من فعلَ ذلك ؟!! , يالله !! , لابدَ أنها السيارةُ التي كانت تَقِفُ أمامي !!!
كنتُ أمثلُ دورَ الغاضبِ والمنفعلِ وأنا أنطقُ بهذهِ الكلماتِ عِندَما لاحظَ أبي - يَرحَمَهُ اللهُ - مصباحَ سيارتي الجديدة مكسوراً .. , ربتَ أبي - يرحمه الله - على كتفي وقالَ لي : لاتغضب فهذا قَدرُ الله ونحنُ في العيد ..
كنتُ مازلتُ صغيراً وكان أبي - يرحمه الله - خارجاً من بيتِ أحد أقاربي صباحَ العيدِ فشاهدَ مصباحَ السيارةِ المكسورِ , كانَ المصباحُ مكسوراً قبلَ ذلِكَ بأيامٍ , ولكن عندما سألني أبي - يرحمه الله - ادعيتُ أن السيارةَ التي كانت تقفُ أمامي هي من تسببَ بذلك !!!
بعد أيامٍ لم أستطعْ الاستمرار بالكذبة أكثر , طرقتُ البابَ على أبي - يرحمه الله - فإذنَ لي بالدخول إلى غرفته وكان جالِساً على الأرض يقرأ في مصحفه , جلستُ بين يديه وقلتُ له : أبي أودُ الاعترافَ لك بأمرٍ ما , أغلقَ المصحفَ والتفتَ نحوي وقال : قلْ , قُلتُ : مصباح السيارة كان مكسوراً قبل صباحِ العيدِ وأنا كذبتُ عليك بادعاء الغضبِ وإلصاقِ الأمرِ بالسيارة التي كانت تقفُ أمامي , تبسمَ أبي - يرحمه الله - وقال لي : أعلمُ ذلك , فلقدُ نظرتُ إلى أسفلِ السيارة ولم أرَ زجاجاً على الأرض فقلتُ في نفسي : من هذا الذي يكنسُ الأرضَ بعد أن يصدمَ السيارة ؟!!!
كان يعلم !!!!!!
شعرتُ بأني تقازمتُ وودتُ لو أن الأرضَ تُفتحُ وتبتلعني خجلاً منه , لم أنبس ببنت شفة , فقط قبلتُ رأسه ويده وخرجتُ من الغرفة ولم أكذبْ عليه بعدها قط ...
هذ ا هو صوتُ الصمت , الصوتُ الذي يُسمعكَ أبلغَ العباراتِ وأشدها تأثيراً دونَ أن ينطقَ بحرفٍ واحدٍ !!!
كم نحتاجُ أن نُنصتَ لصوتَ الصمت !! , كم نحتاجُ أن نفهمه !!
كم نحنُ بحاجةٍ ماسة لإتقان هذا الفنِ المؤثر , اعتدنا فقط أن نسمعَ الأصوات العالية الصاخبة فحسب , وكم من رسالةٍ يُرسلها لنا الصمتُ صباحَ مساء َ لانلتفتُ لها البتة !!! , عندما كبرتُ وكان عملي يُحتِمُ عليَّ قراءة كل همسة وحركة وسكنة تعلمتُ قراءة الصمت , لم أصل فيه لحد احترافِ أبي - يرحمه الله – إلا أنني أحاولُ أن أكون كذلك , أحاولُ الاستماعَ للصمتِ وبكل إنصات , أحاولُ التقاطَ الرسائلِ التي يبعثها إليَّ الصمتُ في كلِ مكانٍ أكونُ فيه , عندما أكونُ في زيارة لدائرة حكومية أو لمستشفى ما أُرهِفُ السماعَ للجدران وللزجاج فكلُ جدارٍ مُتسخٍ أو زجاجٍ مكسورٍ أو شيء تالفٍ يرسلُ لي وبصمتٍ رسالةً أن في هذا المكان لاأحد يكترث فأكونُ حَذِراً من كل مافي المكان أشدَ الحذر ..
أستخدمُ الصمتَ - أحياناً - عندما أشك في إجابة الطرف المقابلِ لي ويكون لازماً عليَّ أن أصِلَ للحقيقة , فبعد أن أسأله السؤال ثم يجيبني هو أصمتُ قليلاً ولاأُعلقُ على جوابه , فلا يلبثُ إلا أن يحاول أن يخترقَ جدار الصمت الذي وضعته بيني وبينه بإكمالِ الحديث ِ ليُثبتَ صحةَ كلامه , ثم لايلبثُ أن يقعَ بلسانه , لأن الصمت له هيبةٌ لاتُشبهه هيبة ..
نحتاجُ حقاً أن نُتقنَ فنونَ الصمت ومهارته فذلك أفضلَ بكثيرٍ من أن نحاول التمثيلَ فنصرخُ غاضبين :
من فعلَ هذا ؟!!! لابد أنه فلان أو فلانة ..
ويكون الأداءُ سيئاً ويرسلُ الصمتُ رسالةً للطرفِ الآخرِ مفادها :
إنه
يكذبُ
عليك !!
.
.
ولرُبّ صــمتٍ من شجــيّ مـــوجع ** جمعَ البيـــان وشفّ عن مكنـــون
.
.
دوزنةُ عقل :
في الحياة ... كما في لعبة الشطرنج , النظرة البعيدة هي التي تكسب
شارلز بوكستون
.
.
أحمَدُ النجار