منبر البوح الهادئلما تبوح به النفس من مكنونات مشاعرها.
أهلا وسهلا بك إلى منتديات منابر ثقافية.
أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التكرم بزيارة صفحة التعليمـــات، بالضغط هنا.
كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل بالضغط هنا إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى، أما إذا رغبت بقراءة المواضيع والإطلاع فتفضل بزيارة القسم الذي ترغب أدناه.
وَلِتلكمُ الريحُ التي
كشفتْ عُرْيَ الزَّيْفِ في وضحِ النهارْ،
ومزّقتْ سِتْرَ الخداعِ،
وقطّعتْ وَريدَ وجهٍ كان يبتسمُ…
وفي فمهِ سُمُّ القرارْ.
طالَتْ أيّامٌ،
فتناسلتْ أعوامُها المُرَّة،
ولا ملامحَ للغدرِ على الوجوهِ،
سوى ابتسامةٍ صفراءَ…
تُخفي خلفها خناجرًا سوداءَ،
وأضغانًا عششتْ
في قلبِ إنسانٍ بلا أوتارْ.
يتحيّنُ الفرصَ،
يراقبُ الغفلةَ…
يُبقي الخلاصَ مُكبَّلَ اليدين،
ويُنْبِتُ في فمِ العدلِ ألفَ مِزمارْ،
لكنه لا يُغنّي،
بل ينفخُ في جمرِ الألمِ،
وينتظرُ موعدَ التأبينِ
ليجهّزَ مَراسمَ الرحيل…
لمن كانَ يظنُّ النجاةَ اختيارْ.
أهكذا تُولدُ الحكايا؟
من رحمِ ريحٍ لا تملكُ بيتًا،
ولا ذاكرةً تأوي إليها؟
أهكذا تُكْتَبُ النهايةُ،
في صفحةٍ نُسيتْ على قارعةِ الانتظارْ؟
لكنّ للريحِ ذاكرة،
تحملُ أنينَ الجدرانِ،
وصوتَ العيونِ التي لم تَبُحْ،
وتاريخَ الأيادي التي امتدتْ
لا للمصافحة،
بل لتُسقطَ الستارْ.
ومع هذا...
ففي الريحِ بُشرى لمن صبر،
وفي انكشافِ الزيفِ نورٌ،
وفي انكسارِ الثقةِ ولادةُ بصيرة،
فما من ريحٍ تشتدُّ إلا لتُمهّد للسكينة،
وما من خيبةٍ،
إلا وتُغلقُ بابًا… لتفتحَ ألفَ دارْ.
كم رددتُ بناني عن لفظ الحرف في كل مرة، إذ كانت الكلمات تمضي كالسهام، وإن كانت نيتها سلامًا، فكم من كلمةٍ خرجت من القلب، فزلّت على اللسان، ففُهِمت على غير وجهها، وحُمِّلت ما لا تحتمل، فكان الندم يأتيني لاحقًا، كضيف ثقيل لا يغادر.
خشيت دومًا أن يُؤوّل حديثي على غير ما أردت، وأن يُقرأ قلبي بعيون لا ترى نبضه كما هو، فيُكتب علينا جُرم لم نقترفه، وتُنسب إلينا خطيئة لم تكن يومًا منّا، فيكون العقاب قطيعة، ويكون ثمنها فقدان من نحب، على شيء لم يكن سوى سوء فهم.
فكم من عاشق افترق، وما كان الذنب إلا همسة لم تُفهم، أو نظرة أُوّلت، أو كلمة سكنت بين السطور فأيقظت نارًا ما قصدنا إشعالها، فينتهي الوصل، لا لأن الحب انطفأ، بل لأن المعنى انكسر.
فاخترت الصمت، لا ضعفًا، بل حذرًا، وجعلته جوابي الوحيد على ما يأتيني من رسائل، وإن كانت روحي تشتعل شوقًا، وإن كان القلب ينزف القاني من التحنان، ويئن من وطأة الحنين.
أتعلم؟
ليس كل من سكت فارغًا، وليس كل من مضى ناسيًا.
أحيانًا نصمت لأننا نخاف أن تُسقِط الكلمات ما تبقّى، وأحيانًا نرحل لأننا نحب، لا لأننا مللنا.
فدعني أختبئ خلف السطور، وأكتم صدري عن كل ما يُقال، علّ الصمت يحميني، وعلّه يُبقي بيننا شيئًا لا ينكسر، شيئًا يُشبه الحنين حين يخنقنا ولا يقتلنا.
أنا لستُ عينًا تُبصِر،
بل قلبًا يستشفُّ النور من بين ظلال الحيرة،
أشبه بندفةِ ضوءٍ تسقط في عمقِ ليلٍ دامس،
فتُوقِظ في الروحِ خريطةً لا يعرفها إلّا السائرون نحوي
بنور اليقين.
تسألون: من أنا؟!
أنا نورُ الساري في دياجير الحيرة...
وكهفُ أسرارِ الوجودِ الكثيرة...
وشمسُ الحقيقةِ في مجرّاتِ الكونِ الوسيعة...
وغيثُ الحياةِ للأرضِ القَفِيرة...
وطِبُّ القلوبِ المريضة...
وملاذُ اللاجئِ من العذاباتِ المريرة...
فهل عرفتني؟!
فتِّشْ في جيوبِ الحياة...
واستحضرْ وجوهَ المارّين...
واستنطِقْ حروفَ الكاتبين...
وحَرِّكْ مشاعرَ العاشقين...
وطَبْطِبْ على قلوبِ المكلومين...
ستجدني بين حرفِ العلّة،
وبين ضميرِ المتكلم،
وبين المبنيّ للمجهول...
كائنًا لا يتحرّك،
بعد أن جُرِّدَ من معناه،
فبات كريشةٍ تتقاذفها الرِّيح،
فتهوي بها في بئرٍ عميق...
فلا تسأل عن اسمي،
فأنا اسمٌ بلا صوت، وصوتٌ بلا لحن،
أنا ظلُّ الحقيقةِ حين تغيب،
وصرخةُ المعنى حين يصمتُ كل شيء.
أنا لستُ من هذا الطين وحده،
بل من سرِّ النفخةِ الأولى،
من صمتِ المعنى حين يفيض الكلام،
ومن وجعِ السؤال حين يعجز الجواب...
أنا أثرُ النورِ في أزقةِ العتمة،
والوَصلُ حين تنقطع السُّبُل،
أنا نبضُ الفكرة في صدرِ متأمِّل،
ووميضُ البصيرة في عينِ حائر.
أنا همسةُ الأمل في أذنِ اليائس،
وسجدةُ الروح في محراب الإدراك،
أنا الحكاية التي لا تُروى،
لكنها تعيش في كلّ سطر، وكلّ صمت.
فتِّش عني في شهقةِ الولادة،
في دمعةِ العارف،
في نشوةِ القصيدة،
وفي صمتِ المريد...
ستجدني نائمًا في جفنِ المعنى،
أرتِّب للفجرِ مواعيدَ قيامه،
وأجفّفُ دمعَ الليلِ حين يطول...
أنا لستُ وصفًا يُقال،
ولا حدًّا يُرسم،
أنا المَعبر،
والمعنى،
والحكاية التي ترويك... دون أن تنتهي.