات المكبوتة [4]. اللقاء هنا يعمل كحلم يقظة يُحقق أمنية طال انتظارها، فالدموع والانصهار الجسدي لا يُمكن فهمها إلا كتحقق لحلم قديم ظل مكبوتًا طوال ثلاثين عامًا.

كذلك يمكن ربط صمت الشخصيتين وجلوسهما جنبًا إلى جنب بما تسميه كريستيفا «محو الذات المتكلمة» لإنتاج خطاب يبدو بلا ذاتية [5]. فالصمت ليس عجزًا عن التعبير، بل اختيار أسلوبي يمنح الفعل العاطفي قوة أكبر من القول، وكأن الخطاب محا المتكلم ليترك المجال للحضور الجسدي والذاكرة أن تنطق وحدها.

وأخيرًا، فإن إعادة تعريف البطلة لحياتها من جديد مع الحبيب بعد ثلاثة عقود يقارب ما يصفه هامون حول الشخصية بوصفها بناءً دلاليًا يعاد إنتاجه باستمرار [6]. القارئ هنا يعيد بناء شخصية البطلة لا كامرأة أنهكها الغياب، بل كامرأة تستعيد شبابها في لحظة لقاء، حيث يبدأ العمر من جديد.

في لحظة اللقاء بعد ثلاثين عامًا، تتحول الشخصيات من مجرد رموز عاطفية إلى كائنات حيّة قادرة على التغيير والتناقض، وهذا يتوافق مع ما أشار إليه فورستر [7]. البطلة هنا لم تبقَ صورة ثابتة للحزن، بل عادت للحياة بكامل تناقضاتها بين البكاء والرغبة في الزواج الفوري.
العمر في القصة ليس مجرد خطّ زمني يُستعاد، بل قيمة داخلية مكثفة؛ إذ تذوب الثلاثون عامًا في لحظة وجدانية واحدة. وهذا يذكّر بما قاله فورستر أيضًا عن الحياة في الزمن والقيم [8]. فجلسة المقهى التي تتجاوز الزمن الواقعي تعكس «الحياة بالقيم»، حيث تُقاس اللحظة بالدفء والحب لا بالدقائق.

كما أن السرد عند أحمد فؤاد صوفي يعتمد على تقنيات الوصف الداخلي والتوازي بين الغناء والذاكرة، ما يجعل النص قريبًا من مفهوم السردية. وتؤكد زوبان سوسيتش [9]. إن استدعاء الأغنية في النص ليس مجرد ذكر، بل تكرار سردي يربط بين الماضي والحاضر ويثبت أن الحكي ذاته هو وسيلة مقاومة النسيان.

العلاقة العاطفية القائمة على الانتظار الطويل تشبه في رمزيتها صراع سانتياغو في رواية همنغواي [10]. العيون في قصة صوفي «لا تكذب»، كما عينا سانتياغو التي تحمل الأمل رغم الشيخوخة؛ إنها استعارة للحب الذي لا يهزم مهما طال الغياب.
أما فكرة أن السرد يكشف بنية اجتماعية وثقافية تُخفي قمعًا سابقًا، فهي قريبة من منظور فوكو [11]. فالبطلة عاشت ثلاثين عامًا في صمت أشبه بوصمة اجتماعية، لا يظهر للسطح إلا حين تعود للقاء؛ وكأن الجنون الغائب هو المجتمع الذي فرض عليها الانفصال لا مشاعرها الداخلية.

وفي البعد النسوي، يمكن ربط تمسّك البطلة بالحبيب بعد هذا العمر بما تؤكد عليه أليس منرو [12]. إن رفض البطلة تركه مرة أخرى هو إعلان تحرر متأخر لكنه حاسم، كأنها تكتب ذاتها خارج هيمنة المجتمع.
اللقاء العاطفي المفاجئ بعد ثلاثين عامًا يطرح نفسه كبنية سردية يمكن تحليلها عبر وظائف الشخصيات عند بروب [13]. هنا وظيفة «الغياب الطويل» ثم «اللقاء وإعادة الاتحاد» لا تتعلق بهوية الشخصيات بل بدورها السردي، حيث يتحول الانتظار إلى حركة سردية تؤسس لميلاد جديد للحياة.

كذلك نجد أن النص يشتبك مع بنية الذاكرة والأغنية بوصفها فضاءً شفاهيًا–كتابيًا. ويوضح أونغ [14]. الأغنية في القصة («طاولة منفردة لشخص واحد») ليست نصًا مكتوبًا فقط، بل تتحول إلى أداء شفاهي يعيد بناء الوعي العاطفي للشخصيتين، أي أن الذكرى تُستعاد شفاهيًا داخل فضاء كتابي (المقهى) في تداخل جدلي بين الصوت والنص.

من زاوية المكان، يفتح النص نفسه على ما يسميه فوكو فضاءات مغايرة [15]. المقهى هنا ليس مجرد مكان عابر بل فضاء يجمع الحاضر والماضي، الخاص والعام، ليجعل اللقاء العاطفي ممكنًا في قلب فضاء اجتماعي مزدحم.

ويُضاف إلى ذلك ما يؤكده باشلار عن الفضاءات الحميمية [16]. الطاولة المنعزلة، المعطف، وحتى دفء الجسد، كلها تتحول إلى «بيت مؤقت» يعيد للبطلة شعور المأوى الداخلي، وكأنها تسكن من جديد بعد اغتراب طويل.

لقاء الحبيبين بعد ثلاثين عامًا يمكن قراءته كبنية ميلاد جديد؛ إنه ميلاد ثانٍ للذات عبر الحب. ويوضح يونغ [17]. ما يحدث في القصة ليس مجرد ذاكرة فردية، بل انبعاث من لاوعي جمعي يرسّخ صورة «العاشقين العائدين»، كأحد الأنماط المتكررة في الأساطير.

الفضاء المكاني في القصة، خصوصًا المقهى والطاولة المنعزلة، يعكس ما يسميه باشلار بالاتساع الحميمي [18]. جلوسهما متلاصقين في ركن مظلم يحوّل الفضاء الخارجي إلى بيت داخلي، حيث تتسع اللحظة العاطفية لتحتوي الكون كله.

أما من حيث البنية السردية، فإن القصة تقدم نفسها كصورة متماسكة تُستوعب في لحظة، أكثر من كونها تسلسل أحداث. وهذا ينسجم مع ما يؤكده جوزيف فرانك [19]. فالحبكة هنا لا تقوم على تطور زماني بل على انصهار مكاني–شعوري، حيث الماضي والحاضر يتراكبان في مقهى واحد.

ومن زاوية الأسلوب، يقترب أحمد فؤاد صوفي من إرث تشيخوف، الذي عرّف قصته القصيرة بأنها غياب الإطناب والإيجاز الشديد والجرأة والأصالة والشفقة [20]. النص لا يشرح كثيرًا ولا يبرر، بل يعتمد على الإيحاء واللمحة الشعورية: دمعة مفاجئة، لمسة كتف، مقطع أغنية. هذا الاقتصاد في اللغة يجعل من كل تفصيل بؤرةً دلالية تعكس عمق التجربة.

في النص تبرز مسألة الزمن بوصفها محورًا رئيسيًا؛ اللقاء بعد ثلاثين عامًا يعيد تشكيل وعي الشخصيتين بالحب والذاكرة. وهذا ما تؤكده جوان سيلبر حين تشير إلى أن السرد يضغط الزمن ويكثفه [21]. إن استعادة اللقاء في لحظة واحدة تجعل من الماضي المتراكم زمناً متكثفاً، حيث يختصر النص ثلاثة عقود في بضع صفحات، وهو ما يمنح المشهد قوة وجدانية مضاعفة.

كما يمكننا أن نقرأ النص من زاوية الذاكرة الجماعية والفردية معًا. فحين يتحدث هالبواكس عن التعليم والذاكرة، يوضح أن التربية هي أقوى أداة يملكها المجتمع لصياغة أفراده [22]. هنا، اللقاء في المقهى ليس فقط استرجاعًا عاطفيًا، بل فعل تذكير بالهوية نفسها، إذ يعيد الشخصان صياغة ذواتهما عبر ذكرى مشتركة صنعتها الذاكرة والتعليم الثقافي (الموسيقى، الأغاني، الطقوس اليومية).

ومن زاوية السرد، نلحظ أن الراوي يبطئ الزمن بشكل حاد في لحظة المقهى، وكأن الدقائق تتحول إلى أبدية. هذا يتقاطع مع ما وصفه بروست في مفهوم الزمن البطيء [23]. إن وصف القهوة الباردة، التصاق الجسدين، والموسيقى القديمة، كلها تفاصيل صغيرة تخلق إحساسًا غامرًا بالزمن الداخلي، حيث يتحول العادي إلى تجربة كبرى.

في المقابل، تكشف دينامية اللقاء أيضًا عن حضور الأنماط البدئية بالمعنى اليونغي. فالحب القديم المستعاد يمثل نمط الميلاد من جديد، إذ يوضح يونغ أن الميلاد الجديد يمكن أن يُعاش كتحول في الشخصية عبر تجربة مباشرة [24]. وهنا يصبح اللقاء لحظة ميلاد جديد، يعيد للشخصيتين إمكانية استئناف الحياة بعد أن ظنّا أن الزمن قد انتهى.

في لحظة اللقاء التي تلغي ثلاثين عامًا من الفقد، تتجسد «النصية» بالمعنى الحديث، حيث لا يعود النص مجرد جمل متتابعة بل شبكة متماسكة من العلاقات. كما ورد في دراسة حديثة أن النص ليس مجرد تسلسل من الجمل بل حدث تواصلي يتطلب التماسك والتناص وغيرها [25]. القصة توظف هذه المعايير مجتمعة: من التماسك عبر الأغنية، إلى القصدية في إعادة بناء الهوية، وصولاً إلى التناص مع الأغاني الأجنبية التي تعيد تشكيل التجربة.

كما أن العلاقة بين البطلة وحبيبها تتقاطع مع تصوير المرأة في روايات نجيب محفوظ، حيث يقول عن شخصية «أمينة» في رواية بين القصرين [26]. ثمة صدى واضح: كلتاهما تعيش في عزلة طويلة، تحت وطأة الخوف والانتظار، قبل أن يعيد اللقاء أو الزواج صياغة مصيرها.

أما من زاوية علم السرد، فإن الراوي في قصة صوفي يقترب من نمط السرد الداخلي، حيث يترك للقارئ أن يعيش التجربة من داخل الشخصية. ويوضح جاهن [27]. البطلة هنا هي «الراوي–الخبير» و«الراوي–الذي يعيش التجربة» في الوقت نفسه؛ فهي تحكي وتبكي وتعيش الموقف دفعة واحدة.

من جهة أخرى، يمكن قراءة توازي الأصوات والذكريات وفق مفهوم المنظور السردي [28]. النص يستخدم البطلة كعاكسة للأحداث، إذ نرى كل شيء من زاوية دموعها وصمتها، بينما يغيب أي وصف محايد خارجي تقريبًا.

الحب بعد ثلاثين عامًا في النص يمكن أن يُقرأ كصورة للميلاد من جديد. ويوضح يونغ [29]. اللقاء هنا يعيد إنتاج صورة «العاشقين العائدين»، وهو نمط بدئي يندرج ضمن الذاكرة الجماعية أكثر مما هو تجربة فردية.

كما أن النص يقوم على لعبة اللذة في القراءة، حين يدفع القارئ إلى التلذذ بالصمت والانتظار. ويبين بارت [30]. القصة تخلق لحظة لذة نصية في تفاصيل صغيرة: قهوة باردة، معطف دافئ، موسيقى قديمة، وكلها تحيل القارئ إلى جسده هو عبر لغة العاطفة.

أما شخصية البطلة، فهي ليست فقط امرأة تنتظر، بل شخصية مصنوعة عبر شبكة من التقاليد والتوقعات. كما يرد في دراسة عن الشخصية في العصور الوسطى [31]. البطلة في نص صوفي مشدودة بين فرديتها (قرارها بالزواج السريع) وتراث ثقافي واجتماعي يحدد كيف يُنظر إليها.

البنية الحوارية القائمة على الصمت واللمسات يمكن قراءتها تداوليًا. فالتداوليات تدرس مثل هذه الحالات [32]. حين تضع البطلة رأسها على كتفه بلا كلام، فهذا فعل كلامي غير مباشر يكافئ إعلانًا صريحًا عن الحب.

البنية السردية في القصة تقوم على كسر الألفة: مطاردة معكوسة، لقاء غير متوقّع، ومفاجأة عاطفية. وهذا يتقاطع مع مفهوم التغريب عند شكلوفسكي [33]. فالقصة تُعيد إلينا الحياة من خلال جعل المشهد المألوف (مقهى، أغنية قديمة) غريبًا وصادمًا كأنه يُرى لأول مرة.
أما حضور الأغنية والمشهد البصري (المقهى، الطاولة، المطر) فيحيلنا إلى مفهوم الصورة عند بارت [34]. الأغنية في النص تعمل مثل الصورة: حضور مباشر وواقعي بلا وساطة، لكنها في الوقت نفسه مشبعة بالرموز والذكريات، أي أن الرسالة المستمرة تحولت إلى رسالة مزدوجة.

القصة أيضًا تبني تصورها للزمن كمعضلة فلسفية، وهذا ما يتقاطع مع ريكور الذي يرى أن الزمن يصبح زمنًا إنسانيًا حين يُعاد تركيبه عبر السرد [35]. الزمن في «العمر يبدأ من جديد» لم يعد تقويماً ميكانيكياً بل زمنًا إنسانيًا أعيد تركيبه عبر السرد، بحيث صارت ثلاثون عامًا مجرد لحظة لقاء واحدة.

وبالعودة إلى المرجعية الدينية–الفلسفية، فإن البكاء في القصة يمكن فهمه في ضوء أوغسطين كما يقرأه ريكور، حين يتحدث عن تشتت النفس بين الماضي والآتي والحاضر [36]. دموع البطلة هنا هي التعبير الجسدي عن هذا التمزق بين الذاكرة والتوقع واللحظة، أي أن النص كله تجسيد شعوري لفلسفة الزمن عند أوغسطين.

اللغة التي صاغ بها أحمد فؤاد صوفي نصه ليست مباشرة أو تقريرية، بل مبنية على ما يسميه بروكس «لغة المفارقة» [37]. القصة تضعنا أمام مفارقة: ثلاثون عامًا من الغياب تذوب في لحظة حب، الزمن الطويل يصبح لحظة قصيرة، واللقاء المؤقت يُشعر الشخصيتين بأنه حياة كاملة. هذه المفارقة هي جوهر شعرية النص.

كما أن الحوار بين الحبيبين يعتمد على استراتيجيات المجاملة وحفظ الوجه. ويوضح براون وليفنسون [38]. عندما يطلب الحبيب الزواج بسرعة، فهو يتجنب تهديد «وجه» البطلة السلبي عبر تضمين نفسه في القرار: «علينا أن نسرع» بدل «عليك أن تسرعي». هذه الاستراتيجية تجعل الطلب أكثر حميمية وأقل تهديدًا.

النص أيضًا يكشف عن حساسية التوازن الاجتماعي، فالمقهى فضاء عام والزبائن شهود على علاقة خاصة. هذا يتطلب توظيف ما تسميه النظرية «المجاملة غير المباشرة»، حيث يظل الكلام غير مباشر ويُستعاض عنه بالإيماءات (الصمت، الدموع، الالتصاق الجسدي). ويشير براون وليفنسون [39]. الصمت هنا ليس عجزًا بل «تلميح» دقيق، دعوة ضمنية للآخر كي يفهم الرغبة بدون تصريح.

القصة تبني نفسها على سلسلة من الأفعال المتتابعة التي تشكل وحدة سردية مغلقة، وهذا يقارب ما وضعه بروب في كتابه عن مورفولوجيا الحكاية [40]. نص صوفي يظهر كأنه يشتغل على «مورفولوجيا» للحب ذاته: غياب، عودة، لمسة، اتحاد، وهي وظائف تتكرر في الحكاية الشعبية لكن هنا معكوسة في إطار واقعي–عاطفي.

أما على مستوى الزمن، فإن النص يعتمد على المفارقات الزمنية كما يوضح جينيت [41]. السرد يطوي ثلاثين عامًا من الفقد في جمل قصيرة ثم يبطئ الزمن في لحظة القهوة والدموع، ليجعل «زمن الحكاية» و«زمن السرد» في توتر مستمر.
كذلك يمكننا أن نقرأ البنية المزدوجة في النص بين «حكاية الغياب» و«حكاية اللقاء» في ضوء ما شرحه تودوروف عن الرواية البوليسية [42]. في نص صوفي، الحكاية الأولى هي الغياب الطويل (ما حدث في الماضي)، بينما الحكاية الثانية هي كشف اللقاء الحالي وكيفية استعادته.
بهذا الشكل يصبح النص قائمًا على بنية مزدوجة، حيث الماضي يمثل «الجريمة» الرمزية (الفقد، الانفصال)، والحاضر يمثل «التحقيق» أو الكشف (اللقاء، الدموع، قرار الزواج السريع). هذا البناء يضاعف الأثر الدرامي ويمنح النص طابعًا بوليفونيًا بين ما غاب وما يُروى الآن.

القصة عند قراءتها من منظور النص القابل للقراءة والنص القابل للكتابة تكشف عن تداخل بين النص المغلق والنص المفتوح. ويوضح بارت [43]. نص أحمد فؤاد صوفي يبدو في ظاهره نصًا قابلاً للقراءة لأنه يقدّم عاطفة مباشرة وسردًا متسلسلًا، لكنه في العمق نص قابل للكتابة حين يترك فجوات للصمت والدموع، ويفرض على القارئ أن يُنتج المعنى بنفسه.

الفضاء السردي (المقهى، الطاولة، المطر) ليس مجرد خلفية محايدة، بل هو ما يسميه لوفافر الفضاء الاجتماعي [44]. المقهى إذن ليس مكانًا عابرًا، بل فضاءً اجتماعيًا يُنتج العلاقة بين العاشقين، يشرعن لقاءهما، ويُعيد صياغة الزمن والذاكرة.

أما من زاوية يونغ، فإن اللقاء بعد ثلاثين عامًا يعكس صورة الميلاد من جديد [45]. عودة الحبيب ليست حدثًا فرديًا فقط، بل هي تمظهر لصورة بدئية إنسانية، حيث يولد الحب من جديد رغم الموت الرمزي للزمن الطويل.

على مستوى تقنية السرد، نستطيع أن نقرأ الراوي في القصة وفق ما يشرحه واين بوث عن المؤلف الضمني والراوي غير الموثوق. فهو يقول إن من أبرز وسائل السرد الدخول إلى أعماق الشخصية لإظهار مشاعرها [46]. في النص، الراوي يمنحنا دخولًا مباشرًا إلى داخلية البطلة (دموعها، رغبتها، صمتها)، وهو ما يجعلنا نثق في صوته رغم غياب السرد الموضوعي المحايد. هنا يعمل «المؤلف الضمني» كضامن للعاطفة، لا كصوت خارجي متعالٍ.

الراوي في النص يظهر بصفته شاهدًا داخليًا يعيش التجربة وهو نفسه «الراوي–المُخاطِب». ويوضح جيرالد برنس [47]. في القصة، البطلة هي الساردة والمتلقية في آن واحد، مما يجعل السرد محمّلاً بالعلامات التي تكشف علاقتها بالحدث أكثر من اهتمامه بالحياد الموضوعي.
النص أيضًا يُظهر خصائص الفن كمولّد للغة بالمعنى الذي طرحه لوتمن [48]. القصة إذن ليست مجرد حكاية حب، بل «مولّد لغات» جديد يُعيد صياغة التجربة الإنسانية بلغة الأغنية والدموع والصمت.

وإذا قرأنا القصة في ضوء أعمال جيمس جويس ومجموعة "أهل دبلن"، نجد التشابه في التباس الواقعية والرمزية. كما يقول باتريك مكارثي [49]. وهذا ينطبق على نص أحمد فؤاد صوفي: البنية تبدو شفافة وسهلة (لقاء في مقهى)، لكنها تُخفي شبكة معقدة من الرموز (المطر، الموسيقى، الزمن المعلق).

أما من زاوية النظرية الأدبية العامة، فيوضح فيلِك ووارن [50]. القصة تجسد هذا التعقيد: هي حكاية حب، لكنها أيضًا طبقات متداخلة من الذاكرة والرمز والفضاء الاجتماعي.

البنية الزمنية في القصة تتجسد كما وصفها ريكور [51]. لقاء الحبيبين بعد ثلاثين عامًا ليس مجرد صدفة، بل هو حبكة تعيد تركيب الماضي والصدفة في وحدة سردية تمنح الزمن معنى جديدًا.

من جهة أخرى، نستطيع أن نرى السرد يتناص مع تراث شهرزاد في "ألف ليلة وليلة" [52]. هنا أيضًا البطلة تؤجل النهاية عبر التعلق باللحظة الراهنة (المقهى، المطر، الطاولة المنفردة)، كما لو أنها تسرد لتبقي حياتها العاطفية حيّة.
أما من زاوية تحليل الخطاب، فالمفهوم العربي–الغربي يوضح أن الخطاب هو فعل توجيه الكلام للآخر من أجل الفهم والتأثير [53]. في القصة، الصمت بينهما ليس فراغًا بل «خطاب» بمعناه التداولي؛ فالدموع والإيماءات تعمل كأفعال خطابية تُقنع الآخر بالحب دون كلمات.

وأخيرًا، يفتح باختين الأفق لفهم تعددية الأصوات في النص [54]. قصة صوفي تعكس هذا التوتر: المجتمع (نظرات النادل، أعراف الزمن) يمثل القوة الطاردة، بينما الحب والذاكرة يمثلان القوة الجاذبة التي تجعل الشخصيتين «كشخص واحد».

تُبرز القصة أن اللقاء بعد ثلاثين عامًا ليس مجرد حدث عاطفي بل خطاب ينسج الزمن والذاكرة. ويوضح يقطين أن تحليل الخطاب الروائي يكشف عن تضافر مستويات متعددة: البنية السردية، والرؤية، واللغة، والفضاء، بما يجعل الرواية نسقًا متكاملًا. بهذا الفهم، دموع الشخصيتين ليست تفصيلًا ثانويًا بل جزء من نسق الخطاب الذي يعيد تشكيل الزمن والحب معًا.

أما مرتاض فيرى أن الرواية تتخذ لنفسها ألف وجه، وترتدي في هيئتها ألف رداء، وتتشكل أمام القارئ تحت ألف شكل؛ فهي تشترك مع الحكاية والأسطورة بقدر ما تستميز عنها بخصائصها الحميمة. هذه الرؤية تجعل من النص مساحة أسطورية واقعية في آن، حيث يتحول اللقاء العابر في المقهى إلى ملحمة ذاتية تعكس صراع الذاكرة والزمن.

النص أيضًا يكشف عن حساسية التوازن الاجتماعي، فالمقهى فضاء عام والزبائن شهود على علاقة خاصة. هذا يتطلب توظيف ما تسميه النظرية «المجاملة غير المباشرة»، حيث يظل الكلام غير مباشر ويُستعاض عنه بالإيماءات (الصمت، الدموع، الالتصاق الجسدي).
القصة تبني نفسها على سلسلة من الأفعال المتتابعة التي تشكل وحدة سردية مغلقة، وهذا يقارب ما وضعه بروب في كتابه عن مورفولوجيا الحكاية. نص صوفي يظهر كأنه يشتغل على «مورفولوجيا» للحب ذاته: غياب، عودة، لمسة، اتحاد، وهي وظائف تتكرر في الحكاية الشعبية لكن هنا معكوسة في إطار واقعي–عاطفي.

أما على مستوى الزمن، فإن النص يعتمد على المفارقات الزمنية كما يوضح جينيت. السرد يطوي ثلاثين عامًا من الفقد في جمل قصيرة ثم يبطئ الزمن في لحظة القهوة والدموع، ليجعل «زمن الحكاية» و«زمن السرد» في توتر مستمر.

كذلك يمكننا أن نقرأ البنية المزدوجة في النص بين «حكاية الغياب» و«حكاية اللقاء» في ضوء ما شرحه تودوروف عن الرواية البوليسية. في نص صوفي، الحكاية الأولى هي الغياب الطويل (ما حدث في الماضي)، بينما الحكاية الثانية هي كشف اللقاء الحالي وكيفية استعادته.
بهذا الشكل يصبح النص قائمًا على بنية مزدوجة، حيث الماضي يمثل «الجريمة» الرمزية (الفقد، الانفصال)، والحاضر يمثل «التحقيق» أو الكشف (اللقاء، الدموع، قرار الزواج السريع). هذا البناء يضاعف الأثر الدرامي ويمنح النص طابعًا بوليفونيًا بين ما غاب وما يُروى الآن.

التوصيات للكاتب
الاستمرار في توظيف البعد الرمزي–الاجتماعي: إذ أبرز النص قدرة عالية على تحويل الأمكنة العادية (المقهى، الطاولة) إلى فضاءات دلالية عميقة.
1. تعميق البنية الحوارية الصامتة: فقد نجح الكاتب في جعل الصمت فعلًا سرديًا مكافئًا للكلام، ويمكن تعزيز هذه التقنية لتوسيع أفق التلقي.
2. المزج بين المحلي والكوني: القصة تبرز همومًا وجودية شاملة، ومن المهم الحفاظ على هذا التوازن بين السياق العربي والبعد الإنساني العام.
3. تطوير استخدام التناصّ: الأغاني والأصوات النصية كانت عناصر ثرية، ويمكن استثمارها في نصوص أخرى لتعميق العلاقة بين الأدب والفنون المجاورة.

التوصيات للدراسات المستقبلية
1. دراسة مقارنة بين نصوص أحمد فؤاد صوفي ونصوص كتاب آخرين عالجوا ثيمات الذاكرة والزمن، مثل نجيب محفوظ أو أليس مونرو.
2. المزج بين النقد الأدبي وعلم النفس: لفهم أعمق للبكاء والصمت والحنين كآليات سردية ونفسية في آن واحد.
3. تحليل الخطاب الجندري: لاستكشاف كيفية بناء صورة المرأة في نصوص الكاتب، ومقارنتها مع أطروحات النقد النسوي.
4. دراسة التلقي: كيف يستجيب القراء المختلفون لموضوع «الحب المتأخر»؟ وهل يقرأونه كتجربة شخصية أم كفلسفة وجودية؟
5. توسيع نطاق البحث إلى القصة القصيرة العربية المعاصرة، ورصد مدى حضور ثنائية الذاكرة–الزمن فيها كموضوع رئيسي.


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 1 والزوار 1)
أحمد فؤاد صوفي

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: قصة قصيرة *العمر يبدأ من جديد*
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
قصة قصيرة *العمر يبدأ من جديد* أحمد فؤاد صوفي المقهى 1 09-16-2023 10:59 AM
يتيم أنين أحمد منبر القصص والروايات والمسرح . 15 09-13-2017 10:31 PM
الربيع بن خثيم عبدالله علي باسودان منبر ذاكرة الأمكنة والحضارات والأساطير 0 11-02-2015 09:26 PM
من التابعين الربيع بن خثيم عبدالله بن علي منبر الحوارات الثقافية العامة 0 09-26-2013 09:04 PM
من التابعين : الربيع بن خثيم عبدالله باسودان منبر الحوارات الثقافية العامة 0 06-03-2013 06:41 PM

الساعة الآن 08:20 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.