احصائيات

الردود
5

المشاهدات
7972
 
ريم بدر الدين
عضو مجلس الإدارة سابقا

اوسمتي


ريم بدر الدين is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
4,271

+التقييم
0.66

تاريخ التسجيل
Jan 2007

الاقامة

رقم العضوية
2765
08-13-2010, 09:24 PM
المشاركة 1
08-13-2010, 09:24 PM
المشاركة 1
افتراضي قصص قصيرة من الأدب الأميركي

نشرت بمجلة العربي الشهر الخامس من السنة 1995


غطاء السرير المبرقع


قصة للكاتبة الأمريكية: دورثي كانفيلد فيشير


من بين كل أفراد عائلة الايلويل، كانت العمة ميهاتبيل أقل أفراد الأسرة أهمية فلقد عاشت في بداية تأسيس ولاية نيو انجلند، المؤلفة من مجموعة من الولايات والتي كانت أول المستعمرات في أمريكا. وكانت تعتبر المرأة فيها عانسا إن لم تكن متزوجة وهي في العشرين من عمرها وخادمة في الأربعين وما أن تتجاوز الستين من عمرها حتى تكون قد أصبحت جزءا لا يتجزأ من الانضباط والنظام بحيث لا تحتاج إلى أي ضبط او نظام او تقنين يفرض عليها في العالم الآخر.

كانت العمة ميهاتبيل في الثامنة والستين من عمرها ولم تعرف أبدا للحظة واحدة متعة الشعور بالأهمية لأي شخص. ولا يعني ذلك أنها كانت فردا لا قيمة له في العائلة، بل على العكس فقد كان متوقعا منها، بحكم العادة، أن تأخذ على عاتقها الأعمال الأقل متعة والأكثر مللا. ففي أيام الاثنين، كانت تغسل قمصان الرجال المعبقة بالعرق والمتصلبة بوحل الحقول ووسخ أجسام الرجال المثابرة على العمل الشاق. ولم تكن تحلم في أيام الثلاثاء بأن يسمح لها بكي أي شيء جميل او ممتع كاثواب الطفلة البيضاء او مراييل البنات الفاخرة. بل كانت تعكف طوال النهار، بشكل متعاقب ورتيب، على كي مناشف وملاءات الأسرة.

وفي فصل تعليب الفواكه لم تكن تحظى ببهجة اخذ القرار فيما اذا كانت الفواكه قد طهيت بما فية الكفاية. ولم تكن تشارك في حدث فيه القليل من الإثارة كصب المربى الملونة ذات الرائحة الزكية في الأواني الحجرية. كانت تجلس في الزاوية مع الأطفال وتنزع النوى من الكرز دون توقف او تنزع الأوراق الخضراء من ثمار الفريز حتي تصطبغ يداها بالحمرة الداكنة.

لم تكن معاملة أعضاء عائلة الايلويل الفظة لعمتهم متعمدة، لكنها كانت شخصا غير مهم في حياتهم وكأنها غير موجودة. أما بالنسبة للعمة ميهاتبيل، فلم تكن تستاء من تلك المعاملة بل كانت تتلقاها بهدوء وتعتبرها غير مقصودة. فمعاملة كهذه متوقعة لعجوز عانس عالة على غيرها في عائلة نشيطة، فلقد كانت تلملم ما تستطيع من عزاء من طيبتهم اللامبالية بين الفينة والفينة وتحاول إخفاء ألمها الذي كان ينفذ إلى قلبها لدى سماعها مزاح شقيقها الفظ.

وفي الشتاء عندما كان الجميع يلتفون حول الموقد الكبير ويتناولون التفاح المشوي ويشربون عصير التفاح المحلى ويضايقون الفتيات بذكر أحبائهن والشباب بذكر حبيباتهم، كانت العمة تنكمش على نفسها في زاوية مظلمة مع صنارتها، سعيدة اذا ما مضت السهرة بدون أن يقول شقيقها بسخرية فجة: اسألوا عمتكم ميهاتبيل عن حبيبها الذي كان يتودد إليها، او يقول: ما هو شعورك عندما كنت مغرمة بابيل كامينغ!

وفي الواقع كانت شخصية العمة ميهاتبيل في العشرين من عمرها هي نفسها في الستين، مخلوقة جبانة اخجل من أن ينتبه إليها أحد أو من أن ترفع عينيها للحظة وتتمنى حياة لنفسها. أما زوجة أخيها، ربة المنزل الضخمة والمتمتعة بصحة جيدة والتي كانت تدير المنزل بشكل مطلق كما كان يدير زوجها المزرعة، فقد كانت طيبة وفظة إلى حد ما مع المرأة العجوز المنكمشة وذلك بطريقة لا إرادية. وكان بوسع العمة ميهاتبيل من خلالها أن تسعد بالشيء الوحيد الذي كان يسعدها في هذه الحياة.

لقد كانت العمة ميهاتبيل ماهرة منذ صغرها في حياكة قطع القماش المختلفة الألوان والأشكال ببعضها بعضا لتصبح غطاء سرير ولم تكن تطمع أن تتعلم شيئا آخر غير ذلك، فالثياب التي كانت تحيكها لنفسها كانت تبعث في نفسها الحزن وتكون شاكرة اذا ما تلقت أي مساعدة في حياكة قطع الثوب الذي كانت تعتبره عملا مربكا.

لكن الأمر كان مختلفا بالنسبة لصنعها للغطاء المبرقع، فلقد كانت تتمتع بنوع من الأهمية لتمكنها من فعل ذلك بشكل جيد كأي شخص آخر. وكانت قد استطاعت أن تحظى خلال سنين طويلة كرستها لهذا الفن بمجموعة لا بأس بها من نماذج الأغطية المبرقعة. وكان الجبان بين الحين والآخر يطلبون من الآنسة ميهاتبيل إعارتهم نموذج "حزمة القمح" او نموذج "النجمة المزدوجة". أما العمة ميهاتبيل بدورها فترفرف ابتهاجا لاستطاعتها مساعدة احد، فكانت تعدو نحو خزانتها، في غرفتها الصغيرة شبه الفارغة تحت الكهف وتتناول النموذج المطلوب من حقيبتها المملوءة بالأوراق. لم تعلم أبدا كيف خطرت ببالها تلك الفكرة العظيمة، فأحيانا تظن بأنها قد راودتها في الحلم وأحيانا تعتقد بأنها وحي جاء عبر الكلام المنمق الذي كانت تسمعه في الاجتماع الأسبوعي للصلاة. لكنها لم تسمح لنفسها أبدا بالاعتراف بأنها قد راودتها دون مساعدة أحد. فلقد كان مشروعا أعظم وأطمح من أن يستطيع عقلها الصغير والمتواضع التفكير به. حتى أنها عندما انتهت من رسم النموذج بأناملها حدقت به متشككة، غير قادرة على التصديق بأنه حقا من صنع يدها. في البداية بدا لها. فقط كحلم جميل غير حقيقي ولم تجرؤ لمدة طويلة على التفكير ولوحتي للحظة واحدة في وضع نموذج الغطاء المبرقع قيد التنفيذ، حتى لو كان من تصميمها.

لم يكن السبب هو خشيتها من الجهد الضخم الذي ستحتاجه لحياكة قطع القماش الصغيرة ذات الألوان المشرقة والأشكال المختلفة ببراعة متناهية. لا، فلقد كانت تتلهف وتفكر بحماس في ذلك الجهد اللانهائي. وكان قلبها يقفز فرحا لدى تصورها جمال اللوحة الفيسفسائية- ذلك النموذج المعقد ذي الصعوبة الرائعة والجدير فقط بالملائكة. وبينما كانت تحلم، كانت أصابعها الهرمة الرشيقة تمتد بلهفة لتحول حلمها إلى حقيقة. وبدأت تغامر بالتفكير بمحاولة تنفيذه- لعلها لن تكون أنانية اذا حاولت صنع مربع واحد- فقط وحدة واحدة من تصميمها لرؤيته بشكل كامل.

لم تكن تجرؤ على القيام بشيء دون الاستئذان في بيت كانت تعتبر عالة عليه. ولهذا اتجهت بقلب ممتلئ بالحزن وبالأمل يرتجف بين أضلاعها نحو سيدة المنزل في يوم صنع الزبدة مدركة بمكر طفلة بريئة أن مزاج المرأة الريفية سيكون جيدا وهي تعمل في القبو الرطب وعبير رائحة الزبدة يملا الجو. أنصتت صوفيا بشكل لا مبال لطلب شقيقة زوجها المتردد وأجابت قائلة وهي تنحني داخل الوعاء للحصول على ما تبقي من الزبدة الذهبية: انعم ابدئى بصنع غطاء مبرقع اذا ما شئت فلدي كثير من القطع الفائضة من الخياطة الصيفية والتي يمكنك استعمالها.

حاولت العمة ميهاتبيل جهدها أن تشرح لصوفيا بان هذا العمل لن يكون عملا عاديا، لكن مفرداتها المحدودة وعواطفها حالت دون ذلك.

وأخيرا هتفت صوفيا بلطف وقد نفد صبرها. "آه هيا لاتزعجيني، فانا على أية حال لم استطع أبدا تتبع نماذج أغطيتك المبرقعة. هيا هلمي فأنا لا يهمني أي نموذج تتبعينه".

أسرعت ميهاتبيل نحو درج السقيفة العالي في غرفتها وبسعادة وحيوية بدأت تقوم بالتحضيرات لإنجاز أعظم عمل في حياتها. لقد أظهرت اللمسات الأولى من العمل أن التصميم افضل مما توقعت فلقد استطاعت اختراع نموذج لا يضاهى بإلهام من السماء.

لم يكن لديها الكثير من الوقت خلال ساعات النهار المليئة بالأعمال المنزلية المتتالية والشاقة، ولم تكن تجرؤ على العمل بعد حلول الظلام لئلا تسرف في استعمال الشموع. لهذا لم يبدأ النموذج بالظهور على المربع الصغير إلا بعد مرور أسابيع طويلة. وحينها انتابها نشاط شديد لإنهاء الغطاء المبرقع. كانت ملتزمة لدرجة أن ضميرها لم يسمح لها بالتهرب من واجباتها المنزلية مهما كانت صغيرا. ولكنها الآن أصبحت تسرع بإنجازه لدرجة أنها كانت تلهث لدى صعودها السلم المؤدي لغرفتها الصغيرة وفي كل مرة كانت تفتح الباب، كانت ترى فيضا من أشعة الشمس تملأ الغرفة بغض النظر عن الجو خارج النافذة الصغيرة والوحيدة في غرفتها. كانت تبتسم لنفسها وهي تنكب على قطع القماش القطنية الصغيرة والمتناثرة على منضدة العمل.

فبالنسبة لها كانت تلك القطع، منذ ذلك الحين، قد نسقت بشكل نظامي في لوحة فسيفسائية جميلة ومعقدة. وأخيرا لم تعد تستطيع الانتظار اكثر من ذلك فغامرت في مساء أحد الأيام بحمل عملها معها للجلوس مع العائلة قرب النار متمنية أن تتاح لها الفرصة لتجلس قرب الشموع الشحمية الموضوعة على رف ما فوق الموقد. كانت قد وصلت إلى آخر زاوية للمربع الأول وكانت حركة أبرتها تتطاير من الداخل إلى الخارج بسرعة عصبية. ولارتياحها الشديد لم ينتبه إليها احد.

وعند حلول موعد النوم كان عليها فقط أضافة اللمسات الأخيرة لإنهاء قطعة القماش المربعة الشكل. ولدى وقوفها مع الآخرين وقعت قطعة القماش من يديها الهرمتين المرتجفتين ورفرفت فوق المنضدة. ونظرت صوفيا إليها دون اكتراث وقالت وهي تتثاءب: "أهذا هو الغطاء المبرقع الذي قلت أنك تريدين أن تبدئي بتنفيذه؟ تبدو القطعة جميلة حقا، دعينا نراها ".

لحد تلك اللحظة، كانت ميهاتبيل قد عملت بروح نقية ذاتية مفتتنة بصورة مثالية وكانت الصدمة العاطفية التي انتابتها، بفعل صرخة إعجاب صوفيا وهي تحمل قطعة القماش نحو ضوء الشمعة لفحصها، مفاجئة بقدر ما كانت مبهجة لها.

- "يا الهي- صرخت زوجة أخيها- أين حصلت على هذا النموذج يا ميهاتبيل ايلويل ".

- "لقد صممته بنفسي "قالت ميهاتبيل بهدوء وهي ترجف.

- لا- هتفت صوفيا- هل صممته فعلا. لم أر نموذجا مثله في حياتي. هلموا يا فتياتي وانظرن ماذا فعلت عمتكن ميهاتبيل ".

وعادت بنات أخيها الثلاث على مضض إلى الغرفة. وقالت إحداهن: " لم استطع أبدا الاهتمام بفن صنع الغطاء المبرقع".

كانت مهارة الرواد الأوائل الذين عاشوا الحرمان في أمريكا ورغبتهم الشديدة بالجمال. قد تلاشت منذ ذلك الحين.

وأجابت صوفيا: " ولا أنا أيضا، ولكن مثل هذا النموذج يمكن أن يجلب انتباه أي شخص كان. تكلمي بصراحة يا ميهاتبيل هل فكرت بهذا النموذج لوحدك؟- قالت ذلك وهي تمسك بالقطعة عن قرب- وكيف بحق السماء تجرأت ببداية مثل هذا النموذج؟ انظرن يا بناتي إلى هذه اللفقات الصغيرة، أن الطرف الخلفي للغطاء مكتظ باللفقات بينما الطرف الأمامي أملس كالمرآة حتى يظن المرء بأنها قد نسجت هكذا. لكن لا أحد يستطيع حياكتها هكذا".

وتلمست الفتيات القطعة من الأمام والخلف ورددن هتاف أمهن. حتى السيد ايلويل جاء بنفسه ليرى عما كن يتكلمن ونظر إلى أخته بإعجاب لم تذكر أبدا أنها قد نالته من قبل وقال: " لا اعرف شيئا عن أعمال الغطاء المبرقع ولكن بوسعي القول بأن هذا العمل يتفوق على عمل الآنسة اندروز والذي حصل على ميدالية المعرض الريفي مرات كثيرة ".

وفي تلك الليلة تمددت ميهاتبيل على سريرها الضيق والصلب، متهيجة وفخورة وغير قادرة على النوم. كان قلبها مفعما بالسرور وعيناها المتهدلتان مغروقتين بدموع الفرح.

في اليوم التالي، فاجأتها زوجة أخيها بخطف وعاء البطاطا الكبير من يدها وإعطائها لإحدى بناتها الصغار لتقشيرها وقالت متسائلة: " إلا تريدين مواصلة العمل بنموذج الغطاء المبرقع؟. أريد أن أرى كيف سيظهر تصميم الكرمة في الزاوية ".

ولأول مرة في حياتها خالفت المرأة العانس، العالة على غيرها قول زوجة أخيها القوية وقالت بسرعة وبحذر: "أنها ليست كرمة بل شكل لولبي قمت بتصميمه " وقالت صوفيا مهدئة الموقف. "إنها جميلة الشكل على أية حال، لم أكن أستطيع التفكير بها أبد ا".

مع انتهاء فصل الصيف كان اهتمام أفراد العائلة بالغطاء المبرقع قد ازداد لدرجة انهم نقلوا لها منضدة مستديرة في غرفة الجلوس كي تضع عليها المربعة الصغيرة وتعمل عليها في أوقات الفراغ. كانت تكاد تبكي من جراء هذه المعاملة اللطيفة وعزمت بشدة على إلا تستغلها. فلقد كانت تقوم بالأعمال المنزلية الرتيبة بإخلاص دون أن تهمل زاوية واحدة، لكن جو عالمها تغير. الآن اصبح للأشياء معان. فمن خلال أطول الوظائف المنزلية مدة كغسل أواني الحليب، كان يبزغ أمل.

كانت تجلس في مكانها قرب المنضدة الصغيرة وتضع "الكشتبان" على اصبعها المعقود والصلب بوقار راهبة تؤدي شعائرها الدينية. كان بوسعها حتى أن تتحمل بشيء من الوقار شرف الحصول على تعليق القس وزوجته على مشروعها العظيم بإعجاب.

لقد كانت العائلة فخورة جدا بالعمة ميهاتبيل لدى سماعها القس باومان يقول بأنه افضل عمل فني رآه في حياته ولم ير أفضل منه أبدا.

وتكررت هذه الملاحظة بحرفيتها في الأسابيع التالية من الجيران لدى زياراتهم غير المتوقعة وعند تفحصهم بعض التصاميم البارعة والتي كانت العمة قد أنهتها لتوها بهدوء وثقة. لقد تباهت عائلة الايلويل، بشكل خاص، بالتقدم البطيء للغطاء المبرقع فكانوا يشرحون ذلك لضيوفهم قائلين. "منذ ستة أسابيع والعمة ميهاتبيل تعمل في تلك الزاوية من التصميم، وحتى لو أتيتم يوم الثلاثاء فلن تجدوها قد انهت نصف عملها".

ولم تعد العائلة تتوقع من العمة أن تقوم بالأعمال المنزلية ولا حتى برعاية الأطفال. فكانت صوفيا تناشد أولادها قائلة. "لا تزعجوا عمتكم ميهاتبيل، إلا ترون أنها قد وصلت إلى مكان دقيق من الغطاء المبرقع ".

وكانت العمة بدورها تجلس بشكل مستقيم على كرسيها وترفع رأسها عاليا. فلقد أصبحت أخيرا فردا نافعا في هذا العالم. لقد أصبحت تشارك في المناقشات وأصبح الجميع يأخذون بآرائها. وقد طلب من الأطفال تلبية مطالبها، لكنها قلما طلبت منهم شيئا. وفي يوم من الأيام جاء بعض الأشخاص الغرباء من بلدة مجاورة إلى منزل عائلة الايلويل وطلبوا معاينة الغطاء المبرقع الرائع والذي ذاع صيته في بلدتهم.

بعد ذلك، اصبح غطاء ميهاتبيل المبرقع أحد المشاهد المحلية في القرية تدريجيا، ولم يكن هناك ضيف يحل على البلدة إلا ويذهب لرؤية الغطاء المبرقع، سواء أكان صديقا لعائلة الايلويل أم لا.

ولجعلها صالحة أكثر للتقديم، أصبحت عائلة الايلويل تعتني بملابس العمة اكثر من أي وقت مضى. فلقد صنعت لها إحدى الفتيات غطاء جميلا للرأس لإخفاء شعرها الرمادي الخفيف.

ومضى عام وانتهت العمة من ربع عمل الغطاء المبرقع. وبعد ذلك مضى عام آخر وانتهت العمة من نصف عمل الغطاء المبرقع. أما في السنة الثالثة فأصيبت العمة بمرض ذات الرئة، ومكثت في السرير أسابيع طويلة خائفة من أن تواتيها المنية قبل أن تنتهي من صنع الغطاء المبرقع. أما في العام الرابع، فلقد أصبح بوسع المرء رؤية عظمة التصميم بشكل كامل.

وفي شهر سبتمبر من العام الخامس تجمع أفراد الأسرة حول العمة بتلهف لرؤيتها وهي تنهي لمساتها الأخيرة ومن ثم أمسكت الفتيات أطراف الغطاء ورفعنه عاليا ونظر إليه الجميع بهدوء. وصرخ السيد ايلويل متحدثا كشخص ذي نفوذ:

"يا الهي يجب أن تشارك هذه القطعة الفنية في المعرض القروي ".

وتورد وجه العمة. فلقد كانت قد فكرت بذلك ولكنها لم تجرؤ على البوح به.

وصرخ أفراد العائلة. "نعم بالتأكيد". وأرسل احد شباب العائلة إلى منزل جارهم والذي كان رئيس لجنة بلدتهم في المعرض القروي. وعاد الفتى مبتهجا وقال: "بالطبع سيقبلها فهي حتما ستفوز بالجائزة، ولكنه يريدها الآن لأن كافة أعمال البلدة سترسل غدا صباحا". حتى في أوج اعتزازها، شعرت العمة بغصة وهي تلمح صرة الغطاء المبرقع تغادر المنزل.

ومضت الأيام وشعرت العمة بالضياع فلسنين عديدة كان الغطاء المبرقع شغلها الشاغل. واضحى المنصب الدائري، والذي كان فيما مضى ممتلئا بقصاصات صغيرة ذات ألوان مشرقة، عاريا ومهجورا. وروى أحد الجيران، والذي كان قد سافر إلى المعرض، بأن الغطاء المبرقع قد وضع في مكان أمين في صندوق زجاجي في القاعة الزراعية. ولكن هذا لم يعن الكثير للعمة ميهاتبيل والتي كانت تجهل كل ما يدور خارج منزل أخيها.

وفي أحد الأيام قالت صوفيا بلطف: " أنك تشعرين بالضياع بدون غطائك المبرقع أليس كذلك يا مهاتبيل؟ ".

وردت عليها ميهاتبيل بحزن. "لقد أخذوه مني بسرعة. لم يتسن لي النظر إليه جيدا ".

كان المعرض سيستمر لمدة أربعة عشر يوما. وفي بداية الأسبوع الثاني سأل السيد ايلويل أخته في أية ساعة مبكرة تستطيع الاستيقاظ غدا. تساءلت العمة قائلة. " لا أعلم. لماذا؟"

ورد السيد ايلويل. "لقد قال السيد توماس ألستون بأنه سيذهب إلى ويست اولستون لأن لديه موعدا مع المحامي وذلك على قرب أربعة أميال فقط من المعرض القروي. وبوسعه اصطحابك معه إلى المعرض لقضاء اليوم هناك اذا كان بوسعك الاستيقاظ في الرابعة صباحا. شحب وجه العمة مهاتبيل وامتلأت عيناها بالدموع. كان الأمر بالنسبة لها كأن شخصا ما عرض عليها رحلة في عربة ذهبية نحو بوابة الفردوس.

وصرخت بحماس: "هل تعني فعلا ما تقول؟ ". وضحك شقيقها. لم تستطع عيناه أن تلتقي بعينيها. بالرغم من عدم مبالاته بأخته وإهماله لها، فلقد كشفت له هذه الحادثة عن مدى ضيق دائرة حياة أخته في منزله.

وقال لها بارتباك. "ليس في الأمر شيء عظيم، فقط الذهاب إلى المعرض". ثم استطرد قائلا." بالطبع أعنى ما أقول هيا اذهبي وجهزي نفسك فهو يريد الرحيل باكرا".

كانت عجوزا متهيجة تلك التي استلقت على السرير وهي ترتجف وتحملق بروافد السقف طوال الليل لقد كانت هذه الرحلة بمثابة الذهاب إلى عالم آخر بالنسبة لامرأة مثلها لم تبتعد عن المنزل اكثر من ستة أميال. فهي التي لم تر شيئا اكثر أثارة من عشاء الكنيسة، ستذهب لرؤية المعرض القروي. لم تكن تحلم أبدا برؤيته ولم تستطع أبدا أن تتصوره.

وفي الصباح التالي استيقظ أفراد الأسرة كلها لوداعها. ولعل شقيقها لم يكن الشخص الوحيد في العائلة الذي دهش بسبب فرحها الشديد.

وبينما كانت تحاول أن تتناول فطورها اقترح عليها أفراد الأسرة كل على حدة نصائح متضاربة عما يجب أن تراه. اقترح شقيقها عليها إلا تفوت فرصة تفحص الماشية، أما بنات أخيها فقلن إن الأعمال التطريزية هي الشيء الوحيد الجدير بالاهتمام. وأكدت عليها صوفيا ضرورة رؤية معروضات معلبات المربى، بينما طلب منها أولاد شقيقتها أن تأتي بتقرير عن نتائج سباقات الخيل. وتوقفت العربة قرب الباب حيث تمت مساعدة العمة في الدخول إليها. وتراكض أفراد الأسرة جيئة وذهابا محملين بالبطانيات، شال صوفي وحجر صابوني ساخن من موقد المطبخ لتدفئة قدميها. ودعوها ملوحين بأيديهم ولوحت هي بيدها لكنها بالكاد رأتهم.

لدى عودتها إلى المنزل في ذلك المساء كان وجهها شاحبا كشحوب الموتى وجسدها متيبسا لحد أن شقيقها حملها خارج العربة لكن ابتسامة سعيدة ارتسمت على وجهها. والتف حولها أفراد الأسرة يسألونها أسئلة جمة لكن صوفيا أبعدتهم جانبا وقالت لهم إن عمتهم مرهقة ولا تستطيع الرد على أسئلتهم إلا بعد تتناول طعام العشاء. وأمسك الأولاد بلجام السنتهم بينما جلست عمتهم ميهاتبيل تحتسي الشاي وتأكل قطعة الخبز المحمص مع البيضة وهي شاردة الذهن.

بعد ذلك أعانوها على الجلوس في كرسي مريح قرب موقد النار واحتشدوا حولها تواقين إلى سماع أخبار العالم الكبير.

وهنا هتفت صوفيا قائلة "هيا يا ميهاتبيل أخبرينا عن رحلتك ".

وأخذت العمة نفسا طويلا ثم قالت "كان رائعا افضل حتى مما ظننت. كان معلقا في منتصف شيء يشبه الخزانة وكان احد اطرافه مقلوبا لرؤية اللفقات من الجانب السفلي".

- "ماذا" قالت صوفيا بقليل من الانشداه.

وأجابت ميهاتبيل بتعجب: "إنني أتكلم عن الغطاء المبرقع " ثم أردفت قائلة: " لقد كانت الغرفة مملوءه بالأغطية المبرقعة ولكنها لم تستطع أن تداني غطائي المبرقع. واذا قلت أنا هذا فمن ذا الذي لم يفكر بذلك لقد سمعت الكثير من الأشخاص يقولون نفس الشيء كان عليك ياصوفيا أن تسمعي ماذا قالت النسوة عن تلك الزاوية لقد قالوا... إنني أخجل أن أردد كلامهن إنني بالتأكيد أخجل ".

وسأل السيد ايلويل: " ما هو رأيك بالثور الكبير الذي سمعنا عنه الكثير هنا؟ ".

وأجابت العمة بغير مبالاة " لم ألق نظرة عام الماشية " ثم خاطبت إحدى بنات أخيها قائلة " أتذكرين يا ماريا قطعة القماش التي أعطيتني إياها من ثوبك الأحمر، لقد ناسبت الرسمة كثيرا لقد سمعت إحدى النساء تقول إنها تستطيع استنشاق الورود الحمراء المرسومة على الغطاء المبرقع ".

وسأل توماس ابن شقيقها قائلا: " ماذا كانت نتيجة فرس جيد برغيس الكميت في سباق الميل؟".

وردت العمة: " لم أشاهد سباقات الخيل ".

وسألت صوفيا: " وماذا عن معلبات المربى؟ ".

أجابت ميهاتبيل بهدوء " لم أر معلبات المربى ".

وبدأت ميهاتبيل بإعطاء أفراد العائلة شرحا معقولا عن تصرفها بعد أن رأت وجوههم المستغربة: " لقد اتجهت منذ البداية إلى القاعة الزراعية حيث يوجد الغطاء المبرقع وبعد ذلك لما أشأ الابتعاد عنه فلقد مرت مدة طويلة لم أره فيها. في البداية نظرت إليه بدقة ثم تفحصت الأغطية المبرقعة الأخرى الموجودة في القاعة لأتأكد بنفسي أن كان هناك غطاء يضاهيه جمالا. بعد ذلك بدأ الأشخاص يتوافدون إلى القاعة فرغبت بسماع تعليقات الآخرين حول عملي. ولم أستطع التفكير بالذهاب إلى مكان آخر. لقد تناولت طعام الغداء هناك أيضا وأنا مسرورة بانني فعلت ذلك فما تظنون انه حدث بعد ذلك؟- قالت وهي تحدق حولها بعينين متوهجتين- بينما كنت أحمل شطيرتي دخل رئيس اللجنة وفتح باب الخزانة الزجاجي وعلق ميدالية على منتصف الغطاء المبرقع مكتوبا عليها " الجائزة الأولى ".

وعلت ضجة من التهاني المبتهجة بعد ذلك عادت صوفيا تقول مستفسرة "ألم تري أي شيء آخر؟. وأجابت ميهاتبيل " بالطبع لا فقط الغطاء المبرقع ولماذا أفعل؟" واستغرقت في حلم اليقظة شعرت وكأن الغطاء المبرقع قد امتد أمام عينيها ثانية ورأت العظمة وهي تتألق حول إبداعها الفكري واليدوي. رغبت أن يشاركها أفراد الأسرة رؤياها الذهبية. جهدت بالبحث عن الكلمات وتلمست بارتباك عن مبالغات مبهمة وابتدأت كلامها قائلة "لقد كان يشبه.... " ثم توقفت وتذكرت عبارات غير واضحة من كتاب التراتيل والتي كانت التعابير الشعرية الوحيدة التي تعرفها لكنها انصرفت عنها لكونها تعابير مقدسة لا يمكن استخدامها في الحياة الحقيقية وأيضا لأنها غير باهرة ولا مذهلة وأخيرا أكدت لهم قائلة. " أستطيع أن أقول لكم : أنه كان بالفعل جيداً ".

ثم جلست تحملق في النار وعلى وجهها المسن والمرهق ارتسمت أسمى علامات الرضى لفنانة قد حققت غايتها


منى محمد العمادي


قديم 08-13-2010, 09:28 PM
المشاركة 2
ريم بدر الدين
عضو مجلس الإدارة سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي

مغامرة طالب ألماني
قصة بقلم: الكاتب الأمريكي واشنطن ارفنج




ترجمة الأستاذ : سمير أبوالفتوح



نشرت بمجلة العربي 1/1/1995


في ليلة عاصفة زمن الثورة الفرنسية الحافلة بالاضطرابات كان شاب ألماني عائدا إلى مسكنه في ساعة متأخرة عبر القسم القديم لباريس، حيث يومض البرق ويجلجل الرعد خلال الشوارع الضيقة العالية، ولكن يجب علي أولا أن أقص عليك طرفا من أنباء هذا الشاب.

كان "جوتفريد ولفجانج" شابا من أسرة كريمة طيبة، تلقى تعليمه زمنا في (جوتنجن"، على أنه لما كان شخصا مفعما بالحماس وخياليا، فقد أوغل في تلك المذاهب التأملية الغريبة التي كثيرا ما أربكت الطلاب الألمان وحيرتهم، وقد أثرت في عقله وبدنه معا حياة العزلة التي عاشها، وانكبابه الشديد على الدرس، وطبيعة دراساته المتفردة، فساءت صحته، واعتل خياله، فلقد أطلق العنان لتأملاته الخيالية في البحث عن الجواهر الروحية حتى أصبح له- مثل سويدينبرج ـ عالمه المثالي الخاص به من حوله، وسيطرت عليه فكرة لست أدري مأتاها، فكرة مؤداها أن قوة خفية باتت تتهدده، وتسعى للإيقاع به في شراكها بغية تدميره، ربما كانت صادرة عن قرين سيئ أو روح شريرة، وقد أخذت هذه الفكرة تؤثر في مزاجه السوداوي، فنتجت عنها معظم الآثار السيئة كالهزال والغم والميل إلى التشاؤم، واكتشف أصدقاؤه أن المرض العقلي يفترسه، وانتهوا إلى أن أفضل علاج له هو تغيير الجو المحيط به، ولذا أرسل إلى باريس لاستكمال دراساته وسط مفاتنها ومباهجها.

وصل " ولفجانج" إلى باريس عند اندلاع الثورة، فألهب الهياج الشعبي حماسه العقلي، واجتذبته النظريات الفلسفية والسياسية السائدة في ذلك الوقت، على أن مناظر الدم صدمته وزلزلت طبيعته الحساسة، وأثارت اشمئزازه من المجتمع والناس، وجعلته أكثر ميلا إلى الوحدة والعزلة من قبل، فحبس نفسه في شقة منعزلة بالحي اللاتيني، حي الطلاب، وهنالك في شارع كئيب موحش لا يبعد عن حوائط "السوربون" ذات الطابع الرهباني راح يتابع تأملاته الأثيرة لديه، وكان يقضي أحيانا الساعات المتصلة في مكتبات باريس الشهيرة الضخمة، مقابر المؤلفين الراحلين، باحثا منقبا بين ركام ما خلفوه من آثار متربة تقادم عليهـا العهد عن طعام لشهيته المنحرفة، فلقد كان إلى حد ما غول أدب يتغذى على عظام الأدب النخرة.

وعلى الرغم من عزلة "ولفجانج" وتوحده، فقد كان مزاجه متقدا، وإن راح يغذي خياله فحسب ويؤججه، ذلك أنه كان أخجل وأجهل بالناس من أن يتقرب إلى حسناء أو يتودد إليها، مع أنه كان معجبا غاية الإعجاب بالجمال الأنثوي ومتعلقا بة، وكثيرا ما كان يستغرق في أحلام اليقظة وهو في حجرته المنعزلة مستعرضا الأشكال والوجوه التي رآها من قبل مضفيا عليها صورا من الملاحة والفتنة تفوق الواقع.

وبينما كان ذهنه في هذه الحالة من التسامي والنشاط أثر فيه حلم تأثيرا غريبا فوق العادة، عن وجه أنثوي فائق الجمال، وكان من قوة التأثير بحيث عاوده المرة بعد المرة مطاردا إياه في منامه بالليل، وملازما لأفكاره بالنهار، وقصارى القول أنه قد صار مولعا بهذا الطيف، واستمر ذلك زمنا طويلا إلى درجة أصبح معها هذا الطيف واحدا من تلك الأفكار الثابتة التي تلازم عقول المصابين بالملنخوليا، وتعد من الأفكار غير الصحيحة أحيانا في حالة الجنون.

هكذا كان "جوتفريد ولفجانج"، وهكذا كانت حالته في الوقت الذي ذكرت، وقت أن كان عائدا إلى مسكنه متأخرا في ليلة عاصفة خلال بعض الشوارع القديمة الموحشة لـ "ماريه"، القسم القديم لباريس، حيث يجلجل الرعد بين المنازل العالية لهذه الشوارع الضيقة، وقد انتهى به المطاف إلى ميدان "بلاس دي جريف"، حيث تنفذ أحكام الإعدام، ويضطرب وميض البرق حول قباب فندق "دي فيل" القديم، وبينما هو يعبر الميدان أجفل مذعورا، إذ وجد نفسه بالقرب من المقصلة ، في تلك الفترة التي تعد ذروة عهـد الإرهاب، عندما كانت آلة الموت المخيفة هذه تقف على أهبة الاستعداد، ومنصتها غارقة بدماء الطاهرات والشجعان دوما، وهي في هذا اليوم على وجه التحديد استخدمت بهمة ونشاط في صنع مجزرة، وها هي تقف في دقة صارمة وسط المدينة الناعسة الساكنة في انتظار مزيد من الضحايا الجدد. وعندما تحول "ولفخانج" مبتعدا عن الآلة الرهيبة، وهو يرتعد موجوع القلب شاهد هيئة مبهمة تجثم إذا جاز التعبير عند سفح الدرج المؤدي إلى المنصة، وقد كشف عنها بمزيد من الوضوح تتابع ومض البرق اللامع، كانت هيئة امرأة ترتدي السواد، وتجلس على إحدى الدرجات السفلية للمنصة، وهي محنية ورأسها مدفون في حجرها، وغدائر شعرها الطويل مهوشة تتدلى إلى الأرض، وينساب منهـا ماء المطر المنهمر، فتوقف هو، فقد كان ثمة شيء في هذا الأثر المتوحد الباقي من كارثة، وقد دل مظهر المرأة على شيء فائق عن المألوف، وقد كان يعلم أن الأيام قلب حافلة بالصروف والحدثان، وها هو ذا رأس بديع طالما استقر على وسادة من قبل يتخبط الآن بلا مأوى، ولعله رأس نائحة مسكينة ممن أسلمتهم البلطة المخيفة للأسى والحزن، تجلس كسيرة القلب على حافة الوجود التي انطلق من عندها كل أحبائها إلى عالم الأبدية، فدنا منها هو وخاطبهـا بعطف وإشفاق، فرفعت رأسها وحملقت فيه بوحشية، وكان ما أذهله بشدة عندما تطلع إلى وجهها أن وجده الوجه ذاته الذي لازمه في أحلامه، وكان وجها بارع الجمال برغم شحوبه وشيوع الحزن في قسماته، وخاطبها ثانية وهو يدنو منها أكثر تهزه المشاعر المصطرعة العنيفة، وحدثها عن بقائها في العراء في ساعة كهذه من الليل، وعن تعريض نفسها لعنف عاصفة كهذه، واقترح عليها أن يوصلها إلى أصدقائها، فأومأت إلى المقصلة بإشارة ذات مغزى مخيف، وقالت:

- ليس لي أصدقاء على الأرض!.

فقال "لفجانج":

- ولكن لك منزلا.

- أجل، في المقبرة.

فذاب قلب الطالب لهذه الكلمات، وقال:

- هل لغريب أن يقترح عليك دون إساءة فهم؟، إني أقدم لك مسكني المتواضع كمأوى باعتباري صديقا مخلصا، فأنا ليس لي أصدقاء في باريس، وغريب عن البلد، وإذا شئت كانت حياتي في خدمتك ورهن إشارتك، ولك أن أضحي بها قبل أن ينالك أذى أو شر. وكان لسلوك الشاب الجاد وطريقته الصادقة في الكلام أثرمها البالغ، وكذلك كانت لكنته الأجنبية في صالحه، إذ كانت تنم عن أنه ليس من سكان باريس المعروفين، وإن انطوت في الواقع حماسته الصادقة على بلاغة لا ريب فيها، فأسلمت الغربية المشردة نفسها لحمايته، وقاد هو خطاها المتعثرة وهي مستندة إليه عبر "بونت نيف"، ثم عبر المكان الذي ألقى فيه العامة تمثال "هنري الرابع"، وكانت العاصفة قد هدأت، وإن كان الرعد لا يزال يدوي عن يعد، وكانت باريس كلها هادئة وادعة فقد هجع بركان الغضبة البشرية الضخم بعض الوقت ليستجمع قواه من جديد للثوران في النهار التالي، وقاد الطالب تابعته المسئول عنها عبر شوارع الحي اللاتيني القديمة، ثم بجوار حيطان "السوربون" المعتمة، فإلى الفندق الدكن الكالح الذي يسكن به واتسعت من الدهشة عينا البوابة العجوز التي سمحت لهما بالدخول لمرأى ""ولفجانج الملنخوليا" غير العادي ومرافقته.

وعند دخولهما الشقة احمر وجه الطالب من الخجل لأول مرة لتواضع مسكنه ورثاثته، إذ كانت له حجرة واحدة فقط- صالون من الطراز القديم- غائرة الحفر، ومؤثثة على نحو غريب بأثاث عليه مسحة من روعة سابقة، فقد جلب من أحد تلك الفنادق الموجودة بحي " لوكسمبورغ بالاس"، وقد كان فيما مضى يخص أحد النبلاى وكانت الحجرة مثقلة بالكتب والصحف المبعثرة هنا وهناك وبها كل لوازم الطالب العادية، فضلا عن سريره القائم في تجويف بأحد أطرافها.

وعندما أحضرت الأنوار، تهيأت لـ "ولفجانج" فرصة أفضل لتأمل الغريبة، فأسكره جمالها كما لم يسكر من قبل، إذ كلن وجهها برغم شحوبه يبهر البصر، ويعمل على إبرازه شعر غزير غدافي حالك السواد، يتدلى هن حوله على شكل عناقيد، كذلك كانت عيناها نجلاوين متألقتين يطل منهما تعبير غريب أقرب شيء إلى التوحش، وبدا قوامها تام التكوين والتناسق بقدر ما يسمح ثوبها الأسود للعين أن تراه وكان لمظهرها في قلته أشد الوقع في النفس مع أنها كانت ترتدى أبسط طراز، وكان الشيء الوحيد الذي تلبسه ويقارب الزينة هو طوقا أسود عريضا مشبوكا بالماس تضعه حول عنقها، وبدأت حياة الطالب آنذاك كيف يتصرف يتلك المخلوقة للضعيفة التي تكفل بحمايتهـا. فكر أن يزك لها حجرته، ويبحث لنفسه عن مأوى في مكان آخر، على أنه كان لا يزال مأخوذا بمفاتنها، وكأن سحرا خدر أفكاره وحواسه، ولا سبيل بلى أن ينتزع نفسه من محضرها، وكذلك كان سلوكها بدوره غريبا غير قابل للتفسير أو التعليل، ولم تتحدث بعد ذلك عن المقصلة ، إذ سكن حزنها، وكانت ملاطفات الطالب قد حظيت في البداية بثقتها، ثم فازت تماما بقلبها، وكان من الجلي أنها متحمسة مثله، وسرعان ما فهم المتحمسان كل منهما الآخر، وفي غمرة الافتتان المتبادل في تلك اللحظة صارحهـا "ولفجانج" بعاطفته نحوها، وأخبره بقصة حلمه الغامض، وكيف أنها ملكت فؤاده حتى قبل أن يراها، ومن الغريب أنها تأثرت بروايته، واعترفت له بأنها تحس دافعا قويا نحوه لا تملك له تفسيرا أو تعليلا، وحانت الفرصة المناسبة للفكر المتطرف والفعال الهوجاء، والقول بطرح الآراء القديمة والخزعبلات، إذ كل شيء تحت سيطرة "ربة العقل " وتحكمها، وبأن من بعين مخلفات العصور القديمة صيغ الزواج وطقوسها باعتباره ا قيودا لا لزوم لها تكبل العقول السامية الرفيعة، وبأن المواثيق الاجتماعية "مودة"، وكان "ولفجانج" في ذلك باحثا نظريا أكثر منه أي شيء آخر وليس قد أفسدته المذاهب التحررية السائدة في ذلك الوقت.

قال:

- لماذا يجب أن نتباعد؟، إن قلبينا مؤتلفان، إننا في نظر العقل والشرف كالكيان الواحد، فما حاجة روحين ساميين إذن إلى الأشكال الرديئة لتوثيق العلاقة بينهما؟.

فأصغت إليه الغريبة بتأثر وانفعالا فقد كان من الواضح أنها تلقت نور المعرفة في المدرسة ذاتها التي ينتمي هو إليهـا، واستمر هو يقول: - أنت ليس لك بيت أو أسرة، فدعيني كن كل شيء لك، أو بالأحرى دعي كلا منا يكن كل شيء للآخر، وإذا كان الشكل ضروريا فلسوف نراعيه، ها هي يدي، وأعاهدك على ذلك إلى الأبد

فقالت الغريبة بوقار

- إلى الأبد؟.

فكرر "ولفجانج"،

- إلى الأبد..

وصافحت الغريبة اليد الممدودة إليها، وهي تغمغم:

- إذن أنا لك.

وارتمت على صدره. وفي الصباح التالي ترك الطالب عروسه نائمة، وانطلق في ساعة مبكرة للبحث عن شقق أوسع وأرحب لعله يجد ما يناسب التغير الذي طرأ على حالته الاجتماعية، ولما رجع وجد الغريبة ممددة في الفراش ورأسها يتدلى منه، وإحدى يديها ملقاة فوقهـا، فتحدث إليها، إلا أنه لم يتلق ردا منها، وتقدم ليوقظها من هذا الوضع غير المريض، وما كاد يأخذ يدها حتى وجدها باردة لا نبض فيها، كان وجهها شاحبا بصورة مروعة، - باختصار وجدها جثة هامدة، فنبه الفندق باهتياج ورعب، وتلا ذلك مشهد الاضطراب والفوضى، استدعيت الشرطة، فلما دخل ضابط الشرطة الحجرة تراجع إلى الوراء، وصاح قائلا:

- يا إلهي! كيف جاءت هذه الجثة إلى هنا؟.

فقال "ولفجانج" بلهفة: - هل تعرف عنها شيئا؟.

فقال ضابط الشرطة مدهوشا:

- أنا؟! لقد تم إعدامها بالمقصلة أمس.

ثم تقدم، وفك الطوق الأسود من حول عنقها فتدحرج الرأس على الأرض، واعترت الطالب نوبة من الجنون والهذيان، فأخذ يصرخ قائلا:

- الشيطان!، لقد استحوذ على الشيطان، لقد ضعت إلى ما الأبد. وحاولوا تهدئته، ولكن دون جدوى، فقد سيطر عليه اعتقاد مخيف بأن روحا شريرة قد أشاعت الحياة في الجسد الميت لتوقعه في شراكها، ثم تولاه ذهول، ثم مات في دار المجانين.

وهنا فرغ السيد العجوز من روايته.

فقال السيد المتشوق إلى معرفة المزيد: - وهل هذه حقيقة لا ريب فيها؟.

فأجاب الآخر:

- حقيقة لا تقبل الشك، فقد علمت بها من مصدر موثوق به، فالذي رواها لي هو الطالب نفسه، وقد رأيته في دار المجانين بباريس.

قديم 08-13-2010, 09:30 PM
المشاركة 3
ريم بدر الدين
عضو مجلس الإدارة سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي

العائلة التي كانت تعيش بسلام

قصة للكاتب الأمريكي: أ. ب. هوايت

نشرت في مجلة العربي الكويتية بتاريخ 1/ 9/1993

" كانت أسرة (برويت) تعيش في سكينة من صيد السمك في كوخها القائم فوق جزيرة صغيرة منعزلة في الطرف الجنوبي لخليج (بارنتاك)، وهي أسرة صيادين تتألف من سبعة أشخاص، يعيشون في هذا المكان بمفردهم، وكان غذاؤهم يتكون من معلبات الحبوب والطماطم ومعجون لحم الطيور المحفوظ أيضا، والخبز المحبحب الجسيم وسلاحف المياه العذبة والرز المحمص والسراطين والجبن والزيتون، هذا بالإضافة إلى نقيع فواكه. بيتيا من العنب البري. ثم إن رب الأسرة كان يوقد المرجل أحيانا لصنع الويسكي البيتي لاحتياجات الأسرة.

كانوا جميعا يحبون هذه الجزيرة ويحيون فيها بمحض إرادتهم وكان من عاداتهم في فصل الشتاء عندما لا يوجد أمامهم ما يصنعونه الخلود للرقاد ليل نهار تقريبا كما تفعل الدببة أما في الصيف فيعمدون إلى جمع القواقع والأصداف، كما كانوا يحتفلون بالعيد الوطني الأمريكي يوم الرابع من تموز كل عام، فينصبون أرجوحة أطفال يتناوبون عليها جميعا، ولم تقع في العائلة حالة واحدة من حالات التهاب الزائدة الدودية الحاد، وإذا ما شعر أحد أفرادها بألم ما فإنه لا يعبأ كثيرا بالأمر، بل ولا يلاحظ أين مصدر ذلك، أهو في الجانب الأيمن أو الأيسر، فقد كان يأمل بزوال الألم سريعا، وهذا بالفعل ما كان يحدث. وحل موسم شتاء قارس، أشد برودة من المعتاد فتجلدت مياه خليج (بارنتاك)، وأصبحت أسرة (برويت) معزولة تماما عن العالم، ولم يعد بإمكانها الوصول إلى اليابسة باستخدام القارب نظرا لوجود الغطاء الجليدي السميك. ولكن بما أنه ليس ثمة حاجة لذهاب أي فرد منها إلى الشاطىء، اللهم إلا من أجل البريد، وهو أمر يعتبر من الحاجات الثانوية، لم يعبأ أحد من الأسرة بوجود الحاجز الجليدي. وهكذا جلس الجميع في المنزل قرب الموقد، يتسلون بلعبة الكرات الخشبية عندما لا يكون هناك ما يصنعونه، فالشتاء سوف ينصرم عاجلا أم آجلا، وكان من الممكن أن ينصرم بكل هدوء لو لم يشعر أحدهم على اليابسة بأن أسرة (برويت) محصورة وسط جليد الخليج. وسرعان ما سرى خبر هذه الشائعة فوصل إلى المدينة، وإلى سمع مدير شرطة الولاية فأعلم بذلك فورا صحيفة "باتي نيوز" وجيش الولايات المتحدة وكان الجيش الأمريكي أول من هرع للنجدة فأقلعت ثلاث طائرات. قاذفة للقنابل من قاعدة "لا نغلي فيلد" وقد حلقت فوق الجزيرة على ارتفاع منخفض وأسقطت رزما من الخضار المجفف ومكعبات مرق الدجاج، وهي من الأصناف التي لا تحبها أسرة ( برويت) كثيرا، وبعد ذلك وصلت طائرة رجال السينما، وهي أقل حجما من قاذفة القنابل ولكنها مجهز بالزلاجات، وهكذا حطت في الجزء الشمالي من الجزيرة فوق حقل ثلجي. وفي هذه الأثناء أصدر الميجر ( باركس) قائد قوات الولاية، وكان قد أخطر بطريق شخصي أن أحد أفراد أسرة (برويت) مصاب بالتهاب الزائدة الحادة، أمره على وجه السرعة، بإرسال زلاجة مع كلاب تجرها، وذلك على متن طائرة أقلعت من (لاكونيا) وبلاية نيوهامبشير، كما بعث بفصيلة إنقاذ تحاول عبور الخليج فوق الجليد. وعند الغروب نزل الثلج ولقي من أفراد الإنقاذ مصرعهم على بعد حوالي نصف ميل من الشاطئ لدى محاولتهم القفز من قطعة جليد عائمة إلى أخرى.

أما بشأن الطائرة التي حملت الكلاب والزلاجة فقد اكتسى جناحها بطبقة سميكة من الجليد والثلج وعندما أصبحت فوق جنوبي نيوانجلند راح الطيار يحوم في الجو بحثا عن مكان يصلح للهبوط الاضطراري، بيد أن قطعة كبيرة من العظم كان أحد الكلاب قد صعد بها إلى الطائرة، انزلقت لدى انحدار الطائرة وانغرست في فجوة مقر المقود فاستعصى تحريكه وتابعت الطائرة انحدارها حتى اصطدمت بسور محطة كهربائية، فلقي جميع الركاب، أي: الطيار وكلابه، مصرعهم، أما (وولتر رينغستيد) الذي يقيم في غاردن فيو افنيو) رقم 3452 بولاية كانيكتيكت فأصيب بجراح خطيرة.

وقبيل منتصف الليل بقليل وصل خبر الزائدة الدودية إلى أسرة (برويت)، وذلك حينما تمكنت طائرة مروحية مستأجرة تابعة لوكالة الأنباء الدولية في (هارتس) من الهبوط وسط العاصفة، وفهم المستر (برويت) من المصورين أن ابنه البكر (تشارلز) مريض، وأن من الضروري نقله إلى بلتيمور من أجل إجراء عملية جراحية مستعجلة له. ورغم اعتراض المستر (برويت)، أكد (تشارلز) أنه يحس فعلا ببعض الألم في خاصرته، وقد حسم بذلك المسألة، وتم نقل (تشارلز) بالطائرة المروحية، وبعد أقل من عشرين دقيقة وصلت طائرة أخرى وعلى متنها طبيب جراح مع ممرضتين رفيعتي التأهيل، بالإضافة إلى مذيع تلفزيوني من محطة البث الوطنية، وأجرى الفريق الطبي عملية استئصال الزائدة لابن برويت الثاني ( تشيستر) ووصفت العملية بأنها في منتهى الخطورة وتم نقلها حية على الهواء عن طريق التلفزيون من مطبخ ( أسرة برويت) مباشرة، بيد أن الفتى مات بعد العملية لأنه التهم كمية كبيرة من الخضار المجفف بعد العملية بوقت وجيز، على أن الفتى الأول (تشارلز) تماثل للشفاء بعد فترة طويلة من النقاهة ورجع إلى الجزيرة في أيام الربيع الدافئة الأولى. ولقد اندهش كثير للتغيير الذي طرا على المكان، إذ لم يعد لمسكن الأسرة وجود، فقد قضى عليه حريق شب فيه خلال الليلة والأخيرة لعمليات الإنقاذ، ويرجع سبب الحريق إلى شرارة انبعثت من عادم إحدى الطائرات المقلعة، واصابت علبة القمامة على شرفة البيت. وعقب الحريق انتقل المستر، (برويت) بعائلته إلى براكة الطوارئ المؤقتة التي كانت قد أقيمت من أجل العاملين الإذاعيين والتلفزيونيين. وعاشت الأسرة في تلك البراكة حتى الليلة التي هلك فيها جميع افرادها من جراء تناولهم لمحلول الفينول بنسبة 10 بالمائة، وكان الجراح قد تركه وراءه، بيد أن رب العائلة اعتبره ضربا من المشروبات الكحولية التي يحتسيها أهل المدينة لبعث الحرارة في مفاصلهم وقت البرد.

لقد بدأ خليج (بارنتاك) موحشا وغريبا كل الغرابة ل (تشارلز)، وهكذا بارح جزيرته التي رأى النور فيها، ونزح إلى اليابسة، وذلك بعد أن وارى ذويه الثرى، حسب الأصول.

عبدالله الصوفي

قديم 08-13-2010, 09:33 PM
المشاركة 4
ريم بدر الدين
عضو مجلس الإدارة سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
نشرت في مجلة العربي الكويتية

الرأس ذو الريشة (قصة مترجمة)


ناثانيال هاوثورن


أمرت العجوز ريغباي شيطانها:

- ديكون. اشعل غليوني!

اشتعل فيه التبغ على الفور, فأطلقت من فمها موجة من الدخان.. قالت وهي تهز رأسها:

شكراً يا ديكون. ابق معي حتى لا أناديك كلما احتجت إليك. أريد أن أصنع ( فزاعة )!.

كانت قد نهضت باكراً كي تصنع فزاعة تنصبها في وسط حقلها الذي زرعته بالحبوب. لأن الغربان والطيور قد اكتشفت بوادر الحب الهندي التي بدأت بالظهور فوق سطح الأرض. فقررت أن تصنع فزاعة تشبه كثيراً رجلاً حقيقياً. فهي من أمهر الساحرات في نيو إنجلاند, ولن تبذل سوى جهد بسيط لصنع فزاعة تخيف أي مخلوق حتى ولو كان وزيراً. ولأنها كانت قد استيقظت بمزاج رائق على غير عادتها, وجلست تتمتع بتدخين غليونها, فقد قررت أن تصنع شيئاً جميلاً وحدثت نفسها:

-لا أحب أن أضع على عتبة بيتي شيئاً مرعباً, كما أنه لا داعي لأن أخيف الأطفال مع أنني ساحرة..قررت أن تصنع الفزاعة على هيئة رجل نبيل جميل, على قدر ما تمكنها المواد التي بين يديها من تحقيق ذلك. أهم تلك المستلزمات عصا المكنسة, لتكون بمنزلة العمود الفقري للفزاعة. كما تكفي بضعة عصي ومقابض لصنع اليدين والقدمين, مع كيس محشو بالقش ليكون جسم الفزاعة. وصنعت الرأس من يقطين جاف بعد أن حفرت فيها حفرتين على شكل العينين, وحفرة ثالثة كأنها فم. وثبتت كتلة زرقاء في وسط اليقطينة مكان الأنف. نظرت الساحرة إلى الوجه الذي صنعته. وتمتمت:

- لقد رأيت وجوها أسوأ من هذا الوجه على أكتاف أناس. وكثير من النبلاء رءوسهم مثل اليقطين أيضاً!. يجب أن تكون ملابس فزاعتي من صنع خياط ماهر.

وبعد أن كستها ألصقت على اليقطينة شعراً مستعاراً, ووضعت فوقها قبعة متسخة لها ريشة طويلة..ثم راحت تحشو الغليون وهي ترنو بنظرة الأمومة نحو اللعبة وتحدث نفسها:

- لها وجه إنساني رائع.. من السخف أن يقف في الحقل لمجرد أن يخيف الطيور والغربان.. إنه جدير بعمل أفضل.. لم لا أعطيه فرصة في هذا العالم الذي يعج بأمثاله من رجال القش والأصدقاء الفارغين?!

أبعدت الغليون عن فمها. ووضعته في فم الفزاعة, وخاطبتها:

- دخن يا عزيزي الرائع. إن حياتك تتوقف على أن تدخن. وسرعان ما بدأ الدخان يخرج من فم الفزاعة, ثم اشتد وتكاثف, وريغباي تردد:

- دخن يا عزيزي الجميل. إنه نفس الحياة بالنسبة لك.

لقد فعل السحر فعله, فوجه اللعبة الأصفر الجاف الذي لم يكن وجهاً على الإطلاق, بدأت تظهر عليه ملامح إنسانية.

ثم أشارت الساحرة إلى الفزاعة بأن تتقدم نحوها. أطاعت الفزاعة الساحرة. ومدت يدها كأنها تريد أن تمسك بالساحرة, ثم خطت خطوة متلكئة إلى الأمام, فكادت أن تسقط. فصرخت الساحرة بغضب:

- دخن أيها الشيء المصنوع من القش والفراغ والحماقة! دخن, لتستنشق حياتك مع الدخان. وإلا نزعت الغليون من فمك وأحرقتك بالشعلة الحمراء.

بعد هذا التهديد, لم يعد أمام الفزاعة إلا أن تتنفس من أجل الحياة العزيزة . فأثمرت جهودها كثيرًا, إذ كانت مع كل نفس من الغليون, تتفتح المزيد من السمات الإنسانية على وجهها, حتى ملابسها صارت تبدو جديدة. أخيراً رفعت العجوز سبابتها وهزتها أمام وجه الفزاعة وخاطبتها بحدة:

- لقد صار لك هيئة رجل.. إني آمرك أن تتكلم. بذلت الفزاعة جهدها فاستطاعت بصعوبة أن تصدر صوتاً منخفضاً:

- أمي لا تقس علي. لقد عزمت على أن أتكلم. ولكنني لا أجد ما أقوله وأنا لا أملك عقلاً.

ابتسمت الأم ريغباي وخاطبت الفزاعة:

- إنك تستطيع أن تتكلم. ألا تقدر أن تتفوه بآلاف الكلمات وترددها آلاف المرات وأنت لا تعني بها أي معنى?!

أجابت الفزاعة:

- سأنفذ أمرك يا أمي

طلبت العجوز من الرجل أن يخرج ليقوم بدوره العظيم في العالم, الذي لا يوجد فيه رجل من كل مائة رجل, أفضل من فزاعتها. وطلبت منه أيضاً أن يعتبر نفسه من أفضل رجال المدينة. ثم زودته بمبلغ كبير من المال.وحتى لا تفشل هذه المغامرة, أعلمته العجوز أن عليه التعرف على رجل عظيم يعمل تاجراً ويعتبر من علية القوم, يسكن في المدينة القريبة. ومن أجل ذلك ما عليه إلا أن يهمس في أذن الرجل بكلمة.. ثم انحنت وهمست بتلك الكلمة في أذن رجلها.. وأعلمته الساحرة:

- هذا الزميل القديم,سوف يرحب بك بسبب ضعفه. وسوف يساعدك عندما تهمس له بتلك الكلمة.. لدى ذلك السيد الوجيه ابنة, ستصبح لك!.

راح الرجل يدخن غليونه بتلذذ ومن أجل الأنفاس التي تهبه الحياة. ويصغي للساحرة ويهز رأسه كلما وجد ذلك مناسبا لحديثها إليه, أو يقول كلمات تلائم الحالة مثل: حقا? في الواقع!.بالتأكيد!.

- ابق ملتصقاً بغليونك لأن حياتك منه. وإن سألك الناس لماذا تفعل ذلك. أعلمهم أن التدخين ضروري لصحتك, ولقد أمرك الطبيب أن تفعل ذلك. وعندما يخبو غليونك يا حبيبي. انفرد بنفسك بإحدى الزوايا. ثم نادي: ديكون تبغ جديد للغليون. ديكون اشعل غليوني. ثم ضعه في فمك بأسرع ما يمكنك. وإلا أصبحت كومة من العصي والملابس الرثة.. الآن ارحل يا عزيزي .

أجاب بصوت عال وهو ينفث الدخان:

- لا تخشين من شيء. سأتصرف مثل رجل شريف نبيل!.

أجابته العجوز وهي تضحك بكبرياء:

- إنك تتقن دورك جيداً. يالك من فتى ماهر. ستواجه بعض الصعوبات وأنت تقف على ساقيك. إذن خذ عكازي. إنها لك.

سوف تقودك الى باب الوجيه غوكين. اذهب يا عزيزي الجميل.وإذا ما سألك أحد عن اسمك, قل له أدعى بذي الريشة, لأنه ثمة ريشة فوق قبعتك.

عادة يصطخب الشارع الرئيسي في المدينة المجاورة كل صباح. ولأول مرة شاهد الناس في هذا الشارع رجلاً غريباً, بدا مثل النبلاء وهو يمشي على الرصيف بمعطفه الفاخر وعلى صدره تلمع نجمة, وبيده عكاز ذات مقبض ذهبي, ويمسك بيده اليسرى غليونا مزيناً بالنقوش, وكلما مشى بضع خطوات يضعه في فمه.

قال أحد المارة: لا شك أنه رجل نبيل عظيم. ألا ترون نجمة على صدره?!

أجابه أحدهم: لا بد أن يكون رجلاً نبيلاً!

علق رجل ثالث: لم أر في حياتي من يتمتع بعظمة مظهره

قال رجل رابع: أعتقد أنه عاش في البلاط الفرنسي. انظروا إليه كيف يمشي! إنه يخطو بثقة.

بين هذه الأصوات المعجبة المندهشة, ارتفع صوتان شاذان عنها: نباح كلب اقترب من الغريب وشم عقب قدمه, ثم هرع إلى فناء سيده وهو ينبح نباحاً غريباً. أما الصوت الثاني, فكان بكاء طفل, فزع عندما شاهد الغريب, فراح يتمتم بعبارات مبهمة عن اليقطين!.

تابع ذو الريشة طريقه وهو مستغرق في التدخين, يتبعه جمهور من أهل المدينة, إلى أن وصل الى المنزل الرائع الذي يقطنه الوجيه السيد غوكين. دخل من البوابة وصعد السلم. قرع الباب, ثم التفت نحو الجمهور وانحنى لهم مودعاً.

عندما لمحت ( بولي غوكين ) الغريب المتألق واقفاً عند مدخل المنزل, أسرعت بارتداء ثياب جميلة.. عندما فتحت الباب, اضطرب التاجر. ثم قدم إلى الغريب ابنته. وقال لها:

- هذا النبيل هو اللورد ذو الريشة. حمل إلي رسالة من صديقة قديمة. أرجوك أن تقدمي له ما يستحق من الضيافة.

لقد فعلت تميمة الساحرة فعلها فأثارت مخاوف التاجر. كما أنه انتبه إلى الرسوم التي على الغليون.. لقد سبق أن قطع للساحرة وعداً ما في مرحلة من حياته القديمة. وما عليه الآن, إلا أن يقدم ابنته للرجل وفاءً للوعد.

بعد أن خرج التاجر من الغرفة. ظلت بولي الجميلة مع ضيفها الشاب في الغرفة.ومع مرور الوقت كانت تزداد انبهاراً بالرجل,فوقعت في حبه بعد مضي ربع ساعة على زيارته لهم. فقدكانت النجمة تتألق على صدره, والشياطين ترقص مبتهجة حول غليونه.. ثم راح ذو الريشة يفتر رويداً رويداً, وبدأت أشعة النجمة تخبو, وصارت ملابسه أقل جمالاً. نظرت الفتاة إلى الرجل, فصرخت وسقطت على الأرض مغمى عليها!?

نظر ذو الريشة إلى المرآة, فرأى حقيقته قبل أن يفعل السحر فعله. فأرخى ذراعيه على جانبيه تعبيراً عن يأسه, وغادر على الفور منزل الوجيه, واتجه نحو بيت الساحرة.

كانت الأم ريغباي جالسة أمام موقد مطبخها. حين سمعت وقع خطوات عند باب بيتها تشبه طقطقة العصي أو العظام الجافة. فتمتمت تحدث نفسها:

- عجيب, أي هيكل خرج من قبره?

دفع ذو الريشة رأسه الطويل من الباب.

- إنه ذو الريشة. غليونه ما زال مشتعلاً. والنجمة تشع فوق صدره. ولم تفقد ملابسه مظهرها الفخم. إذن, لا بد أنه قد حدث خطأ ما!. ثم سألت الساحرة رجلها:

- ماذا حدث? هل طردك المجنون العجوز من بيته? سأنزل به أشد العقاب, وأجبره على أن يقدم لك ابنته جاثية على ركبتيها. أما إذا كانت هي التي رفضتك. فسوف أدمر جمالها خلال أسبوع واحد.

- أماه. اتركيها لشأنها. كنت سأحظى بها, إضافة إلى قبلة من شفتيها الشهيتين. ولكنني يا أمي قد رأيت نفسي في المرآة. كم كنت فارغاً وتافهاً. وعرفت أنني لن أعيش بعد اليوم.

نزع من فمه الغليون وأطاح به إلى الجدار. وسرعان ما سقط فوق الأرض كومة من العصي والقش و الثياب الرثة. فراحت الأم ريغباي تندبه:

- يا صديقي المسكين. يا عزيزي البائس. يا ذا الريشة. ثمة ملايين من البلهاء والحمقى والفارغين في هذا العالم, ليسوا أفضل منك. ومع ذلك يعيشون محترمين!. ولم يروا أنفسهم إطلاقاً, ولا يعرفون حقيقتهم!.. ما الذي جعل هذا المسكين يرى نفسه, ليموت بسبب ذلك!?

حشت غليونها واحتارت في أين تضعه في فمها أم في فم ذي الريشة. وتابعت نعيها:

- يا ذا الريشة المسكين. سهل علي أن أمنحك فرصة ثانية. وأن أرسلك غداً. ولكن لن أفعل. لأن لك مشاعر رقيقة وصادقة جدا, وقلب أعظم من أن يحتمل الحياة في عالم فارغ لا قلب له. فلو أجاد إخوانك في هذا العالم أعمالهم مثلما تفعل الفزاعات, لأصبح العالم أفضل حالاً مما هو عليه الآن.. إذاً فأنا أشد حاجة منك إلى هذا الغليون.

وضعت الغليون في فمها وصاحت:

- ديكون. اشعل غليوني!.

يا شعب لا تشك الشقاء ولا تطل فيه نواحك
لو لم تكن بيديك مجروحا لضمدنا جراحك
أنت انتقيت رجال أمرك وارتقبت بهم صلاحك
فإذا بهم يرخون فوق خسيس دنياهم وشاحك



(عمر أبو ريشة)

-------------------------------
* كاتب أمريكي ولد في عام 1804. ومات عام 1864.تطرق في قصصه إلى جوانب عميقة في النفس الإنسانية
** المترجمة من المغرب غير أني لم أعثر على اسمها

قديم 08-13-2010, 09:36 PM
المشاركة 5
ريم بدر الدين
عضو مجلس الإدارة سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي مستعمرة النمل الأبيض بقلم:نادين غورديمر
مستعمرة النمل الأبيض

بقلم:نادين غورديمر

ترجمة الأستاذ سمير أبو الفتوح

نشرت في مجلة العربي بتاريخ 1/4/1993

عندما تعيش في مدينة صغيرة بعيدا عن العالم الذي تقرأ عنه في مكتبة البلدية، فإن مجيء رجال الإصلاح والترميم إلى المنزل يكون عيدا، وتتفجر الحياة اليومية بالبهجة والمرح، ويسود الارتجال، وتتحول حجرة الجلوس إلى حجرة نوم، إذ تحول رائحة الطلاء المنبعثة من حجرة النوم دون الانتفاع بها، ولدى تكويم الأثاث في منتصف الحجرة تنكشف ظهور الأشياء التي كانت محجوبة عن الأنظار، وقد علقت بها شظايا خشب صغيرة اكتست بخيوط عنكبوت أثقلها الغبار، وتصبح الوجبات سهلة وخفيفة، ويضرب صفحا عن سلوكيات المائدة إلى حين، إذ تتغافل الأم عن أول مبدأ من مبادئها وهو أن تدعو أطفالها للجلوس إلى المائدة، ويعتذر لك أفراد الأسرة عن غرابة ملبسهم، لأن الواحد منهم لا يجد أي شيء في موضعه.

والطبيب كذلك رجل إصلاح حينما يتوقع تغيير أغطية فراش المريض، وإقصاء الكلب عن سريره، وإذا ما مرضت طفلة فهي غير مجبرة على الذهاب إلى المدرسة، وتعد في إجازة وفوق ذلك تحصل على هدايا (لفة كاملة من القصص الهزلية مربوطة بخيط متعهد توزيع الجرائد والمجلات وأقلام وأوراق لعب)، وإذ تكون الأم بمفردها في المنزل (فيما عدا المريضة الملازمة للفراش في حجرة التمريض والقريبة من سمعها)، ويكون باقي الأطفال في المدرسة، والزوج بعيدا في عمله، تخلع هي مريلتها، وتمشط شعرها، وتضع قليلا من أحمر الشفاه لكي تبدو لائقة المظهر في عين الطبيب، كما تعد صينية الشاي لاثنين سوف يختلي كل منهما بالآخر تماما في حجرة جلوس منعزلة، كمن تنتظر عاشقا سيزورها سرا في الصباح مع أنه لا وجود له ألبتة، وبعد أن تقف هي والطبيب معا (الذي يشم منها رائحة رقيقة عذبة مسكرة إذ يكون خارجا منذ قليل من غرفة العمليات) ويتطلعا إلى المريضة، ويتبادلا بعض الملاحظات المرحة يسره أن يلبي دعوتها له إلى كوب من الشاي في جولته الصباحية الحافلة بالزيارات، وكان صوتاهما يأتيان المريضة من وراء باب حجرة الجلوس همسا تارة، وقد يرتفعان بالضحك تارة أخرى.

ومع وصول السمكري والدهان والطبيب إلى المنزل يحدث شيء ما لا يتصور أن يحدث في مكان آخر، وهو منزل مكون من طابق واحد وذو واجهة مؤلفة من مشربيتين تقعان على كلا جانبي مدخل الباب الأمامي في أحد شوارع مدينة لتعدين الذهب بجنوب إفريقيا قوامها خمسة وعشرون ألف نسمة في الثلاثينيات من القرن العشرين. فيما مضى كان البيانو ال (ستنواي) قائما بمفرده على الألواح الخشبية القليلة الباقية من أرضية الحجرة التي انتزعت ألواحها. اندفعت داخلة بقوة أجري لكي أقف على الوقت في الساعة ذات الرنين الموسيقي الموضوعة على الرف، بيد أني طرت في الهواء، ووجدت نفسي ملقاة على الأرض، وقد تلقيت صدمة عنيفة، وشممت رائحة ما شممتها من قبل تنبعث من الأرض: كانت رائحة التربة المطمورة تحت منزلنا. كنت في التاسعة من عمري وكانت السقطة لا تسبب لي كسرا في العظام، والرجة تجعلني أصحو وأنتبه، وكان التفكير في ذلك الشق ذي التجويف المظلم الغائر في التربة تحت سجادتنا ال (أكسمنستر) يستثيرني دائما ويهز مشاعري.

لم يكن الأمر متعلقا - هذه المرة - بالدهانين، وإنما كان متعلقا بالسيد "ستريدوم" وأولاده، الذي اعتادت أمي أن تثير معه مشاجرة كل بضع سنين "لست كأحد من النساء الأخريات، وليس زوجي كأحد من أزواجهن، المنزل حاله سيئة، وأنت لن تحرك ساكنا إلا إذا رأيته ينهار، لقد بلغ بك الشح حد عدم دفع ثمن نزر يسير من الطلاء، وحتى لو فعلت فإنك تود لو يدوم الطلاء عشر سنوات، أنا ليس في حوزتي منزل كمنازل الأخريات". لقد عاملنا العمال معاملة الضيوف رغم أننا لا نستقبل ضيفا واحدا في بيتنا، فصديقات أمي هن جاراتها، وليس لأبي أحد من الأصدقاء، كما أن أمي على أي حال لم تدع في بيتنا مكانا شاغرا لسرير إضافي، لأنها لم تكن ترغب في مجيء أقاربه إلينا. لقد كانت أمي تقدم للسيد "ستريدوم" الشاي الثقيل المحلى بالسكر الذي يروق له أن يحتسيه عدة مرات في اليوم بينما تقف هي إلى جواره تحادثه دون كلفة، وأنا أتابع ما يبديه من مهارات، وكنت مفتونة به خصوصا عندما يقوم بعمل ما يسميه بإنجليزيته الأفريكانية "جر الخط "، فقد كانت براعته اليدوية تساعده على أن يصنع شريطا أسود رفيعا يفصل الجزء السفلي من ممر منزلنا (المدهون باللون الأسود حماية له من الاتساخ الناجم عن بصمات الأصابع) عن جزئه العلوي المدهون باللون الأصفر الفاتح، "ثانية واحدة ريثما أفرغ أولا من جر الخط"، ثم يجرع كوبه بأكمله حتى لقد كانت أوراق الشاي تدوم في الكوب وتلتصق بجوانبه، وكان هذا التلهف الشديد بالنسبة لي عادة غريبة وسمة تميز الأفريكانيين عن الإنجليز الذين نحن منهم.

وقد ساءت حالة بيتنا في هذه المرة على نحو لم يسبق له مثيل، ولم يكن الرجال الذين دخلوه هذه المرة هم رجال إصلاح وترميم، بل كانوا رجالا قد أرسلوا للقضاء على ما نسميه نحن بالنمل الأبيض، النمل الذي دأب على التهام منزلنا من تحت أقدامنا، مليون فك منه راحت تلتهم ليل نهار باستمرار الخشب الذي تقوم عليه عاداتنا اليومية الثابتة.

وقد ظلت أمي لسنوات بكفاءة واقتدار تنحي جانبا بقدمها التراب ذا الحبيبات الناعمة البديعة الذي كان النمل الأسود العادي يكومه في حديقة منزلنا على هيئة مخروط تام كذاك الذي يتخذ من الرمل، ويتسرب الماء من خلاله في الساعة الرملية. ولما لم يعر أبي الأمر التفاتا، فقد صبت أمى هي نفسها على حفر النمل مبيدا له رائحة القار، وأفرغت فيها غلايات من الماء المغلي مما جعل الأرض تتشقق عن كائنات ذات رؤوس دبوسية براقة وهي تناضل وتتخبط من برحاء الألم. وعلاوة على ذلك (وتلك حادثة أخرى) كنا نندفع في بعض أمسيات الصيف إلى الحديقة عقب نزول المطر لتنهال على رؤوسنا ملايين الأجنحة الشفافة المتساقطة كالثلوج المدارية لما نسميه نحن بالنمل الطائر الذي ظهر من مكان لا ندري عنه شيئا، وكنا نشاهد بعض الوقت الضفادع الجسورة الممتلئة بالشراهة والجشع، وهي تثب داخل (الفراندة) لكي تملأ حلوقها المنتفخة بتلك الحشرات التي يبدو أنه لا ضرر منها في الظاهر، وكنا نشاهد كذلك قطتنا وهي تلتهم إياها باستمرار، وتنحي عنها بمزيد من التحكم والسيطرة على نفسها وبهزة من شواربها أي جناح مكسور تكون قد التقطته بطريق الخطأ، ولم يجل بخاطرنا أن تلك الكائنات كانت تؤدي طقوس الزفاف، وهي تنزع عنها أجنحتها الأربعة الرقيقة الشبيهة بأجنحة الفراش، وقد بدا بعضها يناضل مثلما يفعل الناس وهم يخلعون معاطفهم، ثم وهي تستحيل كائنات أرضية ذات لون أسمر فاتح، وقد راح بعضها يرقع أجزاءه الخلفية بشيء من البلاهة، كما لو كان يدفع الأذى عن نفسه، ولم يجل بخاطرنا كذلك أن هذه الطقوس ستنتهي في ليلة أو ليلتين من ليالي الصيف بتخصيب واحدة من بين تلك الملايين، وأن هذه الواحدة سوف تتخذ لها طريقا تحت منزلنا لكي تصبح ملكة لمستعمرة بأكملها تتكاثر بواسطتها هي نفسها، وتواصل هذا التكاثر اللانهائي حتى يتم العثور عليها وقتلها.

لقد أرسل الرجال للبحث عن الملكة، فما من شيء استطاع أن يقضي على النمل الأبيض: لا السموم ذات الرائحة الكريهة، ولا الكشف عن أنفاقه التى قرأت أنه يشيدها بمهارة تفوق تلك التي شيدت بها أنفاق المترو في لندن وباريس ونيويورك، ولا إطلاق الدخان على جحوره مثلما يفعل بالنسبة للصراصير أو الخلد أو الخنافس الثاقبة للخشب، وليس المهم كم ألفا قد قتلت أمي منه في خلال سلسلة الكشوف التي ترتبت على قيامها بنزع خشب أرضية المنزل، وأدت إلى تدمير الممرات الهشة التي يشيدها من حبيبات التربة وبحكم لصق بعضها بواسطة مادة يفرزها يحملها في أجسامه، كما أدت إلى تدفق شاغلي تلك الممرات على هيئة صديد من قطيرات بيضاء متحركة ذات رؤوس صفراء، وليس المهم كم ألفا من النمل الأبيض قد ألقت بها أمي إلى الموت وجعلتها تعاني سكراته برذاذ "الفلت"، فالنمل الأبيض يستعيض ما فقده في الحال بالتكاثر من جديد، مادامت الملكة باقية على قيد الحياة، ومختبئة في غرفتها الداخلية، حيث يحيط بها رعاياها - الذين هم نسلها كذلك - ويقومون على حراستها ورعايتها، وكان رجال الإبادة الثلاثة واحدا أبيض واثنين من السود، وقد علق التراب الأحمر المستخرج من باطن الأرض بملابسهم جميعا وبشراتهم وشعورهم، وبدت عيونهم محمرة وملتهبة، وأظافرهم في مجملها حمراء، وآذانهم مكسوة بالقشر، وكانت الشعيرات الطويلة في منخري الرجل الأبيض مغطاة باللون الأحمر مثلما تبدو ساقا النحلة صفراوين بفعل حبوب اللقاح، فلقد كانوا لدى ظهورهم كالخارجين لتوهم من باطن التربة اللزجة القائمة تحت المباني وهم على أهبة الاستعداد للبحث عن الملكة دون كلل أو ملل، لميلهم إلى سفك الدماء بحكي الحياة الطويلة التي قضوها في البحث والتنقيب عن آثار القرون الوسطى.
إن أمي شكاكة فيما يتعلق بقدرات (عياف الماء) على التكهن بوجوده تحت الأرض بواسطة أغصان الشجر الملتوية، أو بقدرات من يزعمون الاتصال بالموتى ليتهجوا لهم الرسائل عن طريق تحريك إناء من الزجاج ناحية حروف الهجاء. ولكن ما الذي كان في استطاعتها أن تفعله غير ذلك؟ لقد فوض أبي الأمر إليها، وتحملت هي مسئوليته. لم تكن أمي راضية عن هيئة أولئك الرجال، إذ كانوا بالغي القذارة، وقد بدت أيديهم أشبه بالجذور العارية، وهي تمتد لتناول الشاي الذي احضرته لهم، وقد قدمت أمي كذلك كوزا من الصفيح للرجل الأبيض، وهي التي أصرت على أن يترك أولئك العمال بضعة ألواح خشب سليمة دون أن تمس تحت البيانو، إذ كانت تدرك جيدا دون حاجة إلى التأكد من مدى صدق قولهم أنه يستحيل تحريكه من موضعه دون الإضرار بصندوقه المصنوع من خشب الورد. ولم يتبادل أولئك الرجال حديثا في أثناء مشاهدة الأطفال لهم وهم يعملون، وتوقف صوت المعول بسبب كثافة التربة الموجودة تحت حجرة الجلوس، وتوقف لهاث الرجل الأسود الذي كان يسيطر عليه سيطرة تامة كلما انتزعه من التربة أو غرسه فيها من جديد، وكمم الصمت أفواهنا، ولم نشأ أن نذهب بعيدا، وقضينا كل وقت فراغنا في المشاهدة والترقب ببلاهة، وبالرغم من اليقظة التي أبديناها فإننا لم نكن هناك عندما تم العثور على الملكة. انهمكت أمي في خلط مواد كعكة، وقد شدتنا إليها مقدرتها السحرية على تحويل الخليط إلى شيء جديد مغاير غير مقصور على البيض المخفوق والزبد والسكر، كما شدتنا لمسات أصابعها الدقيقة الخفيفة السريعة التي تمنح الفم مذاقا حلوا قشديا معطرا، وإن الفم ليعرف مقدما بأن المتعة التامة لا تأتي من خلال رائحة الفانليا المنبعثة من الإناء فحسب، بل تأتي كذلك من ملابس أمي وشعرها وبشرتها إذ تنبعث منها الرائحة نفسها. وإذا بكلبنا يكشر عن أنيابه، ويتحفز للهجوم من خلال ستارة الباب مثلما يفعل كلما اقترب إنسان غريب، فرفعنا أبصارنا، فرأينا الرجال الثلاثة وقد نكصوا على أعقابهم،. وأشار الرجل الأبيض بيده المحمرة إلى أحد الرجلين الأسودين منتهرا إياه، فتقدم هذا في تثاقل وبطء، ومعه صندوق حذاء طفل مصنوع من الورق المقوى وعرضه على أنظارنا، وكان غطاؤه موضوعا عليه، وقد تخللته هنا وهناك ثقوب غير منتظمة للتهوية مثل تلك التي توجد في الصناديق التي نحتفظ فيها بدود القز حتى تلقي بها أمي بعيدا، إذ تظن أن رائحتها قد أصبحت عفنة للغاية، وأشار الرجل الأبيض بيده ثانية، وبدت للحظة اليدان، يده ويد أمي على ذات النسق: يده مغطاة بالتراب ويدها مغطاة بالدقيق، ورفع الرجل الأسود الغطاء، وكانت هي الملكة بالداخل، واستشعر أصغر الأطفال سنا غصة في حلقه كما لو كان سيتقيأ، وجرى بعيدا إلى الركن البعيد للمطبخ، واحتشد باقي الأطفال عن كثب، ولكن أمي جعلتنا نفسح لها طريقا، لأنها لم تكن تقنع بالوعود البراقة بل بإنجازها كاملة حفاظا على نقود أبي، ورحنا جميعا نحملق في ذلك الكائن الأبيض السمين القابع في ركن من الصندوق بلا حول ولا قوة، والذي يبلغ من الطول خمس بوصات ويحمل رأسا لنملة متناهي الدقة ذا مقدم لامع، وكان الجسم عبارة عن كيس منتفخ متصل بذلك الرأس، وليس له أرجل يمكن رؤيتها، أو شيء منها يتيح له الانقباض والتمدد على نحو ما تفعل البزاقة أو الدودة، تلك كانت هي الملكة التي أزاح رجال الإبادة النقاب عن مملكتها في الأروقة والممرات الموجودة تحت منزلنا، والتي تصورنا أنها في مثل حجم الواحد منا.

قال الرجل الأبيض:

- هذه هي زوجتهم.

- أو متأكد أنت أنك قد وجدت الملكة؟.

فضحك الرجل بصوت مكتوم (ضحكة رجل خبير) من جهلها.

- أهي حية؟

ولكن الصمت الذي ران من جديد على الرجال ذوي العيون الحمر والملابس الملوثة بالتراب الأحمر جعلنا نبتعد، وما كانوا ليسمحوا لنا بأن نتجاسر على مد أيدينا لكي نلمس ذلك الجسم المنتفخ المقسم إلى مناطق مثل بعض البالونات التي تزين بها الحفلات، وكان ذلك ينطوي - من جانبنا - على إعجاب ملموس ونفور في الوقت ذاته، وخيل إلينا أن لو نقر أحدنا بإصبعه على جسم الملكة الأملس نقرا خفيفا فلربما نز مادة قشدية حلوة، والواقع أني وجدت كتابا في المكتبة اسمه (روح النمل الأبيض) ل "يوجين مارايس"، وهو أفريكاني كذاك الرجل الأبيض الذي عثر على غرفة الملكة السرية، وقد قرأت فيه أن رعايا الملكة الصغار يقومون بانتزاع الغذاء من جسمها الضخم، وذلك بالخبط عليه حتى تدر عليهم إكسيرها الشهي الدسم.

وحمل أصغر الأطفال نفسه على الاقتراب إلى الحد الذي يتيح له الرؤية من جديد، وتساءل قائلا باشمئزاز:

- إخ، لماذا هى سمينة هكذا؟

فرد الرجل الأبيض قائلا: - لأنها مليئة بالبيض، النمل الأبيض يضع ما يقرب من مليون بيضة في اليوم.

- أهي ميتة؟

ولكن الرجل ضحك فحسب، وها هو الآن قد انتهى من مهمته، ومثلما يفعل مساعد المخرج المسرحي في ختام إحدى المسرحيات أوصد الرجل الأسود غطاء الصندوق، ولا مناص من القول بأن الملكة لم تكن لتستطيع الحركة وهي محجوبة، وبأنها كانت أضعف من أن تتفادى النتائج المترتبة على ما لها من أهمية وخطورة شأن سواء كانت تحت الأرض، حيث هي أسيرة لرعاياها على نحو لا فكاك منه، إذ هم لا يستطيعون التكاثر أو العيش بدونها، أم كانت مأسورة في صندوق حذاء قد تتناسل فيه بعيدا. وقد دفعت أمي للرجال ما يستحقونه من أجر من مصروف البيت (ولكن كان يجب عليها أن تخبر أبي بذلك)، وقد سمروا هم ألواح أرضية حجرة الجلوس من جديد، ثم ذهبوا لحال سبيلهم ومعهم الصندوق الورقي وقد تناهى إلى سمع أمي أن المسألة كلها كانت خداعا ونصبا، وأن أولئك الرجال ينتقلون من بيت إلى بيت تاركينه نهبا للفوضى، وهم لا يفتأون يبرزون الملكة عينها المرة بعد المرة حاملين إياها معهم هنا وهناك. ومهما يكن من أمر فقد ترك النمل الأبيض منزلنا، ولم نضطر بعد ذلك قط إلى الالتجاء إلى أولئك العمال الخصوصيين، وقد فرشنا السجادة ال (الأكسمنستر) مرة أخرى، وأعدنا الأثاث إلى مواضعه، وصار لزاما علي أن أؤدي تمرين نصف الساعة اليومي على البيانو ال (ستنواي) الذي تحررت منه أسبوعا، وقد قرأت في كتاب استعرته من المكتبة أن الملكة عندما تموت أو يتم إخراجها بعيدا، فإن جميع النمل الأبيض يترك أماكنه، ويتخلى عن العش وما يتصل به من حدائق فطر يخصصها لطعامه، كما يتخلى عن القنوات التي يستخدمها في نقل الماء إلى مسافة تزيد على أربعين قدما تحت الأرض،. فضلا عن تخليه عن نظامي اتصالاته ودفاعه المحكمين، ويتخذ البعض منه سبيلا إلى التجمعات الأخرى، ولكن الآلاف تموت. لقد عشنا فوق الأنقاض، وكبر الأطفال وتركوا المدينة، ثم عادوا من الحرب بعد عام 1946، كما عادوا في أوقات لاحقة فيما بعد من الزيارات التي قاموا بها لأوروبا وأميركا والشرق الأقصى، وقد ملوا سماع القصص القديمة المعادة، فضلا عما يوجه إليهم من أسئلة: هل تذكرين السيد "هارتمان" الذي اعتاد أن يأتي إلى بيتنا لضبط أوتار البيانو؟ لقد كان المسكين دائم السؤال عنكم، لقد أقعده التهاب المفاصل، وهل تذكرين السيد "ستريدوم" - جر الخط -؟ لشد ما كنتم تسخرون منه وأنتم صغار، لقد كنت أخجل من صنيعكم هذا، وهل تذكرين وقت أن كان رجال إبادة النمل الأبيض هنا؟ لقد تسببت في كسر ساقك تقريبا، أهذه الأحداث هي- حقا - خلاصة حياة أمي؟ لماذا يجب أن أتذكر؟ ولماذا أرتعد خوفا كلما عدت بذاكرتي إلى تلك الغرف الخمس القائمة خلف المشربيتين ومدخل الباب الأمامي؟ لماذا يجب أن أتذكر كل هذا؟ أنا التي جبت المحيطات والقارات، وشاهدت العواصم المجللة بالثلج، والجزر التي تسبح السلاحف من حولها، والكاتدرائيات والمسارح، والقصور، والحدائق حيث يقبل الناس بعضهم بعضا ويشرب المتسكعون النبيذ. لقد هرم أبي وفرضت عليه أمي البقاء في البيت في السنوات الأخيرة من عمره، ومكثت هي بجانبه، ولو أنها قالت إنها لم تكن تود أن تفعل ذلك، فقد كان المنزل عبئا عليها تحملت هي مسئوليته كاملة بالإضافة إلى مسئوليتها عنا نحن وكل ما يتصل بحياتنا. وها هي الآن قد ماتت، ومع أني مازلت أعتقد أن شخصا ما ينبض بالحياة في منزلها فإن الممرات الخفية والغرفة الداخلية التي كانت هي فيها مليكتنا وأسيرتنا معا في الوقت نفسه قد أحكم إغلاقها وصارت خاوية.

قديم 08-13-2010, 09:48 PM
المشاركة 6
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي
غاليتي ريم
سلام الله عليك
أولاً أشكرك على هذا الجهد الرائع

فقد قرأت وبتأن شديد ( قصة الطالب الألماني رغم الخيال فيها إلا أنها قصة أخاذة تجر القارئ رغماً عنه ليكمل فصولها حتى النهاية ..
نهاية لم تكن متوقعة إطلاقاً .. لكها نهاية طبيعية لطالب يميل إلى الخيال ويعتقد بوجود أرواح شريرة تسكنه
سلمت يداك ...



..... ناريمان


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: قصص قصيرة من الأدب الأميركي
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
من أرقى كتب الأدب والبلاغة الإنشاء ( جواهر الأدب ) ناريمان الشريف منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 54 01-19-2021 11:23 PM
الجامع في تاريخ الأدب العربي الأدب القديم - حنا الفاخوري د. عبد الفتاح أفكوح منبر رواق الكُتب. 2 07-20-2019 08:05 PM
الليث بن سعد أ محمد احمد منبر ذاكرة الأمكنة والحضارات والأساطير 1 06-22-2019 03:05 PM
مشروع قصة قصيرة كل اسبوع - شارك معنا في كتابة قصة قصيرة كل اسبوع ايوب صابر منبر القصص والروايات والمسرح . 156 08-22-2018 02:54 PM
"الأرض اليباب" قصيدة للشاعر والناقد الأميركي ت.س. أليوت. ماجد جابر منبر الآداب العالمية. 7 12-16-2011 09:59 PM

الساعة الآن 08:59 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.