قديم 07-03-2013, 11:30 AM
المشاركة 21
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


حرقة الغربة التي استشعرتها في الأسبوع الأول تعادل ما تعانيه الأرملة حين تترك وحيدة لمجابهة الحياة بلا رفيق و لا مؤنس ولا رؤوف تأوي إليه في ليلي الشتاء الطوال ، و لا مرفه ينعشها أيام القيض المحرقة ، ليس بالهين أن يفطم الرضيع بعد تعوده على ثدي أمه أكلة شهية وشرابا معسولا ولعبة لينة يصنع منها أشكالا تروقه ، نهاية الأسبوع أرتقبها بلهفة العطشان ، وشراهة الجائع وشهوة العازب ، عشرة أميال كل ما يفصلني عن مضجعي ، عشرة أميال أشقها مشيا على القدمين ، مرة أجري ، مرة أقفز عبر طريق محجرة معوجة حفرت فيها حوافر البغال أخاديد كتلك التي تتركها مياه الأمطار حين تجرف التراب في المنحدرات ، لا أبالي بالتعب ، ولا الملل ، تتراءى أمام مقلتي زوايا منزلنا ، أكاد أشاهد أمي راكعة فوق موقد ناري تسوي العجين على خزف مقوس يشتغل جوف الموقد ، أكاد أشم رائحة الخبز وقد احترقت جوانبه .
كل يوم نطوف على أعداد من الأساتذة ، كل منهم ينتهج منهجا مخالفا للآخر ، فذلك مرح مشجع والآخر ناقم عصبي ، وفلان مسترخ لين لا يكاد يحس بالسرعة من حوله ، والآخر عنصري يتقطر حقدا على البدويين ، و قد تجد من بينهم إنسانا عمليا غير قابل للتصنيف ، كل منهم يفرغ حمولة زائدة على ذاكرة التلميذ المتعبة ، بدأ عودنا يتصلب ، و بدأت أصواتنا تأخذ نبرة رجولية ، نستحلي كل ما هو عاطفي ، كان أستاذ اللغة العربية العربية من يصب في نارنا زيتا ، فارع الطول مزغب اليدين ، ذو شنب كث أسود ، كثير التدخين ، أستاذ متفهم لا تسمع من فمه سبا وقدحا ، يؤدي رسالته الأدبية بامتياز ، متزن في علاقته مع التلميذ ، يتقمص دور الكاتب أو الشاعر حتى لا نكاد نفرق بينهما ، قصائد ونصوص بذرت في أعماقنا فنون الإحساس والذوق الجميل ، و بدأت أرواحنا تفنى في شخوص جهابدة هذا الميدان ، فترانا ندافع عن ذلك الجاهلي ضد أو مع قبيلته ، ونلتمس للمتغزل شفاعة عند أهل معشوقته ، و نوافق الصعلوك على تمرده الناجم عن حب الفضيلة ، ونسترجع أمجاد الأجداد ، وخيولهم المثيرة للنقع ، وبصماتهم الفنية على لوحات الأندلس ، و نحيي كبرياء حكامنا باستجابة شافية لندبة آتية من روما ، بدأنا نموقع ذاتنا بعيد عن الحيز الجغرافي الضيق بعيدا عن تلك القرية البسيطة والبلدة التي استوطناها لمدة تقارب الثلاث سنوات ، نستشف الصراع والوطن ، أخذ جوفنا يتعكر ، نتجرع بمرارة واقع وطننا القابع في ذيل الأوطان ، و يسير بتبعية عمياء لأوطان يقال عنها عظيمة ، متقدمة ، كبيرة . ندرس التاريخ فتلقاه ممتلئا بطولة ولا نجد تفسيرا لتدحرجنا إلى الحضيض ، وبدأ عزوفنا واضحا عما تقدمه شاشة التلفاز وأصوات المذياع ، حيث التغني كل يوم بتقدم مطرد و نمو متواصل في كل المجالات وفي كل ربوع الوطن ، فقدنا الثقة في كل ما كتب ويكتب ، و كل ما يقال . كنا نستهلك الأغنية الساقطة الهابطة والتجارية بلغتها الرديئة هي ما كان يبهجنا في الماضي القريب ، اكتشاف التناقض متزامن والسماع عن لون مغاير بإيقاع حزين مهيج و خطاب يرصد من الحياة وجها سلبيا قاتما ، يشاهد الدنيا بمنظار أسود فلا يكاد يفرق بين مرج أخضر وصحراء مقفرة .




قديم 07-03-2013, 12:47 PM
المشاركة 22
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي



بدأ التمرد يسري في فكرنا و أفعالنا اجتياح السم لشاة لذغتها أفعى مسمومة ، رفض لكل ما هو جاهز مسطري ، كل شيء مزور ، القيم ، الثقافة ، الإنسان ...
قصيدة الغزل لها القسط الوافر من تذوقنا للجمال الروحي والطبيعي ، تلك الكلمات التي يصوغها الهائم ، تعزف على أوتار القلوب فتعلوا نغماتها مصافحة أبراج المجد ، تطير في الفضاء الرحب مستنيرة ببريق النجوم ، تعابير تفوح عطرا كنسيم صباحي في حديقة مزهرة .
بهتت الشمس بعد يوم حار ، نسيم عليل يلاطف خياشمي ، أسير جنب الوادي المحتفظ ببقية باقية من مياه راكدة ، نساء القرية يلجن الحقول واصفرار الشمس مسلحات بمناجل و قفاف مصنوعة من جريد النخل على ظهورهن ، يغادرن عند مقدم الظلام وقد جمعن أكواما من الأعشاب .
استوى بصري على فستان مزركش كلوحة بهية رسمها فنان في ليلة عرسه ، لم يكن بصري ليغادر تلك الوردة المتفتحة ، تلك الزهرة الباسمة ، كانت فتاة تستقبل أنوثتها ببطء ، شدني صدرها الظاهر على احتشام كما لو خبأت خلف فستانها رمانتين في حجم برتقالتين ، ساقاها النحيلتان ما زالتا في سمك جذع زيتونة لم تثمر بعد عينان زرقاوان وشعر أشقر يتدلى على كتفيها ، وقفت بجانب ليلى بنت جدتي فاطمة ، في أواسط عقدها الرابع ، أصغر أن تكون جدة ، فقط هي حضرت مولدي وقطعت حبل سرتي لذلك أسميها جدتي . جارتي ، أختي صديقتي لا أعرف أي الألقاب تستحق ، هي في مثل سني كنا بمرتبة توأمين نلعب سوية ، كانت جدتي تحبني كثيرا ، أذكر يوما سرقت لعبة من ليلى فغرست أظافرها في وجهي ، عاقبتها أمها بشدة و قدمت لي اللعبة كتعويض ، أحس يوما بعد الآخر أن ليلى تحاول استمالتي نحوها لكن دون جدوى ، إنها أكثر من أختي ، وديعة ، نشيطة ، فطنة ، صبورة ..
ـ كيف حالك خالد ؟
ـ كل شيء جميل جمال عينيك .
ابتسمت ليلى مضيفة : " جمال عيني أم عيني رفيقتي ؟؟؟
ـ مؤكد أنتما جميلتان .
ـ شكرا على الملاطفة ، هذه عائشة بنت خالي ، يعمل خارج أرض الوطن ، عائشة هذا خالد جارنا الذي حدثتك عنه .
ـ تشرفت بمعرفتك ، قالتها بلغة ركيكة ، هي من أولئك الذين فقدوا لغة وطنهم ولكنتها .
ـ أنا أيضا سعيد بلقائك و ... حاولت أن أكمل الجملة بشيء فجمد لساني وقد صغت الجملة الأولي بأسلوب ركيك كما جملتها ، العيب فينا نقلد كل شيء .
ـ أنت تدرس في المدرسة .
ـ نعم أنا سعيد بهذا وأنت ؟
ـ أنا أيضا أتابع دراستي بالإعدادي ، أحب اللغات أنا أدبية .
ـ أنا أيضا في الإعدادي فقط أحب العلوم .
ـ هل تدرسون العلوم هنا ؟
أحسست كأن خنجرا غرس في كبدي ، ترى هذه نظرة العالم إلينا ، لا نعلم شيئا ، لا نساوي شيئا يذكر .
ـ لم تجب عن سؤالي ؟
ـ لا فقط لم أفهم قصدك بالضبط ، فنحن نقرأ كل العلوم طبيعية وفزيائية ورياضية ..
ـ هائل أنتم كبلاد الغرب وهل تدرسون اللغات ؟
ـ بالطبع ندرس لغات الغرب .
ـ لا أصدق أنت لست كالقرويين هنا .
ـ لا أنا مثلهم تماما فقط لم يجدوا مدارس أيام طفولتهم .
ـ أنت غيور جدا .
ـ أحب ذلك و تعجبني فطنتك .
شكرا لك ، أنا أجهل الكثير عن هذه البلاد .
ـ ربما تجهلين أيضا أنها بلادك .
قاطعت ليلى حديثنا قائلة :
تماديتم كثيرا ، لا أعلم ما تقولنه ، لا أحب أن تتحدثوا بهذه اللغة ، إنها لغة الأجانب ، عليك يا عائشة تعلم لغتنا بدقة ، فنحن لا نجد مكانا نتعلم فيه لغتكم ، أما خالد فكما قلت لك ، يعرف كل شيء فهو ...
ـ كفى ليلى من فضلك كلنا لا نعلم شيئا كلنا متعلمون فقط ..
ـ أكيد تحب مقاطعتي .
ـ كلا فأنا دائما أخوك الذي تعلمين .
ـ تعرف لابد من ملء هذه القفة سنذهب الآن .
ـ كما تحبين .




قديم 07-03-2013, 05:05 PM
المشاركة 23
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي



ودعتها بنظرة مليئة فضولا لأشتكشف وجها خفيا تحمله هذه الزائرة جعلني أنعطف إليها كليا ، أحسست بشيء غريب يسري بدني ، رعشة برد في يوم حار ، لا أصدق أن عيني صارتا أسيرتين تتعقبان خيالها ، الذي يبتعد شيئا فشيئا حتى توارى خلف أغصان اللوز والزيتون المتعانقة عناقا حارا لا تفسده إلا رياح المساء ، نفسي مقبوضة بوعكة لا أعرف سرها ، تذكرت ماكان يعانيه الشاعر يوم حكمت عليه القبيلة بالرحيل ، تذكرت كلماته الرنانة المهزومة رغم كبريائه ، كان أستاذنا يشخص فنشعر الشعور نفسه تراه هو أيضا كان يوما شرب ن تلك اللذة الغريبة الممزوجة بحرقة مستعذبة ، واصلت مسيري بتثاقل بجانب الوادى الذي استسلم خريره للسكون والصمت أحس بكل شيء يضايقني ، زقزقة العصفور وصفير الصرار تمنيت لو أن كل شيء سكن و و هدأ مثل الوادي ليستمع لأنشودة قلبي على إيقاع شاعري يتعاظم كبرياء حينا و يخبو استسلاما أحيانا .
قرب المدرسة المشتملة على حجرة واحدة استكملت خريفها الأول ، تتوسط بيادر القرية التي ما تزال تحتفظ ببقايا القش بعد جمع المحاصيل ، قديما كان شباب القرية ينامون ليلا على هذه الأكوام مستمتعين بانتعاشة الليل و رطوبته ، بل كل أهل القرية يفضلون النوم تحت سترة النجوم على سطوح بيوتهم ، الشمس تشرف على المغيب ، بعض الصغار يلعبون كرة لدائنية بجانب القاعة ، أشاهد ألوانا من التحف الناذرة في فنون الكرة ، طفل يقذف الكرة فيسيل أصبعه دما و الآخر يرتمي فتتلطخ ملابسه و هذا يجر صاحبه فتظهر عوراته ، أتابع مع المتفرجين المباراة الذين يتغامزون ويتضاحكون معلقين على كل لقطة وأنا في وجوم وسكون وصمت على غير عادتي .
توارت الشمس خلف الجبل ، حشرجة سيارة جعلتني أستدير خلفي وأنا في طريقي إلى البيت ، سيارة فخمة ، تخالف ما ألفته عيوننا من أصناف بالية يسمع دويها من بعيد ، عكس هذه التي يفوق صوت عجلاتها وهي تعالج الطريق المحجرة دبيب محركها ، صاحبها بزيه التقليدي يدير المقود يمينا ويسارا بدقة متناهية وهو يسير ببطء السلحفاة ، كطفل لم يعتد المشي بعد ، تصفحت أرقامها بعد أن تجاوزتني كل شيء فيها يعبر عن عدم انتمائها لهذه البلاد ، إنها سيارة أجنبية .
المؤذن يصيح بملء فيه مناديا للفلاح والنجاح والصلاح ، لم أعد مواظبا على ارتياد المسجد ، ربما لكسل دب في عزيمتي ، لا أصدق تغيرات كثيرة حدثت في حياتي ، من ذلك الطفل البسيط النجيب المتصف بالخصال الحميدة ، بالنبل بالحياء ، باليقظة ، بأشياء يستحليها شيوخ القرية إلى مراهق متمرد كسول ، علبة السجائر أخفيها بين الأحجار تارة أو في قدم زيتونة بلغ بها القدم مبلغه فأضحى جذعها منخورا تسكنه الحشرات والجرذان وعلب السجائر ، أطارد رائحة التبغ بوريقات البرتقال و النعناع و العطور ، كنت أعلم أن رد فعل والدي لن يكون بسيطا ، على سلوكاتي التي يستهجنها المجتمع و يسفهها ، السيارة راسية في الساحة الممتدة أمام بيتنا و قبالة منزل ليلى ، الظلام يحلق حول المكان ، و شبح شاخص أمام السيارة ، استجمعت حذري ، شممت أصابعي رائحة النعناع لاطفت أنفي ، أخذ الشبح يبتعد عن السيارة و يقترب مني رويدا رويدا ، إنها عائشة صوتها يقول في همس : " خالد هذا أنت ، انتظرتك منذ مغيب الشمس ،
ـ هذه أنت ألا تخافين من الظلام .
ـ هل أزعجتك أم توجست مني شرا .
ـ الإزعاج لا والخوف ربما ، تعلمين حياتنا مليئة بكل أنواع الاساطير والأشرار .
ـ هل يوجد مجرمون هنا ؟
ـ كلا المكان آمن جدا ، أقصد أشياء أخرى .. لا يهم كيف تمر عطلتك .
ـ بشكل رائع كل شيء يروقني و خاصة رفقتك .
ـ أنت تكذبين..
لم أكمل كلمتي حتى أحسست بدفء شفتيها و يداها تحيطان عنقي ، شلت حركتي و وجف حلقي و ارتعشت أوصالي ، واحسست بحرارة تغمر أذناي و استفقت عند سؤالها : " ما بك ؟"
ـ لا شيء ...... فقط لم أتوقع .......ـ طيب صدقني حبيبي منذ رأيتك لا أعرف ماذا أفعل ، أعتذر إن كنت مخطئة .
ـ لا بأس كلانا روح واحدة ، ربما ما أتيت لزيارة ليلى إلا لجمع شتات هذه الروح المشردة .










قديم 07-09-2013, 01:44 PM
المشاركة 24
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي



على السرير أتشوى على عادتي ، لا أنام تحت النجوم ، كلما فعلت يشتد صداع رأسي نهارا و ينزف أنفي رعافا ، الليلة هجيرية الطبع ، أداعب إزارا كانا منعشا في البداية مع توالي الدقائق يكتسب حرارة جسمي إن لم تكن حرارة قلبي ، النوم لا يهتدي إلى جفوني ، صورتها تتراءى أمامي في الظلام ، كلمتها تلسعني " غدا سنرحل باكرا " كيف لي أن أتأقلم مع هذا المعطى الجديد ، كيف أتعايش مع قلبي الذي يسكن وراء البحار ، لماذا لا يفكر قلبي ، أيعرف ماذا يفعل ؟ تراه يتحالف مع الزمان ليهزمني ، لماذا اختار أن يذيقني مرارة الفراق مع العناق الأول لحرارة الحب ؟ آه يا قلبي يا مسكين لم تعرف كم جنيت علي ، وكم حملتني من التعاسة في حياتي .
الثلث الأخير من الليل برزت أماراته نسمة صباحية تلطف جو الغرفة القائض ، تدخل بدون استأذان ، شباب يرسلون رسائل عبر الأثير ، يقدمون عناوينهم الخاصة على المذياع ، الكل يحس بالوحدة والوحشة ، اغتراب يستوطن القلوب ، يبحثون عن دفء مفقود ، عن إنسان لا يشبه الذين ياكلون الطعام ويمشون في الأسواق ، لا يشبه كل هؤلاء الذين يرتادون المدارس والكليات ، إنسان آخر ، عالم آخر ، ربما كالذين تنقلهم الشاشات ، ربما ملاك يهبط مرفرفا بأجنحته البهية يزرع السعادة في القلوب المنهكة ، إنسان يتفهم ، يعتذر ، يتسامح ... المذيع يبلسم الجراح بالآمال والأنغام والكلام العذب ، وصفة قد تشفي وقد تؤذي .
استيقظت والشمس توسطت السماء ، أبي يرتشف من الشاي حين دخلت الغرفة ، كنت منهكا ، مخنوقا ، تنقبض حركاتي ، أينك يا سيجاترتي ، يجب أن أعانق فيك المجهول ، يجب أن أدمر حزنا يفتك بي ، يجب أن لا أسمع ، يجب أن .. ويجب أن..
ـ هل أنت مريض يا خالد ؟
ـ كلا أنا بخير .
ـ النوم إلى منتصف النهار من علامات العجز والكسل ، نم باكرا ، و استيقظ باكرا ، علاقة الأباء والأبناء تقليدية للغاية ، لا مصاحبة فيها ولا مؤانسة ، الأب يرأى في ابنه طفلا لا ينمو ، لا تتغير حياته ، يريده عجينة لينة بين أنامله ، طاعة عمياء ، سلبية مطلقة ، استعباد ، عندما يشتد عود الابن يبدأ الخلاف ، يسود الخلل العلاقات الأسرية ، لم أعقب على قول والدي ، بقيت صامتا مطأطأ الرأس ، سكوت وصمت رفض لا يعبر عن الرضى .
ـ كنت أنتظرك لتساعدني على شق سواقي الري ، وجني حبات اللوز ، الذي لا يريد العمل في نسيم الصباح يعمل في هجير الزوال ، من يتكاسل في صغره يتهالك في كبره .
في الحقل أصوب ضربات موجعة لأشجار اللوز انتقاما من شيء غير محدد ، الحب يتناثر والأوراق تتطاير ، و وجداني يغلي ، و تسود يومي أفكار ناقمة مماذا؟ لست أدري ، من المجتمع ، من المثل ، من الواقع من ....
هدوء و سكون ليس يبعثره إلا نقيق الضفاضع المسترخية على المياه الراكدة ، ظلام خافت يسدل الوادي ، ركام الدخان يغادر فمي وأنفي كحمم بركان استعاد نشاطه بعد فتور لتتسلق أبراج السماء ثم تتلاشى و تتفتت كأن شيئا لم يقع ، تماما كأحلامي ، بالأمس فقط و في هذه اللحظة بالذات بنيت أحلاما لا تمحى ، وخططا تيقتنت من نجاحها ، لم أكن أعلم أن كل شيء يتحقق سريعا و يهرب سريعا ، لم يبق منها إلا رسالة تسلمتها من يد ليلى وهي تساعد أمي في جمع الحبات المتناثرة ، كلمات حفظتها وما كانت لتطفئ نارا مشتعلة في فؤادي ، بل زادتها توهجا و اتقادا . سمعت ليلى تقول لأمي ، خالي يفكر في بناء بيت هنا في القرية فقد أعجب بجوها ومناظرها وأهلها و هدوئها . فكرة أثلجت صدري و لو للحظة ، آن لنا أن نلتقي لأيام يا عائشة ، لكن متى بعد أن يجف ينبوع حبنا ، بعد انفجار فؤادي و تقوس ظهري ، لا أطيق الصبر ، لكن ما بيدي حيلة .
تراك تحسين الغربة بين أهلك كما أنا ، تراك تحسين جمال العطلة أم ضاقت بك الأرض على شساعتها .






قديم 07-12-2013, 01:11 AM
المشاركة 25
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


الثانوي ، استشعار الفتوة ، تلمس القوة ، التحدي ، المغامرة ، كل شيء يبدو سهلا ، الثورة على الجاهز ، البحث عن الذات ، القفز على النقائص ، التشبت بالمثالية و الاستماتة من أجلها ، الأساتذة يتعمقون في التحليل و يسبرون أغوار النصوص ، ونستكشف المسكوت عنه و الخلفية التي يحملها الكاتب ، الفلسفة ذلك العالم الغامض الواضح ، ذلك المبرد الذي يصر على شحذ ذهن التلميذ ، فيجعله يعيد صياغة موضعه وذاته و يسائل كل الثوابت التي كانت إلى عهد قريب مسلمات لا يأتيها السؤال و لا يتجرأ عليها الخطاب ، كل شيء نسبي ، أفاق جديدة فتحت أمام العقل ، دقائق الكون ، نظامه الباهر ، الاكتشافات الجديدة في علم الحياة والأرض ، صراع الثيارات الفكرية ، الفكر المادي منعطف قلما ينجو من تأثيره أبناء الثانوي ، ناهيك عن التحليل النفسي و نظرية التطور .
الأساتذة يشحنون أتباعهم بما يغذي فضولهم المعرفي و يعمق تعصبهم لمذهبهم الفكري ، ، فكل يسقط بعضا من قناعاته الذاتية على المادة الدراسية ، و يحيل أتباعه على كتب أخرى تجعلهم يتقيدون بفلسفة شيوخهم ، كما يطيع الجندي قائده ، و يسفهون ما دون ذلك و لو كان المنطق السليم يرجح بطلان ما يدعون .
شهادة الثانوي هي كل ما يسعى إليه التلاميذ ، تغير نظام هذه الشهادة جعل مساحات البحث والتثقيف ضيقة جدا ، فكل مترشح تجده مضطرا للاهتمام بالمقررات لمدة ثلاث سنوات تتخللها امتحانات دورية تأثر على الشهادة النهائية ، الأستاذ أيضا مقيد بإنهاء برنامج كثير الكم ويقول البعض أنه عديم الكيف .
الإدارة تلك الآمرة الناهية ، كل خطاباتها عمودية ، غريب أمر هؤلاء المدراء ، كيف يتخلصون من انسانيتهم بمجرد ارتداء لحاء الإدارة ، تجد السيد المحترم ، بلباسه التقليدي أو ببذلته الزرقاء يمشي بخيلاء ، يعالج تلميذا لم ينتبه لقدوم مهابته بصفعة أو ركلة ، أو شتيمة وذلك أضعف الإيمان ، السيد ينهر العمال و التلاميذ والمربين على السواء ، إنه يكاد يحسب نفسه المالك لهذه الضيعة البشرية ، إنه الباطرون المالك لحقوق الملكية ، كنت أتحاشى الصدام مع الإداريين دون جدوى ، فحلاوة التغيب لا تضاهى ، ففي كل مرة أضطر لتلفيق وابتكار عذر يسمح لي بمغادرة المؤسسة لبضع ساعات أو أيام ، تعتريني نشوة و أنا لا أحسب للرئيس حساب ، لكن أتجرع مرارة الذل كلما رضخت لشروطهم قبل منحي ورقة الدخول من جديد .
كل من يتلقى الرسائل ترقبهم الإدارة بعين شريرة ، وصيت عائشة أن لا تضع اسمها على الظرف ، استغربت من ذلك ، لكن أفهمتها أن ذلك أنجع لبقاء التواصل بيننا .




قديم 07-13-2013, 03:29 AM
المشاركة 26
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي



عند قدوم الصيف كانت الدنيا قد اكتست حلة البهجة ، فصل الأعراس و الحفلات ، فصل المحبة ، تخبو مظاهر الحزن والآلام ، تضمحل كل القروح ، تشتد حرارة الجو والعواطف ، حرارة العناق والتزاور ، قلبي يتلهف للحظة ملامسة يدي ليدها ، وقد فاضت عيناي بنور عينيها ، أحسست فصول السنة تعتري جسدي ، رعشة برد فعطر زهور فقيض صيف فكآبة خريف ، من في الدنيا لا يحس هذا الشعور ، من في الدنيا لا يملك قلبا نابضا ، يقولون هل من شجرة لا تستجيب لرقصة الأنسام ؟
استرسلت ليالي الصيف في تناغم و توافق يفوق الألف ليلة وليلة ، أحداث وأفراح تتكامل لتهيئ بسطيلة تمتد لها يد الشبعان قبل الجائع ، اليوم يتبارى شبابنا مع شباب قرية تبتعد عنا أميالا عديدة ، كرة القدم بدأت تنخر عقول الشيب والشباب على السواء ، لم أختر ضمن اللاعبين ، ربما لأنني لا أحسن مداعبة الكرة ، و ربما لصغرسني وفتوة بنيتي ، و ربما لتواجد الشباب المتمدن ، أغلبهم يعملون في ظروف مأساوية ، لا كرامة و لا أموال ، أغلبهم مدمنون ، مستواهم المعرفي مفلس ، ميزتهم قميص و سروال وخاتم و سلسلة مذهبة دقيقة تحيط العنق و سوار مسلسل يحيط الساعد الأيمن و يتدلى على ظهر الكف و ساعة تؤثت اليد اليسرى . لا يرضون التحدث بلغة القرية بل يفضلون لغة المدينة ، بل يصفون القرويين بأوصاف غريبة .
الملعب محاط بالمتفرجين من كل جانب ، ساعة وصول الشاحنة المكشوفة التي تقلنا ، ترجلنا من السيارة وأخذنا ننفض الغبار عن ملابسنا و رؤوسنا ، سرب من الفتيات يحملن أطباق الزهور والورود و العطور واللوز تعبيرا عن فرحة الاستقبال ، جاب السرب الملعب في حركات لولبية ممتزجة بدقات الطبول والدفوف و رقصات وأهازيج وأشعار . أخذ اللاعبون في التعري بعد رحيل السرب عن الملعب ، في أقمصة متباينة يشغلون أماكنهم ، أغلبهم بنياتهم أبعد من رشاقة الرياضيين و صلابة عضلاتهم ، الحكم يعلن بداية المباراة ، ركض واندفاع وراء الكرة ، فنيات بدائية ، قذفات هنا و هناك ، كرة تمر بجانب كومة حجر تعبر عن قائم المرمى ، يتشاجر اللاعبون ، يرمي الحكم الصفارة و ينسحب من الملعب ، يعود بعد استجداء من اللجنة المنظمة ، يتواصل الجري ، يهتز الملعب و تعلو الصيحات والزغاريد ، لاعب يخلع قميصة ويجري صوب الجماهير ، ، يتبعه أفراد فريقه وهم يعرقلون نشوته و يهنئونه تقبيلا وتمجيدا ، بينما تبدو الخيبة على الفريق الآخر ، الحكم يعلن شرعية الهدف ، وتستأنف المقابلة ، يزداد التوتر ، وتكثر الأخطاء ، يعم سكون رهيب الملعب ، إلا من صيحة لاعب أسكن الكرة في المرمى .
فور نهاية اللقاء تعانق اللاعبون والمتفرجون ، وعلت صيحات الترحيب ، الشمس قد اكتمل مغيبها ، سيق الضيوف إلى احدى بيوت القرية قدم لهم العشاء بفحاوة وتبجيل ، ، ليخرج الكل إلى ساحة الرقص و السمر إلى طلوع الفجر .




قديم 07-14-2013, 03:50 AM
المشاركة 27
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي



ارتديت جديد ملابسي ،مشطت شعرى الغزير الطويل ، وقفت برهة أمام المرآة قائلا :" أنت أجمل تستحق كل شيء جميل " دخلت دار العريس ، موائد وضع بعضها على بعض مرصوصة في طبقات ، نساء القرية يغسلن الأواني و يرتبن المنزل استعدادا لاستقبال الضيوف ، الشمس قد مالت إلى المغيب ، حركة دائبة وأوامر صارمة تعطى لشباب القرية المشمرين عن سواعد الجد لإنجاح الحفل ، هذا يحمل غلاية ، و الآخر يوقد النار ، هذه تسأل عن ابنها الصغير ، وتلك عن زوجها . كلفني والد العريس بأحضار بعض الأفرشة من بيتنا ، اغتنمتها فرصة ، ، سلمت ما طلب مني لبعض المتحمسين لأداء الخدمة ، هبطت إلى الوادي كل شيء لبس حداد الليل ، سيجارتي كبرت شعلتها ، أدركت أني أدخن بعصبية ، " أينك يا مولاتي ، قد تكونين اللحظة في مرقص ، وربما في حديقة تتلألأ أنوارها ، أما أنا فهنا على ضفة هذا الوادي المظلم ، لو أنك معي لأشرقت الشمس غصبا عن قتامة الليل " سمعت رنينا قادما من الشرق قمت من مقامي ملبيا كما نفعل عن سماع جرس المدرسة ، تعالى ضجيج السيارات و تسارعت خطواتي صوب دار العريس .
شيب وشباب ، ذكور وإناث ، تحلقوا حول الموكب الراسي أمام منزل تنبعث منه الأنوار و يشاهد من كل مداخل القرية ، الأطفال في تدافع وركض ينم عن قوة فضول و نزق مشاغب ، تعتريهم نشوة عارمة وهم يشاركون الكبار مراسيم الاستقبال ، على عتبة الباب تقف نسوة يرددن أشعار الترحيب بالزوار ، ألحان روحانية لا تسمع إلا في مثل هذه المناسبات ، نغمة لها ثقلها على القوب وتحض الشباب على الإقبال وعدم الإدبار تراهم وقد تصلبت ألسنتهم فالنغمة شدت قلوبهم و توغلت في أعماقهم لتتملكهم نوبة سكون و استرخاء . فتيات القرية في أزيائهن التقليدية يحملن أطباق مزدانة بالزهور والعطور و البخور وهن يسترقن البصر نحو السيارات الواقفات حول في ساحة المنزل ، هذه رأت شابا وتلك نساء يترجلن من السيارة وأغلبهن يحدقن في السيارة الأمامية حيث توجد فتاة ملثمة ، من باب المؤكد أنهن يموضعن أنفسهن مكانها و كلهن شغف لليوم الذي ستعلن الأفراح بزفافهن .
تتقدم امرأتان صوب السيارة التي فتح بابها الخلفي لتنزل منه أخريان أسرعت إحداهما إلى فتح الباب الأمامي و همست في أذن الفتاة الملثمة وهي تحاول إنزالها من عرشها بلين ومرونة ، سلمت العروس للقادمتين بعد أن تناولت رشفة من زليفة حليب وقضمت من ثمرة لتملأ الزغاريد المكان و تتصاعد الهتافات و تتوالى المواويل .الورود تناثر على رؤس النساء الللائي يحطن الملثمة عند وصولها إلى عتبة الباب ، التفت الجميع إلى مصدر الزهور وحبات اللوز والجوز المتطايرة في الفضاء فإذا بشخص ماثل على سطح المنزل بجلبابه الأبيض و خنجره الفضى ونعليه البيضاوين بمعية وزيره يقذفان الورود ذات اليمين والشمال حتى ابتلع المنزل العروس و بقية النساء الضيفات والمضيفات .
إلى البيت المجاور سيق الذكور و أصوات الترحاب تعلو في كل مكان ، كنت مستغرقا في التفكير وصورة عائشة ماثلة أمام عيني ، صوت أبي مسحها إذ قال : " هيا قدموا الشاي للضيوف ".





قديم 07-15-2013, 06:24 PM
المشاركة 28
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


أي مجد ! أي كبرياء تحسه الأم وهي تزوج ابنها البكر فهي ستطلق المطبخ ، و تأخذ مفاتيح الخزائن ، وتعطي الأوامر ، الأب أيضا يطمئن إلى مصير ابنه فهو ينام هانئ البال وهو عليم أن ابنه نائم إلى جواره ، لا يجوب الطرقات ليلا مع رفاقه العزب ، و أن ابنه سيفكر بجد و يتحمل مسؤولية الأسرة . الزواج شهادة الأهلية و الرجولة و الجدية ، العزوبة علامة الزيغ والطيش ، تلك نقوش لا تمحى ، نحتها الأجداد و شرعتها الأعراف وختم عليها الفقيه بإمضاء كالوشم لا تمحوه السنين و لا المبتدعات . قال الأساتذة نمونا الديمغرافي يعيق تقدمنا ، وآباء القرى يقودون قطعانا من الأبناء متقاربي السن ، لا ينعمون بتغطية صحية و لا إرشاد مدرسي ، و لا تغذية متوازنة ن ولا نظافة لا ئقة ، آفاقهم محدودة إمكنات آبائهم وقراهم معدومة ، حقائق تبدو جلية ظاهرة واضحة أمام أعيننا ، برامج التعليم تشن حربا ضروسا ضد التزايد الديموغرافي وتحذر من التمادي في تجاهل تلك المعطيات .
رسالة تسلمها أبي يوم السوق ، أعطاني إياها بعد أن عجز الفقيه عن فك رموزها ، سرعان ما اكتشفت مصدرها ، أجل هذا الخط الواضح الفصيح ، هذه التموجات أعرف جيدا اليد التي زخرفتها ، وأعطت كل حرف حقه من الكبرياء ، ليشارك في بناء لوحة أخاذة و عبارات مسكرة مدوخة ، أحسست بيدي ترتبك و أنا أوهم أبي أني أقرأ الرسالة ن بيد أن عيناي قد اغرورقتا ماء مالحا كبحت فيهما سيلانه ، قلت لوالدي ورأسي منحن :" غنها رسالة من أحد أصدقائي "
<< حبيبي ، لم أخبرك أن أخي مريض منذ شهور ، و هو لا يزال يتابع الاستشفاء عند الأخصائيين ، تعرف حرارة الطقس عندكم ، الأطباء نصوه بدعدم السفر . آسفة لتأجل اللقاء لعام آخر ، إنه سبب أكبر من أن يقهر ، لطالما انتظرت مجيئ الصيف ، فها هو ذا في متناول اليد ، فاستحال اللقاء وتأجلت السعادة ، وتاججت نار قلبي و لهيب أشواقي ، أبيت الليالي بلا نوم ، بل في سهادي أتدور لا أستنعم حريرا ولا أستحلي حلوا ، أمي لاحظت تغير ملامحي و ذبول حيويتي ، وشرود ذهني فاوصتني بالعناية بصحتي ، فتذرعت لها بمرض أخي . صدق هو أم كذب ؟ أعلم أنك تنتظرني على نار ، أكاد أستشعر احاسيسك وأنت تقرأ هذه الكلمات ، لكن ما العمل ؟ ليس بيدنا غير الأمل في المستقبل ، والرضا عن الحضار و إلى الملتقى حبيبي >>
في غرفتي دفنت وجهي في وسادة ، استلقيت على بطني ، أحسست بالحمى تجتاح كياني ، يدالمتشابكتان تغطيان رأسي ، أحسست غصة في حلقي وجدت نفسي ميالا إلى البكاء ، صوت أبي يرن في آذاني : " الرجال لا يبكون ، الكاء من شيم النساء " قاومت و قاومت و بكيت .
هبت نسمات الخريف فضايقت صحو الصيف جو تلفه الكآبة من كل جانب ، لسعاتها تؤذي المتعودين على الزي الصيفي الخفيف . مساء ساعة الغروب ن جو الشعراء الصيفي ، يسكن صخب النهار ، تتوقف حركة الأشجار مادة آذانها لتسمع دبيب الحشرات المتطايرة من الوادي جوار المياه المسترخية . تلك اللحظة التي أستشعر فيها وحدتي وحاجتي إلى أنيس يشاركني نشوتي ، لحظة لا تقاس معزتها عندي بأفراح الكون ، حين أتمدد على الضفة متاملا جمال الكون ن ساخرا من تفاهات الزمان ، آملا في حياة هادئة تعطرها السعادة و يحليها الحب بأزيائه الربيعية . اليوم بالذات وجب نسيان هذه اللحظة و تلك الساعة و انتظارها بعد عام كما أنتظر الحبيب ، تحبّب جلدي و انقبض ثائرا من وخزات الخريف ، راثيا ذهاب الصيف ، ساعتها أيقنت أن ساعة الرحيل قد دقت ، فورة أغصان الأشجار ، تناثر أوراقها ، جو عصبي مزعج ، عراك الطبيعة مع ذاتها قصد تدمير نفسها بنفسها ، تماما كما تفعل الحروب الأهلية بأوطان كانت جميلة . أحزان بعضها على بعض ، انصرام العطلة الصيفية قدوم موسم دراسي متعب ، هذا كله يثقل كاهلي و يبعثر تركيزي و يعنف أحوالي ، إحساس يلازمني كل عام كلما قدم الخريف . وبدرجة أقل كل أسبوع عند نهايته .




قديم 07-16-2013, 05:09 PM
المشاركة 29
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


غوريلا آدمي يركض ركضا وراء الأطفال تتدلى من طرفيه قوائم خرفان بحوافرها الملتصقة بالجلد الذي يكسو سائر جسده ، يلوح بها ذات اليمين والشمال ، وهو يطلق صيحات مرعبة تخفق لها قلوب الأطفال فيعلو بكاؤهم وعويلهم ، يقبض على ضحيته فيهبط على ظهره بضربة أو ضربتين و قد تتوالى الضربات إذا قاومت الضحية أو همت بالهروب .
يسوق أسيره إلى ساحة أسايس حيث يصطف الرهائن في سرب دائري حول الطبالة وذوي البنادير ، في إيقاع مستمر اكتاف الضحايا ملتصق بعضها ببعض ترتعد في رقصات و أفواههم تصدح بأشعار وأهازيج توازي حدتها ضربات الطبول والدفوف و حرارة القائد أبي الجلود .
شباب القرية لا تقبل منهم الفدية بل يجبرون على الرقص أما الزوار وخاصة لا بسي الزي العصري الذي لا يساير لباس الراقصين فيغرم قطعة أو قطعتين حال وصوله إلى أسايس حيث يقام موسم هرما " بوجلود" في عيد من أكبر أعياد القرية ، حيث يجتمع كل الأهالي في ساحة الرقص مستمتعين برقصات الشباب و رقصات القائد صاحب قناع الخروف و بعدها برقصات الشابات . رقصة هرما تدوم ثلاثة أيام ابتداء من يوم النحر الذي تجمع فيه الجلود لتصنع منها بذلة هرما و أقنعة القائد .
عيد الأضحى يوم التزاور والتسامح ، يوم يقترن بكل الفضائل ، يحلو للبعض أن يسميه عيد الأعراس ، أو يوم الخطوبة ، ففيه تقدم الطلبات عسى أن تجد آذانا صاغية وقلوبا راضية ، البعض يقدم فيه هديته لعروسه القادمة ، كبش و ملابس و حلي .
أمي جالسة وهي تقرأ تسبيحاتها أثناء دخولي إلى البيت بعد انفضاض جمع هرما و رجوع الأهالي إلى منازلهم لتناول طعام العشاء ، مياه تغلي على موقد كؤوس مزخرفة رصت في صينية صفراء منقوشة حول براد منقوش تشع من خلاله أنوار الغازية ، على مقرية من الغلاية طاجين موضوع على مجمرة من خزف يشغل الجمر التوهج جوفها . تختلط فرقعة الطاجين و صفير الغلاية ، فالأولى حجرجة عجلات بين الحصى والثاني محرك ناقلة تقاوم مرتفعا لا يكاد يتنتهي ، بين الصوتين تمتمة أمي في أذكارها المتوالية ، طبعت قبلة على جبينها وجلست قرب المائدة تاركا مقام أبي الذي يعودنا على تقديم كأس لا ينازع ميزاجها ، كاس صاف لونها بعمامة بيضاء تكاد تحتل النصف العلوي للكوب .
ـ تفضل بني ، اجلس مقام والدك و قدم لنا كأسا معسلة .
ـ أين أبي ؟
ـ أرسل في طلبه الشيخ إبراهيم أنت تعلم أن ابنه سيتزوج .





قديم 07-17-2013, 01:46 AM
المشاركة 30
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


ـ هذه مفاجأة أمي ، إنه صغير السن و لم يحصل بعد على بطاقة التعريف .
ـ سيحصل عليها في الشتاء القادم و سيأجل الحفل إلى حين استكمال نصاب الأوراق . تعلم بني أنت في مثل سنه أنت أيضا أصبحت رجلا أليس كذلك ؟ ربما يكبرك بشهر على ما أذكر .
ـ أجل كنا ندرس في الفصل نفسه في الشهور الأولى التي التي قضاها بالمدرسة ، لكنه لم يكمل عامه هناك .
ـ أنت أيضا سنزوجك ، تعرف بني ، أي شيء في الدنيا يماثل الزواج ، يكبر أبناؤك وأنت لم تشخ بعد ، يكثر حفذتك فتكون على رأس أسرة عظيمة الشأن وكثيرة العدد و العدة ، أي شرف يماثل هذا ؟ الزواج في الصغر يا بني يفيد الكبر ، مارأيك؟
حاولت تجاهل الإجابة ، كنت أنتظر هذا الطلب من أمي لكن ليس بهذه السرعة ، كنت أظن أن الدراسة ستشفع لي و تؤجل هذا السؤال إلى ما بعد التخرج . لتسترسل أمي : " الزواج نعمة ما بعدها نعمة ، الزواج سيريحك من المتاعب ، تغسل ملابسك و تطوى ، ستكون على الدوام نظيفا يقدم لك ما تشتهيه من من أنواع الطعام ، والأهم من كل هذا تنتشل من الزيغ والرذيلة ، و تمنح شرفا وموقعا في المجتمع ، قال الفقيه أن العازب ناقص دين و وأنت تعرف ذلك فأنت إنسان متعلم ..
ـ لكن يا أمي أنا أدرس كيف سأتصرف ؟
ـ هل ستبقى في المدرسة طوال حياتك ؟ ستدرس إلى متى ؟ ، تدرس حتى تأخذك منا مدنية ، تدرس حتى نموت ، تعلم يا بني أنني مريضة ، أريد أن أراك رجلا قبل موتي ، أريدك خليفة لنا في أرضنا ، أبوك متحمس أيضا ، وقال لي اسأليه إن كان يقبل بليلى ، إنها طيبة و خلوقة ، تحبك كثيرا ، خدومة جدا ، تساعدني في كل شيء .
ـ حسنا ماما سأفكر في الأمر .
فكر بسرعة يا ولدي ، يسعدني ويسعد والدك أن تتزوج في الصيف القادم .
أي جديد هذا الذي حملته أيها العيد السعيد أنا أتزوج ! طفل تلميذ يتزوج ... أينك يا أستاذي لتقول للعالم أن الزواج المبكر يعرقل التنمية ، أين رغبتي أنا ، أين برامجي ؟ ما موقعك عائشة في هذا الموضوع ؟
في مضجعي ألتوي ، انصرمت ساعات وأنا لا أزال فريسة أرق وأفكار أعيدها أكررها دون جدوى و دون أن أدرك أي طريق سأسلك ، ليتني أطلع على الغيب فأختار الطريق اليسير بدلا عن العسير ، أحاول أن أرتب أفكاري فأوازن بين رغبتي ورغبة أسرتي و حكاية عائشة ، لكن هناك تعارض بينها كلية ، لا قواسم مشتركة ، فأجد نفسي أخبط خبط العشواء ، أين لي بعكازة تقودني و تقوّم وقفتي كما شيخ ضرير .
خرجت من البيت ، غاب القمر وانتشر ظلام دامس لا ينازعه غير وميض النجوم ، يزداد لمعانها كما لو أزيح عنها الستار لأول مرة ، يدي تتقدمني تزيح عني أطياف الظلام ، و الأغصان الطائشة من الأشجار المحادية للوادي ، وصلت إلى المكان المعلوم الذي طردتني منه رياح الخريف ، التي لا أزال أستشعر لسعاتها رغم مقدم فصل الصيف ، أوقدت سيجارة سرعان ما شربت محتواها لأتبعها ثانية فثالثة ، أحسست بالدوخة ، تمددت كلية على الأرض فاتحا عيناي متابعا حركة النجوم ، عائشة تريدني قربها هناك في بلاد الغرب ، أمي تريدني بجانبها في بلادي ، أما أنا فأعشق الحرية ؟ فأي السبل تلؤدي إلى النجاح ؟
" حبيبي ، فكر في تهييء جواز سفر ورخصة سياقة بمجرد أن تصل إلى الثامنة عشر ، سأفعل ما بوسعي لأجد لك وظيفة جيدة هنا ، فكر في مستقبلك ، لا تنسى أنني بحاجة إليك "
هكذا تكتب عائشة طوال السنة المنصرمة ، أجبتها مرارا وتكرارا .
" حبيبتي ، عندما أحصل على شهادة الثانوي سأفكر في استكمال دراستي في جامعة غربية ، كيف... لا أعرف ولكن هذا طموحي ...."
أدركت بعد طول تفكير أننا نحلم كثيرا لكن نغفل استحضار جميع المعطيات التي تحيطنا ، هكذا تزدهر المعاناة .






مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: صفحتي الهادئة
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
في صفحتي بالفيس أشرف حشيش منبر الشعر العمودي 2 04-17-2015 09:31 PM

الساعة الآن 03:16 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.