قديم يوم أمس, 09:29 PM
المشاركة 421
مُهاجر
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • موجود
افتراضي رد: مُهاجر
كنت أقف عند عبارة، أراجع عند أعتابها موقعي من معناها، يصدح صداها من أفواه المحذرين، بأنها مقبرة المبدعين، ونهاية المفكرين، ومع ذلك يسير الجمع الغفير متوشحا بمحتواها، وهي منها براء، لجهله بمعناها، وحسبانه أنه على شيء، وما علم أنه يلصق نفسه بها ليكون مثالا يضرب، ومناطا للتذكير. تلك العبارة هي: «الإمعة».



هو ذاك الذي يسير مع الركب ويحدو بحدائهم، وهو عن معنى الحداء ناكص بليد، ولسان حاله ومقاله: حيث سار الجمع أنا معهم أسير، ويد الله مع الجماعة، وليت ذلك التفويض يكون عن علم يفيض. فكم نرى من تزاحم الأعياد التي أضيفت على العيدين، عيد الفطر وعيد الأضحى السعيد.
فاليوم جاء عيد الحب، به شر أريد، حيث الرذائل في كل قطر، والجهر بها كواد يسيل، هذا في الحرام إذا خرج عن إطار الشرع، وذاك متبجح به سعيد. أما من خص فيه زوجته بيوم زواجه، وأحضر وردا وباقة تأسر القلب العفيف، فقد ضاهي أقوام كفر، وكأننا مبتورو الأصل عن دين حنيف. فما العيد لدينا إذا كان في الزواج؟ فكل أيامنا معه عيد.




ثم يعقبه عيد الأم، وكأن الأم لم يعرف حقها إلا في ذلك اليوم، فالكل فيه موف حليم. يا حسرة على أم ترتجي وصل ابن، لا يطرق بابها إلا إذا دار عليه حول. والإعلام بات بوقا لكل ناعق ينادي: اليوم عيد، حتى لم يبق لنا أصل، وصِرنا نسبح في فلك التغريب. فالفضيلة في عرفهم رذيلة، والرذيلة باتت أصلا في أعراف الهجين.




أما لكم عقول يا بني قومي، لتستبدلوا الرخيصَ بالغالي؟ أما لكم قرآن ينطق بالحق، وفيه الوعد والوعيد؟ ما لكم أسلمتم سمعكم وأبصاركم وقلوبكم للغرب، تنتظرون منهم كل جديد؟ كفاكم تقلبا في مراتع التقليد، فقد كنا خير أمة، وما سُحقنا إلا حين خلعنا ثوب العز وانقلبنا صاغرين.




وكم تضحكني وتبكيني تلك المقولة حين أسمعها من متفلسف مسكين: «خذوا منهم المفيد واتركوا الشر المستطير»، فأقول متأففا: كفاك مواربة، فالحق أولى أن يقال: خذوا منهم الغث واتركوا السمين. أما ترى صدق هذا القول حين تنظر إلى حال المسلمين؟ ليتنا أخذنا منهم العلم، وغزونا به الفضاء، وابتكرنا به أمصالا تخفف آلام الموجوعين، أو صنعنا أمة تتسلح بالمعرفة، وتبدد ظلمة الجهل القبيح.




ومن هنا ما زلت ألهج بها: ألا تبت يد التقليد، ومن صار إمعة بحجة مجاراة الواقع الكئيب. وكم تحضرني قصة ذلك الشيخ، لا يحضرني اسمه، وهو يحكي عن ابنته في القطار، حين جلست بجانبها امرأة من الغرب غير مسلمة، فأخذت تحدثها عن عمر الفاروق أمير المؤمنين، حتى إذا ما فارقتها، إذا بابنته تطلب منه كتابا يحكي عن الفاروق، فيقول الأب متعجبا: كم حدثتك عنه مرارا، ولم يحرك ذلك شيئا في قلبك، فلما جاء ذكره على لسان من يخالف دينك، هرعت تطلبين كتابه!



وكم من هوية ضاعت في أتون التقليد، حتى بات بعضهم يتمنى أن يسلخ نفسه من انتمائه، ويرى مجتمعه متخلفا، ويتهمه بأنه سبب الانحدار والتأخر. فهناك ذاك الجين الثقافي الذي يتفاعل مع غيره، فينغمس الإنسان في شخوص الآخرين، ليخرج خلقا هجين الفكر، مزدوج الانتماء، يصارع بين أصل فطرته وطباع دخيلة، حتى ترى مسوخا من البشر، قلوبهم أقرب في قسوتها إلى الحجر.




وما كان للإنسان رداء عز إلا الاعتزاز بسالف عصره، حين كان أجداده سادة زمانهم. فبعد أن كنا متبوعين صرنا تابعين. لقد كان الغرب في فتوة عهد الفاتحين يتباهون بتعلم العربية، واليوم ننظر إلى واقعنا ونضع عليه ألف خط وخط.




فما نزال في قاع الغفلة نتنفس، إلا من رحم ربي، وكم من متباه بشهادته وهو مفلس من الثقافة، ليس له منها إلا ورقة يزين بها جداره. والتقليد لا يقف عند الأعياد، بل يتسع ليشمل المأكل والمشرب، والصحبة، وما نراه ونسمعه من أحوال تشيب لها المفارق.




وما نعانيه اليوم أننا نعلم الخطأ، ولكننا نعالجه بخطأ أعظم. وليس في هذا تسويد للواقع، ففي الشباب خير كثير، وإن أثقلتهم الغفلة والتسويف، فهم بين مطرقة الألم وسندان الأمل. والحل ظاهر، يبدأ بمعرفة الطريق، وبنية صادقة لا يقطعها قاطع.





ومن يقع في الخطأ، إذا نبه وحذر، فخير له أن يتواضع للحق، وألا تأخذه العزة بالإثم، فالنفس اللوامة أكرم عند الله من القلب المكابر، والحكم فرع التصور، والرجوع إلى الحق فضيلة لا منقصة.

قديم يوم أمس, 09:35 PM
المشاركة 422
مُهاجر
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • موجود
افتراضي رد: مُهاجر
جف نهر العشق في سواقي قلبي، فاستسقيت من غمام الرجاء، من وابل الأمل، ومن ندى الصفاء. حروفي ترزح بالعويل، ومآقي تجود بدمع رطيب يروي عطش القلب ويغسل الغليل من الجرح العميق.



يا نوال الأمنيات، أسعفيني بصبح قريب، فقد سئمت من ليلي الكئيب ومن ظلال الوحدة التي تلفني وتكتم أنفاسي. كلماتي وحروفي ومصطلحاتي واستعاراتي ومجازاتي تواطأت على رسم خواطري بطعم حزين، بطعم مرارة الليالي الصامتة وبصدى الصمت المديد.



يقولون عني معذب، مغفل، حالم، يائس، قانط، لكن هذه قصتي وواقعي، غير أن القنوط لم يبلغ مداه، ولم يستوطن قلب الحنين، ولم يجمد حر الشوق في قلبي. فما للروح أن تموت، وما للشوق أن يندثر، وما للأمل أن يفنى.
كلماتك ناغمت بديع الكلام، غير أنها تتهادى بين الوهم والإيهام، فأجد حالي ممددا بين هذا وذاك، بين نور الحقيقة وظلال الضباب، بين مد وجزر الغرام وعمق انتظار اللقاء.




فلنمض معا، يدفعنا أمل يساق، ولعل حظوظ الزمان تعلن اليوم الوفاق، ويعود القلب مترعا بالهناء، وتشرق الأرواح بنور الصفاء، ويطيب لنا العيش في ضياء الوفاء، وتستقر النفوس على طمأنينة لا تزعزعها ريح ولا هبوب.




وفي ختام اليوم، حين ينسدل السكون على نوافذ الهمس وتهمس الرياح بأسرار الليالي، أدرك أن الشوق باقٍ، والحلم حي، وأن القلوب مهما بعدت تظل مترابطة، تتشابك أرواحها في نسيج واحد من حب وأمل. فما ضاع فجر من يملك الصبر، ولا خاب من سعى للوصول إلى صباح اللقاء. فلنمضِ معا بخطى ثابتة وعزيمة لا تضعف، نحو غد يحمل الوفاق ويضيء الطريق بنور الإيمان والصفاء.

قديم يوم أمس, 09:43 PM
المشاركة 423
مُهاجر
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • موجود
افتراضي رد: مُهاجر
ما عاد للانتظار مساحة إشفاق تضمّد أثر الجراح، بل صار زميلا للألم ومعينا على تعميقها، ومهما امتد الليل فإن الفجر لا يغيب، والرجاء لا يموت، وما للروح أن تخبو وما للقلب أن يضعف.



ومن ثقب كثقب إبرة أتنفس الأمل، غير أنه ينفض أركان اعتقادي، ويحيي مخاوفي، ويبث إرجافاته ليقضي على ما تبقى من يقين، لكن عزيمتي ثابتة، وقلبي يعرف طريق الفرج، وما للحزن أن يستقر.



يهمس في أذني ذكر الحبيب، مواسيا دموع غربة تصدح بها أملاك الليل البهيم، أفرد أشرعتي، والريح لي رفيق تأخذني نحو المغيب، حيث الأمل يشرق من جديد، وحيث كل حرف ينادي بلقاء، وكل كلمة تزهر شوقا ووفاء.
بحت فيها عن آهاتي، ومعاناتي، وطول انتظاري، ناظرا من يرفق بحالي ويواسي اغترابي في عالم كئيب، وما زال الألم يزحف وما زال الأمل يلوح في الأفق، فكم استباح سعادتي واغتال أحلامي جان بليد، وما يزال يرخي جدائل جرمه على ما تبقى من صبر جميل.



موغل ذاك البعد في أعماقي، تزورني أطياف حبيبتي لتمسح عن قلبي أحزاني وما تكدس فيه من حزن دفين، أية يد ترفع عني السواد وأي نور يضيء دروب الغياب؟ أي صبح جميل يشرق ليبدد حلكة الليل الثقيل؟ فقد طال بي المقام وأنا أقرع باب الفرج القريب، وما زال قلبي يطرق أبواب الرجاء.



مهشم العزم، تتناهشني ضباع الظالمين، وتستقبلني بالشماتة وجوه الحاقدين، لكني أغترف من نهر الرجاء، معلق الآمال برب العالمين، رفعت حاجتي إليه، وفي قلبي غرست اليقين، فقد بصرت بما حل بي، فأدرجته حلما نائما يوشك أن يقطعه استيقاظ على واقع جميل، واقع يزهر الأمل ويعيد الحياة لقلوبنا الضامرة.

قديم اليوم, 05:24 AM
المشاركة 424
مُهاجر
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • موجود
افتراضي رد: مُهاجر
من أمعن النظر في مسير هذه الحياة، أيقن أنها جبلت على تقلبات ومتغيرات، تجتمع في حناياها الأضداد، ويتعاقب في جنباتها السلب والإيجاب، والحلو والمر، والسعادة والشقاء، والفرح والبكاء.



غير أن كثيرا من الناس يحبس بصره عند مشاهد النكبات والويلات، ويقيم سمعه على صدى العويل والصرخات، فيغفل عن التيار الهادر، المتدفق بالايجاب، وما ينبض في أعماقه من جميل المعاني، وبديع الدلالات.
فتنشأ من تلك النظرة القاصرة أزمات شعورية، وارتدادات وجدانية، واضطرابات نفسية، ينتهي أثرها إلى هزيمة داخلية صامتة، تنخر في الروح، وتهدد بقاء الإنسان ووجوده.



والحياة، على كثرة ما فيها من عثرات، عامرة بالغنائم والفرص، ولا يفقه ذلك إلا العاقل اللبيب، الذي يطوع البلايا، ويؤالف الهزات، فيجعل منها سلما للارتقاء، وبداية طريق نحو التفوق والنجاح، والسير بثبات على درب الكفاح.
ولا ريب أن للخطأ وقعا موجعا، وعاقبة ثقيلة، ومصيرا وخيما،



غير أن الإنسان مطالب بمواجهة الواقع لا الهروب منه، إذ لا يقف أمامه إلا خياران لا ثالث لهما:
إما تسليم يعقبه بوار،
وإما تجاوز يعقبه ازدهار،
فمن اختار السعي غلب، ومن آثر الركون خاب.

قديم اليوم, 05:27 AM
المشاركة 425
مُهاجر
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • موجود
افتراضي رد: مُهاجر
لعل كلمة «الخطأ» تحمل في طياتها ما يغاير صائب الأمور، غير أن ما نجهله أحيانا أنه قد يكون محفزا ودافعا لتغيير القبلة، وتصحيح الوجهة، وتدارك المسار، حتى تستقيم به الأحوال وتعتدل الأفعال.



وحين نأخذ «الخطأ» مجردا، من غير أن نربطه ببيئته التي نشأ منها، ونسبر هويته، ونفكك كنهه، ونستجلي حقيقته، نكون قد حكمنا عليه قبل أن نفهمه، وجاوزنا العدل إلى العجلة، والبصيرة إلى الغفلة.


وكلما حللنا طبيعته، تيقنا أنه كالهواء، يتنقل ويطوف بالجميع، لا ينجو منه أحد، ولا يسلم من أثره بشر، لنُدرك به ما يباينه، وما عنه ينفصل، وما منه ينبثق، فيكون سببا للتوثيق أو جسرا للانعتاق، فيفارقه المرء ولو بعد حين.
وما أجمل أن نجعل من المثالب التي تصيبنا، من غير قصد ولا ترصد، مفاتيح نفتح بها أبواب المراجعة، وسلالم نرتقي بها مدارج الإصلاح، فنفكك ذواتنا لنعيد تركيبها، ونكسر القالب لنصوغ قالبا أصلب وأقوم، ونجعل من الخطأ مرآة مقارنة، وصورة مخالفة، نعيد بها برمجة الأقوال، وتقويم الأفعال، تاركين بعض المساحات الضيقة نلقي فيها فتات الهفوات، لا لنخفيها، بل لنقيمها ونقوم معوجها.




وقفة إكبار، وشكر موصول، وعرفان غير منقوص، لذاك الخطأ العلمي، الذي كان سببا لسبر مكامن المعرفة، واستنطاق خزائن العلم، فكان منه الإقدام لا الإحجام، والاقتحام لا الإحجام، والولوج في كل فن وعلم، تنوع مذاقه، وتعددت مسالكه، فكم جنينا من ثماره، وكم غنمنا مما لذ وطاب، وكم ارتقينا به درجات بعد درجات.



ولك مني التحية، أيها الخطأ العملي، فلولاك لما تعثرت بذاتي، ولا اصطدمت بحدودي، ولا اكتشفت قدراتي، ولا أدركت حقيقة حالي، فكنت المعلم الصامت، والناصح القاسي، والمرآة التي لا تجامل.



ومن ذاك تجلت لي عظمة ما أودعه الله في، فانطلقت من جديد، وقد تعانق ظاهري بباطني، وتوافقت سريرتي مع علانيتي، وانسجم قصدي مع فعلي، فكأنني ولدت ولادة أخرى، أنقى بصيرة، وأرسخ عزيمة، وأصدق توجها.
ولا يفوتني أن أثني على الخطأ الاجتماعي، حين اضطرني إلى إعادة النظر، وإعمال الفكر، ومراجعة الموروث، في أمر العادات والتقاليد، التي حسبتها يوما هذيانا، وعددتها بقايا تخاريف، حتى أدركت، بعد أن نبهني الخطأ، أنها هوية تحفظ، وجذور تمتد، وشرايين تضخ المعنى في جسد المجتمع.
ولك الشكر، أيها الخطأ الديني، حين كشفت لي الانفصام، وفضحت التناقض، وأظهرت الخصام، بين ما نؤديه من عبادات، وما ينعكس منها على واقع الحياة، وتلك الغربة التي لا يؤنس وحشتها إلا فهم معنى العبادة، وحقيقة معرفة الله، لا طقوسا تؤدى، ولا شكلا يتكرر.




ومن جملة الشكر أيضا ذاك الخطأ العاطفي، حين علمت أن القلب لا يُملك، والمشاعر لا تُوهب، وأنها مشرعة بلا نوافذ ولا أبواب، غير أن الحكمة تقتضي صونها، والعقل يفرض تحصينها، بإبعادها عن مواطن الاستقطاب والاجتذاب، حتى لا نتجرع المر ألوانا، ولا نذوق الندم أضعافا.



وأيقنت أن القدر، في نهاية المطاف، هو صاحب القرار، وأننا لسنا إلا أسبابا، نمضي بها وإليها، فينفذ فينا ومنها ذاك القرار، عدلا كان أو ابتلاء، رحمة أو امتحانا.



لقد بت مقتنعا أن الخطأ هو معلمي الأول، ومرشدي الخفي، وسراج الطريق، إذا جعلته مؤشرا للمراجعة، وميزانا للمحاسبة، ومفتاحا للإصلاح، أقيم به ذاتي، وأقوم به نفسي، وأسعد به في هذه الحياة، قبل أن يحين الحساب.

قديم اليوم, 05:30 AM
المشاركة 426
مُهاجر
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • موجود
افتراضي رد: مُهاجر
لماذا وريقات الحياة تتقلب
بين صدمات حزن وفرح،
وتتأرجح بين بسمات تشرق، ودمعات تترقرق؟



جوابه:
أن هذه الحياة لا يدوم نعيمها ولا عذابها،
ولا يستقر فرحها ولا حزنها،
لأنها على التقلب جبلت،
وبالتحول وسمت،
ليكون الإنسان فيها بين كماشتين وحالتين،
وبين منزلتين ومرتبتين،
بين خوف يشد الخطى، ورجاء يبعث السرى،
وبين يأس يثقل الروح، وأمل يساق ليسقي الجروح.
أما في الآخرة فهناك المستقر والمستودع،



والفصل الذي لا يقبل الجمع،
ولا يحتمل النقيض ولا المباين اللصيق؛
إما نعيم مقيم لا يزول،
أو شقاء عميم لا يحول.
من هنا يكون التأسيس لتلك المرحلة،
وعلى هذا يكون البناء لا المجادلة،
ومنه تنشأ مغالبة الواقع لا الفرار منه،
والتعايش معه لا الاستسلام له،
كي يسير مركبنا على يم الحياة،
لا تعصف به الرياح، ولا تغرقه الجراح.
وأما الحاجة إلى من يمد لنا يد العون والحنان،
فقد تشح، وقد تغيب، وقد تخونها الأزمان،
وحينها لا يصح التعويل على الأيدي الفانية،
ولا الركون إلى القلوب المتقلبة،


بل يكون الاتكاء على ما لا يخيب،
والاستناد إلى من لا يغيب.
فما كل دمعة تجد كفا تمسحها،
ولا كل أنين يجد صدرا يحتضنه،
لكن من أحسن الاعتماد،
أوتي الثبات،
وسلم من الانكسار،
ومضى في دربه وإن أثقلته الأحزان.

قديم اليوم, 05:35 AM
المشاركة 427
مُهاجر
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • موجود
افتراضي رد: مُهاجر
ولو سلمنا بأن تلكم الأوجاع، وذاك الفشل المذاع،
ليس إلا جناية إنسان تربصت به الدوائر،
فأسقطته في دهاليز الأحزان،
أفلا يكون ذلك في حقيقته أمرا مبرما في لوح محفوظ،
نفذ ليكون واقعا مَعيشا، وحالا ملامسا؟
فما من ساكن في هذا الكون ولا متحرك
إلا وقد اكتنفه القدر وحمله،
غير أن ذلك لم يكن جبرا مطلقا
يسلب الإنسان اختياره،
بل كان للإنسان فسحة إرادة،
وإن قيدت مآلاتها بحدود الأسباب والمسببات،
حتى إذا انتفضت العوامل
وتكاثفت الموانع،
انطفأ حلم، وانكسر أمل،
فتألم القلب قبل أن يشتكي اللسان.



ومن هنا، فإن تحرير الفكرة
لا يستقيم باستحضار الماضي وحده،
ولا بتقديس أطلاله،
بل باستيعاب الحاضر
واستشراف المستقبل،
حتى لا يتحول الأمس إلى قيد
ولا يصبح الوجع هوية،
ولا تغدو الذكريات سجنا
نقيم فيه إقامة دائمة.



فالإفراط في اجترار الحسرات
لا يورث إلا البؤس،
ولا يحصد من التنهدات
غير الويلات،




ولو سلمنا بوجود أسباب
قادت إلى هذه الخيبات،
فإن الركون إليها
واتخاذ دور الضحية
لا يزيد الجراح إلا اتساعا،
ولا يمنح الجلاد
إلا مبررا إضافيا للبطش.
إن استدعاء القدر
ليس شماعة للهروب،
ولا ذريعة لتعليق العجز،
بل هو باب للرضا الواعي،
ومعبر للتوكل الحي،
أما تعليق الإخفاقات عليه
فليس إلا استسلاما مقنعا،
وتخليا مؤجلا عن القدرة
على النهوض من جديد.




فالذي يرتهن للماضي
ويسكن الأطلال،
يدفن في ركام الذكريات
قدرته على التجاوز،
ويئد في صدره
إمكان رسم أفق جديد،
بينما الأجدر به
أن يسقي أمله
باستشراف فجر مختلف،
ويلونه بفرشاة التفاؤل،
ويجعل الله السميع البصير
ركنه وملاذه،
وعليه يفوض أمره
تفويضا لا يشوبه يأس
ولا يخالطه وهن.




وليس في استحضار الذكريات حرج،
ولا في التماس العزاء بها ضعف،
ما دامت جسرا للاتزان
لا معبرا للغرق،
وسندا للروح
لا سكينا للصدر،
فالذكريات إن أحسنت إدارتها
كانت دواء،
وإن أسئ استعمالها
صارت داء.




ولئن تعاقبت النصائح،
وتعددت الأصوات،
واختلط الوعظ بالحكم،
فإن المأزق الحقيقي
ليس في كثرة الأقوال،
بل في كيفية تلقيها،
إذ كثيرا ما تمر الحكم
مرور الكرام،
ولو أمعن فيها الفكر
لأنقذت النفس
من مستنقع الاستنزاف.




غير أن النفوس
تألف المألوف،
وتستسلم لجاذبية الحزن،
فتجعل من الأنين
نشيدها اليومي،
ومن جلد الذات
طقسا لا ينقطع،
فلا تسمع إلا صدى وجعها،
ولا ترى إلا ظل ألمها.




والحقيقة الثابتة
أن التغيير لا يهبط من الخارج
ما لم تفتح له الأبواب من الداخل،
وهنا مكمن العطب،
حين تلقى عصا العزيمة،
وتخنق الرغبة في العبور،
وتؤجل المصالحة مع الحياة.
فالنجاة ليست في إنكار الألم،
ولا في تقديسه،
بل في فهمه،
وتجاوزه،
وتحويله من عبء مثقل
إلى درس منقذ،
ومن ذكرى موجعة
إلى خبرة واعية،
ومن سقوط مؤلم
إلى بداية نهوض جديد.

قديم اليوم, 05:41 AM
المشاركة 428
مُهاجر
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • موجود
افتراضي رد: مُهاجر
أبحث عن زمن تتلاشى فيه عديد الأقنعة،
وتسقط فيه الوجوه المستعارة،
لأنزوي بعيدا عن واقع
نعيش دقائقه المثقلة،
ولحظاته المفزعة.



حيث لا أسمع ولا أرى
تلك الأعذار الواهية،
التي استنزفت منا الأحلام الوديعة الواعدة،
وقطفت ورود التقدم اليانعة،
حتى غدت الساحات قاحلة،
والأماني ذابلة.




من نافذة الأمل أطل برأسي،
أرمق يومي بعين الاعتبار،
وأستذكر أمسي بوعي الاختبار،
وأناجي غدي برجاء الانتظار.



وهناك، حيث يتجسد واقعي،
ينازعه واقع آخر،
معفر بضجيج المناكفات،
مكدود بصخب الخصومات،
يتوسل ألا يجردوه من بشريته،
وألا يسلبوه حقه في البقاء والاختلاف.




غير أن الرجاء،
وإن ضاق مسلكه،
لا يزال يتشبث بنبض القلب،
ولا يزال يطرق أبواب الأمل،
رغم ثقل المسير،
وشح النصير.





فالخطأ،
وإن بدا سقطة،
فهو في جوهره عتبة،
وعثرة تعقبها عبرة،
وسقوط يلد قياما،
إذا ما أخلصت النية،
وتجدد العزم.




كم تمنيت أن نقوم كلما وقعنا،
وألا نخلد إلى الانكسار،
وأن نعيد الكرة مرة بعد مرة،
حتى تستبين الأسباب،
وتنقش الدروس
في القلب والعقل نقشا لا يزول.
فذلك هو لسان حال
من غاص في لجج هذا الواقع،
فعرف قسوته،
واكتشف حكمته،
وأيقن أن السير في دروبه
لا يكون بالإنكار،
ولا بالفرار،
بل بالمواجهة والصبر،
والتعلم من كل عثرة،
حتى يبلغ الإنسان
معنى النهوض،
وحقيقة الاستمرار.

قديم اليوم, 05:44 AM
المشاركة 429
مُهاجر
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • موجود
افتراضي رد: مُهاجر
تلك العبارة تحمل الكثير من المعاني النفسية،
تخرج النفس من معترك ودوامة التحبيط،
وتبعدها عن متاهات اليأس المقيت،
ومن هذا الاسترسال في ذات الخطأ،
دون مراجعة الطريق وإعادة النظر في المسار.



فالكثير منهم يقع في هذا، فمنهم من أدمن الخطأ،
ولا يرى للحياة معنى إلا الوثوب فيه،
ومنهم من يتقلب في عذابات الضمير،
تارة يهرب من الخطأ، وسرعان ما يعود إليه من جديد،
ولا يفصل بين الهروب والعودة سوى برهة قصيرة،
ومنهم من عرف الطريق بعدما تعلم من الخطأ،
فأدرك أين يكمن الصواب في كنه ذاك الخطأ،
ولا يحظى بذلك البصير إلا من وهبه الله عقلًا رشيدًا،
وعزيمة صادقة، ورغبة صلبة، ليخرج وقد ولد من جديد،
متجدداً، متصالحاً، حاملاً دروس الماضي نورًا لطريقه.



ولنا أن نسأل من غاص وتشبع من تلك الأحزان
التي ولّدها الخطأ:
هل ذهب ما فيه من حزن طويل؟
وهل أزاح عنه ما يغيض؟
أم هو مجرد استمراء وتبلد إحساس؟
حتى تساوى لديه الليل والنهار،
وهو يسف الآهات والأنين،
من غير أن يبحث عن المخرج الذي تعيده البسمة والسعادة؟
إن من يصل إلى تلك القدرة،
يدرك أنه مر بمرحلة تأمل لما جرى له،
وتصالح مع ذاته،
ووصل إلى مرحلة الشكر والامتنان لذلك الخطأ.




فذاك هو الدواء لذاك الداء،
فقد نال السعادة من عاش واقعه،
وتأقلم مع عطايا القدر،
وسلم الأمر لله واحتسب الأجر،
فكلما سعى لإصلاح المثالب،
وعاد إلى جادة الصواب،
ظل متماسكا، وواصل السير على نهج الحكمة،
ففي التعلم من الخطأ حياة،
وفي الصبر على العثرات رفعة،
وفي اليقين بالله قوة،
وفي الرجوع إلى الصواب عزٌ ونجاة.

قديم اليوم, 11:34 AM
المشاركة 430
مُهاجر
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • موجود
افتراضي رد: مُهاجر
يُحكى أن رجلا من الصالحين كان يوصي عماله في المحل بأن يكشفوا للناس عن عيوب بضاعتهم إن وُجدت. وذات يوم جاء يهودي فاشترى ثوبا معيبا، ولم يكن صاحب المحل موجودا، فقال العامل: هذا يهودي، لا يهمنا أن نطلعه على العيب. ثم حضر صاحب المحل فسأله عن الثوب، فقال: بعته لليهودي بثلاثة آلاف درهم، ولم أطلعه على عيبه.


فقال: أين هو؟ قال: لقد رجع مع القافلة. فأخذ الرجل المال معه، ثم تبع القافلة حتى أدركها بعد ثلاثة أيام. فقال لليهودي: يا هذا، لقد اشتريت ثوبا به عيب، فخذ دراهمك وهات الثوب. فقال اليهودي: ما حملك على هذا؟ فقال الرجل: الإسلام، إذ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: من غشنا فليس منا. فقال اليهودي: والدراهم التي دفعتها لكم مزيفة، فخذ بدلها ثلاثة آلاف صحيحة، وأزيدك على ذلك: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وقال عمر بن عبد العزيز: كونوا دعاة إلى الله وأنتم صامتون.



كانت هذه حكاية رويتها لأبنائي قبل النوم، فكان لها وقع خاص، وحوار شائق بنكهة البراءة. ومن عادتي عند الانتهاء من أي قصة أن أفتح باب التساؤل، وأن نفكك شخوصها وأحداثها، ثم نختم بالفائدة المستفادة منها.


خرجنا من تلك القصة بمعنى عميق، أن المؤمن إنما يتعامل مع الله قبل أن يتعامل مع الناس، ومن هنا يحاسب أنفاسه، ويزن أقواله وأفعاله، ويحرص على أن تكون معاملاته على ما يرضي الله، لا على ما تمليه المصلحة العاجلة أو المكاسب الزائلة. فالوضوح عنده مبدأ، والصدق مسلك، فلا يجعل من الغاية المادية سببا لطمس إنسانيته، ولا ذريعة لتبرير الغش والخداع.


فالمؤمن كتاب مفتوح، لا يحيط به غبش الريبة، ولا تنال منه سهام التشكيك، ولا تهدم كيانه معاول التخوين، لأنه متسق في ظاهره وباطنه، ثابت في قوله وفعله، فلا يقول ما لا يعمل، ولا يعمل ما يخجل من قوله.


وهنا تتجلى حقيقة الدعوة الصامتة؛ تلك الدعوة التي لا تحتاج إلى ضجيج، ولا تقوم على الجدل، بل تتسلل إلى القلوب تسلل النسيم، وتتجاوز حدود الأنا، لتخاطب الفطرة والعقل معا. هي رسالة يتلقاها الآخر بالفعل قبل القول، فيجد نفسه مشدودا لمعرفة سر هذا السلوك، ومصدر هذا الخلق، ومنبع هذه القيم.


فبطل القصة لم يعرض بضاعة الإسلام عرضا لفظيا، ولم يسرد محاسنه بالكلام، بل جعل من فعله ترجمانا صادقا، ومن أمانته جسرا يعبر عليه الآخر إلى الحقيقة. وهكذا كان البيان عن معاني الإسلام أصدق، وكانت رسائله أعظم أثرا، إذ أحيت قلبا كان موصدا، وبعثت روحا في رحلة بحث عن الحق، وما يسعد الإنسان في دنياه وآخرته.



ومن هنا يطرق السؤال باب الوعي: هل للدعوة الصامتة، في شتى مرافق الحياة، هذا الأثر العميق؟ أم أن البوح المباشر هو أنجع السبل؟ لعل بعض الناس يتجاهل الإشارات، ولا يلتفت إلى التلميحات، فتضعف الحصيلة عنده، غير أن الفعل الصادق يبقى أبلغ من ألف كلمة، وأبقى من ألف خطاب، لأنه يزرع في القلوب قبل أن يخاطب العقول.


فالدعوة الصامتة ليست سكوتا عن الحق، ولا ضعفا في البيان، بل هي حكمة في إيصال الرسالة، ووعي بسنن التأثير، وسلوك يسبق المقال. هي خلق يمشي على قدمين، وبرهان لا يحتاج إلى منبر، ولسان حال يقول: هكذا يكون الإسلام حين يُعاش، لا حين يُقال.


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2106 ( الأعضاء 1 والزوار 2105)
مُهاجر
أدوات الموضوع

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:20 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.