![]() |
المعرض
المعرض
[justify]كلت رجلاي و أنا أتنقل بين أجنحة المعرض المترامي الأطراف . لكني لا أجرؤ على إبداء رغبتي في الأوبة إلى المنزل وأنا أرى ابنتي يتجدد شغفها بركن الألعاب كلما دنونا منه أو حاذيناه ... و للمرة الثالثة أضطر تحت ضغط يدها الصغيرة إلــــى الوقوف قبالة كشك الكراكيز وهو يعرض حكاية شهرزاد مع شهريار. و أجدني مرغما تحت إلحاحها الذي لا يقـــاوم على تتبع التمثيلية حتى نهايتها ، لا ينفعني في ذلك التثاؤب ولا ابتسامة السخرية ولا النظر المتوالي إلى ساعتـــي اليدوية.. فالتمثيلية محكمة وخيوطها محبوكة بإتقان يجعل اللا مبالي يبالي ، والمستهتر يهتم . – كم هي جميلة شهرزاد يا أبي . - طبعا.. كل شهرزاد جميلة ومحبوبة مثلك ومثل أمك وجدتك وأختك ." ابنتي منفعلة مع كل فصل من فصول التمثيلية رغم الهرج الذي يملأ المكان ، ودوي المفرقعات الذي يصم الآذان . وحين يشتد الضجيج أقصد ركنا منزويا في المقهى لنروي عطشنا في هذا الجو القائظ المغبر. و تجلس قربنا أسرة خيم الوجوم علـى سحنتها . يقطع الصمت أحد أفرادها قائلا : - ماذا نفعل الآن ؟ هل نعود ؟ فينطلق الجميع معا في جدال لا أميز منه كلمة ... فهذا يفضل البقاء لبعض الوقت لأمر في نفسه ، وهذه تحتج على عـدم ابتياع ما كانت تروم ابتياعه ، وتلك ساخطة منذ البداية على المجيء إلى هذا المكان ... ويثور الواحد تلو الآخر ، فيقف أحدهم يرغي ويزبد ملوحا بقبضته ، ثم يرون السكون فلا تسمع إلا همسا . - لماذا يتحدثون هكذا يا أبي ؟ من جديد ، أحار أمام سؤالها وأنا أتمثل نفسي طرفا فيه ، فهل أستقبح هذه العادة أمامها وأنا أعلم مسبقا أنها ستحدجني بنظرة استغراب ؟ ... لكم حاولت جاهدا نبذ هذه العادة ولم أفلح . وقد قال لي أحد رواد المعرض بلهجة طبيب نفساني :" في هذا المعرض لا يمكن تغيير الطبع بين عشية وضحاها. فرواده ممن تسري في عروقهم الدماء الساخنة ."... لكن ، رغم الغبار ورغم الضجيج ، كل شيء يبدو جميلا في هذه البطحاء الفسيفسائية... كل يرفل في حلته... منهم من يباهي ، ومنهم من يضاهي فيتفنن في إبداء سوأته إرواء للعيون الجاحظة وإشفاء لغليل النفوس الهائجة الظامئة . تنبهني ابنتي إلى أحد رواد المعرض وهو يهز رأسه مقهقها ، ثم عابسا و ملوحا . يمشي خطوات و يتوقف . يحك رأسه و يمشط شعر رأسه من الخلف :" هل هو أحمق؟... إنه يحدق فينا ."... وبعد أن أشرح لها الأمر بكل بساطة ، مضمنا نصيحة بألا تشغل فكرها بكل ما يفعله الآخرون ، ألمح لها بالعودة فألقى منها استجابة . - هل أعجبتك التمثيلية ؟ - نعم... لكن شهريار كان قبيحا جدا . و أعلم علم اليقين أنها لن تقف عند هذا الحد ، وأن أسئلة جمة ستنصب على مسامعي فور وصولنا ، وعلي حينئذ أن أجيب دون تردد كما أجبت في المرات السابقة عن استفسارات لو جمعت في كتاب لحوت صفحات عدة : .. لماذا بطن أمي منتفخة ؟ وكيف دخلت أختي ؟ ومن أخرجها ؟ وأين هو الله ؟ ولماذا لا نراه ؟ ولماذا غادرتنا أمي ؟ ولماذا تطبخ لنا جارتنا الطعام وشعرها منسدل على كتفيها ؟ و الأدهى من ذلك أن بعض الإجابات الارتجالية قد تنسى ، فأجد نفسي محرجا أمام ذاكرتها القوية . - لماذا يريد شهريار قتل شهرزاد المسكينة ؟ وأحاول أن أفهمها أن هذه تمثيلية فقط ، وأن شهرزاد لم تكن دائما ضعيفة ، بل هناك شهرزاد ضعيفة وأخرى قوية ، كما أنها قد تكون طيبة وأخرى شرسة ، عفيفة وفاسقة ، جائرة ومظلومة . - وشهريار يا أبي ؟"... فأعيد لها نفس الخطاب مع ما تتطلبه أفعاله و أسماؤه من تحويل ... فأنا ممن شهد لهم معلموهم بالتفوق في النحو والصرف و التحويل . " ولماذا... ؟ " لم أتركها تكمل . فأنا أعلم جيدا ما تنوي قوله ، ولذا بادرتها متحمسا كعادتي عند كل نقاش : - اسمعي يا ابنتي الحبيبة... شهرزاد إنسان ، وشهريار إنسان . قد يجور الواحد منهما على الآخر ، وقد يراد لهما أن يظلما بعضهما البعض ، وربما استبدت شهرزاد ضد أخرى ، وقد يطغى شهريار على أخر مادام أهل الأرض أرادوا ذالك . - كما فعلت جارتنا بخادمتها ؟ - ها ... لقد فهمت... وكما فعل صاحب الدار بأبيك . - ماذا فعل ؟ - هذه حكاية طويلة... المهم ألا تشغلي بالك بغير دراستك . - و هل نعود غدا إلى المعرض ؟ - لتتابعي حكاية شهرزاد وشهريار ؟ - أوه ... كلا . إنها لا تنتهي . ولن تنتهي ما دام قد أريد لها ذلك ... و تتثاءب ابنتي فأهدهدها حتى تستسلم للكرى ، فأضعها على سريرها وأظل أنظر إليها متفحصا وجهها البـريء ، متتبعا أنفاسها المنتظمة ، فلا أملك إلا أن أنحني وأقبل خدها المتورد متمتما: - أصلحك الله و درأ عنك المصائب . ثم أطفئ النور و أخرج من الحجرة ليلفني هواء بارد أ فأنتبه إلى النافذة المشرعة .. لكني بحاجة إلى نسمات تنعش بدني المتعب ، وإلى لحظات سكون يريح ذهني المتأججة أفكاره المتضاربة آراؤه . و أنظر ناحية المعرض ، فألمح توهجه رغـــــم هذا الوقت المتأخر من الليل ، كأنه فوهة بركان .[/justify] |
الأديب الكريم رشيد الميموني المحترم
كلمات قد لاتكون مطولة ولكنها حوت قصة وأحداثاً وتاريخ عائلة . . لقد نثرت لنا جمالاً أخاذاً كالظل في يوم شديدة شمسه . . واستعملت أسلوباً للسرد يصل القلب ويغلفه بالفخر . . قصة جميلة استمتعت بها جداً جداً . . بارك الله فيك . . تقبل تحيتي وتقديري . . ** أحمد فؤاد صوفي ** |
اقتباس:
متعتي بهذا التعليق لا تقل عن تلك التي شعرت بها و أنت تقرأ نصي المتواضع . سأحتفظ به شهادة متميزة في حقي وفي حق قصتي . وسأنتظردوما تشجيعك و تجاوبك الرائع . دمت بكل المحبة اللائقة بشخصك الكريم . |
الساعة الآن 06:41 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.