منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=7)
-   -   المتنبي : سر بقاؤه وخلوده؟؟ (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=1043)

ايوب صابر 09-02-2010 02:51 PM

المتنبي : سر بقاؤه وخلوده؟؟
 

لا شك ان في شخص، وابداع المتنبي، وشعره تحديدا.. سر عظيم.. جعله خالدا، باقيا، ساحرا للعقول والقلوب، رغم مرور ما يزيد على الالف عام على وفاته...

- فما سر خلود المتنبي الرجل والشاعر؟

ساحاول هنا ان اقدم تعريف بشخصية المتنبي وصفاته وسمات شخصيتة، اضافة الى استعراض بعض النظريات والاجتهادات التي قدمها الباحثون في تفسير سر بقاء وخلود المتنبي. كما ساحاول تقديم ملخص عن بعض الدارسات الاخرى التي بحثت في سر عبقرية المتنبي وهي عديدة وبعضها القليل فقط تطرق كما سنرى الى "الجوانب النفسية" في شخصيتة، ثم نقدم تصورا جديدا لسر بقاء المتنبي وخلوده، يقوم على اساس "نظرية تفسير الطاقة الابداعية" والتي تفترض وجود علاقة بين اليتم والابداع في اعلى حالاته...

فما سر بقاء وخلود المتنبي؟

ايوب صابر 09-02-2010 02:54 PM

المتنبي،
هو أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد، أبو الطيب الجعفي الكوفي، ولد سنة 303 هـ في الكوفةبالعراق، وعاش افضل ايام حياته واكثرها عطاء في بلاط سيف الدولة الحمداني في حلب وكان أحد أعظم شعراءالعرب، وأكثرهم تمكناً باللغة العربية وأعلمهم بقواعدها ومفرداتها، وله مكانة سامية لم تتح مثلها لغيره من شعراء العربية. فيوصف بأنه نادرة زمانه، وأعجوبة عصره، وظل شعره إلى اليوم مصدر إلهام ووحي للشعراء والأدباء. وهو شاعرحكيم، وأحد مفاخر الأدب العربي. وتدور معظم قصائده حول مدح الملوك. ويقولون عنه بانه شاعر اناني ويظهر ذلك في اشعاره. ترك تراثاً عظيماً من الشعر، يضم 326 قصيدة، تمثل عنواناً لسيرة حياته، صور فيها الحياة في القرن الرابع الهجري أوضح تصوير. قال الشعر صبياً. فنظم أول اشعاره وعمره 9 سنوات. اشتهر بحدة الذكاء واجتهاده وظهرت موهبته الشعرية باكراً.
صاحب كبرياء وشجاع طموح محب للمغامرات. في شعره اعتزاز بالعروبة، وتشاؤم وافتخار بنفسه، أفضل شعره في الحكمة وفلسفة الحياة ووصف المعارك، إذ جاء بصياغة قوية محكمة. إنه شاعر مبدع عملاق غزير الإنتاج يعد بحق مفخرة للأدب العربي، فهو صاحب الأمثال السائرة والحكم البالغة والمعاني المبتكرة. وجد الطريق أمامه أثناء تنقله مهيئاً لموهبته الشعرية الفائقة لدى الأمراء والحكام، إذ تدور معظم قصائده حول مدحهم. لكن شعره لا يقوم على التكلف والصنعة، لتفجر أحاسيسه وامتلاكه ناصية اللغة والبيان، مما أضفى عليه لوناً من الجمال والعذوبة. ترك تراثاً عظيماً من الشعر القوي الواضح، يضم 326 قصيدة، تمثل عنواناً لسيرة حياته، صور فيها الحياة في القرن الرابع الهجري أوضح تصوير، ويستدل منها كيف جرت الحكمة على لسانه، لاسيما في قصائده الأخيرة التي بدأ فيها وكأنه يودعه الدنيا عندما قال: أبلى الهوى بدني.

ايوب صابر 09-02-2010 02:55 PM

المتنبي وسيف الدولة الحمداني

ظل باحثاً عن أرضه وفارسه غير مستقر عند أمير ولا في مدينة حتى حط رحاله في إنطاكية حيث أبو العشائر ابن عم سيف الدولة سنة 336 هـ، واتصل بسيف الدولة بن حمدان، أمير وصاحب حلب، سنة 337 هـ وكانا في سن متقاربه، فوفد عليه المتنبي وعرض عليه أن يمدحه بشعره على ألا يقف بين يديه لينشد قصيدته كما كان يفعل الشعراء فأجاز له سيف الدولة أن يفعل هذا وأصبح المتنبي من شعراء بلاط سيف الدولة في حلب، وأجازه سيف الدولة على قصائده بالجوائز الكثيرة وقربه إليه فكان من أخلص خلصائه وكان بينهما مودة واحترام، وخاض معه المعارك ضد الروم، وتعد سيفياته أصفى شعره. غير أن المتنبي حافظ على عادته في أفراد الجزء الأكبر من قصيدته لنفسه وتقديمه إياها على ممدوحة، فكان أن حدثت بينه وبين سيف الدولة جفوة وسعها كارهوه وكانوا كثراً في بلاط سيف الدولة.
ازداد أبو الطيب اندفاعاً وكبرياء واستطاع في حضرة سيف الدولة في حلب أن يلتقط أنفاسه، وظن أنه وصل إلى شاطئه الأخضر، وعاش مكرماً مميزاً عن غيره من الشعراء في حلب. وهو لا يرى إلا أنه نال بعض حقه، ومن حوله يظن أنه حصل على أكثر من حقه. وظل يحس بالظمأ إلى الحياة، إلى المجد الذي لا يستطيع هو نفسه أن يتصور حدوده، إلى أنه مطمئن إلى إمارة حلب العربية الذي يعيش في ظلها وإلى أمير عربي يشاركه طموحه وإحساسه. وسيف الدولة يحس بطموحه العظيم، وقد ألف هذا الطموح وهذا الكبرياء منذ أن طلب منه أن يلقي شعره قاعداً وكان الشعراء يلقون أشعارهم واقفين بين يدي الأمير، واحتمل أيضاً هذا التمجيد لنفسه ووضعها أحياناً بصف الممدوح إن لم يرفعها عليه. ولربما احتمل على مضض تصرفاته العفوية، إذ لم يكن يحس مداراة مجالس الملوك والأمراء، فكانت طبيعته على سجيتها في كثير من الأحيان.

ايوب صابر 09-02-2010 02:58 PM

المتنبي وكافور الإخشيدي

الشخص الذي تلا سيف الدولة الحمداني أهمية في سيرة المتنبي هو كافور الإخشيدي. فقد فارق أبو الطيب حلباً إلى مدن الشام ومصر وكأنه يضع خطة لفراقها ويعقد مجلساً يقابل سيف الدولة. من هنا كانت فكرة الولاية أملا في رأسه ظل يقوي. دفع به للتوجه إلى مصر حيث (كافور الإخشيدي). وكان مبعث ذهاب المتنبي إليه على كرهه له لأنه طمع في ولاية يوليها إياه. ولم يكن مديح المتنبي لكافور صافياً، بل بطنه بالهجاء والحنين إلى سيف الدولة الحمداني في حلب، فكان مطلع أول قصيدته مدح بها كافور:

كفى بك داء أن ترى الموت شافياً وحسب المنايا أن يكن أمانيا


فكأنه جعل كافورا الموت الشافي والمنايا التي تتمنى ومع هذا فقد كان كافور حذراً، فلم ينل المتنبي منه مطلبه، بل إن وشاة المتنبي كثروا عنده، فهجاهم المتنبي، وهجا كافور ومصر هجاء مرا ومما نسب إلى المتنبي في هجاء كافور:

لا تشتري العبد إلا والعصا معه إن العبيد لأنجــاس مناكــيد
نامت نواطير مصر عن ثعالبها وقد بشمن وما تفنى العناقيد

لا يقبض الموت نفسا من نفوسهم إلا وفي يده من نتنها عود

من علم الأسود المخصي مكرمة أقومه البيض أم آباؤه السود

أم أذنه في يد النخاس دامية أم قدره وهو بالفلسين مردود


و استقر في عزم أن يغادر مصر بعد أن لم ينل مطلبه، فغادرها في يوم عيد، وقال يومها قصيدته الشهيرة التي ضمنها ما بنفسه من مرارة على كافور وحاشيته، والتي كان مطلعها:

عيد بأية حال عدت يا عيد بما مضى أم لأمر فيك تجديد


ايوب صابر 09-02-2010 03:04 PM

شعره وخصائصه الفنية

شعر المتنبي كان صورة صادقة لعصره، وحياته، فهو يحدثك عما كان في عصره من ثورات، واضطرابات، ويدلك على ما كان به من مذاهب، وآراء، ونضج العلم والفلسفة. كما يمثل شعره حياته المضطربة: فذكر فيه طموحه وعلمه، وعقله وشجاعته، وسخطه ورضاه، وحرصه على المال، كما تجلت القوة في معانيه، وأخيلته، وألفاظه، وعباراته.وقد تميز خياله بالقوة والخصابة فكانت ألفاظه جزلة، وعباراته رصينة، تلائم قوة روحه، وقوة معانيه، وخصب أخيلته، وهو ينطلق في عباراته انطلاقاً ولا يعنى فيها كثيراً بالمحسنات والصناعة.ويقول الشاعر العراقي فالح الحجية في كتابه في الادب والفن ان المتنبي يعتبر وبحق شاعر العرب الأكبر عبر العصور وكل من جاء بعده عيال عليه وادعى النبوة لغروره بشعره انه كان يقول الشعراء يسهرون الليالي حتى ينظموا الشعر واكن انا انام نومي الطويل والشعر ياتي لي

أغراضه الشعرية
المدح

الإخشيدي، ومدائحه في سيف الدولة وفي حلب تبلغ ثلث شعره أو أكثر، وقد استكبر عن مدح كثير من الولاة والقواد حتى في حداثته. ومن قصائده في مدح سيف الدولة:
وقفت وما في الموت شكٌّ لواقف *** كأنك في جفن الرَّدى وهو نائم
تمـر بك الأبطال كَلْمَى هزيمـةً *** ووجهك وضاحٌ، وثغرُكَ باسم
تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى *** إلى قول قومٍ أنت بالغيب عالم

و كان مطلع القصيدة:
عَـلَى قَـدرِ أَهـلِ العَـزمِ تَأتِي العَزائِمُ *** وتَــأتِي عَـلَى قَـدرِ الكِـرامِ المَكـارِم
وتَعظُـم فـي عَيـنِ الصّغِـيرِ صِغارُها *** وتَصغُـر فـي عَيـنِ العَظِيـمِ العَظـائِمُ

الوصف
أجاد المتنبي وصف المعارك والحروب البارزة التي دارت في عصره وخاصة في حضرة وبلاط سيف الدولة، فكان شعره يعتبر سجلاً تاريخياً. كما أنه وصف الطبيعة، وأخلاق الناس، ونوازعهم النفسية، كما صور نفسه وطموحه. وقد قال يصف شِعب بوَّان، وهو منتزه بالقرب من شيراز :
لها ثمر تشـير إليك منـه *** بأَشربـةٍ وقفن بـلا أوان
وأمواهٌ يصِلُّ بها حصاهـا *** صليل الحَلى في أيدي الغواني
إذا غنى الحمام الوُرْقُ فيها *** أجابتـه أغـانيُّ القيـان

الفخر
لاتجسر الفصحاء تنشد ههنا*****بيتا، ولكني الهزبر الباسل
مانال اهل الجاهلية كلهم*******شعري ولا سمعت بسحري بابل
واذا اتتك مذمتي من ناقص******فهي الشهادة لي بأني كامل


الهجاء

لم يكثر الشاعر من الهجاء. وكان في هجائه يأتي بحكم يجعلها قواعد عامة، تخضع لمبدأ أو خلق، وكثيراً ما يلجأ إلى التهكم، أو استعمال ألقاب تحمل في موسيقاها معناها، وتشيع حولها جو السخرية بمجرد الفظ بها، كما أن السخط يدفعه إلى الهجاء اللاذع في بعض الأحيان. وقال يهجو طائفة من الشعراء الذين كانوا ينفسون عليه مكانته:




أفي كل يوم تحت ضِبني شُوَيْعرٌ *** ضعيف يقاويني، قصير يطاول
لساني بنطقي صامت عنه عادل *** وقلبي بصمتي ضاحكُ منه هازل
وأَتْعَبُ مَن ناداك من لا تُجيبه *** وأَغيظُ مَن عاداك مَن لا تُشاكل
وما التِّيهُ طِبِّى فيهم، غير أنني *** بغيـضٌ إِلىَّ الجاهـل المتعاقِـل




من أية الطرق يأتي نحوك الكرم *** أين المحاجم ياكافور والجلم
جازا الأولى ملكت كفاك قدرهم *** فعرفوا بك أن الكلب فوقهم
لا شيء أقبح من فحل له ذكر *** تقوده أمة ليست لها رحم
سادات كل أناس من نفوسهم *** وسادة المسلمين الأعبد القزم
أغاية الدين أن تحفوا شواربكم *** يا أمة ضحكت من جهلها الأمم
ألا فتى يورد الهندي هامته *** كما تزول شكوك الناس والتهم
فإنه حجة يؤذي القلوب بها *** من دينه الدهر والتعطيل والقدم
ما أقدر الله أن يخزي خليقته *** ولا يصدق قوما في الذي زعموا

الحكمة
اشتهر المتنبي بالحكمة وذهب كثير من أقواله مجرى الأمثال لأنه يتصل بالنفس الإنسانية، ويردد نوازعها وآلامها. ومن حكمه ونظراته في الحياة:
ومراد النفوس أصغر من أن *** نتعادى فيـه وأن نتـفانى
غير أن الفتى يُلاقي المنايـا *** كالحات، ولا يلاقي الهـوانا
ولـو أن الحياة تبقـى لحيٍّ *** لعددنا أضلـنا الشجـعانا
'وإذا لم يكن من الموت بُـدٌّ *** فمن العجز ان تكون جبانا
كذلك يقول:
خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به *** في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل
والهجر أقتل لي مما اراقبه *** أنا الغريق فما خوفي من البلل

مقتله
كان المتنبي قد هجا ضبة بن يزيد الأسدي العيني بقصيدة شديدة فلما كان المتنبي عائدًا يريد الكوفة، وكان في جماعة منهم ابنه محسّد وغلامه مفلح، لقيه فاتك بن أبي جهل الأسدي، وهو خال ضبّة، وكان في جماعة أيضًا. فاقتتل الفريقان وقُتل المتنبي وابنه محشد وغلامه مفلح بالنعمانية بالقرب من دير العاقول غربيّ بغداد.
قصة قتله أنه لما ظفر به فاتك... أراد الهرب فقال له ابنه... اتهرب وأنت القائل

الخيل والليل والبيداء تعرفني .....والسيف والرمح والقرطاس و القلم




==


وصلات:

ايوب صابر 09-02-2010 03:06 PM

نشأة المتنبي

بقلم د . زهير غازي زاهى

في هذا العالم المضطرب المتناقض الغارق في صراعه الاجتماعي والمذهبي كانت نشأة المتنبي وقد وعي بذكائه ألوان هذا الصراع وقد شارك فيه وهو صغير، وانغرست في نفسه مطامح البيئة فبدأ يأخذ عدته في أخذه بأسباب الثقافة والشغف في القراءة والحفظ. وقد رويت عن أشياء لها دلالاتها في هذه الطاقة المتفتحة التيسيكون لها شأن في مستقبل الأيام والتي ستكون عبقرية الشعر العربي.
روي أنه تعلم في كتاب. وروي أنه اتصل في صغره بأبي الفضل بالكوفة، وكان من المتفلسفة، فهوسه وأضله. وروي أنه كانسريع الحفظ، وأنه حفظ كتابا نحو ثلاثين ورقة من نظرته الأولى إليه، وغير ذلك مما يروى عن حياة العظماء من مبالغات . . .
ولم يستقر في موطنه الأول الكوفة وإنما خرج برحلته إلى الحياة خارج الكوفة وكأنه أراد أن يواجه الحياة بنفسه ليعمق تجربته فيها بل ليشارك في صراعاتها الاجتماعية التي قد تصل إلى أن يصطبغ لونها بما يسيل من الدماء كما اصطبغ شعره وهو صبي . . هذا الصوت الناشئ الذي كان مؤهلا بما يتملك من طاقاتوقابليات ذهنية أدرك أن مواجهة الحياة في آفاق أوسع من آفاق الكوفة تزيد من تجاربهومعارفه فخرج إلى بغداد يحاول أن يبدأ بصراع الزمن والحياة قبل أن يتصلب عوده، ثم خرج إلى بادية الشام يلقي القبائل والأمراء هناك، يتصل بهم ويمدحهم فتقاذفته دمشق وطرابلس واللاذقية وحمص.
كان في هذه الفترة يبحث عن فردوسه المفقود،
ويهيئ لقضيةجادة في ذهنه تلح عليه،
ولثورة حاول أن يجمع لها الأنصار، وأعلن عنها في شعره تلميحا وتصريحا حتى أشفق عليه بعض أصدقائه وحذره من مغبة أمره، حذره أبو عبد الله معاذ بن إسماعيل في اللاذقية، فلم يستمع له وإنما أجابه مصرا :

أبـا عبـد الإلـه معاذ أني



خفي عنك في الهيجا مقامي


ذكرت جسيـم ما طلبي وأنا



تخاطر فيـه بالمهج الجسام


أمثلـي تـأخذ النكبات منـه



ويجزع من ملاقاة الحمام ؟


ولو برز الزمان إلى شخصا



لخضب شعر مفرقه حسامي


إلا أنه لم يستطع أن ينفذ ما طمح إليه. وانتهى به الأمر إلى السجن. سجنه لؤلؤ والي الأخشيديين على حمص بعد أن أحس منه بالخطر على ولايته، وكان ذلك ما بين سنتي 323 هـ ، 324 هـ .

البحث عن النموذج :
خرج أبو الطيب من السجن منهك القوى . . كان السجن علامةواضحة في حياته، وكان جدارا سميكا اصطدمت به آماله وطموحاته، وأحس كل الإحساس بأنه لم يستطع وحده أن يحقق ما يطمح إليه من تحطيم ما يحيط به من نظم، وما يراه من فساد المجتمع. فأخذ في هذه المرحلة يبحث عن نموذج الفارس القوى الذي يتخذ منه مساعدا على تحقيق طموحاته، وعلى بناء فردوسه. وعاد مرة أخرى يعيش حياة التشرد والقلق، وقد ذكركل ذلك بشعره. فتنقل من حلب إلى إنطاكية إلى طبرية حيث التقى ببدر بن عما سنة 328 هـ، فنعم عند بدر حقبة، وكان راضيا مستبشرا بما لقيه عنده، إن الراحة بعد التعب، والاستقرار بعد التشرد، إلا أنه أحس بالملل في مقامه، وشعر بأنه لم يلتق بالفارس الذي كان يبحث عنه والذي يشاركه في ملاحمه، وتحقيق آماله.
فعادت إليه ضجراته التيكانت تعتاده، وقلقه الذي لم يبتعد عنه، وأنف حياة الهدوء إذ وجد فيها ما يستذل كبرياءه. فهذا الأمير يحاول أن يتخذ منه شاعرا متكسبا كسائر الشعراء، وهو لا يريد لنفسه أن يكون شاعر أمير، وإنما يريد أن يكون شاعرا فارسا لا يقل عن الأمير منزلة. فأبو الطيب لم يفقده السجن كل شيء لأنه بعد خروجه من استعاد إرادته وكبرياءه إلا أنالسجن كان سببا لتعميق تجربته في الحياة، وتنبيهه إلى أنه ينبغي أن يقف على أرض صلبة لتحقيق ما يريده من طموح. لذا فهو أخذ أفقا جديدا في كفاحه. أخذ يبحث عن نموذج الفارس القوي الذي يشترك معه لتنفيذ ما يرسمه في ذهنه.

ناريمان الشريف 09-02-2010 03:08 PM

بانتظار البقية ..
استمتعت بسيرة المتنبي


أشكرك ... ناريمان

ايوب صابر 09-02-2010 03:09 PM

سِيرَةُ الْمُتَنَبِّي


بقلم


سلمان هادي الطّعمة


كربلاء - الجمهورية العراقية

لا أحسب شاعرا عربيا كان يمكن أن يكون في هذا العصر أبعد صرخة وأكثر حماسة وأورى زندا من هذا الشاعر. وقد لا أعدو الصواب إذا قلت أن المتنبي أغزر الشعراء فضلا وأوسعهم شهرة وأعلاهم منزلة، فقد رفع شأن الشعر العربي وأحله مرتبة لم تكن له من قبل، وحمل الراية عاليا، وفتح للشعراء طرائق الخلد، وسن لهم سنن المجد. وبذلك تبوأ مكانة رفيعة ومنزلة سامية، مما دفعنا إلى الإعجاب بعبقريته والافتتان بشعره.


عاد المتنبي إلى الكوفة ، ورجح بعض الباحثين أن ذلك كان سنة 315هـ، واستقر في الكوفة ، ولا نعلم على وجه التحقيق كيف قضى المتنبي حياته في الكوفة بعد عودته إليها، وكل الذي نعلمه أنه اتصل بشخص يعرف أبو الفضل الكوفي، وأبو الفضل هذا رجل قد ثقف الفلسفة. يقول صاحب الخزانة: إن أبا الطيب وقع في صغره إلى واحد يكنى أبا الفضل بالكوفة من المتفلسفة فهوسه وأضله كما ضل . ولا ندري إذا كان أبو الطيب قد درس عليه الفلسفة حقا! وكل الذي نعلمه أن صاحب الوساطة يذكر لنا شعره الذي تأثر فيه بالفلسفة اليونانية، فهل كان ذلك لأنه درس الفلسفة، أو كان من أثر هذه الآراء العامة التي كانت شائعة بين المثقفين في ذلك العصر‍! ونحن أميل إلى الاعتقاد الثاني، فدراسة الفلسفة لا بد أن تكون قد تركت لها آثارا على شعره. وقد مدح أبو الطيب أبا الفضل بقصيدة غريبة فيها أبيات تلفت النظر أنها في الحقيقة تحوي آراء هي التي حملت بعض الباحثين على القول باعتناق المتنبي لمذهب القرامطة. ولكن ناشر ديوان المتنبي يقول عنها إن المتنبي إنما قالها ليمتحن عقب أبي الفضل، وكلا التفسيرين يجانبان الواقع، فنحن نعتقد أن المتنبي إنما ذكر هذه الصفات وهذه الآراء ليفخم بممدوحه، وأن المتنبي لم ير بأسا في مدح من يعتنق هذه المبادئ فيقول مثلا:

يا أيها الملك المصفى جوهرًا من ذات ذي الملكوت أسمى من سما نور تظافرفيك لاهوتيّه فتكاد تعلم علم ما لم يعلما
ويهم فيك إذا نطقت فصاحة من كل عضو منك أن يتكلما
أنا مبصر وأظن أني نائم من كان يحلم بالإله فأحلما
كبر العيان عليَّ حتى أنه صار اليقين من العيان توهما _


ولكن هذا الكلام، وإن كان صريحا في ذكر الحلول، فلا يدل على أن المتنبي كان قرمطيا، وربما كانت هذه عقيدة ممدوحه أبي الفضل فذكرها تقربا إليه، وهو على كل حال، يدل على عدم اهتمام المتنبي بالتمسك بروح الدين. وبعد رجوعه من البادية إلي الكوفة ، لم يطل مكثه بها، فتركها إلى بغداد ، ولم يبق في بغداد طويلا، فخرج عنها إلى الشام. يقول طه حسين: إن المتنبي إنما ترك الكوفة بسبب عقيدته القرمطية خشية على نفسه من يؤاخذ، وأنه خرج إلى الشام بسبب هذه العقيدة ليتصل بالدعاة هناك ويعمل على نشر الفكرة


وكان محبًا للعلم والعلماء ذا قوةٍ حافظة فقد رأى يومًا رجلاً يعرض كتابًا بستين صفحة فأخذه منه ونظر فيه طويلاً وأعاده لصاحبه وأقبل يتلوه حتى آخره. وإنما لُقّب بالمتنبي لأنه ادَّعى النبوَّة في بادية السماوة وهي أرضٌ بحيال الكوفة مما يلي الشام. وهذا بعض كلامه الذي كان يزعم أنه قرآن أُنزل عليه:
"والنجم السيَّار والفلك الدوَّار والليل والنهار إنَّ الكافر لفي أخطار. امضِ عَلَى سننَك واقف أَثرَ مَن كان قبلك من المرسلين فإن الله قامعٌ بكَ زيغَ مَن ألحدَ في الدين وضلَّ عن السبيل".
ولما فشا أمره خرج إليه لؤلؤ أمير حمص نائب الإخشيد فاعتقله وجعل في رجله وعنقه قرمتين من خشب الصفصاف. فكتب إليه المتنبي من السجن يستعطفه بالقصيدة التي مطلعها:

أيا خدَّدالله وردَ الخدود وقدَّ قدودالحسان القدود


فعفى عنه وأطلقه. ولم يزل بعد خروجه من الاعتقال في خمول وضعف حال حتى اتصل بأبي العشائر الحسنبن الحسين بن حمدان العدوي وكان بأنطاكية فمدحه بعدَّة قصائد. ولما قدم الأمير سيف الدولة أبو الحسن عليَّ بن عبد اللهبن حمدان العدَوي إلى أنطاكية قدَّم أبو العشائر المتنبي إليه وأثنى عنده عليه وعرَّفه منزلته من الشعر والآداب.



من ...مجلة العصبة

ايوب صابر 09-02-2010 03:14 PM

غَزَلُ المتنبّي


أنطون سليم سعد


من العصبة الأندلسية

في الأقطار العربية نهضة مباركة تغمر قلوب المتأدبين بشعاع الاعتزاز، وهي تخليد ذكرى نوابغنا والتغني بمآثرهم، وليس أدل عليها من الاحتفالات التي أقيمت تذكارًا لانقضاء ألف عام على موت المتنبي. وما المتنبي سوى ذلك الشاعر العربي الفذ الذي استهوى النفوس وسحر العقول بسمو خياله، وجزالة ألفاظه، وروعة بيانه.

إن المتنبيذلك الغلام المطل من بين أطمار الفاقة والناشز في بادية "سماوة" لهو مفخرة العرب ومجدهم الخالد إذا ما فخرت أمم الأرض بنوابغها وفحول شعرائها، ففي كل بيت من قصائده الحكم المثلى المرتدية برود الفصاحة، والشافّة عن أرقّ المعاني وأجمل صور الخيال ما يقصر عنها الكثيرون من أكابر الشعراء الذين قبضوا على صولجان الشاعرية في العالم.
في كنوز أدب المتنبي نفائس لو عرضت في متاحف الأدب الغربي لكانت مدعاة لإجلال الأدب العربي وإحلاله المنزلة العليا، ولكن الأدب تبع للسيف وما ضعفت أمة وضيمت في عصبيتها إلا ضعف أدبها وانخفض شأنه.
لم يتناول الناقدون شاعرًا من شعراء العربية المبرزين تناولهم المتنبي، إلا أنهم صدفوا لأمر لا نعلمه عن درس ميوله وتحليل منازعه وما أحاط بتلك الشخصية الكبيرة من مفاعيل الحياة. على أنهم لو فعلوا لدخلوا منه في شعاب منبسطة الرحاب بعيدة المرامي ولأشرفوا على قمم من نفسه تكاد تناطح الجوزاء، وليس الذنب ذنبهم ولكنه ذنب الثقافة التي لم تنل منها العربية قسطها لا سيما وأن الذين تصدوا للمتنبي كانوا في عصر سادت فيه الصناعة اللفظية، وما يعرف اليوم بالعلم النفساني لم يكن له ثمت من أثر، لذلك نرى معظمهم كالقاضي أبي الحسن الجرجاني، وأبي الفتح عثمان بن جني، وأبي العلاء المعري، وأبي علي بن فوزجة البروجردي، من أكابر الأئمة والعلماء لم يجاوزوا في نقدهم مبنية واستعاراته ومصادر الاستقاء منها.

وإذا علمنا أن الحقد والحسد رانا على تلك الأقلام فلم تعن بغير الخفض من شأن الرجل والتنقص من كرامته بدا لنا وجه التقصير في درس شاعرية المتنبي وفنه، ولعله هو الذي أثار بتعاظمه وكبريائه حسد الحاسدين ونقمة الناقمين وقفل بيده باب التاريخ لمن أتى في هذا العصر يتخبط من حقيقته في ليلٍ دامس. يجمع المتنبي في شعره المدح والرثاء والفخر والهجاء والحماسة والحكمة والوصف والغزل، وقد أفاض في كل هذه الأبواب إلا الغزل فقد كان نصيبه يسيرًا من شعره، وإذا وقعت على ما يشوقك من رائع غزله وخالب تشبيبه فذلك إنه عادة الشعراء في ذلك العصر، ولعل إقلال المتنبي من الغزل وأعراضه عنه له صلة بخلقه، فقد كان مأثورًا عنه الزهد بالنساء والتحرُّم في الخمر، وفي الأبيات التالية دليل بيّن على ذلك. قال:

وغير فؤادي للغواني رمية وغير بناني للزجاج ركاب
تركنا لأطراف القنا كل شهرة فليس لنا إلا بهنَّ لعاب
أعزُّ مكان في الدنى سرج سابح وخير جليس في الزمان كتاب


وفي أبيات سواها قال:

تروق بني الدنيا عجائبهاولي فؤاد ببيض الهند لاببيضها مغرى


ولكن غزل المتنبي على قلته قد ازدان بدقة المعنى ولطف المبنى وجمال التصور ورقة الحس، وامتاز ببعده عن مواطن التبذل فبدا كالروضة الناضرة لا تأنف أية خريدة من أن تستأنس بشدو طيرها، وتستروح بأنفاس زهرها وريحانها.
لم يتكلف المتنبي الغزل بل جاءه عفوًا وفاضت به نفسه فيضانًا. قال وهو فتى:

أبلى الهوى أسفًا يوم النوى بدني وفرق الهجر بين الجفن والوسن
روح تردد في مثل الخلال إذا أطارت الريح عنه الثوب لم يبن
كفى بجسمي نحولاً أنني رجل لولا مخاطبتي إياك لم ترني


ففي هذه الأبيات إغراقٌ في الخيال وإبداع في وصف النحول لم يسبقه إليه الشعراء الجاهليون والمخضرمون وعجز المولدون عن اللحاق به، وما صيغ على منواله إنما كان قبسًا من نوره، ووشلة من بحره.

ايوب صابر 09-02-2010 03:18 PM

الغموض في شعر المتنبي
هل كان المتنبي يتعمّده

أعجز المتنبيكثيرًا من البلغاء ببلاغته، وتفوق على جميع شعراء عصره، وفرض على الأيام خلود شعره، ولكن بالرغم من هذا الإعجاز الذي اشتهر به جاءت بعض أبياته غامضة مبهمة. فهل كان الشاعر يتعمد الغموض والإبهام؟ وما السر في هذا الشذوذ الذي يتخلل أبياته الخالدة؟ ذلك ما يدور حوله البحث بين الأستاذين عبدالرحمن البرقوقي، ونقولا الحداد. وقد ذهب كل منهما مذهبا في هذا الموضوع.
مجلة الهلال

ايوب صابر 09-02-2010 03:23 PM

استاذة نريمان الشريف

شكرا لمرورك ...لا شك ان هذه الدراسة ستكون من الاهمية بمكان...لانها ستؤسس في تقديري لاعادة دراسة سر العبقرية عند الكثيريين...

ايوب صابر 09-02-2010 03:35 PM

حياة المتنبي


حياة متعبة ممزوجة بالدم


بقلم الأستاذ شفيق جبري

لم يخلق المتنبي لهذه الطبقات من الناس الذين يرغبون في هدوء الحياة، ويفتشون عن راحة الفكر ونعمة البال، فالعيون الرقيقة التي تؤذيها حمرة الدماء، والآذان الناعمة التي يؤلمها صهيل الخيل وقعقعة اللجم وصرير العوالي، والقلوب اللينة التي تخشى مغالبة الأيام ومطاعنة الدهر، لا تأنس بشعر المتنبي، ولا تنعم بمطالعته. إن هذه الطبقة من الناس التي تحاول أن تعيش في عزلة عن كل مغامرة في الحياة تفر من شعر المتنبي وتستوحش منه، فإن بينه وبينها آفاقا مديدة، فقلوب أهلها لا تخفق خفقان قلبه. فإن شعره يضجرهم ويقلقهم.
قضى أبو الطيب حياته كلها في المغامرات والمنازعات فكانت هذه الحياة سلسلة شدائد. فالمتنبي لم يخلق للحياة الهادئة الذليلة وإنما خلق لحياة الدوي ولحياة العز. فالذين يريدون أن تكون عيشتهم سالمة من كل ضيم بعيدة عن كل ذل، فإنهم يأنسون بشعر المتنبي فلا يبالون بتعب الأجسام وسفك الدماء ولا يحفلون بإبر النحل دون الشهد- خلق المتنبي لهذه الطبقة من الناس الذين يهون عليهم رزء جسومهم في سلامة عقولهم وأعراضهم فلا يحتملون الأذى ولا يغبطون الذليل، يأخذون من هذه الدنيا ما يمكنهم أخذه زاهدين في كل زق وفي كل قينة، راغبين في الفتكة البكر وضرب أعناق الملوك. خلق المتنبي لهذه الطبقة في الأمم التي لا تكسب المجد إلا من تضارب السيوف ومن سنان الرماح. خلق لهذه الأمم التي تقاتل في سبيل العلى وفي سبيل السلم وتبني مملكتها على الأسل وتطلب حقوقها بالطعن والضرب لأن الدنيا لمن غلب.
هذه هي الحياة التي أعد لها المتنبي. إنها لحياة ممزوجة بالدم بعيدة عن الهدوء والسكينة مملوءة بالقلق والاضطراب كلها نزاع وكلها غلاب. إن الحياة التي يريدها أبو الطيب إنما هي حياة القوة: قاتل غالب، هذا هو الهدف الأعلى الذي يرمي إليه المتنبي.
ولكن هل عاش أبو الطيب هذه العيشة التي وصفها في شعره؟ هل قلق هذا القلق؟ هل اضطرب هذا الاضطراب في حياته؟ أو على تعبير أدق- هل كان بين حياة المتنبي الخاصة وبين شعره شيء من التناسب؟
لست أعلم حياة ملئت بالجهاد من أولها إلى آخرها مثل حياة المتنبي. كان في أول أمره في خشونة من عيشه ورقة من حاله يعوزه كل شيء- يعوزه الناعم من الملابس والكريم من المطايا، فقد توفى أبوه فقيرًا فضرب أبو الطيب في مناكب الشام التماسًا للرزق وجال في البوادي والحواضر، ولم يكن له من المطايا إلا النعل والخف ولا من اللباس إلا القطن الخشن. ومع هذا كله ما كان يخلو من حسد الحساد وشماتة الشامتين وكيد الكائدين.
وما زال على هذه الحال حتى اتصل بسيف الدولة فغرق في مكارمه الباهرات فكان سيف الدولة يعطيه كل سنة ثلاثة آلاف دينار ما عدا الخيل والجواري والخلع والجوائز والإقطاعات. ولكن نعمة مثل هذه النعمة لم تنج أبا الطيب من حسد الحساد وكيد الكائدين لأنه زاحم في حضرة سيف الدولة غيره من الشعراء على هذه النعم حتى مات بعضهم حسدًا. فلئن شكا أبو الطيب الحسد وهو في خشونة من العيش فأخلق به أن يضجر من الحسد وهو يتقلب في ظلال النعيم. فصعب حينئذ على المتنبي أن يواظب على باب سيف الدولة: الشعراء يحسدونه ويوقعون فيه ويضربونه، وسيف الدولة يهزأ به ويعبث، فإنه لم يصن عرض المتنبي ولا سلمت نعمته عليه من المنة والأذى.
ترك المتنبي سيف الدولة وانحدر إلى دمشقثم إلى الرملة واتصل بأميرها الحسن بن طغج فهدده جماعة علويون فما كاد يسلم من حاشية سيفالدولة حتى أثاره وعيد آخر فكأن بينه وبين المصائب صلة رحم.
غادر الرملة وقدم على كافورالإخشيدي فأمر له بمنزل ووكل به جماعة وأظهر التهمة له وطالبه بمدحه ثم وقعت الوحشة بينهما فوضع عليه العيون والأرصاد خوفًا من أن يهرب، وأحس المتنبي بالشر، ولم يخل أبو الطيب وهو في ظلال كافور من جماعة كانوا يغضبونه ويوغرون صدر كافور، فما أشبه ما كان يقع له وهو عند كافور بما كان يقع له وهو عند سيف الدولة من ابتغاء الغوائل به. فلم يلبث بعد هذا كله أن عجل الرحيل فضرب في البوادي متوجهًا نحو الكوفة.
وتنكر له عبيده في الطريق وفسدت نياتهم وأخذوا يسرقون الشيء بعد الشيء من رحله ولكنه نجا منهم إلى أن بلغ الكوفة. فتحركت نفس سيف الدولة فأنفذ إليه ابنه من حلبومعه هدية وطمع في رجوعه إلى ظله ولكن أبا الطيب اعتذر من العودة إلى سيف الدولة خوفًا من الوشاة.
ثم ترك الكوفةوسار إلى بغدادفثقلت وطأته في دار السلام على أهل الأدب ووقع بينه وبين أبي علي الحاتميما وقع، ولما نجا من شر أبي علي أصابه شر الوزير المهلبيوشر معز الدولة نفسه ونال شعراء بغداد من عرضه وتباروا في هجائه وأسمعوه ما يكره وتماجنوا به وتنادروا عليه.
فاتخذ الليل جملاً وفارق دار السلام قاصدًا إلى حضرة ابن العميد، فورد أرجان وأحمد مورده، ثم ترك ابن العميد وسار إلى أبي شجاع عضد الدولة. وكان الصاحب بن عباد طمع في زيارة للمتنبي إياه بأصبهان وإجرائه مجرى مقصوديه من رؤساء الزمان وكتب إليه يلاطفه في استدعائه وضمن له مشاطرته جميع ماله، فلم يقم المتنبي له وزنًا ولم يجبه عن كتابه ولا إلى مراده، فاتخذه الصاحب غرضًا يرشقه بسهام الوقيعة ويتتبع عليه سقطاته في شعره وهفواته وينعى عليه سيئاته.
لم يعرج أبو الطيب على حضرة الصاحب وإنما قصد عضد الدولة بشيراز فأنجحت سفرته وربحت تجارته بحضرته ووصل إليه من صلاته أكثر من مائتي ألف درهم. واستطاب المتنبي الإقامة ببابه ثم استأذنه في المسير عنه ليقضي حاجات نفسه ثم يعود فأذن له وأمر بأن تخلع الخلع الخاصة ويقاد إليه الحملان الخاص وتعاد صلته بالمال الكثير. ولكنه لما سار من حضرة عضد الدولة ومعه ابنه محسد وغلامه ومعه بغال موقرة بكل شيء من الذهب والفضة والطيب والتجملات النفيسة والكتب السمينة والآلات- تعرض له قوم من بني ضبة فقتلوه بعد أن قاتل قتالاً شديدًا.
هذه خاتمة حياة المتنبي .
ولكني لم ألخص هذه الحياة المتعبة إلا لأجعل صلة بينها وبين شعر المتنبي فإذا نظرنا في طائفة من شعر المتنبي تبين لنا أن بين حياته الخاصة وبين هذا الشعر كثيرًا من التناسب، فمعظم شعر المتنبي يكاد يكون صورة هذه الحياة التي ملئت بالتعب والقلق والاضطراب. لم تكن الحياة في نظر أبي الطيب حياة هدوء وراحة. فالذين يريدون أن يعيشوا هذه العيشة التي وصفها المتنبي ينبغي لهم أن يهيئوا أنفسهم لكثير من الجهاد. جاهد المتنبي في حياته فزاحم ونازع وطاعن فكانت هذه الحياة المملوءة بالجهاد والمزاحمة والمنازعة والمطاعنة ملء شعره، فهو لم يصف هذا النوع من العيشة إلا بعد أن جربه وقاسى أهواله ولقي منه ما لقي. فالحياة التي يريدها أبو الطيب إنما هي الحياة السالمة من كل راحة ومن كل ضيم، وإذا وازنا بين حياته الخاصة وبين فلسفته في الحياة وجدنا صلة وثيقة بين هذين النوعين. إنه لم يذق الراحة كل عمره. وإنه لم يتحمل الضيم في ظلال سيف الدولة ولا تحمله في ظلال كافور ولا تحمله في ظلال الوزير المهلبي، فالمتنبي يعرض لنا في شعره نمطًا من تعب الحياة وجهدها ثم يضرب لنا مثلاً لهذا النمط. أما هذا المثل فهو حياته الخاصة من مبادئها إلى خواتيمها. علام نخاف الموت فقد يقتل العاجز وهو آمن في سربه؟. والمتنبي لم يخف الموت حتى في الأيام التي تفتر فيها الأعصاب ويميل فيها الإنسان إلى الهدوء. فقد قاتل لما تعرض له بنو ضبة القتال الجديد فلم يجبن ولم يهرب.
ما أتعب حياة المتنبي!

إذا كنت ترضى أن تعيش بذلة فلا تستعدن الحسام اليمانيا



فما ينفع الأسد الحياء من الطوى ولا تتقى حتى تكون ضواريا

ايوب صابر 09-02-2010 03:40 PM

شخصية المتنبي في شعره


بقلم الأستاذ: عباس محمود العقاد


".. فهو حيث قلبت من حكمته أو فخره أو غزله أو رثائه،
هو هو المعتد بفضله، الفاشل في أمله، الساخط على زمنه.."
شخصية المتنبيالتي نعرفها في شعره هي شخصيته التي نعرفها من تاريخه وتاريخ عصره وقد كان عصره عصر مغامرات ودعاوي سياسية ودعاوي دينية وخصومات مذهبية وشكوك جاءت من التفكير والاطلاع، وشكوك جاءت من اللجاجة في المناقشة والحوار. وكان أناس من طلاب المناصب يرتقون في ذلك العصر كما ارتقوا في العصور التي قبله إلى مناصب الوزارة وليست لهم من شفاعة في الظاهر غير شفاعة الكتابة والأدب. فكان في العصر ما يغري الأديب المغامر بالتطلع إلى جاه الدنيا من طريق المغامرة، ومن طريق البراعة الأدبية.
وكان المتنبي رجلا لا يعوزه الاعتداد بالنفس ولا الطمع في الجاه ولا ملكة البلاغة والقدرة على المنظوم والمنثور مع شيء من الفروسية كما ثبت من مجمل تاريخه ومجمل كلامه. فالشعر الذي نقرأه في الديوان لا يستغرب من الشاعر الذي نظمه ولا من الرجل الذي علمنا بسيرته من أنباء الراوين عنه، و"شخصيته" ماثلة هنا وهناك على صورة واحدة جلية متفقة لا تعقيد فيها ولا تنافر بين القول والحقيقة.
وقد غلبت هذه الشخصية حتى لا تشابه بينها وبين شاعر آخر في باب من الأبواب ولو تشابه العنوان والموضوع.
فالمتنبي متشائم، والمعري متشائم، ولكن الفرق بين المذهبين في التشاؤم كالفرق بين شخص المتنبي وشخص المعري في المزاج والخليقة والمطلب، وهو دليل على صدق الشخصية الشعرية عند كل من الشاعرين الكبيرين.
فالمعري متشائم لأنه حكيم يتدبر أحوال الخلق ويرثي لما هم فيه من الجهالة والشقاء لغير مأرب يريده إلا التأمل والحكمة.
والمتنبي متشائم لأنه صاحب رجاء خاب في الناس على غير انتظار، ولو لم يخب هذا الرجاء لما كان من المتشائمين.
والمعري ينظر إلى الناس في جميع الأزمان والأجيال لأنه يطلب المعرفة والعلم بالنفس الإنسانية. المتنبي ينظر إلى الناس في عصره ولا يعمم الحكم على الناس جميعًا إلا لما أصابه من زمانه وأهل زمانه، وذلك هو الفرق بين من يدرس الإنسان لتحقيق بحث ومن يدرس الإنسان لتحقيق أمل، أو ذلك هو الفرق بين الحكيمين المتشائمين والمذهبين المتباعدين جد التباعد على تقارب الكلمات والأسماء.
ولهذا يقول المعري:

كم وعظ الواعظون منا وقام في الأرض أنبياء
وانصرفوا والبلاء باق ولم يزل داؤك العياء
حكم جرى للمليك فينا ونحن "في الأصل" أغبياء


أي نحن "بني الإنسان" أجمعين، وهو منهم، كما صرح في موضع آخر حيث قال:

كلاب تغاوت أو تعاوت لجيفة وأحسبني أصبحت ألأمها كلبا


أو قال:

بني الدهر مهلا إن ذممت فعالكم فإني بنفسي لا محالة أبدأ


أما المتنبي فمعظم تشاؤمه - بل تشاؤمه كله في جوهره - من قبيل قوله:

أود من الأيام ما لا توده وأشكو إليها بيننا وهي جنده


أو من قبيل قوله:

أريد من زمني "ذا" أن يبلغني ما ليس يبلغه من نفسه الزمن


أو قوله:

وإنما نحن في جيل سواسية شر على الحر من سقم على بدن
حولي بكل مكان منهم خلق تخطي إذا جئت في استفهامها بمن
لا أقتري بلدًا على غرر ولا أمر بخلق غير مضطغن
ولا أعاشر من أملاكهم ملكا إلا أحق بضرب الرأس من وثن
إني لأعذرهم ممَّا أعنفهم حتى أعنف نفسي فيهم، وأني


أو قوله:

وقت يضيع وعمر ليت مدته في غير أمته من سالف الأمم
أتى الزمان بنوه في شبيبته فسرهم وأتيناه على الهرم


أو قوله:

وبالناس روى رمحه غيرراحم ومن عرف "الأيام" معرفتي بها


فهو يتشاءم لعلة عارضة وهي أن زمانه وأهل زمانه لا ينيلونه ما ينشده من الجاه. ومن هنا كان الذنب عنده ذنب جيله ولا شأن له فيه. أما المعري فكان أصيلا في تشاؤمه لا يعيب أبناء جيله خاصة إلا لأنهم جزء من الناس أجمعين منذ كان آدم إلى أبد الآبدين. ولعل المتنبي لو نظر إلى الإنسان هذه النظرة لخرج من التشاؤم إلى التفاؤل، لأن رجاءه أن ينال على أيديهم ما ناله أمثاله ومن هم دونه في اعتقاده، دليل على أنه يرى الشأن فيهم أن يعدلوا ويعترفوا بالفضل ويعطوا ذا الحق حقه، ولو كان متشائمًا بطبعه لما عجب لفساد طباعهم وحاجة المرء بينهم إلى الدس والخداع والحيلة وإرضاء اللبانات والشهوات، وما من رجل يعتقد أنه صاحب حق ويعجب لفواته إلا وهو أقرب إلى التفاؤل منه إلى التشاؤم.

***

وهذه الشخصية ظاهرة في شعر المتنبي كله ظهورها في حكمته وتشاؤمه، ونعني بها شخصية الطامع المغامر المعتد بنفسه: فهو يتغزل كما يفخر ويصف كما يشكو أو يتهكم، وأعجب من هذا أنه يمدح أبطاله على هذا النحو، فيقول وهو في معرض العتاب والاسترضاء لسيف الدولة:

سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا بأنني خير من تسعى به قدم
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم


إلى أن يقول:

الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم

أسامة المهدي 09-02-2010 06:29 PM

اقتباس:


العقاد:
فالمعري متشائم لأنه حكيم يتدبر أحوال الخلق ويرثي لما هم فيه من الجهالة والشقاء لغير مأرب يريده إلا التأمل والحكمة.
والمتنبي متشائم لأنه صاحب رجاء خاب في الناس على غير انتظار، ولو لم يخب هذا الرجاء لما كان من المتشائمين

عرض واف ومشوق

في اهتمام نتايع الجهد الرائع


ايوب صابر 09-02-2010 10:06 PM

اهلا بمرورك الكريم استاذ اسامة

سيكون من الجميل ان تدرج لنا رابط كتاب طه حسين عن المتنبي ان كنت ما تزل تحتفظ به.

ساره الودعاني 09-03-2010 02:54 AM



بارك الله فيك أستاذ أيوب صابر

شاعر عظيم ثقته بنفسه سيدته على الشعراء

ولقد قرأت هذا الكتاب للدكتور عائض القرني

وهو من محبي هذا الشاعر
http://img104.herosh.com/2010/09/02/840302935.jpg

ايوب صابر 09-03-2010 01:41 PM

شكرا لك الاخت ساره الودعاني على مرورك الكريم ..

ربما ان ثقته هي التي جعلته امبراطورا ...لكن يظل السؤال ومن اين جاءت تلك الثقة بالنفس التي سيدته على غيره من الشعراء؟ ولماذا لا يحصل عليها غيره فيبقى ويخلد كما خلد المتنبي؟

لقد جربت الرابط المدرج عن كتاب الشيخ ولم يعمل.. ان كان متوفر لديك فالرجاء اعادة ادراجه. يهمنا لغرض هذا البحث ما يقول الشيخ عن سر خلود المتنبي ان كان قد تطرق له.

شكرا

ايوب صابر 09-03-2010 01:43 PM

هل كان المتنبي متدينًا


ضعف العاطفة الدينية عند أبي الطيب

بقلم الأستاذ: علي أدهم
أبوالطيب المتنبي أقوى شعراء العربية نبضات قلب، وأبعدهم منزع فكر، أعمقهم حكمة ومن أصدقهم إفصاحًا عن خفايا النفس، وأعرفهم بأسرارها. فلا عجب إن كان بعد ذلك أبعدهم شهرة وأخلدهم أثرًا.

ولست أعرف شاعرًا من شعراء العرب حظي من إعجاب الخاصة والعامة بمثل ما حظي به المتنبي. وبرغم الزمن الطويل الذي مر على وفاته، وتغيرالأحوال وتبدل المعايير الأدبية، وتباين أساليب الفهم واختلاف الذوق فإن شهرته لم تخمد ولا يزال اسمه سائرًا على الألسنة وشعره مضرب الأمثال ومستودعًا من مستودعات الحكمة.
والمتنبي أنموذج صالح لتمثيل خصائص الشعر العربي. ولا نزاع في أن شاعرًاواحدًا بالغًا ما بلغ من القدرة والافتنان لا يكفي لتمثيل عبقرية شعب في ظلالها المختلفة وشياتها المتلونة. وقد لا يكفي انقطاع شاعر ممتاز لتمثيل جانب اللهووالمجون أو جانب الزهد والورع أو جانب القوة والأمل أو جانب اليأس والألم. وأرجح أنالمتنبي أقرب شعراء العربية إلى التمثيل العام لعبقرية الشعر العربي. ولذلك انعقدعليه الإجماع وعمرت بذكره المجالس وحفلت بأخباره السير وبقي شعره على الزمن.
والمتنبي لا يستثير إعجابنا ولا يهفو بألبابنا من ناحية إثارة الخيال واستفزاز العاطفة وحدها وإنما لأنه يقدم لنا مادة ثمينة للتفكير والتأمل ويعرض علينا نظرات في الحياة صائبة وخواطر عن الإنسان جديرة بالنظر والاعتبار. وواضح أن أسلوب المتنبي الذي يغلب عليه تحري الضخامة والقوة لا يصلح للتعبير عن المشاعرالرقيقة وهمسات الروح الداخلية وضروب الجمال الخفي وألوانه الصامتة ونغماته الخافتة. ولكنه يطيل التفكير في الحياة ويستخلص الحكمة من التجارب ويعطيك في شعره عصارة صالحة ليس فيها حلاوة ولا نداوة وليس لها موسيقية صافية النغم عذبة الرنين،فكل كلمة عليها طابع القوة وسمة العنف. وهو لا يداني البحتري في جمال فنه ولطافة تصوره ولا يبز أبا تمام في أستاذية الصياغة وفحولة الصنعة ولا يتدفق تدفق المعري، ولا يثب وثبات الشريف. ولكن عقله المكين كالثغر الكبير المتسع تحمل إليه السفائن حمولات الأفكار من شتى النواحي وهو يستطيع أن يهضمها ويطبعها بطابعه.
وعندما قال الناقد الإنجليزي المشهور "ماتيو أرنولد": "إن الشعر هو نقد الحياة وأحسن الشعر هوالذي يقدم لنا أكمل تفسير للحياة الإنسانية" أثار عليه ذلك زوبعة من النقد. ولكنيأرى أن الشعر لكي يكون من الطراز الأسمى، لا يكفي أن يرفه عن النفس أو أن يكون حافلا بالموسيقية مترعًا بالأخيلة، بل يلزم أن يعيننا على تفسير بعض مشكلاتنا الإنسانية ومسائلنا الأخلاقية: ولست أقصد بالأخلاق هنا المعنى الضيق المحدود، وإنما أقصد بها قوة الشعر على أن يرتفع بنا فوق سفاسف الحياة وصغائرها، ويمتاز في هذه الصفة المتنبي وأبو العلاء فهما ملكان يسيطر كل منهما على عالم شاسع من عوالم الروح، وكلاهما منفرد حزين في النهاية ولكن الأول محارب مطبوع على المناجزة

تعود أن يغبر في السرايا ويدخل من قتام في قتام

أما الثاني فيائس مستسلم. والمتنبي أقرب إلى مزاج الرجل السليم. ونظرته في الحياة أساسها الخبرة، بريئة من ثرثرة العلماء المكبين على كتبهم، ومنزهة عن أوهام رجال الفكر البعيدين عن ميادين العمل. وحياته أشبه برواية لها مواقفها المشهورة. وقد تكفل ديوانه بوصف أحوالها المتقلبة، وأطوارها المتتابعة، من نشأته الغامضة، وما منى به من الفشل الحاطم في مستهل أمره، ثم اتصاله بسيف الدولة وانصرافه عنه إلىمصر، وقفوله منها مغاضبا لكافور، إلى مصرعه الأخير.
ولكن هناك جانبًا هاما من جوانب الحياة العربية أهمل المتنبي التعبير عنه والإلمام به. ولم يكن له فيه موهبة تذكر وهو الجانب الديني في الحياة العربية. ولو فني الشعر العربي أجمعه ولم يبق سوى ديوان المتنبي لما استطعنا أن نعلم منها شيئًا يؤبه له عن العاطفة الدينية عندالعرب. ولا نكران في أن أكثر شعراء العرب لم يعنوا بإثبات خواطرهم الدينية إلا في الندرة والفرط، ووقفوا من الدين موقفا محايدًا. ولكن الذي يسترعي النظر في شعرالمتنبي، أن فيه إشارات كثيرة تختلف وضوحًا وخفاء تنم على وهن العقيدة وضعف الإيمان وغلبة الآداب الجاهلية في نفسه على الآداب الإسلامية. وقد لمح ذلك القدماء من النقاد فأشار إليه الجرجاني في الوساطة والثعالبي في اليتيمة وتناوله من الكتاب المحدثين الأستاذ العقاد والأستاذ شفيق جبري والأستاذ محمد كمال حلمي. ومن عجيب الاتفاق أن هذه الصفة يشترك فيها المتنبي مع شكسبير.. وقد كانت العاطفة الدينية عند المتنبي ضعيفة في جميع أدوار حياته. ففي ريق شبابه واكتمال قوته قال:

أي محل أرتقي أي عظيم أتقي
وكل ما قد خلق اللـ ـه وما لم يخلق
محتقر في همتي كشعرة في مفرقي

وفي هذه الأبيات يمتزج الطموح المتطرف وفرط الثقة بالنفس باحتقار الخليقة بأسرها وهي تروى عن شعور رجل أجال بصره فلم ير شيئًا جدير بإجلاله خليقًا بآماله وطمحات نفسه وفي مدحه لبدربن عمار يقول:

تتقاصر الأفهام عن إدراكه مثل الذي الأفلاك فيه والدنى

وهو هنا يرتفع بممدوحه إلى مرتبة الألوهية ولو كان لها مكانة من نفسه لما هبط بها هذا الهبوط ويقول فيه أيضًا:

لو كان علمك بالإله مقسما في الناس ما بعث الإله رسولا

لو كان لفظك فيهم ما أنزلالـ فرقان والتوراة والإنجيلا

ايوب صابر 09-03-2010 02:03 PM

فلسفة أبي الطيّب
هل كانَ المتنبّي فيلسُوفًا


بقلم الأستاذ أحمد أمين

يخطئ من يظن أن لأبي الطيب فلسفة تشمل العالم، وتحل مشاكل الكون، فتلك بالفيلسوف أشبه، وربما قارب هذه المنزلة أبو العلاء لا أبو الطيب، فلئن كان أبو العلاء فيلسوفًا يتشاعر فإن أبا الطيب شاعر يتفلسف، إنما لأبي الطيب خطرات في الحياة منهنا ومن هنا لا يجمعها جامعة إلا نفس أبي الطيب والمحيط الذي يسبح فيه ويتشرب منه.
كذلك يخطئ من ظن أن أبا الطيب عمد إلى ما أثر من الحكم عن أفلاطون وأرسطو وأبيقوروأمثالهم من فلاسفة اليونان، فأخذها ونظمها، ولم يكن له في ذلك إلا أن حولالنثر شعرًا، كما رأى ذلك من تتبعوا سرقات المتنبي وأفرطوا في اتهامه، فأخذوا يبحثون في كل حكمة نطق بها ويردونها إلى قائلها من هؤلاء الفلاسفة. فلسنا نرى هذا الرأي، فإن كان قد وصل إلى أبي الطيب قليل من حكم اليونان ونظمها فإن أكثر حكمه منبعها نفسه وتجاربه وإلهامه لا الفلسفة اليونانية وحكمها، ذلك لأن الحكم ليستوقفًا على الفلاسفة ولا على من تبحروا في العلوم والمعارف، إنما هي قدر مشاع بين الناس يستطيعها العامة كما يستطيعها الخاصة، ونحن نرى فيما بيننا أن بعض العامة ومن لم يأخذوا بحظ من علم قد يستطيعون من ضرب الأمثال والنطق بالحكم الصائبة ما لايستطيعه الفيلسوف والعالم المتبحر وهذا الذي بين أيدينا من أمثال إنما هو من نتاج عامة الشعب أكثر مما هو من نتاج الفلاسفة. وكلنا رأى بعض عجائز النساء ممن لم تقرأ في كتاب أو تخط بيمينها حرفًا تنطق بالحكمة تلو الحكمة، فيقف أمامها الفيلسوف حائرًا دهشًا يعجز عن مثلها ويحار في تفسيرها، ومرجع ذلك إلى ينبوعين وهما التجربة والإلهام، فإذا اجتمعا في امرئ تفجرت منه الحكمة ولو لم يتعلم ويتفلسف، فكيف إذا اجتمعا لامرئ كأبي الطيب ملئ قلبه شعورًا وملئت حياته تجارب وكان أمير البيان وملك الفصاحة؟ فنحن إذا التمسنا له مثالاً في حكمه فلسنا نجده في أفلاطونوأرسطو وأبيقور، وإنما نجده في زهيربن أبي سلمى، وقد نطق في الجاهلية بالحكم الرائعة مما دلته عليه تجاربه وأوحى إليها إلهامه، كما نجده في شعر أبي العتاهية وقد ملأ عالمه حكما وأمثالا خالدة على الدهر. وكل ما بين أبي الطيب وهؤلاء الحكماء من فروق يرجع إلى أشياء: المحيط الذي يحيط بكل شاعر، وقدرة نفس الشاعر على تشرب محيطه، والقدرة البيانية على أداء مشاعره.
لقد ألم زهير من الحرب ورأى ويلاتها فشعر فيها ونطق بالحكم الرائعة يصف شرورها ومصائبها، وفشل أبو العتاهية في الحياة فزهدوملك الزهد عليه نفسه فملأ به ديوانه، وكان لأبي الطيب موقف غير هذين فاختلفت حكمه عنهما وإن نبعت من منبعهما، كما سنبينه.
ودليلنا على ذلك أن أبا الطيب - فيما نعلم - لم يثقف ثقافة فلسفية إنما تثقف ثقافة عربية خالصة، قرأ بعض دواوين الشعراء ولقى كثيرًا من علماء الأدب واللغة كالزجاج وابن السراج والأخفش وابن دريد، وكل هؤلاء لا شأن له بالفلسفة ومناحيها.
وما لنا ولهذا كله، فإننا لو رجعنا إلى حكمه لوجدناها منطبقة تمام الانطباق على محيطه ونفسه ليس فيها أثر من تقليد ولاشية من تصنع، فهو ينظم ما يجول في نفسه وما دلته عليه تجاربه لا ما نقل إليه من حكم غيره إلا في القليل النادر.
ونحن إذا أردنا أن نجعل نفسه ومحيطه قلنا: إنه بدأ حياته حياة فتوة وفروسية، تعرفه الخيل والليل والبيداء، ويحب الحرب والنزال، ويشتهي الطعن والقتال. قيل له وهو في المكتب ما أحسن وفرتك؟ فقال:
لا تحسن الوفرة حتى ترى منشورة الضفرين يوم القتال
على فتى معتقل صعدة يعلها من كل وافي السبال
كما نشأ طموحًا إلى أقصى حد في الطموح، يعتد بنفسه كل الاعتداد، ولا يرى له فيالوجود ندًا ولا مثيلاً. قال في صباه:
أمط عنك تشبيهي بما وكأنه فما أحد فوقي ولا أحد مثلي
قومه من خير العرب بيتًا ومع هذا يجب أن يعتز قومه به لا أن يعتز هو بقومهوبيته:
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي وبنفسي فخرت لا بجدودي
وبهم فخر كل من نطق الضا د وعوذ الجاني وغوث الطريد
إلى جانب هذا الاعتزاز بالنفس استصغار للناس ونفوسهم وشئونهم:
ودهر ناسه ناس صغار وإن كانت لهم جثث ضخام
وما أنا منهم بالعيش فيهم ولكن معدن الذهب الرغام

ايوب صابر 09-03-2010 02:13 PM

أبُو الطيّب المتنبّي كان عبقريًّا، ولكن...

بقلم الأستاذ: خليل مطران

"لا جرم أن أبا الطيب قال الشعر كأحسن ما قالته العرب إلى زمنه وبز بطائفة من أبياته وقصائده كل قائل من قبل ومن بعد، غير أن من وهب تلك العبقرية كان جديرًا بأن يحدث في الشعر العربي حدثًا غير ما قصر همه عليه..."
عني العالم العربي بذكرى المتنبي لانقضاء ألف عام على وفاته واستنفد كتاب الضاد صيغ المدح لذلك الشاعرالعظيم وأبدوا في سيرته وأخلاقه آراء لم يختلف بعضها عن بعض كبير اختلاف دلت بجملتها على عبقريته كما نبهت على مواطن القوة والضعف في آدابه وطباعه.
ولما طلبإ لي أن أكتب كلمة بين الكلمات التي ستنشر لأصدقائي من أساطين البيان في هذا العدد من الهلال، وكان وقتي على أسف مني لا يتسع لاستئناف المطالعة والمضي في المراجعة لأخدم الغرض المروم حق خدمته، رأيت أن أجتزيء بإيراد محصل ثبت في ذهني من مدارستي القديمة لشعر أبي الطيب ولما وقفت عليه في كتب شتى من أخباره.
فأنا أخط هذه السطور وأبو الطيب متمثل في ذهني بناحية منه سما بها إلى أعلى الذرى. وأخرى تدلى لها إلى قرارة بعيدة الغور:
أما الناحية التي رفعته فهي عبقريته- وأما التي خفضته فهي طمعه. صراع شديد قام في نفسه من بدء أمره بين الهدى والهوى. أحس بأنه وهب ما لم يوهبه غيره من وفرة العقل والقدرة على البيان، فكان أول ما سلكه في طلب العلياء ادعاؤه النبوة. غير أنه لم يعتم أن تبين من أية قمة شاهقة أشرف على هوة سحيقة مردية. فتاب عندما استتيب وعاد متضعًا لا متواضعًا إلى الطريق المعبد الذي طرقه الشعراء منذ جعلوا القريض وسيلة ارتزاق، فنظم المديح للذين استندى جوانبهم منذوي الجاه العريض.
وفي قصائده الأول خليط عجيب تتبين فيه المشاكسة العنيفة بين الطبع والتطبع، فآنًا يحاكي المبرزين من شعراء عصره فتضعف إجادته وتعتاص أساليبه وترتبك صوره، وآنًا يرجع إلى وحي فطرته ويسعده استحكام ملكته فيأتي بالسوانح المبتكرات في حبر لا تلبس أحسن منها الغواني الخفرات.
على أن هذه الفرائد الغوالي وإن لم يدانها ما جاورت من الجمان في قلائدها هي التي أعلت قدره وأشاعت ذكره ومهدت له السبيل حتى بلغ سيف الدولة بحلب.
ولدى هذا الملك الشجاع الأديب أراد المتنبي أن يمنح تكرمة لم يمنحها الشعراء قبله فأذن في الإنشاد جالسًا بتلك الحضرة. ثم كان له من بسط العيش ما اشتهى وكان لهمن مصاحبة سيف الدولة في بعض غزواته ما توخى أن يثبت به لنفسه أن هرب سيف وقلم.
وفي الحق أنه كان شجاعًا وفي الحق أن قصائده في سيف الدولةجاءت مصداقًا لظنه بتفرده بين الشعراء وتفوقه عليهم، ولكنه في هذه الحالة تجددت إلى اتخاذ مكان حسي لا معنوي إن لم يعل به الملوك علا به سائرالخلق. ولعل بوادر بدرت من هذه النزعة هي التي جنحت بسيف الدولةإلى الانقباض عنه آنًا واستفزته لتحريش بعض اللغويين أو بعض الشعراء على مناقشته أومنافسته آنًا آخر، فتأتي من تلك النزعات الظاهرة والخفية الجفاء الذي أفضى بالمتنبي إلى مفارقة ولي نعمته وإجابة كافورالأخشيدي إلى دعوته.
ولقد تأملت طويلا في التماس السبب الذي يحمل رجلاً مثله على التخلي عن نعيم وجد فيه لالتماس حالة جديدة ملتبسة يتوخاها، فلم أقتنع أن النزعات المشار إليها آنفًا وما مست به كبرياءه قد أثارت فيه الحمق والغضب والعزم على تلك الهجرة. إذ أن المواقف الأولى التي وقفها من ممدوحيه بعد سقوط ما ادعاه من النبوة لم تكن كلها مما يوفر فيها العرض ويسلم الشرف الرفيع من أذى الذلة والضعة، وإنما كان السبب فيما اعتقدت أنه رأى مطمعه لدى سيف الدولة قد حد بحد لا سبيل إلى مجاوزته وأن إلحاح الإخشيدي في استزارته قد حرك فيه أقوى عوامل نفسه وهو الطمع. فخيل إليه أن في مصر الواسعة، وعلى رأسها خصي قزم غاصب للملك، ولاية يستطيع أن يتصيدها. ومن يدريبعد بلوغه الولاية وتمكنه فيها ما تهيئه له الأقدار من غصب الغاصب على حدقوله:

وتضريب أعناق الملوك وإنترى لك الهبوات السود والعسكرالمجر


على أن تركه لسيف الدولة وانتقاله من يقين إلى ريب وتبدله منرخاء وجاه بآمال تحقيقها في يد الغيب - كل أولئك لم يكن بهين عليه. وفي ذلك يقول وكأنه يستدرج سيف الدولة إلى إرضائه واستبقائه:

يا من يعز علينا أننفارقهم وجداننا كل شيء بعدكم عدم

ثم يدلف بذلك الاستدراج إلى الإغراء فيقول في ختام تلك القصيدة التي هي من لباب الشعر وخلاصته الصافية:

إذا ترحلت عن قوم وقدقدروا ألا تفارقهم فالراحلون هم


عرف المتنبي قدر ما يفارقه ولكن مطعمه غلب عليه ففارق...

ايوب صابر 09-03-2010 02:28 PM

المتنبّي
بين محاسنه ومباذله

بقلم الأمير شكيب أرسلان

المتنبي أحمد بن الحسين الكندي الجعفي من كبار فحول الكلام الذين لم تنجب الإنسانية أمثالهم في آلاف من السنين. ولو أن المتنبي ترجم ديوانه إلى اللغات الأوروبية بأقلام فصحاء ينتقون اللغتين المترجم منها والمترجم إليها، لعرف الأوروبيون من فصاحة العرب وتحليقهم في سماء الأدب ما هو فوق تصورهم الحالي. هذا برغم ما يكون بين الترجمة والأصل من الفرق العظيم الذي لا تفيد براعة الترجمة شيئًا في تلافيه. فالمتنبي لسان إبداع الأولين ولسان إبداع في الآخرين، وهو شاعر سرمدي لا يختص بعصر ولا بمصر، فأين كانت الإنسانية وأنى كانت، فالمتنبي مثلها الأعلى في الفصاحة والبلاغة. وكل عبقري في العالم قد يعطيه الناس زيادة على حقه، إما لإفراطفي الإعجاب، وإما لأجل التأثير في السامع، فإن الكتاب قد يحسبون حساب المسافة الفاصلة بين الحقيقة في حد ذاتها وبين أفهام السامعين أو القراء، فيتعمدون زيادة القوة الموصلة للحقائق حتى تصل سالمة ولا ينقص منها شيء في الطريق، وأما المتنبي فمهما قيل فيه فإنه قمن، وذلك لأنه ليس هناك شاعر مثله اتسع في فتوحات الكلام، وتساوى في فهم شعره الخاص والعام.
ومما لا مشاقة فيه هو أن أبا تمام الطائي أجزل شعرًا وأمتن لغة وأعلى نفسًا، وأن أبا عبادةالبحتري أطلى نظمًا وأرق نسجًا وأعذب لغة، فليس عند المتنبي قوة أبي تمام في الجزالة ولا ملكة البحتري في السلامة، ولكنه يعلو على الاثنين علوًا كبيرًا في الأمثال والحكم وجوامع الكلم، فإنه لا يوجد معنى تبحث النفس عنه لتجد له قالبا لائقا إلا وجد الإنسان عليه بيتًا من شعر المتنبي. ففي هذا لا يباريه مبار ولايصطلى له بنار ولا تأتي بمثله الأعصار، لا في شعراء العرب ولا في غيرهم. وقد نشرالحاتم يرسالة قابل فيها بين معاني المتنبي المنظومة شعرًا وبين أقوال أرستطاليس، فوجد طائفة متشابهة قال إنها إن كانت من قبيل توارد الخواطر، فذلك مقام كبير لأبي الطيب وهو أن يتفطن لما فطن له شيخ الفلاسفة، وإن كان المتنبي اطلع على أقوال أرسطو ونظمها شعرًا فهو أيضًا فضل عظيم.
ومن قرأ شعر المتنبي من أوله إلى آخره اقتنع بأنه لم يكن يرجع في اختراعاته غير المسبوقة وابتكاراته الناشئة عن محض السليقة إلى أرسطو ولا إلى غيره، وإنما كانت أبياته المشابهة لأقوال أبي الفلاسفة من قبيل توارد الخواطر وتوافق الضمائر. وكم يقع هذا بين العلماء الكبارولا سيما بين العبقريين الذين يتراءى للواحد منهم ما يتراءى للآخر، كأن العبقرية شركة عنان وكأن النبوغ حصة شائعة كما يملكه الواحد الاثنان. وبالاختصار فلا يكاد يمر بالإنسان يوم إلا ويخطر بباله معنى من مناحي الحياة المتعددة يفكر في إيراده فيبيت منظوم، إذا وجد من ذلك واحدًا عند الشعراء كلهم وجد بإزائه خمسة عند المتنبي وحده. فهو ملجأ المتمثلين ومفزع المتأثرين. وكأن المستشهد بشعر المتنبي إذا شكا أوبكى أو حن أو طرب أو هاج أو غضب أو تحرك أو ركب أو أحب أو شرب، وجد في شعر المتنبي الغاية التي يشتفي بها أواره، ويقر عنده قراره. فإذا قيل: إن المتنبي رفيق كل مفكروكهف كل متعمق وشيخ كل واعظ وحلية كل لافظ وعمدة كل خطيب وخزانة كل جوال في المواضيع، وإذا قيل: إن العقل السليم والمنطق السديد لم يألفا في أدمغة أهل الأرض قاطبة ممن أوتي الحكمة شعرًا والبيان سحرًا مثل دماغ أبي الطيب المتنبي، فلا يكون هذا القول مفرطًا، ولا يكون صاحبه مسرفًا.
وقد أجاد المتنبي ككل شاعر كبير في مختلف الموضوعات، فليس باب من أبواب القول إلا وقد جاء فيه بالمعجز. غير أنه ربماباراه سائر الشعراء في كثير من الفنون. وقد فاقه أبو تمام في الرثاء وربما في المديح، وعلا عليه أبوالعتاهية في الزهد وأبونواس في المجون والحاجزي في الغزل والبهاء زهيرفي الرقة وابن سهل الإشبيلي في دماثة العشق، ولكن الحكمة هي المملكة التي أبت أن تعطي لغير أبي الطيب قيادها، فجميع الشعراء هناك سائرون تحت لوائه يقال لكل واحد منهم: أطرق كرى. ويقال ذلك بحق

ايوب صابر 09-03-2010 02:30 PM

جنون العظمة في المتنبي
مَــرَض نفسِـي- فضيلة خلقـيّة

كان المتنبي ذا كبرياء وترفع، وكانت له دالة على الملوك والأمراء إلى حد لم يكن لغيره حتى نسب إلى الجنون". هكذا يقول المؤرخون. وقد جعل الأستاذان عبد الرحمن صدقي، وطاهر أحمد الطناحي هذه الناحية في المتنبي موضوع مناظرتهما، فرأى الأول أن جنون العظمة عند المتنبي مرض نفسي، وأن مبعث ذلك الصلف والخيلاء. ورأى الثاني أن هذه الصفة فضيلة خلقية وأنها لم تكن صادرة عن صلف وغطرسة، بل عن اعتداد بقيمة الفن، واحتفاظ بالكرامة

ايوب صابر 09-03-2010 02:36 PM

مرض نفسي

بقلم الأستاذ عبد الرحمن صدقي

قال هيني شاعر الألمان بأسلوبه اللاذع الصادق في إحدى رسائله: الإنسان أزهى الحيوان كافة، والشاعر أزهى بني الإنسان فإذا أضفنا إلى ذلك اعتقاد العربي بأن أمته خير أمة أُخرجت للناس عامة فكل من عداها أعاجم، وأن قبيلته من بين القبائل أكرمها خاصة، حتى بلغ من العصبية أن صارت الأنساب علمًا له المقام الأول بين العلوم، وإذا أضفنا من الناحية الأخرى اعتقاده بفضل اللغة العربية على سائر اللغات، وأن أبناءها هم دون سواهم المطبوعون بالفطرة على الشعر، فقد اجتمعت لنا من هذا جميعه صورة صحيحة، أو هي أقرب ما يكون إلى الصحة، عن جنون العظمة عند شاعر العربية الأكبر أبي الطيب المشهور بالمتنبي. كان أبو الطيب من أصل وضيع خامل، وأبوه الحسين يعرف بعبدان السقا. وكان فيما يقال سقاء بالكوفة يستقي على جمله لأهل محلة بها اسمها كندة. والمأثور عن أبي الطيب حرصه على تكتم نسبه، وقد سئل في ذلك فقال يلتمس وجه الحجة: (إني أنزل دائمًا على قبائل العرب وأحب ألا يعرفوني خيفة أن يكون لهم في قومي ترة).
ولكنه مع هذا الذي رأينا من خمول نسبه، ما برح منذ الحداثة شامخًا، مصعرًا خده، ينفخ شدقيه بالمفاخرة والتعاظم فلا يقف عند نفسه بل يتجاوزها إلى ذكر جدوده:

لا بقومي شرفت، بل شرفوابي وبنفسي فخرت، لا بجدودي

وبهم فخر كل من نطق الضــ ـاد، وعوذ الجاني وغوثالطريد


وفي قصيدة أخرى على لسان أحد التنوخيين، ينفي الكرم عن غير اليمانية وهم الأرومة العاربة التي إليها تنتمي في القدم سلالات بينها شعبة شاعرنا الجعفي:

ومجدي يدل بني خندف على أن كل كريم يمان


ولولا شعور المتنبي بتواضع نسب أبويه لما قنع بالإشارة إلى عشيرته مرات قلائل، وعلى هذه الصفة من الإيجاز والتعميم، ولما انفك يقرع الأسماع ويجلجل الآفاق بذكر آبائه والإشادة بضخامة حسبهم في كل قصيدة، بمناسبة وغير مناسبة، ذهابًا مع ما درج عليه العرب من الفخر بالأنساب، وما انطبع هو عليه من غلواء الكبر والتعالي على الخلق. وليس أدل على هذه الغضاضة المكتومة من طريقته في تركيزه العظمة في نفسه، ثم استدراكه إلى ذكر قومه أنفة من الاستخذاء وخيفة أن يؤخذ سكوته عنهم تسليمًا بخفاء شأنهم وحطة قدرهم. وقد تقدم للقارئ في البيتين السابقين مثال على طريقة الشاعر في التركيز والاستدراك، ونزيد عليهما بيتين من قصيدته الشجية في رثاء جدته:

ولو لم تكوني بنت أكرموالد لكان أباك الضخم كونك ليأما
وإني لمن قوم كأن نفوسنا بها أنف أن تسكن اللحموالعظما

وطبيعي أن يكون لهذا التحرز عند ذكر الحسب ردة فعل في ضمير صاحبنا، وانتقاض بقدرما يعانيه من كان في مثل كبره من الحزازة والكبت. فإنه ليعتاض مما فاته من تفاخر بحسبه ونسبه، بالذهاب إلى الشأو الأبعد في الاعتزاز بنفسه، والمغالاة بقدره، والاستطالة على من واه. وليست تعوزنا الشهادة على ذلك في ديوانه وفي سيرة حياته، بلإن ذاك وتلك لا يشهدان على شيء إن خفيت دلالتهما على جنون العظمة عنده. فاستمع إليه يصف مقامه في الناس وإرباءه على الأكفاء وتميزه عن النظراء بما يجعله صنو الأنبياء:

ما مقامي بأرض نخلة إلا كمقام (المسيح) بين اليهود

أنا في أمة تداركها الله غريب "كصالح" في ثمود

وفي قوله هاجيًا:

يا لك الويل، ليس يعجز (موسى) رجل حشو جلده فرعـون

وهو يعلم من نفسه خيلاءها وعجبها فلا يصطنع المداجاة، ولا يحتال باعتذار، ويأبىله صدق إيمانه بنفسه وعمق يقينه إلا أن يصدع بقول لا جمجمة فيه بأن الكبرياء حقه لامنازع له فيه:

إن أكن معجبًا فعجب عجيب لم يجد فوق نفسه من مزيد
وهذا الإحساس المفخم تتردد أصداؤه في كل قصيدة حتى ولو كان في موقف العبرة أمامالموت كقوله عن نفسه في مرثيته لجدته:

تغرب لا مستعظمًاغيرنفسه ولا قابلاً إلا لخالقه حكما


بل إنه ليقع في دخيلة روعنا منه أنه في تسليمه هنا للقضاء لينطوي على مضاضةالرغم، وأن هذا الشطر الأخير منتزع منه انتزاعًا. فإننا نعرف الرجل متمردًا على كلسلطان، مستخفًا بكل شيء، وإن لنا من تصرفه كدعوى النبوة في صباه، وتركه للصلاةوالصيام طيلة حياته، ثم من مبالغاته الكفرية في بعض تشبيهاته لممدوحيه، ما يشعرنامنه ضعف العقيدة ورقة الدين. وهل يستشعر خشعة التقوى من يقول ذات يوم ولو في مقامالفخر:

أي محل أرتقي؟ وأي عظيم أتقي؟
وكل ما خلق الله وما لم يخلق
محتقر في همتي كشعرة في مفرقي

ايوب صابر 09-03-2010 02:43 PM

فضيلة خلقية


بقلم الأستاذ طاهر أحمد الطناحي
كثير ممن تعرضوا للكتابة عن المتنبي رموه بالكبرياء والغرور، واتهموه بالغطرسة والتنفج وجفاء الطبع، حتى قال أبو علي الحاتمي: (كان أبو الطيب عند وروده مدينة السلام قد التحف برداء الكبر والعظمة، يخيل له أن العلم مقصور عليه، وأن الشعر لايغترف عذبه غيره، ولا يقطف نوره سواه. ولا يرى أحدًا إلا ويرى لنفسه مزية عليه). وزعموا أنه لكبريائه وخيلائه ادعى النبوة وهو فتى في مقتبل الفتوة، وطمع في الإمارة والملك. وترفع عن مدح غير الملوك والأمراء. وهم حينما يروون هذه الأقاصيص التي تتعلق بكبريائه، والتي أكثرها موضوع افتعله حساده ليشوهوا سمعته، ويخفضوا مكانته،إنما هم يصورونه في حالة خلقية هي نقيصة النقائص في الطبع، وعيب العيوب في الخلق.
ولم يجد حساده في زمنه سلاحًا يحاربونه به أقوى من هذا السلاح الذي يغرى به الملوك وذوي المطامع والسلطان. وقد اتخذوا من هذه الصفة - صفة الكبرياء - التي قلبوا حقيقتها فيه، وأنكروا فضيلتها عنده، وسيلة استخدموها للدس عليه، والغض منشأنه، حتى إن أبافراسالحمداني - وهو على ما عرف فيه من أدب ورفعة محتد - لم يستطع أن يحاربه عند سيف الدولة بعد اليأس إلا من هذه الطريق التيتظهر المتنبي مدلاً متغطرسًا ممجوجًا ذا منقصة شنيعة، وهي ليست عند العارفين بطبائع العظماء بمنقصة أو عيب يحسب في عداد النقائص والعيوب.
فقد حكوا أن أبا فراس قال لسيف الدولة: ( إن هذا المتسمى كثيرالدلال عليك، وأنت تعطيه كل سنة ثلاثة آلاف دينار على ثلاث قصائد، ويمكن أن تفرقمائتي دينـار على عشرين شاعرًا يأتون بما هو خير من شعره).. وليس أبو فراس واحدًافي مهاجمة أبي الطيب من هذه الناحية، بل كل حساده هاجموه منها، ووصموه بوصمة الكبر والجنون بالعظمة إلى جانب رميهم إياه بالسرقة، واتهامه بالأخذمن الشعراء، وهم يعلمون أن هذه التهمة تجرح كبرياءه وتمحق خيلاءه، وتقوض عظمته التي يغيظهم منها قوله:

وما الدهر إلا من رواة قصائدي إذا قلت شعرًا أصبح الدهرمنشدًا
فسار به من لا يسيرمشمرًا وغنى به من لا يغنيمغردًا
أجزني إذا أنشدت شعرًافإنما بشعري أتاك المادحونمرددًا


وأنت حين تتصفح حياة المتنبي، وتدرس أخلاقه، وتستقري هذه الكبرياء في شعره، وفيما روي عنه فيما كان بينه وبين سيف الدولة، وبينه وبين كافور أو عضد الدولة وغيره ممن اتصل بهم، لا تجد أثرًا للكبرياء الممقوتة التي تحط من قدر صاحبها، وتلحقه بالمغرورين المتنفجين الذين يتعالون في غير علو، ويفخرون بغير ما سبب للفخر، وإنما تجد عظمة أدبية، واعتدادًا بالنفس وصونًا لكرامة الأدب والأديب عن الصعلكة والمهانة في مجالس الملوك والأمراء.
فقد عرف المتنبي قيمة رسالته الفنية، وعرفما للفن من مقام في حياة الجماعة، فربأ به عن أن يكون ذليلاً مهينًا، وأراد أن يفرض على الناس احترامه وتعظيمه، حتى إذا وجد نفسه وهو فتى بين قوم لا يفهمون فنه كما يريد هو أن يفهموه قال قصيدته المشهورة التي جاء فيها:

إن أكن معجبًا فعجب عجيب لم يجد فوق نفسه من مزيد
أنا ترب النـدى وربالقوافي وسمام العدا وغيظ الحسود
أنا في أمة تداركها اللـ ـه غريب كصالح في ثمود


ولا يشكو هذه الشكوى إلا الفنان الذي يفهم قيمة فنه، ويرى الوسط المحيط به لم يفهم هذا الفن أو هذه النبوة في الفن التي تفرد بها في قومه كتفرد صالح بنبوته فيثمود. فهو إنما يعتبر رسالة الفن كرسالة النبوة تخدم كل منهما الحياة البشرية من ناحيتها الخاصة بها. ومن أجل ذلك يجب تعظيمها وتعظيم صاحبها، وأن يعطى حقه من الإجلال والإكبار.
وليس أبو الطيب بالشاعر الذي خدمت عظمته الظروف، وساعده ضعف شعراء عصره في الظهور، فقد عاش في عصر يعد أقوى عصور اللغة العربية الماضية، وأسماها في نواحي الأدب والثقافة والتفكير. وكانت المائة الثالثة للدولة العباسية هي المائة الذهبية للعلوم والآداب في حياة هذه الدولة. وقد نضجت فيها اللغة وعلوم التاريخ والأدب والطب والفلسفة والجغرافية وغيرها من العلوم والفنون، وكان الملوك والأمراء والوزراء من كبار العلماء والأدباء. وكان سيف الدولة شاعرًا وعضد الدولة شاعرًا كما كان الفضل بن العميد، والصاحب بن عباد من فحول الأدباء. وكان من شعراء ذلك العصر أبو فراس الحمداني، والسري الرفاء، وابن نباتة السعدي، والسلامي وابنهانئ الأندلسي وغيرهم.
فإذا ظهر أبو الطيب على هؤلاء جميعًا، بل على جميع شعراءعصره وشغلهم بمنافسته وحسده، فإن ذلك ليس من السهولة بحيث يبيح للكاتب أن يتهم المتنبي بالكبرياء والغرور، ويجعل فضيلة الاعتداد بالفن ومعرفة قيمته والمحافظة على كرامته عيوبًا مزرية به.

ايوب صابر 09-03-2010 02:51 PM

شهرة المتنبي
شهرة العظمة والفن الخالد
بقلم الأستاذ محمد محمد توفيق

قليل من الناس بلغوا مبلغ المتنبي في الشهرة مع أن العباقرة والأفذاذ يملأون صفحات التاريخ بأخبارهم وآثارهم. ولو أن الآداب العربية أتيح لها ما أتيح لآداب الغرب من الذيوع بالترجمة والنقل، لكان المتنبي في مقدمة المشاهير الذين يلهج الناس بذكرهم في الشرق والغرب على حد سواء. ولو أن الغربيين قرأوا شعر المتنبي لأذهلتهم تلك العبقرية الجبارة وهذا الروح الوثاب الغلاب الذي يكتسح ثم يكتسح حتى لا تكاد ترى أمامه أثرًا لمنافس.
نعم... لو قرأ الغربيون شعر المتنبي لوقفوا أمامه ذاهلين. ولست ألقي القول على عواهنه فقد أذهلت رباعيات الخيام أدباء الغرب وقراء الأدب فيه، وفتحت أمامهم آفاقًا جديدة لم يروها من قبل، وتألق نجم هذا الشاعرالفارسي في أوروبا وأمريكا كما لم يتألق قط في المشرق، مع أن الخيام دون المتنبي مرتبة فهو شاعر يشدو على وتر واحد بينا يشدو شاعرنا على أوتار هي جماع الفن والحكمة والفلسفة.
وأول ما نسجله من أمر هذه الشهرة التي لازمت المتنبي في حياته ولازمت تاريخه بعد موته أنها مرتكزة على أسس متينة ودعائم قوية.
والشهرة عندنا هي الصمود للدهر ومغالبة معاول الهدم- وما أكثرها!- وقد صمدت شهرة المتنبي في حياته فتحطمت دونها معاول الهدامين الذين في نفوسهم حقد وسخيمة، وفي قلوبهم تغلي مراجل الحسد وتلهب نار البغضاء، والذين ما زالوا يذكرون مثالبه ونقائصه فيعترفون- أويعترف حسدهم- بشاعريته التي لا تجاري على وغر مكنون في الصدور.
ثم صمدت شهرته للنقاد الزارين عليه بنقدهم بعد مماته مع أن فريقًا منهم حاولوا هدمهم بمعاول هيهات أن تهدم هذا التراث الأدبي، فبقي المتنبي حيًا ولم يذهب رسمه ولم يعف أثره.
ومما يزيد في رسوخ هذه الشهرة أنها بلغت غايتها على الرغم من أن شعر المتنبي لم يكن كالنسمات تهب رخاء، أو كزقاق الخمر تروي الشاربين، بل كان شعرًا جليلاً يهتف به شاعر عبقري فيذكي في القلوب نار الحماسة والنبالة، ويمتع الأنظار والألباب بألوان من الفن الرفيع يتطاول إليها الناس ويتشوفون لها دون أن يبلغوها. ومثل هذا الشعر لايقدره حق قدره إلا الراسخون في دراسة الآداب الرفيعة التي تسمو بالأذواق إلى ما هوأعلى من أذواق العامة والمترفين من عشاق الأدب المخنث. فبهذا الشعر خلد المتنبي، وعلى هذا الأساس المتين بنى شهرته ونقش اسمه على الصخر، بينا خط معظم معاصريه من الشعراء أسماءهم على الرمال.
وإنك لتعجب وأنت تقرأ ديوانه كيف أنه استطاع أن يجمع كل هذه الأقوال المأثورة والأبيات الحكيمة في صعيد واحد، لعلمك أن معظم السابقين واللاحقين من الشعراء كانوا يتمخضون بالبيت المأثور بعد الهذيان الطويل.
ثم إنك لتعجب من هذا الروح الغلاب الذي رجح الشعراء وسادهم دون أن يعد وطوره، وتعجب لادعائه النبوة وقرنه اسمه بأسماء الأنبياء والمرسلين.
ولنزوله بالدين والكتب السماوية إلى ميادين المدح والجدال والمفاخرة، ولمخالفته ما درج عليه الناس من مألوف القول والعمل، ولتلك الحوادث الجسام واندماجه فيها مادحًا وهاجيًا وحكيمًا بعد أن حلب الدهر أشطره، ولاعتداده بنفسه وشموخ أنفه وخيلائه، ولتجاربه وثقافته التي يندر لها مثيل.
نعم إنك تعجب لكل هذا إذ تفاجأ به أول وهلة وأنت تقرأ ديوانه وأخباره، فتعود إلى نفسك وتقول: لا جرم إذا خلد المتنبي وطبقت شهرته الآفاق..
ثم إن المتنبي تفرد بنزعة أخرى غير نزعة الشاعر الفنان، إذ كان يحس بأنه أرفع من الشعر والشعراء منزلة، وأن الشعر مطيته إلى الملك والسؤدد، ويرى أن بنفسه أنفًا أن تسكن اللحم والعظم.. والحق يقال إنه كان عظيمًا في شعوره وحركاته وسكناته، فقد كان شعره على ذباب سيفه وسية قوسه، وكانت له أبيات تهول، وقد أضفت عظمة نفسه على شعره هذا الجلال وتلك الروعة (التي تركت في الدنيا دويًا) كان يود أنيكون (للسيف والفتكة البكر) لا للشعر والمدائح. فلا عجب أن تشتهر قصائده وهي من وحيالملك والبطولة والفن الرفيع.

ايوب صابر 09-03-2010 02:55 PM

نفسية المتنبي

تحليل لبعض نواحي حياته

بقلم الأستاذ محمد مظهر سعيد

أستاذ علم النفس بمعهدالتربية


سيتحدث الشعراء والأدباء عن المتنبي وسيصورونه بما يليق بمكانته العالية في عالم الشعر والأدب وستستهويهم تلك الصورة الخلابة التي يعطيها عن نفسه في متفرق شعره. لأن الرجل تحدث عن نفسه بما لم يتحدث به شاعر آخر. ودفع نفسه بنفسه إلى ذروة الشعر والمجد ومكارم الأخلاق. أليس هو باعترافه أشعر الشعراء:

أنا الذي نظر الأعمى إلىأدبي وأسمعت كلماتي من به صمم ***

أنا ترب الندى وربالقوافي وسهام العدى وغيظ الحسود
وهو صاحب الهمة القعساء التي تستخف بكل شيء في الوجود:

تحقر عندي همتي كل مطلب ويقصر في عيني المدىالمتطاول ***

وإني إذا باشرت أمرًاأريده تدانت أقاصيه وهان أشده

وهو الكريم واسع الصدر الحافظ للسر:

كفاني الذم أنني رجل أكرم مال ملكته الكرم

وهو الشجاع الذي بلغ من شجاعته أن يعدها الناس تهورًا:

ولو برز الزمان إلي شخصًا لخضب شعر مفرقه حسامي

هذا الرجل الذي يشرف قومه به ويفخر أجداده بانتسابهم إليه:

لا بقومي شرفت بل شرفوابي وبنفسي فخرت لا بجدودي
أترى له في الدنيا مثيلاً:

وهكذا كنت في أهلي وفيوطني إن النفيس غريب حيثماكانا

وبالجملة هذه عقيدة في نفسه منذ أن ادعى النبوة في صباه.
بل دعنا من حديثالرجل عن نفسه ولنعرج على الأخلاق الفاضلة التي يقدرها والمثل العالية التي يمجدها. فتراه يمجد القتال من صغره:

لا تحسن الوفرة حتى ترى منشورة الضفرين وقت القتال

فما المجد إلا السيف والفتكة البكر



ايوب صابر 09-03-2010 03:15 PM

الـمـتـنـبي والتحليل الـنـفـسـي
من موقع عجيب.

http://almotanaby.sakhr.com/articles...naheg/0017.asp


إذا كان منهج تاريخ الأدب قد استأثر بدراسة المتنبي وشعره، فإن الدراسات النفسية نادرة جدا، إذ لم تخصص دراسة مستقلة حول شعر المتنبي وشخصه، مثل الدراسات التي بحـثت في شخصية بشار أبي نواس وابن الرومي . فقط هناك بعض المقالات التي حاولت أن تقارب بعض المظاهر النفسية من خلال سيرة الشاعر ونصوصه. بالإضافة إلى بعض اللمحات التي تخللتها بعض الدراسات التاريخية.

لذا، فإن المتن الذي سنعتمده في هذا المبحث سيكون مقسما بين مجموعة من الدارسين الذين خصصوا مقالات مستقلة ذات وجهة نفسية، من أمثال الباحث الفلسطيني يوسف سامي اليوسف، والباحث علي كمال.

حتى نقف على الطريقة التي من خلالها درسا شعر أبي الطيب من وجهة نظر نفسية محاولين بذلك استخلاص النتائج الجديدة التي توصل إليها هذين الباحثين ، وهل بالفعل أضافا شيئا جديدا -للدراسات المتنبئية -أم ينتبه له السابقون قدماء ومحدثون، أم أنهما أعادا وكررا النتائج السابقة بلغة جديدة ؟
وللإجابة عن هذا السؤال لابد من اتباع مجموعة من الخطوات نحصرها فيما يلي :
1- الوقوف على الأهداف المعلنة والمضمرة لتفكيكها، حتى نقف على الدوافع التي حدت بهما إلى تبني المنهج النفسي، وكذا الوقوف على مدى الملاءمة الحاصلة بين هذه الأهداف والنتائج المتوصل إليها من خلال التحليل .
2- مساءلة المتن الشعري الذي اعتمد عليه كل دارس ليحقق فرضياته، لأن اختيار متن شعري معين ، يستبطن بداخله موقف الدارس من الشاعر ، ويعكس أيضا مواطن اهتمامه.
3- فحص اللغة الواصفة باعتبارها المفتاح الحقيقي لوصف التمثل المنهجي.
4- استخلاص النتائج الملموسة من أجل تقييم جدتها أو اجتراريتها.
في بداية هذا الفصل سنقارب المقالتين اللتين خصصهما يوسف سامي اليوسف لدراسة المتنبي ، إذ سنقوم بعرض محتواهما وإعادة سبكه وترتيبه، متوسلين بذلك الإمساك بالخطوات المنهجية المتبعة في التحليل واستخلاص ما له صلة بالتحليل النفسي وما له علاقة بحقول أخرى من التحليل.

ثم سنردف ذلك بدراسة علي كامل المنشورة في مجلة آفاق عربية، العدد 4، ديسمبر 1977. تحت عنوان " المتنبي والنفس " من أجل مقارنة هذه المقالات ، مبرزين نقط التقائهما واختلافهما خصوصا وأنهما اشتركا في نفس المبدء المنهجي.
I- يوسف سامي اليوسف : سؤال الصمود والاستمرارية
نشر يوسف اليوسف تباعا مقالتين تحت عنوان " لماذا صمد المتنبي " في مجلة المعرفة السورية عدد ( 119- 200 )، عام 1978 . يبدو من خلال هذا العنوان المتسائل أن الهاجس وراء هذه الدراسة هو الوقوف على العوامل التي جعلت شعر المتنبي يستمر عبر التاريخ ولم يلحقه البلى، وربما كان هذا الهاجس المركزي هو الذي حرك أغلب الدارسين المحدثين للمتنبي، ويبقى الاختلاف بينهم في طبيعة وجهة النظر التي يعتمدونها واختلاف طبيعة المناهج المتبعة في التحليل.

لقد اختار اليوسف منهج التحليل النفسي ليجيب عن سؤال الاستمرارية، وسنحاول بدورنا في هذا المبحث أن نجلي معالم هذا المنهج من خلال الدراسة التي اقترحها علينا هذا الناقد الفلسطيني.

من خلال عنوان الدراسة ينكشف الهدف المقصود، بحيث تتوجه الدراسة رأسا إلى الوقوف على الـعـوامـل النـفـسـية الـتي اكـسـبت شعـر المـتـنـبي الـبـقـاء والخلـود وسـلـكـتـه في عـقـد الشعراء الخالدين.

إن سؤال المرحلة التي أنجز فيه اليوسف دراسته، اتسم بسيطرة مفهوم القومية العربية ، وطرح فيه سؤال الهوية بقوة، فقد قدمت في هذه المرحلة أجوبة حول مآل هذه الهوية التي أصبحت منخورة بالآخر وهذه القومية المحاصرة بالتنابذ الإيديولوجي للأقطار العربية. إن اختيار شاعر كالمتنبي لذو دلالة بالغة فهو شاعر شاهد تمزق الأمة العربية وعاش لحظات احتضارها.

إن التماس جواب لسؤال استمرارية المتنبي سيتم البحث عنه في الحاضر ليس في الماضي ، فكل قراءة للماضي مشروطة بأسئلة الحاضر.

إنه في فلك هذا السؤال الكبير والإشكالي تحركت أغلب الدراسات المتنبئية، فإذا كان هدف الدراسات التي تبنت منهج تاريخ الأدب ، تهدف إلى توثيق وتحقيق هذه الهوية ، وقد تمثل ذلك في التركيز عن نسب الشاعر ، والمحيط الاجتماعي والسياسي والعقائدي والفكري الذي تبلور فيه المتنبي وشعره، والتركيز على توثيق النص، فإن المنهج النفسي سينصب على تشريح هذه الهوية ومساءلة الذات الشاعرة والكشف عن آليات اشتغالها.
لقد قسم اليوسف دراسته إلى قسمين :
1) القسم الأول : شخصية المتنبي ومنطوياتها النفسية
لقد صرح اليوسف في بداية هذا القسم ،
- أن الاهتمام بشعر المتنبي قديما وحديثا ليس محض صدفة، " إذ لابد من وجود عناصر نفسانية وفنية في شعره تشد إليه هذا العدد الهائل من القراء،
- ناهيك بالقيم التي يجسدها والتي تشكل بالنسبة للعربي مثلا أعلى،

وفي ظني إن اتخاذ أبي الطيب لمقولة القوة أو الرجولة أطروحة أساسية يتمحور حولها معظم إنتاجه الشعري ثم تنوع موضوعات شعره وتذوب اللون الوجداني فيها، هما العاملان المركزيان اللذان اجتذبا إليه هذا العدد الهائل من القراء عبر القرون العشرة الأخيرة ".

من خلال هذه العتبة الأولى يمكننا أن نستخلص معالم المنهج الذي ارتضاه الناقد، فهو منهج يشتمل على عدة مستويات، منها ما هو نفسي ، ومنها ما هو بنيوي تكويني ، ومنها ما هو موضوعاتي.
وسنركز في البداية على إبراز هذه المستويات المنهجية المتداخلة، عبر الوقوف على اللغة الواصفة Métalangage المتوسل بها في الدراسة، إذ لا يمكن الحديث عن الممارسة النقدية سواء كانت نظرية أو تطبيقية ما لم تتوفر على لغة واصفة، وما لم تحدد موضوعها وخلفياتها النظرية.

أ- المنهج الفلسفي النفساني :
أعلن اليوسف في بداية مقالته عن طبيعة المنهج الذي تبناه وسماه بالمنهج الفلسفي النفساني واعتبره أفضل منهج لدراسة المتنبي/ الظاهرة، وهذا المنهج كما هو مذكور منهج تركيبي، " يرى الذات في تجادلها مع عصرها وفي امتلائها بمحتويات زمانها وثقافته وما تحدر إليه من تراث عن الماضي ".
نسجل من خلال هذا التعريف، أن هذا المنهج يركز بالأساس على الذات، غير أن هذه الذات ليست فارغة، بل تعيش جدلا مع عصرها.

وأن هذه الذات تعيش زمنين : الزمن الأصغر والزمن الأكبر. إذن، فالذات في هذا التصور هي نتاج جدل مع الواقع ونتاج لثقافة الماضي. بمعنى أن الشاعر - المتنبي - سيبحث عنه في شخصه الواقعي وفي شخصه الأدبي، في تجربة المعيش وفي التجربة النصية.

والمقصود بالتجربتين أن المتنبي يرضخ لواقعه المحدد زمنيا بالقرن الرابع الهجري، ويرضخ لتجربة النصوص التي انحدرت إليه من ماضي الثقافة العربية. بمعنى أن البحث سينصب على البعد التناصي في الاستراتيجية الشعرية عند المتنبي، فهل استطاع اليوسف أن يقبض عن هاذين البعدين في دراسته ؟ إن الجواب عن هذا السؤال رهين باستنطاق الأواليات التفسيرية والتأويلة المنجزة في الدراسة.

سيحاول اليوسف استجابة للتعريف المنهجي السابق رصد طبيعة المرحلة التي نبت فيها المتنبي متوخيا من وراء ذلك استخلاص السمات الرئيسية للمرحلة يقول : " ولعل أول سمة تاريخية من سمات القرن الرابع الهجري هي أنه مرحلة الاتضاع السياسي وتفسخ الإمبراطورية العربية المؤذن بنزوعها نحو الموت، ولكنه في الوقت عينه قرن بلغت فيه التناقضات الاجتماعية أشدها وهذه هي سمته الثانية، فقد شهد القرن الرابع قيام حركات تاريخية تبتغي إعادة بناء الإمبراطورية على أسس أشد متانة وأكثر عدالة، وهذا يعني أن القرن الرابع قرن تضاد وتقابل جادين، ولسوف نلاحظ أن شخصية المتنبي تكونها مجموعة من التقابلات المتعارضة الصارخة، تماما كما لو أنه تعين فردي لعصره " .
نلاحظ في هذا الرصد للواقع العربي في القرن الرابع نقطتين أساسيتين هما :
1) التركيز على ظاهرة التضاد والتناقض في المجتمع، (فهو عصر الضعة وعصر الثورات الاجتماعية).
2) أن الذي يمثل شخصية المتنبي وشعره عكسا هذا التناقض بشكل صارخ، وبموجبه فالمتنبي هو ذاك المبدع الفرد الذي استطاع أن يعكس رؤية العالم لعصر بأكمله ، تمثل رؤية العالم .
إذن، فالتصور المبدئي المتحكم في دراسة اليوسف يمكن رده إلى بعض مظاهر البنيوية التكوينية عند جولدمان في تحديده لمفهوم رؤية العالم، وبالرغم من أن اليوسف لم يشر إلى مرجعياته، فإن تحليله يشي بها.
إن هذا المنهج عرفته الدراسة الأدبية العربية في فترة السبعينيات، ولهذا فإننا نجد باحثا آخر مجايلا لليوسف حاول هو الآخر أن يلتمس تفسيرا لبعض مظاهر شعرية المتنبي متوسلا التصور البنيوي التكويني، فالباحث عبد السلام نور الدين في مقالة له بعنوان " المتنبي وسقوط الحضارة العربية ، يبرز أن الحضارة الإسلامية في القرن الرابع وقفت في مفترق الطرق، تحمل كل القدرات على النهوض والإقلاع، وبما أن هذا النهوض كان ممكنا فقد كان الفرد العربي طموحا ومتطلعا للأعلى، إلا أن هذا الإقلاع تحول إلى سقوط مريع، تسبب في زلزلة البنية الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والروحية. ولقد التقط المتنبي هذا الانحدار الحضاري وهذه الهوة المتفاقمة في مجموعة من أبياته الشعرية يقول :

ومن صحب الدنيا طويلا تقلبت على عينه حتى يرى صدقها كذبا (الطويل)

أرى كلنا يـبـغـي الحياة لنـفـسـه حـريصا عليها مستهاما بـها صبـا

فحب الحيان النفس أورده الـتـقا وحب الشجاع النفس أورده الحربا

ويختلف الرزقان والفـعـل واحـد إلى أن تـرى إحسان هـذا لذا ذنبا


ويقول في مكان آخر :

أتى الزمان بنوه في شبيبته فـسرهم وآتيناه على الهرم (البسيط)


يعلق عبد السلام نور الدين على هذه الأبيات التي تتضمن إحساسا قويا بالزمن وتقلباته، المفضية إلى انهيار صرح الحضارة بقوله " إن العناصر الذاتية في شخصية المتنبي أخذت لحمتها من نسيج البنية الموضوعية لعصره-العصر الذي كان مقدرا له أن يقلع فسقط فانتقل الشرخ الحضاري إلى روح المتنبي. إن الإحساس المريع بسقوط زمانه يلون كل شعره... إن الشرخ الذي أصاب الحضارة العربية فجأة قد عبر عنه المتنبي بنبرة قاسية- إن ولع المتنبي بتصوير المظاهر المتغيرة التي يتخذها الزمان والدهر والدنيا جعلته يطارد المفارقات في تقلباتها المتعددة " .

لقد استنبطن المتنبي عصرا بكامله وبكل تناقضاته، وعبر عن إحساسه الدقيق بالزمن واتجاهاته مما اكسب شعره قيمة تاريخية وجمالية توالت عبر العصور.
وأمام قانون الانهيار الذي عاشه عصر للمتنبي أصبح قدره " أن يتمرغ في العذاب الميتافيزيقي - يجاهد الزمان وهو يعلم أنه المهزوم ويبارز المحال - حتى تولدت لديه حاسة ميتافيزيقية هي الهروب من السكون والدعة إلى حيث الصراع والقتال ".
إن رؤية العالم التي عبر عنها المتنبي هي رؤية السقوط والانهيار، وليست هذه الرؤية للعالم فردية بل هي تعبر عن رؤية العالم لمجتمع بأكمله.
وإلى جانب هذا الملمح البنيوي التكويني عند كل من عبد السلام نور الدين ويوسف اليوسف، يحاول هذا الأخير أن يقبض على النواة المحركة لشعر المتنبي، انطلاقا من اصطلاحين أساسيين في التحليل النفسي هما
- النرجسية
- والسادية ،
ويرى بأن هذين المصطلحين النفسيين هما المعين الذي يروي شعر المتنبي.

ساره الودعاني 09-04-2010 03:06 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ايوب صابر (المشاركة 16639)
شكرا لك الاخت ساره الودعاني على مرورك الكريم ..

ربما ان ثقته هي التي جعلته امبراطورا ...لكن يظل السؤال ومن اين جاءت تلك الثقة بالنفس التي سيدته على غيره من الشعراء؟ ولماذا لا يحصل عليها غيره فيبقى ويخلد كما خلد المتنبي؟

لقد جربت الرابط المدرج عن كتاب الشيخ ولم يعمل.. ان كان متوفر لديك فالرجاء اعادة ادراجه. يهمنا لغرض هذا البحث ما يقول الشيخ عن سر خلود المتنبي ان كان قد تطرق له.

شكرا



مساء الخير إستاذ أيوب صابر..

حاولت العودة الى الرابط الذي اخذت منه صورة الكتاب لكن وجدت اني لم احتفظ فيه,
ولكن وجدت كاتب قام جزاه الله خير بإيجاز ما جاء في الكتاب وهذا هو نصه:

1. إمبراطور الشعراء(عائض القرني)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قرأت كتاب إمبراطور الشعراء للقرني وهو كتاب رائع جدا وحبيت أُطلعكم على بعض ما جاء فيه
واوردت لكم المقدمة حتى تعلموا ماهية الكتاب
هــــذه الـــــمـــــقـــــدمـــــة:
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى ، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن بسنته اهتدى.
أما بعد:
فتحية طيبة يا أبا الطيب فقد حسونا كأس سحرك حتى ثملنا بيانا، أما أبياتك فالنجوم ضياء ورفعة ، وأما قصائدك فالحدائق بهجة ونضرة...
من أين جئت يا أستاذ القافية وكيف وصلت يا فيلسوف الإبداع ..
لقد عاش قبلك وبعدك آلاف الشعراء الذين ملؤوا الفضاء ضجيجا والكون صياحا ثم ماتوا وماتت أصواتهم وبقيت أنت منشدا للدهر عازفا على نياط القلوب كما قلت أنت :
وما الدهر إلا من رواة قصائدي = إذ قلت شعرا أصبح الدهر منشدا
يا أبا الطيب أخذنا من قصائدك ما كان شاهدا ومثلا وحكمة وعبرة وتركنا غلوك وهجاءك وصخبك ، وعسى الجيل أن يعود للبيان العربي ليفهم كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم حق الفهم لأن الوحي هو المقصود بالتدبر والتأمل والدراسة أما ما سواه فوسائل وأدوات فحسب :
قواصد كافور توارك غيره = ومن قصد البحر استقل السوافيا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ

البطاقة الشخصية:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي = وأسمعت كلماتي من به صمم
هذه ترجمة موجزة للمتنبي فليس يهمنا معرفة أصله وفصله ونسبه وحسبه بل نريد إبداعه ولموعه كما قال الشاعر:

أنا لست مهتما بأصل قبيلتي = ورائي قريش أم ورائي تغلب
فليست بلادي بيرقا أو خريطة = ولكن بلادي حيث أستطيع أكتب

فهو يقدم نفسه بهذا البيت على أنه موهوب فرض نفسه على الناس بشعره وأدبه حتى إن الأعمى الذي لا يبصر شيئا نظر إلى أدبه لقوة تأثيره وسطوع تعبيره وبلاغة تصويره والأصم الذي لا يسمع شيئا أنصت لكلماته الآسرة الباهرة..
أما شعره فيكفيه أن الدهر أحد رواة شعره والأيام والليالي أصبحت تردد هذا الإبداع وتغني هذا السحر الحلال:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي = إذ قلت شعرا أصبح الدهر منشدا
فسار به من لا يسير مشمرا = وغنى به من لا يغني مفردا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ

العلماء يستشهدون بشعر المتنبي:
ما رأيت عالما فذا جاء بعد المتنبي إلا استشهد بشعره في معرض حديثه من موعظة وتفسير أو سلوك أو تربية أو تاريخ وقد مسحت كتبا كثيرة شهيرة فإذا للمتنبي عشرات الأبيات منثورة في غضون هذه المجلدات مثل إحياء علوم الدين للغزالي فله عنده قرابة عشرين بيتا وابن الجوزي مغرم في كتبه بالمتنبي وابن حزم مولع بشواهده وابن تيمية يهش لنوادره ويورد بدائعه وابن القيم ينتقي مقطوعات ثمينه في كتبه وعلماء التراجم يوشحون السير بشعره والمؤرخون تسعفهم أبياته عند العرض والاستنتاج والوعاظ يهزون الناس بقوافيه والملوك يديرون أدبه في مجالسهم والأدباء يضمنون نتاجهم فيض المتنبي والكتّاب يزينون مقالاتهم بتحفه الغالية وبالجملة فلا أعلم شاعرا عربيا قديما أوحديثا شرق وغرب شعره وخلد نتاجه كهذا الشاعر شهادة يؤديها الأدباء ويقوم بها الشعراء ويصدقها أرباب البيان وكأن المتنبي يعني هذا لما قال في شعره:
إذا قلته لم يمتنع من وصوله = جدار معلي أو خباء مطنب
وقصدي من هذا إخبارك أن الشاعر الفذ هو من بقي حضوره ودام ذيوعه وفرض احترامه على محبيه ووجوده على حاسديه وكذلك كان المتنبي فهو أشهر شاعر سمع به الناس واحتفلت بشعره المنابر وهضمت جمله الدفاتر وتشنفت بقوافيه الآذان ولعلعت بقصائده المجالس ليصح في شعره قوله:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي = وأسمعت كلماتي من به صمم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المتنبي في المحكمة الشرعية
مـــــــــــــــا عـــــــــــــلــــــــــــــــيــــــــــــــــــ ـه:
1- فمن ذلك أنه شبه حلاوة رشفات محبوباته لفمه بحلاوة التوحيد بقوله:
يترشفن من فمي رشفات=هن فيه أحلى من التوحيد
وهذا البيت يدل على رقة دين المتنبي الذي تساوي عنده التوحيد الذي هو أساس الأعمال برشفات محبوباته، فهو كقول (كفري )لا يقيم وزن لدين الله بل يسخر منه وينزله إلى أسفل المنازل عندما يشبهه بهذه المعصية التي وقع فيها..
وقد حاول بعض المتعصبين لأبي الطيب توجيه هذا البيت الذي يشهد بقلة دينه توجيها آخر،فقالوا:بأن التوحيد هو نوع من التمور التي توجد في العراق!!!
وبعضهم اعترف بأن المراد من قوله "التوحيد" هو توحيدالله!ولكنه تمحل في تخريج هذا القول بادعاء أن الدين لا يحكم عبى الشعر!!وأنه يجوز للشاعر مالا يجوز لغيره من أنواع التجاوزات!!!
يقول الجرجاني متبنيا هذا الرأي الشاذ في كتابه"الوساطة بين المتنبي وخصومه"
(والعجب ممن ينقص أبا الطيب ويغض من شعره لأبيات وجدها تدل على ضعف العقيدة وفساد المذهب في الديانة كقوله:
يترشفن من فمي رشفات=هن فيه أحلى من التوحيد
وقوله:
وأبهر آيات التهامي أنه= أبوك وأجدى مالكم من مناقب
وهو يحتمل لأبي نواس قوله :
قلت والكأس على كفي= تهوي لا التثامي
أنا لا أعرف ذاك اليوم=في ذاك الزحام
وقــولــه:
يا عاذلي في الدهر ذا هجر =لاقدر صح ولا جبر
ما صح عندي من جميع الذي=يذكر إلا الموت والقبر
فاشرب على الدهروأيامه=فإنما يهلكنا الدهر
وقـــولـــه:
عاذلتي بالسفاه والزجر=استمعي ما أبث من أمري
باح لساني بمضمر السر=وذاك أنى أقول بالدهر
بين رياض السرور لي شيع=كافرة بالحساب والحشر
موقنة بالممات جاحدة=لما رووه من ضغطة القبر
وليس بعد الممات منقلب=وإنما الموت بيضة العقر
وقــــولــــه:
أأترك لذة الصهباء نقدا=لما وعدوه من لبن وخمر
حياة ثم موت ثم بعث=حديث خرافة يا أم عمرو
وقد روي أنهما لديك الجن
وقـــولـــه:
فدع الملام فقد أطعت غوايتي= ونبذت موعظتي وراء جداري
ورأيت إيثار اللذاذة والهوى=وتمتعا من طيب هذي الدار
أحرى وأحزم من تنظر آجل=ظني به رجم من الأخبار
إني بعاجل ماترين موكل= وسواه إرجاف من الآثار
ما جاءنا أحد يخبر أنه =في الجنة مذ مات أو في النار
فلو كانت الديانة عارا على الشعر وكان سوء الإعتقاد سبب لتأخر الشاعر لوجب أن يمحى اسم أبي نواس من الدواوين ويحذف ذكره إذا عدت الطبقات ولكان أولاهم بذلك أهل الجاهلية ومن تشهد الأمه عليه بالكفر ولوجب أن يكون كعب ابن زهير وابن الزبعري وأضرابهما ممن تناول الرسول صلى الله عليه وسلم وعاب من أصحابه بكما وخرسا وبكاء مفحمين ولكن الأمرين متباينان والدين بمعزل عن الشعر)

قلت كيف يكون الدين بمعزل عن الشعر والله عزوجل قد سمى احدى سور القرآن بسورة {الشعراء}فهل هذا إلا لأجل بيان شمول الإسلام وأحكامه للشعراء وأقوالهم ؟؟ وقد قال سبحانه:"ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد"
وقال صلى الله عليه وسلم:"إن الله عفا قد عن أمتي الخطأ والنسيان وكلام غائب العقل"

ثم بين شيخنا القرني علاقة الدين بالشعروأورد قول د.ناصر الخنين حفظه الله فيما لخصه من القول الصواب في هذه القضية..( وإن تيسر لي ذلك أوردته في موضوع منفصل)
ثم قال:
وأقول بعد هذا إن بيت المتنبي :
يترشفن من فمي رشفات=هن فيه أحلى من التوحيد
هو من الأبيات التي عابه عليها العلماء والنقاد الذين يعلمون خطورة الدفاع عن من يحاد الله في شعره متذكرين قوله تعالى:"هاأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا"
وقال التوحيدي في شرح هذا البيت:
(يقول:كن يمصصن ريقي لحبهن إياي كانت تلك الرشفات أحلى في فمي من كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله وهذا إفراط وتجاوز حد)
وقال ابن رشيق في العمدة:
(فإذا صرت إلى أبي الطيب المتنبي صرت إلى أكثر الناس غلوا وأبعدهم فيه همة عنه غني وله في غيره مندوحة،كقوله:
يترشفن من فمي رشفات=هن فيه أحلى من التوحيد
وقــــــــال ابن القيم رحمه الله:
(فتأمل حال أكثر عشاق الصور تجدها مطابقة لذلك ،ثم ضع حالهم في كفة،وتوحيدهم وإيمانهم في كفة، ثم زن وزنا يرضى الله به ورسوله ويطابق العدل وربما صرح العاشق منهم بأن وصل من معشوقه أحب إليه من كلمة توحيد ربه كما قال الفاسق الخبيث:
يترشفن من فمي رشفات=هن فيه أحلى من التوحيد

وذكر شيخنا
غيرذ لك ستين بيتا من شعرالمتنبي فيه مخالفة صريحة...
هذا ما استطعت أن أكتبه لكم من هذا الكتاب الأدبي الرائع أنصحكم بقرائته...
____________________________________________

أرجو ان يفي بما تود ان تعرفه..

شكرا لك أستاذ أيوب..

احمد ماضي 09-04-2010 10:34 PM


هكذا انت استاذ ايوب

كلك كتلة من الابداع

واتمنى ان اعود معك الى

ما سبق تدوينه وتحاورنا به

حول موضوعة الكبير المتنبي

لك التقدير والشكر

على هذا الجهد الادبي الثمين

ايوب صابر 09-06-2010 12:37 PM

شكرا سارة الودعاني على هذه المشاركة عظيمة الفائدة.

اقتباس :
" فتحية طيبة يا أبا الطيب فقد حسونا كأس سحرك حتى ثملنا بيانا، أما أبياتك فالنجوم ضياء ورفعة ، وأما قصائدك فالحدائق بهجة ونضرة...
من أين جئت يا أستاذ القافية؟ وكيف وصلت يا فيلسوف الإبداع


لقد عاش قبلك وبعدك آلاف الشعراء الذين ملؤوا الفضاء ضجيجا والكون صياحا ثم ماتوا وماتت أصواتهم وبقيت أنت منشدا للدهر عازفا على نياط القلوب كما قلت أنت :

وما الدهر إلا من رواة قصائدي .... إذ قلت شعرا أصبح الدهر منشدا"

هل السر يكمن في اليتم؟؟؟

ايوب صابر 09-06-2010 12:39 PM

شكرا استاذ احمد ...طبعا انا بأنتظار مشاركتك الفاعلة هنا..

ايوب صابر 09-06-2010 12:40 PM

ب- نرجسية المتنبي عند اليوسف :
نفس المصدر السابق:
إن مصطلح النرجسية استقاه المحلل النفساني سيجموند فرويد من الأسطورة اليونانية، ونرجس هذا هو " ابن الحورية الزرقاء ليروب، من مدينة Thespide، حاصرها يوما إلـــه النهر سيفيسيوس بقنواته، فتمكن من اغتصابها وقد قالت العرافة Lyriopy أن ابنها نرجس سوف يعيش حتى يبلغ سنا كبيرا بشرط أن لا يعرف نفسه أبدا.
وكان نرجس رمزا للجمال، وفي الواقع كان أي شخص له العذر إذا وقع في حب نرجس حتى عندما كان طفلا. وعندما بلغ ستة عشر سنة وقع في حب أحباء وعشاق من الجنسين رفضوا دون رحمة ودون تفكير أن يحبهم، إذ كان لديه غرور كبير.
... وفي يوم من الأيام أرسل نرجس سيفا إلى شخص يدعى امينوس، أحد معجبيه وأكثرهم إلحاحا وقد سمي نهر امينوس باسمه، وفعلا قتل امينوس نفسه على عتبة نرجس داعيا الآلهة أن ينتقموا منه. وسمعت الدعاء الآلهة أرامتوس آلهة الصبر أخت أبولو، وسمعت الصلاة فدعت أن يقع نرجس في الحب. فآثر في يوم من الأيام الذهاب إلى منطقة يطلق عليها " دوناكون " في إقليم ميساثيبا عند نبع ماء صاف كالفضة ، ولم يكن قد عكرته الأغنام ولم تكن الطيور قد شربت منه ولم يسقط فيه أبدا فرع شجرة من الأشجار التي تجاوره وعندما انثنى نرجس ليشرب وقع في حب الصورة المنعكسة في الماء، وفي أول الأمر حاول أن يقبل الولد الجميل الموجود بمواجهته ولكن سرعان ما تعرف على نفسه فظل يحملق مفتونا في النبع ساعة بعد ساعة، وأخذ يتساءل كيف يمكنه احتمال أن يمتلك وفي نفس الوقت لا يمتلك ؟ وهده الحزن ومع ذلك فكان يسعد ويفرح في عذابه عالما على الأقل أن نفسه الأخرى سوف تبقى مخلصة له مهما حدث.
أما عن إكو Echo، فبالرغم مما أصابها فإنها اشتركت معه في حزنه، وكانت تردد ما يقوله نرجس وخاصة في آخر حياته عندما اخذ يردد " خلاص " " انتهى". عندما كان يغمد خنجره في صدره، وأيضا آخر آه نطق بها نرجس هي قول [آه أيها الشقي المحبوب دون جدوى وداعا]. وقد روت دمه الأرض، ومن هذه الأرض نمت زهرة النرجس البيضاء بعروقها الحمراء ".
إن تأويل هذه الأسطورة اليونانية مكن فرويد من اكتشاف هذه العقدة، وهي افتتان الذات بنفسها، وقد حاول اليوسف أن يستجلي معالم هذه العقدة النفسية من خلال شعر المتنبي وسيرته الحياتية.
و لكي يؤكد أطروحته التجأ في البداية إلى مساءلة شعر الصبا وشعر مرحلة المراهقة، فقد استشهد بالأبيات التالية التي قالها المتنبي في صباه :
أمط عنك تشبيهي بما وكأنما
فما أحد فوقي ولا أحد مثلي(الطويل)

إن هذا البيت الذي استشهد به اليوسف قد أربك شراح الديوان، حتى قال أبو العلاء المعري في شرحه للديوان " وقد أكثر الناس في هذا البيت، من حيث أن " ما " ليست من أدوات التشبيه. وقال ابن جني : إن المتنبي كان يجيب إذا سئل عن هذا البيت بأن يقول : تفسيره أنه كان كثيرا ما يشبه فيقال : كأنه الأسد، وكأنه البحر، ونحو ذلك. فقال هو معرضا عن هذا القول : امط عنك تشبيهي " بما " و " كأن "، فجاء بحرف التشبيه وهو " كأن " وبلفظ " ما " التي كانت سؤالا فأجيب عنها بكأن التي للتشبيه وأدخل "ما" للتشبيه لان جوابها يتضمن التشبيه، فذكر السبب والمسبب جميعا.... وقال القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني : إن المتنبي سئل فذكر : أن " ما " تأتي لتحقيق التشبيه كقوله [ عبد الله الأسد] : ما عبد الله إلا الأسد، وإلا كالأسد تنفي أن يشبه بغيره، فكأن قائلا قال : ما هو إلا كذا، وآخر قال : كأنه كذا، فقال امط عنك تشبيهي بما وكأنه، و " ما " في التحقيق للنفي في هذا الموضع، ولكنها تضمنت نفي الأشباه سوى المستثنى منها فمن هذا الوجه نسب التشبيه إلى " ما " و"كأن" ، إذا كان له هذا الأثر .
ويقول ابن سيده في شرح هذا البيت : " أما " (كأن) فلفظة تشبيه، فالكلام بها هنا على وجهه كأنه يقول، لا تقل في : كأنه الأسد، ولا كأنه السيف، ولا كأنه الموت أو السيل فكل ذلك إنما هو دوني، ولا ينبغي أن تشبه الشيء بدونه، إنما المعتاد عكس ذلك. وأما (ما)فليست بلفظة تشبيه بمنزلة كأن، إنما استجازها في التشبيه، لأنه وضع الأمر على أن قائلا قال : ما يشبهه ؟ فقال له المسؤول : كأنه الأسد، كأنه السيف، فكأن هذه التي للمسؤول، إنما سببها (ما) التي للسائل، فجاء هو بالسبب والمسبب جميعا. وذلك لاصطحابهما. ومثل هذا كثير. وقد يجوز أن تكون (ما)هنا بمعنى الجحد، فجعلها اسما، وأدخل الحرف عليها، كأنه سمع قائلا يقول : ما هو (إلا) الأسد، وفي هذا معنى التشبيه أي مثل الأسد، فأبى هو ذلك، ثم رجع إلى النوع الأشرف فقال : " فما أحد فوقي ولا أحد مثلي، مفضلا نفسه عليهم ".
إن أغلب شارحي الديوان استوقفهم هذا الاستعمال الغريب للفظة " ما " باعتبارها أداة تشبيه، ولم ينفذ الشرح إلى الدلالة البعيدة المسكوت عنها في البيت. لذا، فاليوسف في تعليقه على هذا البيت الذي استشهد به من أجل تأكيد أطروحته حول نرجسية المتنبي، لن يتوقف عند سطح البيت فهو يقول : " ربما كان تفوقه على زملائه في الصف، وكذلك شعوره بالنقص الاجتماعي إزاء أولاد الأشراف الذين يشكلون مجمل التلاميذ في تلك المدرسة، هما الدافعان الأساسيان اللذان دفعاه إلى هذا الموقف النرجسي المبكر ". ولتعميق هذه الأطروحة سيستمهد بأبيات أخرى يتجلى فيها الاعتداد بالنفس بصورة مكشوفة يقول المتنبي :
أي محـل أرتـقي
أي عظيم أتقـي (مجزوء الرجز)
وكل ما خلق الله

وما لـم يـخـلق
محتـقـر عن همتي

كشعرة من مفرقي

إن هذا الأبيات التي قالها المتنبي في صباه مفتخرا، اختلف فيها الشراح من حيث الحكم على مضمونها فأبوالعلاء المعري في شرحه، اكتفى فقط بإعادة كتابه الأبيات نثرا، وذاك أن معنى الأبيات لا يكتنفه الغموض، يقول : " أي محل ارتقى إليه ؟ فلا مزيد فوق ما أنا عليه فاصير غليه، وأي عظيم أخشى منه وأقدر ؟ وكل شيء خلقه الله وما لم يخلق بعد، هو محتقر عند همته ".
غير أن أبا البقاء العكبري ، ناقش مضمون هذه الأبيات عقائديا، وأخلاقيا فاتهم الشاعر بالكذب وأنه لزمه الكفر، يقول شارحا الأبيات ومعيدا لشرح الواحدي . قال الواحدي " يريد : أنه لم يبق محل في العلو ولا درجة إلا وقد بلغها، وأنه ليس يتقي عظيما ولا يخافه، وكذب في ادعائه مترقى العلو، بل محله العلو في الحمق، وفي شرح البيتين 2-3، سيستشهد بشرح الواحدي. قال الواحدي : ليس معناه ما لا يجوز أن يكون مخلوقا كذات البارئ وصفاته لأنه لو أردا هذا للزمه الكفر بهذا القول، وإنما أراد ما لم يخلقه، مما سيخلقه بعد، وإن كان قد لزمه الكفر باحتقاره لخلق الله، وفيهم الأنبياء المرسلون، والملائكة المقربون " . أما عبد الرحمان البرقوقي فقد اكتفى في شرح الأبيات بنقل ما ورد في شرح الواحدي.
في حين أن اليوسف سيلاحظ أن هذه الأبيات تعكس نرجسية المتنبي بشكل صارخ وتخفي شيئا آخر، هو الإحساس باللاجدوى، هذا الإحساس الذي ظهر في شعر الصبا بشكل جنيني سيعرف تطورا في مرحلة النضج.
إن النقد القديم الذي تعامل مع المتنبي، وأغلب الشروح المقدمة حول شعره، تعاملت مع شعر الصبا بنوع من التجاوز والصمت، وقد يرجع ذلك إلى المعايير التي سنها النقد، حيث أن هذا الأخير لم يعن بمرحلة الصبا، خصوصا وأن كتب السير والتراجم والوفيات، كانت تقفز في الغالب عن هذه المرحلة فتقدم لنا الشاعر أو الأديب ناضجا. وإذا أشير إلى هذه المرحلة فيقدم فيها الكاتب أو الشاعر قد حصل العلوم والاشعار وحفظ القرآن، ولا يقدم الحيثيات والتفاصيل عن هذه اللحظة.
لقد تحكم هذا السنن الثقافي في جل الكتابات التي ترجمت 1 للمتنبي، بحيث لا تذكر من حياته الطفولية سوى ما يتعلق بالعلم والحفظ وجمع اللغة من أفواه البدو، فنجد أن المتنبي في صغره كان يتردد على مكتب يقرأ فــيـه أبناء أشراف الـشــيــعـة ، وأنـه كـان يـتـردد علـى دكـاكـيـن الوراقـين، إن أبـاه أخذه إلى بـادية السماوة بعد غزو القرامطة للكوفة ، ليتعلم اللسان العربي القح الذي لم تخالطه رطانة أهل المدن.
أما المناهج الحديثة وخاصة المنهج النفسي، فإنها أولت هذه المرحلة من حياة الفرد قيمة أساسية سيما وأن هذه المرحلة تعتبر من المحددات الأساسية لتكوين الشخصية وبنائها. لهذا السبب ألفينا " اليوسف يركز اهتمامه على هذه اللحظة الشعرية ليستخلص منها محددات شخصية المتنبي التي سترافقه طيلة حياته.
خلص اليوسف إلى نتيجة مفادها أن المتنبي أحس بتفوقه وسط محيط كان يشعر فيه بنقص اجتماعي ومن تم أصبحت نرجسيته تعويضا عن هذا النقص، وتعويضا عن الإحساس بالاضطهاد " فالذات تمعن في احتضان ذاتها كلما أوغل الواقع في إحباط النزعات الفردية ". إلا أن هذه النرجسية - كما يرى اليوسف - ليست سلبية خصوصا وان مفهوم الرجولة يتصدر قائمة القيم الاجتماعية و العربية والاعتزاز بالانا هو موضوعة تتواتر بشكل كبير في الشعر العربي. وقد جاء المتنبي ليجسد نرجس الأسطوري في ارض الواقع العربي. وان هذا التجسيد الذي أفضى بالانا حد التضخم ليعد جانبا مهما لإضاءة سر ارتباط العرب بشاعرهم المفضل.
وبالمقابل يلاحظ " اليوسف " ظهور نزعة سادية مجاورة للنزعة النرجسية حيث إن هاتين النزعتين تتعايشان في كيان واحد، وذلك نتيجة للتعامل المزدوج تجاه الإحباط الذي مسني به الشاعر، فهو مرة يتـعالى عليه ومرة يحس بالعبث واللاجدوى.
إن هذا التعامل المزدوج يجعل الذاتي تتأرجح بين نوازع نرجسية ، هي المولدة للنزعة الحيوية وحب الحياة، ونوازع سادية لحب الموت والفناء. فهذه النزعة الأخيرة هي التي أبرزت في شعر المتنبي ميولا مبكرا نحو تدمير الذات، وقد اعتبرها اليوسف ظاهرة ثانية مركزية عند المتنبي.

ايوب صابر 09-06-2010 12:41 PM

ب- النزعة السادية عند المتنبي أسبابها وتجلياتها
لجأ اليوسف ليؤكد هذه النزعة إلى مجموعة من الخطوات منها أنه :
1- اعتمد بداية على شعر الصبا، محاولا التحقق من فرضية أن المتنبي أبدي منذ الصغر ميلا واضحا إلى القتال، مستدلا بخبر ورد في اغلب كتب الأخبار : " فقد قيل له يوما وهو لم يزل تلميذا في المكتب ما احسن هذه الوفرة (أي الشعر الغزير) فقال :

لا تحسـن الــوفـــرة حـتـى تـرى



منشورة الضفرين يوم القتال " ( ).


ويقول في موضع آخر وهو لازال طفلا :

ألا ليست الحاجات إلا نفوسكم



وليست إلا السيوف وسائل( الطويل )


إن هذه النزعة القتالية ستتطور عبر الزمن وتقلب الأحداث لتتحول إلى نوع من السادية.
2- لكي يبرهن على هذه الفرضية لجأ إلى استقراء الصور الشعرية المتواترة في شعر المتنبي التي تعكس الموضوعة الأساسية لديه في - اعتقاد اليوسف -وهي موضوعة " الالتذاذ بالموت ". فقد نظم عناصر هذه الصور في سلك واحدة قائلا : " الموت في الحرب جني النحل في الفم. يحف به رجال كأن الموت في فمها شهد. وأن المنية عند الذل قنديد (عسل السكر). لقد صمم أن يرى روحه على الأرماح سائلة، وان يكتفي بالدم الجاري على الديم. وأخذ يفكر في معاقرة المنايا. وأغرم بسفك دم الحواضر والبوادي، وأقدم إقدام السيل حتى كأن له سوى مهجته أو كان له عندها تأثر. وإذا عاش فسيجعل الحرب أمه والسيف أخاه والرمح أباه. بل هو يصرح بان القتل هو المسكن الوحيد لروحه :

وما سكني سوى قتل الأعادي



فهل من زورة تشفي القلوبا ( الوافر )


إن موضوعة الموت تشكل هاجسا ملحاحا في شعر المتنبي، حيث أن رؤية العالم لديه تتشكل في فلك هذه الموضوعة، ومن تم تندغم النرجسية لديه بالسادية، هذا " يعني أن ذلك الإعجاب الشديد بالانا لا يمنع النرجسي من أن يوجه إلى ذاته اكبر أذى يمكن أن يلحق بها، الشيء الذي يؤكد أن النرجسيين لا يحبون ذواتهم إلا بقدر ما يكرهونها، ولهذا فإننا نزعم أن المتنبي لا يملك نزعة عدوانية ضد الآخرين وحسب، بل هو يكن القتل لنفسه أيضا، ومثل هذا النزوع هو عقوبة للذات من اجل إخفاقها في مضمار إشباع الدوافع ". ولقد بلغت هذه النزعة التدميرية للذات مبلغا صريحا في قوله :

كفى بك داء أن ترى الموت شافيا



وحسب المنايا أن يكن أمـــانيا (الطويل)


تمنيتهـا لـمـا تـمنيت أن ترى



صديقا فأعيا أو عدوا مداجـيـا


لقد ورد هذان البيتان في مطلع القصيدة التي مدح بها المتنبي كافورا الأخشيدي ، وهي أول قصيدة قالها المتنبي بحضرته كافور بعد رحيله عن سيف الدول.
إن مثل هذه المطالع اعتبرها النقاد العرب القدامى " إساءة للأدب " بالأدب ، حيث أن ذكر الموت في مثل هذا المقام يبعث على التشاؤم ؛ فالمتنبي في هذا المطلع كان واقعا تحت تأثير الفراق المر وتأثير النزعة اللاشعورية للموت باعتباره محركا أساسيا لعوالمه المتنبي الباطنية. لقد أرغم هذا الوضع الشاعر على خرق أدبيات المقام المدحي الذي قيلت فيه القصيدة.
إن هاجس الموت انبثق في شعر الصبا عند المتنبي ورافقه إلى أخريات حياته، حتى أن آخر قصيدة قالها المتنبي بحضرة عضد الدولة البويهي نعى فيها نفسه قائلا :

وأنى شئت يا طرقي فكوني



نجاة أو أذاة أو هلاكا الوافر


وديوانه يضج بالإحالة إلى هذه النزعة، مرة في وصفه للحروب أو في وصفه للصيد في طردياته ومرة في تأملاته الوجودية أو في مراثيه. وإننا نلفي ذكرا لهذا النزوع في بعض قصائده المدحية. لقد أصبح الموت آلية دفاعية في لاشعوره، وقد رد اليوسف مصدر هذا النزوع إلى طبيعة العلاقات الاجتماعية المتناقضة التي عاش فيها المتنبي.

ايوب صابر 09-06-2010 12:42 PM

ج- المتنبي والاغتراب :

نفس المصدر السابق
يرجع اليوسف استمساك المتنبي بذاته إلى الإحساس القوي باليتم وإلى وهن العلاقة بينه وبين الآخرين، ويعتبر نرجسيته تعويضا عن هذا الوضع المربك، " فحين تتناقض كمية العطف المتلقاة من الآخرين يعمد الفرد إلى تعويض، يتلخص في أن يقوم هو بإغداق الحنان على نفسه.. ويأتي تعاطف الذات مع ذاتها بمثابة آلية دفاعية تحول دون الانهيار الداخلي "، إن هذه النرجسية تخفي شدة الحاجة إلى عطف الآخرين، وبهذا الصدد يستشهد اليوسف بهذين البيتين :

أنا ترب الندى ورب القوافي



وسمام العدى وغيظ الحسود ( )


أنـا في أمـة - تـداركها الله-



غـريـب كـصـالح في ثمـود


معلقا عليهما بقول " البيت الأول نرجسية مفرطة أما البيت الثاني فغربة وشعور حاد بالاضطهاد " .
إن الملاحظة الأولى التي يمكن أن نبديها من خلال هذه الاستنتاجات في التحليل عند اليوسف، هي أنه طبق بعض مقولات المنهج النفسي عند آدلر، الذي ينطلق من فرضية أن الإنسان كائن ناقص، إما عضــويا أو اجتماعيا، ولكي يتفادى عقدة النقص والدونية يلجأ إلى استحداث آليات تعويضية تضمن له التوازن النفسي، أما الملاحظة الثانية فتتجلى في المراوحة بين معطيات التحليل النفسي الفرويدي والأطروحات الأدلرية، خصوصا حينما عالج العقدتين النرجسية والسادية معتبرا أن النرجسية هي بمثابة آلية تعويضية عن فقدان الحنان الأمومي.
في خضم هذه الأجواء النفسية المعقدة يطفو على سطح التحليل مصطلح الاغتراب، هذا الأخير يتصل أساسا بالجوانب النفسية لدى الإنسان، وهو مفهوم ضارب في القدم من حيث ملازمته اللصيقة بالإنسان وكينونته منذ أن وطأت قدمه الأرض، أي منذ الخطيئة الأولى التي جعلت الإنسان ينفصل عن موطنه الأصلي، أي الزمن الفردوسي، حيث ظل هذا الإنسان يعيش اغترابا وجوديا ونفسيا في مواجهته للمجهول. فالقلق الوجودي، والإحساس بالتيه في العالم وفتور العلاقات الاجتماعية هي عوامل تولد الإحساس بغربة الذات في العالم. ومن تم فإن المفهوم يتخذ بعده الفلسفي، إذ كلما قوي الوعي والإدراك اتسعت دائرة الاغتراب.
يعتبر اليوسف أن إحساس المتنبي المبكر بالضعة والهوان هما المسؤولان عن الإحساس بالاغتراب، مستدلا على ذلك بالرجوع إلى المعجم الشعري في المراحل المبكرة من حياة المتنبي، فقد استقرى هذه المرحلة ليجدها " تعج بألفاظ في مثل : الهوان والغربة، العز، الذل، عزيز، كريم، العجز، الجبن، وإن دلت هذه الألفاظ على شيء فإنما تدل على طموحه في التفوق، الشيء الذي يخفي وراءه حسا عميقا بالضعة ".
إن هذا الحس الاغترابي وليد التصادم بين نزعتين، فالمتنبي يحس بنفاسته وبصغاره في الوقت نفسه، في عمق الهوة بين رغبته وطموحه وبين الواقع. من ثم فإن المتنبي أضحى بطلا إشكاليا. يشبه بالمسيح المضطهد من طرف اليهود وبصالح الذي أنكرت عليه ثمود نبوءته.
غير أن إحساسه بالدونية ليس سلبيا، لان " اشتداد حس الدونية يتناسب طردا مع قوة الشخصية وشجاعتها وأصالة محتواها، مثلما يتناسب طردا مع شدة ميلها نحو رفض الواقع الدنيء انه انكشاف ظاهري لعمق حس الأنفة ".
فالمتنبي في تصور اليوسف هو تلك الشخصية التي استلهمت العصر وتمثلته، إنه تمثل حي لعصر ينوء بتناقضات صارخة، إنه ذلك المبدع الفرد الذي استطاع أن يعبر عن رؤية العالم لمرحلة بكاملها، رؤية عصر في حالة انهيار وسقوط. وآية ذلك أن شخصية المتنبي وشعره مبصومان بتقابلات ومفارقات صارخة، فلديه جنوح نهم نحو " العليان والتفوق الذي يواجهه حس القنوط واللاجدوى 2 ". لقد أدرك المتنبي الانحطاط بوصفه " ضرورة تاريخية محتومة، بوصفه القدر الموضوعي للإمبراطورية، والدليل على ذلك هو فكرة الزمان الهرم الذي يطرحه مقابل الزمان الشاب ".
إن المتنبي يعيش بين قوتين متضادتين جعلتاه يعيش طوال حياته معاناة ممزقة. وقد أدى هذا الصراع - حسب اليوسف - أحيانا إلى التنكر لبعض مبادئه القومية، حيث تخلى في أخريات حياته عن اعتقاده في قوة العربي حين مدح ابن العميد حيث " أرغمه نزوعه الرضوخي في أحيان قليلة إلى خيانة مبادئه القومية العزيزة عليه 1 " ومرد هذه الردة القومية نابع من بعدين : إحدهما نفسي والآخر اجتماعي انعكس في مدى تعمق الهوة بين الفرد وآلة الدولة.
نستنتج من خلال هذا التحليل أن معالم المنهج عند اليوسف متعددة المشارب، إذ يمكننا رد المصطلحات التي اشتغل بها الى حقلين رئيسيين : حقل نفسي وحقل اجتماعي.
فمصطلحات الفرد والعليان والشخصية المزدوجة كلها تحيل إلى البعد النفسي، في حين أن آلة الدولة وأزمة العصر والروح العربي والانعكاس تحيل إلى الحقل الاجتماعي، فاليوسف يصف الظاهرة من وجهة نظر التحليل النفسي ويفسرها بآليات المنهج الاجتماعي و البنيوي التكويني. أن النتائج الذي خلص إليها يطغى عليه التفسير السوسيولوجي، فالمتنبي، من خلال تحليله، هو المعادل الموضوعي لعصره، وهو مرآة عكست الشرخ الحضاري، وان استمراريتة المتنبي وصموده جاءا نتيجة لتجذر المتنبي في عصره أو تجذر العصر فيه. وحين أراد اليوسف أن يلتمس حلا للتناقض الكامن في شخصية المتنبي عزاه إلى التناقض الصارخ في المجتمع، وعمد إلى معيار كمي، مبرزا أن العليان والتسامي لدى المتنبي اكبر من النزعة الرضوخية في تركيبه النفسي، وذلك أن نزعة التسامي متجذرة في ذاته بينما نزعة الخمود يقحمها الواقع الخارجي على نفسه، فهو شبيه لعصره، إذ الأصل فيه القوة والسمو أما الخمود فهو نتيجة عامل خارجي

ايوب صابر 09-06-2010 12:43 PM

د-المتنبي والقلق الوجودي :
نفس المصدر السابق

لقد توصل اليوسف إلى أن سر صمود شعر المتنبي يكمن في تجذره في عصره، وانه استطاع أن يعكس العصر بكل تناقضاته، غير أن السؤال الذي يطرح في هذا السياق، هو هل خلود الشعر رهين بانعكاس العصر الذي قيل فيه ؟ أم هو مرتبط برصد الأسئلة الوجودية المقلقة ؟
إن شروط تلقي الشعر التي تضمن له الاستمرارية لا تنحصر فقط في هذه الرؤية الانعكاسية، بل لابد من التماس أسباب أخرى تحمي الشعر من الاندثار والنسيان، وتجعله قادرا على استنفار أجهزة التلقي عند القراء المفترضين. لهذا السبب، راح اليوسف يبحث عن سبب آخر له من المعقولية ما يكفي للبرهنة على هذا الذيوع الذي اربك النقاد القدامى والمحدثين، وسيحاول اليوسف أن يضع مبضع تحليله على أهم هذه الأسباب " إنه القلق الوجودي، أي الإحساس بوطأة الصراع الداخلي بين الوجود والعدم"، ما يلاحظ على هذا التفسير هو أنه يمتح من الحقل الفلسفي الوجودي الذي تبلور على يد مجموعة من الفلاسفة كهيدجر وسارتر ، بالرغم من أن اليوسف لا يحيل في دراسته على مرجعياته، فإن لغته الواصفة تكشف عن طبيعة هذه المرجعيات، فمصطلح القلق الوجودي والكينونة والوجود والعدم هي مصطلحات قادمة من الحقل الفلسفي الوجودي الذي يحيل إلى علاقة الكائن في العالم.
إن عذا الإحساس العميق بالحياة، وبوطأة الصراع الداخلي، مكنا المتنبي من التعبير عن الصراع الداخلي لدى الإنسان بين الوجود والعدم، وقد يكون هذا السبب جزءا من تفسير معقول لإعجاب الناس بشاعر الكوفة طوال هذه الأزمنة، ولقد ألمح القاضي الفاضل إلى هذا المعنى، قال ضياء الدين بن الأثير في كتاب " الوشي المرقوم " : " وكنت قد سافرت إلى مصر سنة ست وتسعين وخمسمائة ، ورأيت الناس مكبين على شعر أبى الطيب المتنبي دون غيره، فسألت جماعة من أدبائها عن سبب ذلك وقلت : إن كان لأن أبا الطيب دخل مصر فقد دخلها قبله من هو مقدم عليه وهو أبو نواس الحسن بن هاني، فلم يذكروا لي في هذا شيئا ثم إني فاوضت عبد الرحيم بن علي البـيساني (القاضي الفاضل )، رحمه الله فقال لي ' إن أبا الطيب ينطق عن خواطر الناس '. ولقد صدق فيما قال ".

ايوب صابر 09-06-2010 12:44 PM

هـ- البطل التراجيدي وعقدة الملك :
نفس المصدر السابق
في معرض الحديث عن التناقض الحاد الذي كان يعتلج في صدر الشاعر، حيث أنه كان يعتقد سموه وأهميته، في حين أن الملوك عاملوه معاملة مداح مرتزق إلا قليلا منهم، ستطفو إلى السطح عقدة غريبة دعاها اليوسف " عقدة الملك " ومفادها " أن أبا الطيب من الملوك وان كان لسانه من الشعراء ". ومن أجل تحقيق هذا الاعتقاد أشهر السلاح وقاتل لمدة سنتين. لقد توصل اليوسف إلى استجلاء هذه العقدة من خلال منطوق شعر المتنبي، إذ صرح الشاعر غيرما مرة بهذه الرغبة في الملك وتسيير شؤون الدولة ، وأحيانا ألمح لهذه الرغبة بانتقاده للأمراء والخلفاء العجم ، إن هذه العقدة ليست مرضية بقدرما أنها تعكس انخراط المتنبي في هموم العصر، وذلك أن السؤال الجوهري الذي طرح في عصر المتنبي هو سؤال الوحدة السياسية.
فالأمر أساسا يتعلق بقضية التوحيد، فبالرغم من أن اغلب شعر المتنبي خصص للمدح، فانه تضمن رؤى سياسية عميقة، تجلت في إصراره على الدعوة إلى التوحيد، وقد انعكست هذه الدعوة في تصوره لبناء القصيدة التي جاءت ، بمثابة إطار تركيبي يوجد ما بين القول الشعري التخييلي والقول الحكمي الفلسفة، وقد قام بمثل هذا الصنيع الفيلسوف الفارابي المعاصر له حين ذهب إلى التوفيق بين رأي الحكيمين وبين الفلسفة والدين. وقد نحى نحوهما بديع الزمان الهمداني في نفس العصر إلى التوحيد بين الشعر والنثر في مقاماته. لهذا فإن الإمساك بسؤال المرحلة، والوقوف على الإجابة المقدمة شعريا من طرف المتنبي تعتبر السبيل السالك لفهم هذه الرغبة الملحاحة للانخراط في الهم السياسي.
لقد تعززت لدى المتنبي عقدة الملوك، حين اصبح لا يرى المجد إلا في تضريب أعناق الملوك، سواء كانوا عربا أو عجما، لاسيما العجم الذين نظر إليهم بأنهم من أسباب انحطاط الإمبراطورية الإسلامية.
إن عقدة الملك هاته تقرب شخصية المتنبي من شخصية امرئ القيس، إذ يمكننا أن نرصد التشابه بينهما في اكثر من مستوى، فكلاهما من اصل واحد، من اليمن، وكل منهما راح يبحث عن الملك فاخفق ، إلا انهما عادا ملكين في مملكة الشعر، حتى قيل في حقهما " فتح الشعر بكندي وانتهى بكندي " ، وكلاهما ماتا موتا تراجيديا حيث قتلا في طريق العودة الأول مات بحلة مسموما في أنقرة ، والثاني قتل من طرف الأعراب بدير العاقول

ايوب صابر 09-06-2010 12:45 PM

الجدل النفسي والفني في شعر المتنبي
إن هذا القسم الثاني من الدراسة خصصه اليوسف لإبراز العلاقة الجدلية بين العوامل النفسية والفنية في شعر المتنبي، وذلك أن المتنبي " قد تخلد على الزمن بسبب من قيام النفساني بإنتاج الأبعاد الفنية لشعره "، فكيف انعكست هذه السمات على الخطاب الشعري ؟ وكيف وجهت عالمه من حيث الرؤية والبنية ؟
لخص اليوسف العوامل النفسية المتحكمة في العالم الشعري للمتنبي في ثلاثة :
1) النرجسية،
2) ازدواجية الميول،
3) حس الإحباط.
i- النرجسية وإعادة كتابة التاريخ :
إن مقولة النرجسية ليست قيمة سالبة بل موجبة، فهي من مآثر المتنبي لا مثالبه، حيث إنها كانت بمثابة طاقة دافعة إلى تمجيد الذات التائقة إلى التحرر وبلوغ الكمال الإنساني عبر مقولة أساسية وهي إرادة القوة، فلقد ظل المتنبي يشيد بهذه المقولة طيلة حياته الشعرية.
اختار اليوسف بعض الأبيات للتدليل على هذه المقولة، مبرزا أن المتنبي قد " أصاب كبد الحقيقة حين طرح الافتراس قانونا أساسيا للتاريخ الاضطهادي، وحين أدرك أن نزعة الأرصاخ هي الدافع النفساني المركزي للسلوك في الحضارات القمعية، وحين بين أن القوة مطلب أساسي لكل فرد ". يقول المتنبي :

إنما أنـــفــس الأنــيــس سباع



يتفارسن جهرة واغـتــيـالا ( )


من أطاق التماس شتى غلابا



واغتصابا لم يلتمسه سؤالا


كــل غـاد لحــاجـتـه يـتمنى



أن يكون الغضنفر الرئبال "


من خلال تعليق اليوسف على هذه الأبيات تلوح معالم سر التشبث القوي بهذا الشاعر، وذلك من خلال تمجيده للقوة، باعتبارها قيمة خالدة، وهنا يستعير الناقد التصور الماركسي الذي يفسر خلود الروائع بربطها بالقيم الإنسانية الكبرى. يقول " من الواضح أن الفن الخالد هو الذي يتعامل مع القضايا الأكثر ثباتا في النفس ". ولقد ربط اليوسف مقولة القوة بنرجسية المتنبي وإحساسه باللاأمن، وبالضعة والاغتراب في زمن السقوط والانهيار. لا جرم أن ما يدعو إليه المتنبي هو شيء متأصل في الذات العربية ومحدد لكينونتها، إنه مفهوم الأنفة والرجولة وتمجيد الانا.
أ/ العودة إلى زمن البدايات :
إن عودة المتنبي إلى تضخيم الانا هي عودة إلى بدايات الزمن العربي، لذا فإن اليوسف يتساءل بهذا الصدد عن معنى عودة أبى الطيب إلى " تلك المرحلة الوثنية ومفاهيمها وقيمها الرجولية ؟ ما معنى أن يتبنى المعتقد الجاهلي الضخم الذي هدمه الإسلام والذي يتلخص بان العرب فوق كل الأقوام ؟ ".
لقد كف الشعر العربي قبل المتنبي عن بسط الانا المتضخمة، غير أن المتنبي جعل هذه الإشكالية محور شعره، فما هي أسباب هذه العودة ؟ يلتمس اليوسف عاملين لتفسير هذه الظاهرة لخصها في :
1) العامل الفردي : تمثل في إخفاق الشاعر في إنقاذ المرحلة من الانحطاط، وفي إخفاق العصر أمام العبودية، هذا الإخفاق المزدوج ولد لدى الشاعر نزعة نكوصية والتفافا حول الذات من أجل الاحتمــــــاء بها،إذ إحساس المواطن بالإهانة القومية أو الاجتماعية يشده بقوة إلى ما يمكن أن يبقى له شخصيا، أعني كرامته الفردية ".
2) العامل الجماعي : فأمام انهيار الحضارة العربية راح المتنبي يبعث الحياة في السماة النفسية التي أبرزت التفوق العربي في الماضي وهي الأنفة والكرم ورفض الخضوع للأجنبي ومن ثم فالعودة للأصول هي عودة دفاعية طفت بشكل حتمي كإجابة عن النكسة والسقوط. إن نرجسية المتنبي من خلال هذا المنظور تصبح ضرورة وليست عقدة مرضية.
ب/ المتنبي كتجسيد للمطلق :
استطاع المتنبي أن يضع يده على جوهر الكينونة العربية، مجسدا بذلك قيمها الكبرى، وبذلك ظهرت قوته " لأنه يستشير في داخلنا حاجة ويشبعها، ويعزز في أعماقنا تلك القيمة الأساسية، أعني قيمة القوة ، فقد جسد المتنبي المطلق، بتجاوزه للظرفي والمرحلي، فهو لم يكن فقط إنتاجا لزمنيته الصغرى في لحظاته القوية، وبذلك أصبح شعره نصا جامعا يشتمل على تجارب الشعر العربي السابقة، إن الماضي الشعري هو المؤسس الأكبر لمجمل إنتاجه فقد " لخص أبو الطيب كل عصور الشعر العربي السابقة عليه : لخص نزوع الجاهليين نحو القوة عبر تمثله للانا الجاهلية المتضخمة، ولخص موضوعة الإقصاء الاجتماعي التي كانت محور العذريين الأمويين، ولخص نزوع شعراء العصر العباسي الأول نحو الصورة والمجاز والتجديد في مضمار لغة الشعر وأشكاله الفنية، ولهذا كان شعره يضم لغة العصور الشعرية كلها ".
إن استمرارية الماضي في الحاضر في وعي العربي هي المسوغ الرئيس لاستمرارية المتنبي، خصوصا وان الآمة العربية الحديثة منيت بهزائم ونكسات وإخفاقات سياسية كبرى، إن مثل هذه الأوضاع المازومة تستدعي ضرورة صوت المتنبي باعتباره شحنة وجدانية أملا متجددا.

ايوب صابر 09-06-2010 12:46 PM

سلطة النفسي على شعر المتنبي :
وقف اليوسف على مجموعة من الظواهر الفنية المميزة لشعر أبى الطيب محاولا إرجاعها إلى الأصول النفسي، منطلقا من فرضية أن المكون النفسي هو المسؤول على إنتاج المكون الفني.
إن أولى الظواهر الفنية المائزة التي استوقفته هي تواتر المبالغة وتضخيم الصورة، وقد استشهد في هذا الإطار بيت شعري واحد :

ورعن بنا قلب الفرات كأنما



تخر عليه بالرجال سيول (الطويل)


فلم استغنى اليوسف بهذا المثال عن مجموعة من الأبيات الشعرية تتضمن مبالغات ؟ في اعتقادي، أن اليوسف اختار هذا النموذج ليعزز به أطروحته حول تواتر أسلوب المبالغة المنبني على مفهوم إرادة القوة " لان رغبة المتنبي في القوة هي ما دفعه باتجاه تضخيم الصورة عبر شحنها بتشبيهات واستعارات قائمة على المبالغة في القوة " .
فمواطن الاهتمام في تحليله للبيت ، ركزت على المظاهر التي تشير إلى القوة، كترويع الخيل لقلب النهر، والهجوم عليه بكثافة وزخم، وسيول المقاتلين.
إن هذا الاستشهاد بمثابة نموذج يمكن أن نقيس عليه جل مبالغات المتنبي، لكن هل كل مبالغات المتنبي جيدة ؟ سيكون الجواب بالنفي، إذ يتراوح توظيف المبالغة في شعر المتنبي بين القوة والضعف، وقد وضع اليوسف قانونا كليا لعيار توظيف أسلوب المبالغة عند المتنبي، حيث إن النزعة الإضاخية هي المنتجة للمبالغات الجيدة أما النزعة الرضوخية فهي المسؤولة على إخفاق المتنبي في تحقيق مبالغات جيدة، وفي غياب استشهادات نصية لتأكيد هذا القانون الكلي يدعو اليوسف إلى ضرورة تحليل الصور المجازية عند المتنبي وتفكيكها ثم ردها إلى مكوناتها الأولية من اجل الوصول إلى النواة الأصلية التي هي نزعة القوة والسيطرة.
أما الظاهرة الفنية الثانية المنبجسـة من نزوع المتنبي نحو القوة فهي الطابع الملحمي، خصوصا في وصف الحرب والقتال، حيث صير الشاعر ألفاظه في وصف المعارك تنوب مناب الفعل. إن هذا التجويد في الوصف نابع من تفرده في وصف الأشياء المتحركة. مما يضفي عليه حيوية نشيطة.
إن هذه النزعة الملحمية تستأثر باهتمام القارئ لأنها تشبع فيه جنوحا نحو القوة من أجل إثبات الذات. وهنا يوظف اليوسف مفهوما أرسطيا ينتمي إلى الحقل النفسي، إنه مفهوم التطهير، يقول " ويبدو أن هذا القانون النفساني الكبير هو المبدأ الأول الذي انتج الملاحم الشعبية في الثقافة العربية إبان انحطاطها، فربما كان السلاطين يدركون هذا المبدأ حين حثوا الكتاب على تأليف " تغريبة بني هلال، ورواية ' سيف بن ذي يزن '، وقصة عنترة وحكاية " الزير " ... وعلى هذا المبدأ نفسه يمكن أن نفسر ولع الأطفال بأفلام الحرب والملاكمة والفروسية والمغامرات ".
أما الظاهرة الثالثة فهي ظاهرة التقابل، وبالرغم من أن هذه الظاهرة تنتمي للحقل البلاغي فان الناقد سيعطي الأولوية في دراستها للملمح النفسي والاجتماعي. يرى اليوسف أن التقابل في شعر المتنبي هو نتاج لازدواجية حادة في شخصية المتنبي، تمثلت في التقابل بين التسامي الحيوي والتشاؤم العدمي، مما عمق حسن التضاد في وعيه الفني.
ينطلق اليوسف من فرضية ضمنية تفيد أن النص الأدبي ذو وجهين وجه ظاهر والآخر باطن، ومهمة التحليل هي الانكباب على الوجه المخفي للنص والشخص إضافة إلى سعيه الحثيث نحو القبض على الأنوية الكلية المتحكمة في ديمومة شعر المتنبي. لذا فانه في تناوله لظاهرة التقابل، سيقف على القانون الأساسي لهذا المظهر البلاغي مسترشدا بمفهوم التضاد الفلسفي وأثره في ذهن المتلقي، فقد بين " فلاسفة الجدل أن التضاد هو القانون الأكبر للواقع والوعي في آن معا. وهذا يعني أن كل تضاد يعكسه الفن من شأنه أن يغذي العقل وان يشده إليه نظرا لان العقل لا يمكن لشيء أن يجتذبه اكثر من التضاد " .
فاليوسف يبحث عن عوامل موضوعية للتقابل الحاضر بشكل بارز في شعر المتنبي من خلال النفسي والاجتماعي، إذ يتعذر فهم المتنبي بمعزل عن عصره ومن حيث أنه انكشاف ذاتي لتخلخل يجري في الواقع الموضوعي. إن نتائج التضاد والتقابل عمقت لدى المتنبي حس الأزمة والتوتر، وجعلته يقيم مبالغات أدبية على مبدأ المفارقة حيث تواتر في شعره الطباق كحامل شعوري للتضاد، ليؤدي وظيفة اجتذاب المتلقي مع تحقيق عنصر التنوع التعبيري.
ولقد عمق وعي التضاد حس الحركة في شعر المتنبي، وبهذا الصدد يستعير اليوسف المفهوم الهيجلي حول قانون الجدل قائلا " إن أهم القوانين الجدل أن الشي يتحرك بسلبيته الداخلية 2 ". وليدلل اليوسف على هذه الفرضيات وقف على مجموعة من الأبيات الشعرية تعكس هذا الحس الحركي عاقدا مقارنة بين المتنبي وامرئ القيس. ومن بين الأبيات التي استوقفته قول الشاعر :

على قلق كأن الريح تحتي



أوجهها جنوبا أو شمالا ( الوافر )


لقد استوقفته كلمة " قلق معلقا عليها بأنها تعني في العربية الاضطراب والحركة الدائمة للشيء في آن معا.
إن العنصر الحركي في شعر المتنبي علامة مائزة، لفتت انتباه النقاد القدامى والمحدثين، إلا أن اليوسف يشير إلى أن هؤلاء النقاد فاتهم ملاحظة الدور الذي تلعبه الألفاظ الدالة على الحركة في التأثير على المتلقي، ومرد ذلك في نظره أن النقد اللغوي لم يدخل بعد إلى ثقافتنا المعاصرة. وهذا الدور هو ما يمكنني أن ادعوه بالفاعلية التأثيرية المحايثة أو الفاعلية التعبيرية اللامباشرة " . فما المقصود بهذه الفاعلية ؟ إنها المستو الباطني للقول الشعري، ولإبرازها يعمد اليوسف إلى تحليل بيت شعري ورد في قصيدة للمتنبي يرثي فيها أم سيف الدولة يقول :

ونرتبط السوابق مقربات



وما ينجين من خبب الليالي


فقد ميز اليوسف بين مستويين لتحليل هذه الصورة :
1) المستوى السطحي المباشر : وفيه أبرز أن الخيل لا تنجينا من الموت، فهناك مطاردة بين خيلين : الخيل الحقيقية والليالي. لكن خيلنا لا تنجينا من خيل الليالي.
2) المستوى الباطني : وفيه يبرز أن وقع العدو القابع في خلفية الصورة هو الذي أضفي على البيت قوة تعبيرية وجمالية، فالحركة في البيت بشكل فني يتخذ وسيلة للتعبير عن فكرة عميقة.
وكذلك الشأن بالنسبة للميمية التي مدح بها الشاعر سيف الدولة في موقعة الحدث والتي مطلعها :

على قدر أهل العزم تأتي العزائم



وتأتي على قدر الكرام المكارم (الطويل)


يمكن رد عظمتها وقوتها إلى جمالية التضاد والحركة. لذا فاليوسف يدعو إلى دراسة موسعة لتحليل شعر المتنبي تحليلا لغويا، لإبراز الدور الذي تلعبه صور الحركة في العالم الشعري لدى المتنبي.
لقد أضفى حس الحركة ووعي التضاد على شعر المتنبي بعدا ثنائيا تجلى في هيمنة الطباق كوجه بلاغي وظيفي وليس زخرفيا ، فهذا البناء المزدوج يعكس بالمقابل واقعا متناقضا، فهناك جدل بين الفني والواقعي " وبديهي أن اللغة المتناقضة هي من سمات الوعي المتشعب، أعني الوعي المدرك للسلب والعامل على تخطيه. إن مثل هذا الوعي يقع في مشاقة حادة مع شرطة التاريخي أدت إلى مشاقه حادة داخل اللغة

ايوب صابر 09-06-2010 12:49 PM

علي كامل : المتنبي والنفس:
1- المتنبي والنفس : الإسقاط المنهجي
إن الطريقة التي اتبعها اليوسف في دراسته للمتنبي وشعره تداخلت فيها مجموعة من المفاهيم متعددة الحقول، وقد كان ذلك نتيجة لعدم الاختصاص المنهجي، فاليوسف يمارس العملية النقدية منطلقا من ضرورة تضافر مفاهيم منهجية متنوعة أو بتعبير آخر، يرى أن المنهج ينبغي أن يشمل على أدوات تقارب الذاتي والفردي والمحيط الاجتماعي، لذلك مزج في دراسته بين بعض مقولات التحليل النفسي ومقولات التحليل الاجتماعي، ولم يتربط صرفا بخطوات المنهج النفسي، وقد اتضح ذلك جليا من خلال الوصف التحليلي الذي أنجزناه، حيث إن المصطلحات النفسية المركزية ظلت باهتة في التحليل، وحتى حينما تناول ظاهرتي النرجسية والسادية لم يردهما إلى أصولهما الفرودية المرتبطة بالرغبة الجنسية وهجاس الموت، ولم تستوقفه اللغة كرمزية لعقد الطفولة المكبوتة. بل كان يعدل هذه المفاهيم حتى تتسق مع تصوره القبلي لشاعر العروبة.
أما المحلل " على كامل " في مقالته " المتنبي والنفس " المنشورة بمجلة آفاق عربية العدد 4 ديسمبر 1977 فإنه سينطلق في دراسته للمتنبي من وجهة نفسية بحثة. معولا في ذلك على تخصصه في الأمراض النفسية، مازجا بين الفحص النفسي للشخصية والمزاج للعالم النفساني " ايزانك " والتحليل النفسي الفرويدي والآدلري.
سنحاول في دراستنا لمقالة على كامل أن نبرز أهداف الدراسة والمتن المدروس والوقوف على البعد الاستدلالي والبرهاني الذي اعتمده في التوصل إلى نتائج الدراسة، مركزين على تبيان التوافقات والاختلافات بينه وبين اليوسف.
الإعلان عن أهداف الدراسة :
يعلن " على كامل " في بداية دراسته عن الهدف من اختياره للنظر في حياة المتنبي النفسية، وذلك انه يرغب في " النفاذ إلى نفسية الشاعر من ناحية وإلى فهم شعره من ناحية أخرى 1 ". يبدو أن هذا المطلب في الوهلة الأولى من قبيل المعاد المكرور، وذلك أن كل بحث في أي جانب من حياة المتنبي وشعره لابد أن يعرج من قريب أو من بعيد على بعض مفاهيم البحث النفسي، غير أن الجديد عند على كامل هو أن " هذه أول مرة يكون هدف الدراسة فيها والبحث من المتنبي هدفا نفسيا بشكل أساسي "، إن علي كامل يعي جيدا الفرق بين المضامين النفسية لأي شاعر كيفما كان وبين المقاربة النفسية البحثة التي تعتمد منهجا نفسيا معينا، لأنه لكي نلج في الدراسة العلمية لابد أن " نفرق بين النفسي، وهو الوقوف على ما يتضمنه النص الأدبي مــن العواطف والانفعالات والأخيلة، التي هي عناصر من صميم التكوين الأدبي، ... ولم يكن هذا المنهج جديدا فقد ظهرت آثاره عند الإغريق والعرب وفي عصر النهضة الأوربية أما المنهج النفساني فيقوم على أساس من النظريات النفسية الحديثة، ولاسيما انه يقوم على التحليل النفسي، ويعد منهجا حديثا بدأ مع نظريات فرويد1".
ويبدو أن " علي كامل " من ذوي الاختصاص في القضايا النفسية، مما جعله يعي منذ البداية حدود المنهج النفسي في مقاربته لشاعر من الماضي. هذا الوعي اضطره إلى التصريح بالصعوبات التي اعترضته في دراسته وقد حدد هذه الصعوبات في ثلاث :
1) المسافة الزمنية بين القارئ والنص/الشخص : فإذا كان علماء النفس يجدون الصعوبة في الاتفاق على تشخيص حالة نفسية واحدة تمثل أمامهم اليوم، أدركنا صعوبة الأمر في شخصية وجدت قبل ألف سنة من الزمن، واختلف الناس في أمرها حتى ذلك الحين".
2) الاعتماد مقولة النص كوثيقة وتغيب مصادر الرواية والأخبار :
لم يعتمد " علي كامل " التحليل النفسي السيري وإنما انطلق من النص باعتباره عرضا من الأعراض النفسية، مميزا بين نوعين من القراءة : الذاتية العاشقة والقراءة المتعددة التأويلات.
3) تعذر الفهم الدقيق للنفس الإنسانية بصفة عامة.
تختزل هذه الصعوبات وعي علي كامل بحدود الأدوات الإجرائية والجهاز المفاهيمي الذي يقارب به الشخص والنص. وقد تجلت معالم هذا الوعي في محاورته للمنهج لإعادة النظر في أدواته.
إن هذا الوعي المنهجي سيقود لا محالة إلى الاحتراس من الوثوقية والأحكام المطلقة، وسيفرض على الدارسة أن تحتمي بلغة الاحتمال.
وبالرغم من إدراك هذه الصعوبات الموضوعية فإن المنهج النفسي ونوعية الكشوفات التي حققها في ميدان التحليل الأدبي ستسلط لا محالة بعض الأضواء على الزوايا المعتمة في شعر المتنبي وشخصيته.
وفي إطار تعميق الوعي بحدود المنهج النفسي يحذر على كامل من أن طريقة بحثه ستكون عاجزة عن تفسير عبقرية الشاعر وعملية الخلق الشعري لديه، فلا ضير إذ عزا العجز لمسه فرويد من قبل، واعترف وهو بصدد دراسته للرسام الإيطالي " ليوناردو دافنـتشي " " إن التحليل النفسي (ويعني مذهبه بوجه خاص) لا يستطيع أن يدرس الإنسان من حيث هو فنان، وليس في قدرته أن يطلعنا على طبيعة الإنتاج الفني، وأنه هو في دراسته لدافنتشي لم يدرس الفنان من حيث هو فنان بل درسه من حيث هو إنسان، فدراسته هذه لست سوى عرض للرجل من ناحية الباتوجرافيا .
وقد أشار أيضا إلى ضرورة عدم تفسير العبقرية انطلاقا من الـبـواعـث الـغـامـضـة للـفـعـل الجمالي لان " التقويم الجمالي للعمل الفني وتفسير الموهبة ليسا من مهمات التحليل النفسي ".
وفي هذا السياق يذهب يونغ إلى أن " كل رجع reaction يمكن تفسيره وبيان علته، أما فعل الإبداع وهو نقيض الرجع لما يمتاز به من تلقائية، فسيظل على الدوام يفلت من قبضة الذهن البشري. وهكذا اصدر يونغ حكمه على العلم من الحاضر والمستقبل جميعا، فهو لم يعرف الإبداع ولم يعرفه لان من طبيعة الإبداع إلا يثبت للمعرفة العلمية ".
طرائق البحث النفسي بين المؤلف والقارئ :
يحدد " علي كامل " سبل البحث النفسي للمتنبي في ثلاثة :
منها ما يتعلق بتحليل الشخصية وبيان العناصر المكونة لها، ومنها ما يختص بقدرة الشاعر على فهم النفس الإنسانية وبيان مصادر هذه القدرة وأخيرا التأثير النفسي الذي يحدثه شعر المتنبي في القارئ.
إن هذه التوجهات تعكس التطور الذي عرفه التحليل النفسي بشخصية : التحليل النفسي والمؤلف والتحليل النفسي والقارئ :
أ- التحليل النفسي والمؤلف :
اعتبر التحليل النفسي التطبيقي أن العمل الأدبي شبيه بفانتازيا، فعومل النص كعرض من أعراض المؤلف، مما أفضي بالتحليل إلى الدراسة النفسية للمؤلف، وعوملت الشخصية الأدبية كما لو أنها كائن حي تمتلك عقدها الخاصة. كما أن الرموز اللغوية اعتبرت مدونة محددة وصارمة " فكل الأشياء العمودية ترمز للعضو الجنسي الذكر، وكل الأشياء الأفقية تمثل جسد الأم".
إن هذه الفرضيات تحيل ضمنيا إلى نفسية المؤلف، حيث إنها تتأسس على أن غاية العمل الفني الشبيهة بالحلم هي الإشباع السري لرغبة طفولية مكبوتة تستقر في اللاشعور.
ب- التحليل النفسي والقارئ :
لقد جاء الاهتمام بالقارئ إلى مجال التحليل النفسي ليتدارك القصور الحاصل في هذا الجانب، وقد كان الناقد الأمريكي " نورمان هولاند " من أكبر دعاة هذه النظرية ومطوريها، فقد عالج العلاقة بين القارئ والنص من خلال العلاقة بين تخيلات الايد Id ودفاعات الانا معتبرا أن " مصدر اللذة التي نستمدها من الأدب يكمن في تحويل رغباتنا ومخاوفنا إلى معان مقبولة من الوجهة الثقافية ... ويعتبر النصوص الأدبية تكتمات، أي منظومات مرمزة تؤدي وظيفة التخفي ... إن ما يجذبنا إلى النص كقراء هو التعبير السري عما نريد سماعه ".
إن فعل القراءة هو قبل كل شيء إعادة خلق للهوية ومعنى ذلك انه عندما نقرأ نصا فإننا نمارس معه " عملية توافق مع قيمة الهدية التي تميزنا، ونستخدم العمل على نحو يرمز إلينا ويكرر نفسياتنا في النهاية، ونعيد صياغته لنكشف استراتيجياتنا المميزة الخاصة ونتغلب على المخاوف العميقة والرغبات التي تشكل حياتنا الروحية "، ويبدو أن هذه العملية هي ما يفسر الاهتمام المتزايد قديما وحديثا بشعر المتنبي حيث إن هناك إعادة لاكتشاف الهوية، بالإضافة إلى أن المتنبي يحقق للقارئ من خلال عملية التماهي التغلب على المخاوف النفسية انطلاقا من نشدان القوة والمغامرة في ملكوت المجهول. يقول :

إذا غامرت في شرف مـروم




فلا تقنع بما دون الـنـجــوم ( الوافر )


فطعم الموت في أمر حـقـير




كطعم الموت في أمر عظيـم


إن استكشاف جذور الأثر يتواكب مع استكشاف اللذة التي تنتج عن قراءة متأنية له، إذ هناك تواز بين الصدمة العاطفية التي يثيرها النص في نفس القارئ والصدمة التي يعانيها المؤلف أثناء عملية الإبداع وفي هذه النقطة بالذات قد نجد " تفسيرا لآليات التماهي التي من خلالها نعثر في الفن على لذات تعويضية ".
ج- تحديد معالم الشخصية :
يسلم " على كامل " بأن انطباعات القراء حول شعر المتنبي تتشابه في رسم شخصية المتنبي النفسية رغم التباعد الزمني وتضارب الأخبار حوله ، وإن هذا التشابه مرده إلى أن المتنبي قد كفى القراء عناء البحث عن هذه الشخصية حيث قدم في شعره صورة شخصية portrait ورصد مختلف أحوال نفسه وتحولاتها.
غير أن هذه الانطباعات الأولية غير كافية في سبر أغوار النفس ، لذا فإنه سيعتمد على خطاطة العالم النفسي " إيزانك من فحص الشخصية والمزاج :
1- الخطاطة :
يستنتج علي كامل من خلال تطبيق هذا النموذج أن المتنبي :
1- يتوفر على سبع خصائص واضحة وقوية في الربع اليمن الأعلى وهي :
سرعة التأثر - عدم الاستقرار - العنف - سرعة الهياج والانفعال - التقلب - الاندفاع والنشاط. وهذه الأوصاف تشير إلى أنه ذو مزاج عصبي.
2- أما في الربع الأعلى الأيسر فقد ظهرت خمس خصائص بارزة وهي :
المزاجية (العاطفية) والقلق في الرأي (العناد) والتيقظ والتشاؤم، وهذه الأوصاف تدل على انه ذو مزاج سوداوي مكتسب.
أما حينما نقارن بين غلبة الخصائص نجد أن الغلبة للنصف الأعلى، لذا فان النتيجة هي " أن نفسية المتنبي تعاني من عدم توازن واستقرار طبيعي".
ولقد أسفرت المقارنة بين الجانب الأيمن والأيسر من الدائرتين إلى غلبة خصائص الجانب الأيمن مما يؤكد أن مزاج المتنبي ونفسيته تتجهان نحو الانبساطية والواقعية لكن توفر المتنبي على سبع خصائص من النصف الأيسر يبرز أن لديه نزوعا نحو الانطوائية.
ما يستنتج من هذا الفحص أن المتنبي كان يجمع بين الأضداد، وفي هذه النقطة يلتقي " علي كامل " مع " سامي اليوسف " مبرزين أن هذا التناقض في نفسية الشاعر مكن من التعبير عن عبقريته وحركته الروحية. لكنهما يختلفان في تفسير سبب هذا التناقض ، فسامي اليوسف يرجعه إلى الشرخ الواقعي في حين أن علي كامل يعزيه إلى طبيعة الشخصية كبنية مغلقة.
د- المتنبي : الوجه والقناع :
يذهب " علي كامل " في حديثه عن الخصائص النفسية إلى أن هذه الأخيرة ظلت ثابتة طوال حياته، بالرغم من الأدوار والحالات المختلفة التي عرفتها حياته فقد ظل المتنبي وفيا لنفسه الهائمة التي لم تعرف الاستقرار كأن الريح تحته، وقد صور هذه الحالة بيت شعري نافذ يقول :

على قلق كأن الريح تحتي



أوجهها جنوبا أو شمالا(الوفر)


إن ثبات هذه الصفات المتناقضة يشي بقوة الشخصية، هذه القوة تفتقدها الشخصيات الهادئة المتوازنة، حيث إن التوازن دليلا عن الضعف وفقدان الحيوية.
إن الخاصية المهيمنة في شعر المتنبي هي الحضور الصارخ والمكشوف للأنا، فما هي الدواعي لهذا الحضور المكثف ؟ يستدعي " علي كامل " لمناقشة هذه القضية آراء النقاد حول المدى الذي يجوز فيه للشاعر أن يظهر ذاته في شعره أو أن يبقي عليها مستورة مقنعة. أو أن يتجاوز نفسه كلية بحيث يأتي العمل الإبداعي خاليا من أي إشارة إلى الذات.
فقد أورد آراء القدماء حول أبعاد الفن عن صاحبه، وقد كانت هذه النظرة للفن هي المهيمنة عند اليونان والعرب حيث انهم نظروا إلى " أن الخلق الإبداعي قد حدث بسبب قوة خارقة استوطنت المبدع... وان فعله ليس من صنعه، إنما من صنع الروح الذي تدفعه ولهذا فسر اليونانيون الشعر بأنه من إيماء ربات الشعر وفسر العرب ذلك بعبقر".
لقد اتصل حبل هذه النظرية في عملية الخلق الإبداعي حتى أنصار مبعدي الذات ونفيها عن العمل الأدبي اليوم، معتبرين ذات الفنان قناعا، فإليوت يذهب إلى " أن مسيرة الفنان هي تضحية مستمرة للذات، وإفناء مستمر للشخصية كما أن جيمس جويس يرى " أن شخصية الفنان تسعى إلى أن تصفي نفسها من الوجود، أو بمعنى آخر فإنها تسعى إلى تجريد نفسها".
وبالمقابل فهناك آراء أخرى تؤكد على ضرورة حضور الانا بصورة مكشوفة، " فالشعر الذي تقوم فيه الانا تماما مقام الشاعر يعتبر بالضرورة اكثر علوا من ذلك الشعر الذي ترمز فيه " الانا " ليس للشاعر وإنما لقناعه ".
إن موقف علي كامل من هاتين النظريتين موقف توفيقي، فهو يراوح بين انعكاس ذات المتنبي في شعره وبين أن هذه الذات قد توارت من وراء قناع، وبأن للانا الظاهرة في صوته هي " أنا " أخرى مستترة أو نافية تخالف، أو لعلها تناقض وتنافر كليا وبقوة ما ظهر منها ".
فهذا الاضطراب بين الوجه والقناع تجلى فيه اضطراب التكوين النفسي لدى الشاعر، أمده هذا التناقض العصي عن الحل بحيوية وفعالية شعرية.
إن مبررات حضور الانا، والعناية الفائقة برسم صورة شخصية تتجلى في أن الانا تعكس الاحتراق الداخلي حيث إن المتنبي " وصف شيئا يعرفه في الحياة لا كما هو في الأصل وإنما كما أتفذ في أتون الحياة، ولم يكن من السهل إطفاء هذه الشعلة الملتهبة " ثم إن هناك وفاء كبيرا من طرف المتنبي للتقاليد الشعرية العربية
الأصلية التي تسمح بظهور الشاعر في شعره.
هـ-نرجسية المتنبي :
إن مقدمات التحليل النفسي عند علي كامل أفضت به إلى أن يعالج العقدة النرجسية عند المتنبي، ويكاد جل الباحثين الذين قاربوا المتنبي من وجهة نظر نفسية أن يجمعوا على أن المتنبي كان واقعا تحت سيطرة هذه العقدة، فبدءا من نقد أبى فراس الحمداني للمتنبي مرورا بالعقاد وعبد الرحمان شكري . وصولا إلى سامي اليوسف وعلي كامل، نجدهم يركزون أساس على تضخم الانا حد الجنون.
يميز علي كامل بين مستويين في معالجته للعقدة النرجسية عند المتنبي :
1) النرجسية بالمعنى الضيق، وتتمثل في حب الذات.
2) النرجسية بالمعنى الواسع كما وردت صيغتها الأولى في الأسطورة اليونانية وغي اصطلاحات علم النفس.
وإذا أخذنا المستوى الأول فإننا واجدون أن ديوان الشاعر يفصح بشكل حبي عن هذا الحب المفرط للانا، فقد انبثق هذا النزوع منذ الطفولة أي في المراحل المبكرة المسؤولة عن تكوين الشخصية، وهذه الثلاثية دليل شاهد على توثين الذات وعبادتها :

أي مـــحـل ارتقي



أي عظيم اتقي ( مجزوء الرجز )


وكل ما خلق الله



ومــا لم يـخـلق


محتقر في هـمـتـي



كشعرة في مفرقي


أما إذا أخذنا رمزية الأسطورة اليونانية فإننا سنقف على انه من سوء الحظ أو حتى من المميت أن يشاهد الآنيان انعكاس صورته، وكما أكد ذلك علم النفس الفرويدي حيث تشير النرجسية إلى حالات مرضية بافتتان الفرد بجسده.
إن العقدة النرجسية تتحدد من خلال العلاقة مع الأم، فالطفل يكبت حبه لامه، ويحب نفسه بدلا عنها، أي يقوم بعملية استبدال للصورة المكبوتة بصورة جسده، حيث تصبح ذاته معيارا لاختيار الأشياء التي يحبها.
وتمر هذه العقدة - حسب فرويد - من مرحلتين :
1) المرحلة الأولى : هي المرحلة الطفولية وفيها لا يميز الطفل بينه وبين الأشياء، حيث يتقوى لديها الشعور بالمقدرة العظيمة وأن قوة العالم الهائلة هي قوته.
2) المرحلة الثانية : وهي المرحلة الراشدة وفيها تتضح معالم الفرق بين الذات وغيرها من الأشياء ، ومن هذه المرحلة يتدخل الواقع ليخلق في الفرد شعورا بالفشل والخدلان والرفض ، لذا تتحول الطاقة المتكونة من هذا الشعور إلى الذات.
فكيف سيتم التعامل مع شخصية المتنبي التي لا تعرف عنها الكثير ، أمام هذه التحديدات التي ترد مصدر العقدة النرجيسية إلى الطفولة والعلاقة بالأم والاشتهاء الجسدي ؟
أفصح " على كامل عن وعيه بالعوائق التي تعوق المحلل النفسي لتحليل شخصية المتنبي ، وقد تمثلت في نذرة المعلومات حول طفولته ، وشكله الجسماني وحسن هيأته ، كما أننا لا تعلم شيئا عن طبيعة العلاقة بين المتنبي وأمه. أمام هذا الوضع كان علي كامل يراوح بين نتائج احتمالية.
وقد لجأ إلى تحليل بعض الأبيات الواردة من القصيدة التي يرثى بها الشاعر جدنه. كي يثبت مظاهر وتجليات النرجيسية عند المتنبي.
إن المبرر المنهجي لاختيار هذه القصيدة بالذات هو حضور الجدة التي تقوم من التزكيبة النفسية للمتنبي مقام الأم ، واختياره لأبيات بعينها مرده إلى أنها تتضمن بعض الإشارات النفسية يقول الشاعر :

لك الله من مفجوعة بحبيبها



قتيلة شوق غير ملحقها وصمــا ( الطويل)


أحن إلى الكأس التي شربت بها



وأهوى لمثواها التراب وما ضما


فوا أسفا ألا أكب مقبـلا



لرأسك والصدر ملئا حزما


لو لم تكوني بنت أكرم والد



لكان أباك الضخم كونك لي أما


لين لذ يوم الشامتين بيومها



لقد ولدت منى لأنفهم رغمـا


ركز " علي كامل " تحليله لهذه الأبيات على إبراز الأبعاد النفسية التي تعزز أطروحته حول نرجسية المتنبي، كرابطة الحب والشوق التي تربط بين الشاعر وجدته. وقد توقف المحلل في البيت الأول على قول الشاعر « غير ملحقها وصما " ليستنتج أن احتراز المتنبي من نفي الوصم والعار في موقف لا يمكن أن يتبادر فيه إلى الذهن الوصح فلتة من اللاوعي، وهو تلك الرغبة الجنسية التي يكنها الإنسان تجاه أمه كما يرى فرويد.
أما في البيت الثاني والثالث استوقفه الحنين إلى الموت والاتحاد مع الجدة في القبر وتقيل الصدر، مزكيا بذلك تأويله حول نرجسية المتنبي المؤسسة على نزعة جنسية مكبوتة.
أما في البيت الرابع والخامس، فهناك مؤشرات تدل على أن الجدة تعويض للام عبر الاستبدال المكرر، وان هذا الاستبدال يؤكد حب المتنبي لامه.
إن تعدد القراءات أضحى من بديهيات الدرس الأدبي لكن شريطة أن تتوفر في القراءة عنصر الانسجام، وهذا الشرط يحتم على القارئ أن يرتهن بالنسق الخاص والعام للنص المدروس، فالرؤية التجزيئية للمتن المدروس قد تشرعه على قراءات مبتورة ومغرضة، فهذه الأبيات وردت في قصيدة/مرئية، موضوعها امرأة وصفت بالورع إضافة إلى أنها هي ملهمة الشاعر، فقد ترعرع في أحضانها، فارقها لمدة طويلة، ومنع من رؤيتها، وحينما أتيحت له الفرصة بعث لها برسالة سيتقدمها عنده، لكن المنية حالت دون هذا اللقاء المستحيل، فبعد أن قرأت كتابه قبلته وبكت ثم فارقت الحياة، إن هذا السياق أرغم الشاعر أن يبوح بمقدار حبه لهذه المرأة، وقد بحث عن كلمات وصور قد توهم الدارس النفسي باضطراب نفسي فيما هي صور قد تكون عاجزة عن إيصال الرجة النفسية التي تلبست المتنبي حين سماعه لوفاة أمله الوحيد في الاستمرار في الحياة. هذا من جهة ومن جهة ثانية فقراءة علي كامل تفتقر إلى شرط التعميم، فلكي نستجلي العقدة النفسية فلا مناص من إنشاء شبكة دلالية تشمل المتن الشعري بأكمله مع رصد التكرارات والتوترات الهاجسة، إذ لا يكفي أن نستدل ببيت أو بكلمة ونبني عليها أحكاما قد تسيء للنص والشخص معا.
فأمام هذا التأويل النفسي الذي يستوحي نظرية فرويد الجنسية يبدو " علي كامل " محربا أمام كفاءة النظرية والدلالات التي تبوح بها هذه الأبيات المنتزعة من المرتبة، لذا يقول " ومع أني لا أميل بحماس إلى الأخذ بنظرية فرويد أو إلى تطبيقها بهذه الكيفية على المتنبي غير أن للنفس طرقا عجيبة في الإفصاح عن مكنوناتها قولا أو فعلا، ومن الواضح أن المتنبي في الأبيات التي ذكرتها من رثائه لجدته قد أعطى للمحلل النفسي غذاء للخيال يصعب تركه ".
إن ظهور النرجسة لدى المتنبي - وقف هذا التحليل - نتجت عن كبت الرغبة الجنسية تجاه الأم/الجدة، هذا الكبت تحول إلى طاقة تنمي الذات وإلى قوة دافعة لتقدير النفس.
إن التحليل وفق هذا المنظور يقود ضرورة إلى إثارة مسألة قد تثير من النقاش الكثير، وهي أن النرجسي يميل إلى اشتهاء جسده، لذلك يتجه في حياته الجنسية إلى " المثلية الجنسية "، وإذا تزوج فان زواجه سيكون فاشلا ! فهل كان المتنبي شاذا جنسيا ؟ يذهب علي كامل إلى أن المتنبي لم يذكر زوجته في شعره، كما انه ظل يؤكد في شعره على رجولية ممدوحية. إن هاتين العلتين لا تنهضان حجة لوصم المتنبي بالشذوذ، فعدم ذكر الزوجة يندرج ضمن نسق ثقافي حيث إن اغلب الشعراء لم يذكروا زيجاتهم في الشعر، وحتى أولئك الذين تغزلوا بمعشوقاتهم عوقبوا من طرف القبيلة بمنعهم من الزواج منهن. العذريون على سبيل المثال، إضافة إلى أن المتنبي كان مشغولا عن المرأة بالسلطة، أما حين يمدح بالفحولة والرجولة فانه كان يستعيد زمن الفحولة الذي كاد أن ينسى في عهده. وإلا فالمتنبي كان يثلب أعداءه باللواطية والإحصاء والأبنة ، ولا يعقل أن يهجو بصفات لصيقة به. أورد : أنه ما لاط ولا زمن ولا شرب الخمر ولا صلى ولا صام ولا قرا القرآن ".
ولو أن " علي كامل " عثر على هذا النص الذي أورده البديعي في كتابه " الصبح المنبي عن حيثية المتنبي " لأكد أن المتنبي كان مصابا بهذا الفعل غير الطبيعي : " قال أبو سعيد (خادم المتنبي) : دعاني أبو الطيب ونحن بحلب، ولم اكن : اعرف منه اللهو مع النساء ولا العلمان، فقال لي : أرأبت الغلام ذا الأصداغ الجالس إلى حانوت كذا في السوق ، وكان غلاما وسيما وحالتنا تنافي ما هو سبيله - فقلت نعم، اعرفه، قال فامض إليه وائتني به، واتخذ دعوة فانفق فيها واكثر... وكنت استطلع رأيه في جميع ما انفق - فمضيت، واتخذت له ثلاثة ألوان من الأطعمة وعدة صحاف من الحلوى، واستدعيت الغلام فأجاب، وأنا متعجب من جميع ما اسمع منه، إذ لم تجر له عادة بمثله، فعاد أبو الطيب من دار سيف الدولة آخر النهار وقد حضر الغلام، وفرغت من اتخاذ الطعام فأكلا وأنا ثالثهما، ثم جن الليل فقدمت له شمعة، أمر بوضع دفاتره - وكانت تلك عادته كل ليلة - فقال احضر لضيفك شرابا واقعد إلى جانبه ونادمه، ففعلت ما امرني به كل ذلك وعينه إلى الدفتر يدرس ولا يلتفت إلينا إلا من حين بعد حين، فما شربنا إلا قليلا حتى قال : افرش لضيفك وافرش لنفسك وبت ثالثنا. ولم اكن قبل ذلك أبايته في بيته، ففعلت وهو يدرس حتى مضى من الليل أكثره، ثم أوي إلى فراشه ونام، فلما أصبحنا قلت له ما يصنع ؟ فقال : احبه واصرفه، فقلت له وكم أعطيه ؟ فاطرق ساعة ثم قال : اعطه ثلاث مائة درهم. فتعجبت من ذلك، ثم جسرت نفسي فدنوت منه وقلت له : انه من يجيب بالشيء اليسير وأنت لم تنل منه حظا، فغضب ثم قالها : أتظنني من أولئك الفسقة ؟ اعطه ثلاثمائة درهم ولينصرف راشدا، ففعلت ما امرني به وصرفته ".
إن هذا النص ظني الدلالة ولو أن راويه هو خادم أبو الطيب، فلو أن المتنبي كان معروفا بمجالسة الغلمان لاتخذها أعداؤه وحساده وهم كثر، حجة ضده وثلبوه بها وهذا أمر لم يقع، فما ثبت أن خصما من خصوم المتنبي نسب إليه هذه التهمة. |من تم فان تلقي أخبار المتنبي تحتاج إلى نوع من الجرح والتعديل. ولقد تنبه محمد كمال خيري بيك إلى هذا فعلق على هذا الخبر الذي رواه خادم المتنبي بقول : " فمثل هذا الراوي لا ينبغي أن يؤخذ قوله حجة دامغة مهما قربت صلته بابي الطيب لان مكانته هذه دلت على انه يشتغل بما يأباه شرف النفس، ولا ترضاه الأخلاق الكريمة وذلك مما يسقط عدالته ويجرح شهادته " .
-التعالي كتعويض عن الشعور بالنقص :
يتنبأ - علي كامل - في تحليله لازدواجية شخصية المتنبي نظرية " آدلر " حول مركب النقص والتعويض، منطلقا من مجموعة من الأبيات تدور موضوعاتها حول اصل المتنبي وإخفاقه في المرحلة الكافورية.
إن المتنبي - في نظر علي كامل - كان يخفي شعوره بالنقص من خلال تضخيمه لذاته شعريا، وإسبال صفات العظمة والتعالي من جزء كبير من قصائده، حيث إنه كان يقسم القصيدة المدحية إلى شطرين، يعطي لنفسه الحظ الأوفر من المدح الذاتي وما تبقى يخصصه للمدوح.
فمصدر هذا الشعور يرتبط بعدم اتزان تكوين المتنبي النفسي وبتجربته الحياتية التي استفزت واستنفرت القوى الكامنة والأصلية في نفسه، فهو قد دفع دفعا خفيا إلى هذه النزعة المتعالية.
فالمحلل يحمل نسب المتنبي المسؤولية في الشعور بالنقص فهو يذهب إلى أن والد المتنبي كان سقاء، مستندا في ذلك على كتب الأخبار التي كادت تجمع على هذا الأصل الوضيع اجتماعيا. وقد دفع هذا الوضع المتنبي إلى حدود تعمقت فيها جراحاته النفسية وضاعفت من إحساسه بالضعة والنقص الاجتماعيين فقد كان " المتنبي على تحسس مرهف منذ طفولته بوضاعة اصله، فقد كان ابنا لسقاء، وقد لا يكون في هذا الأصل ما يوهب الشعور بالنقص أو الضعة في فتى آخر، لكن موهبة المتنبي المرتبطة بحساسيته المرهفة لم تكن لتقبل بهذا الأصل الذي لا ينسجم معها وكان لابد له من رفض ذلك في أعماق نفسه أما بالكبت أو بالتعويض أو بالضعف 1 ". لذلك ففي شعر المتنبي منذ صباه اعتداء دائم بفعله لا بنسبه، بنفسه لا بأصله، ألم يقل :

لا بقومي شرفت بل شرفوا بي



وبنفسي فخرت لا بجدودي


ويقول أيضا :

ولست بقانع من كل فضل



بأن أعزى إلى جد همام


فهذه الأبيات يرى فيها علي كامل، أنها تقوم دليلا بعدم قناعة المتنبي بفضل أصله عليه وأنه أفضل من أصله.
ومن مظاهر هذا الشعور بالنقص هو تعرف المتنبي وانتسابه إلى شخصيات مثل شخصية سيف الدولة التي أذاب فيها هذا الشعور ليتساوى مع الممدوح، وقد يكون ذلك وراء استقرار المتنبي في بلاط سيف الدولة تسع حجج، فكل مقومات الشخصية التي يثوق إليها تجسدت في سيف الدولة (العروبة والأصل والنسب الشريف والشجاعة)، لقد حققت هذه المرحلة للمتنبي استقرارا نفسيا حيث تماهت شخصيته مع شخصية سيف الدولة. يقول بهذا الصدد :

ناديت مجدل في شعري وقد صدرا



يا غير منتحل في غير منتحل (البسيط)


أما المرحلة الكافورية وما صاحبها من انكسار وإخفاق فقد ظهرت فيها تباريح المتنبي ومنادبه، فقد أعلن صراحة أنه غير راض على نفسه، متمنيا الموت في وجه الهوان يقول في هجاء كافور :

أريك الرضى لو أخفت النفس خافيا



وما أنا على نفسي ولا عنك راضيا (الطويل)


ايوب صابر 09-06-2010 12:49 PM

اسـتـنــتــاجــات :
من خلال عرضنا لآراء علي كامل حول شخصية المتنبي يظهر أنه كان خاضعا لتأثير النظريات النفسية، حيث حاول أن يمزج في التحليل بين نظرية فرويد حول النرجسة ونظرية آدلر حول مركب النقص والتعويض وبين برنامج ايزانك حول المزاج، مما جعله يتعامل بنوع من الإسقاط، فبالرغم من وعيه بحدود المنهج النفسي في سبر أغوار النفس والكشف عن مكنوناتها وآليات اشتغالها خصوصا إذا كان الموضوع المدروس ينفصل زمنيا عن الذات القارئة، فإنه عمد إلى بعض الأبيات ومارس عليها عملية التأويل بغية تأكيد فرضياته القبلية. إن الأساس الذي يتحكم في قراءته لشخصية المتنبي هو البحث عن لا وعي الشخص معتمدا النص كوثيقة، في حين أن البحث يجدر أن ينصب على لا وعي النص ولا وعي القارئ والوقوف على العلاقة المتبادلة بينهما.
إن علي كامل تعامل مع شخصية المتنبي باعتبارها كتلة من العقد المرضية، مغيبا تجادل هذه الشخصية مع المحيط، وهنا يبرز الفرق بين دراسة يوسف سامي اليوسف وعلي كامل، رغم أنهما تبنيا نفس المنهج، وهنا يمكن أن نثير قضية هامة تتعلق بالاستخدام المنهجي، فهل المنهج يعتبر وسيطا بين الذات والموضوع ؟ أم أنه يوحد المعرفة بالموضوع ويحول دون تعدد التأويلات ؟ أم أن له فقط وظيفة تنظيمية ؟ يعني أنه ينظم إدراكنا للموضوع، أم أن له وظيفة وقائية بحيث يحمي النص من الإسقاطات الذاتية ؟ إن هذه الأسئلة تبرز لنا مدى تمثل النقد العربي للمناهج النقدية الحديثة، ومدى قدرة النقاد العرب على استحداث تشابكات مع هذه المناهج.
فمن خلال وصفنا التحليلي لدراسة اليوسف وعلي كامل خلصنا إلى تبيان الفروق في النتائج رغم اتفاق المبدأ المنهجي، فعلي كامل يرد ازدواجية شخصية المتنبي إلى التكوين النفسي المضطرب لديه، في حين نجد اليوسف يرجع ذلك إلى أن المتنبي انعكس فيه التفاقم والشرخ الحضاري. وقد ربط اليوسف عقد المتنبي مع سؤال المرحلة (أي السؤال السياسي) فكانت تخدم المشروع القومي الذي كان يتوق إليه الفرد العربي في القرن الرابع الهجري، أما علي كامل فقد فسر هذه العقد في علاقتنا بذات الشاعر وتكوينه النفسي حيث بدا المتنبي مريضا نفسيا يكتب الشعر من اجل أن يتداوى به.
أما مقاربتهما للعقدة النرجسية عند المتنبي نلاحظ أن هناك فرقا كبيرا من حيث المنطلق ومن حيث النتائج بالرغم من وحدة الإطار العام للتحليل، فاليوسف لم يرتبط بمفهوم النرجسية كما تكرس في أدبيات التحليل النفسي الفرويدي حيث تعامل مع المصطلح بنوع من المرونة ليلائم الموضوع الدروس، أما علي كامل فقد تعامل مع المصطلح دون اعتبار لخصوصية الموضوع المدروس وحافظ على حرفيته في التطبيقات الغربية مما أفضي به إلى إثارة البعد الجنسي المصاحب لهذه العقدة.
لقد تبين لنا من خلال التحليل أن كلا من اليوسف وعلي كامل مزجا بين نظرية فرويد ونظرية آدلر، وجلي أن كلا النظريتين تختلفان من حيث المنطلقات والأهداف، ففرويد يرى أن الفن هو بمثابة تعويض عن الإحباط وتسام بالغرائز المقموعة والمكبوتة، أما آدلر في نظرية الاحتجاج الرجولي التي هي نتيجة لعقد النقص التي يعانيها كل إنسان في صغره، يرى أن الفنان يصبح بموجب هذه الرؤية شخصا عصابيا يبحث عن إثبات الذات وتأكيدها.
ويحاول فرويد أن يرد كل فنان وكل إثارة إلى أمراض نفسية تسببها رغبات مكظومة وعقد جنسية مكبوتة ترقد في اللاشعور، وتجد هذه الرغبات عند الفنانين متنفسا في الأعمال الإبداعية والفنية، فالركيزة الأساسية في نظرية فرويد هي الغريزة الجنسية التي يبني عليها تحليله النفسي ومن تم يصبح مفهوم التسامي مفهوما أساسيا في العمل الإبداعي. أما آدلر المتأثر بالفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه في نظريته حول الصراع المستمر في الحياة إرادة القوة، فأنه يرى بان الفشل في السيطرة يؤدي بالإنسان إلى الإحساس بالنقص، وهذا المركب يفضي إلى التعويض هذا المفهوم يعتبر المفتاح الرئيس في نظرية آدلر ويلعب نفس الدور الذي يقوم به الكبت والتسامي عند فرويد. ولقد ارتبطت العملية الإبداعية عند آدلر بالشعور بالدونية ومركب النقص.
لقد بصم هذا المزج المنهجي كلا الدراستين باللا انسجام في النتائج المحصل عليها فالمتنبي كما صورته هذه الدراسات مرة نرجسي ومرة سادي ومرة يعاني من نقص أفضي به إلى عبادة الذات وإثباتها بقوة ومرة أخرى شاذ جنسيا. وكل هذه الأحكام تأسست على تحليل بيت أو بيتين من مجموع ديوان بلغت أبياته.
فالمحلل النفسي حينما يتصدى لتحليل أديب فأنه " يدرس كل جوانب شخصية متقصيا المعلومات اللازمة، باحثا في المراحل الفمية والشرجية والقضيبية، متوغلا في مختلف العقد من نرجيسية وأوديبية وقابلية واستعلائية ودونية ، بحيث يكون فكرة متكاملة من الأديب بعدما استوفى مختلف جوانبها. "
إن هذه التوغل النفسي لتحليل الشخصية قد افتقرت إليه كلا الدارسين وذلك جاء نتيجة لعدم توفر المعلومات الكافية عن حياة المتنبي من الطفولة وتعتبر هذه الندرة في المعلومات العائق الجوهري والثغرة القاتلة في الدراسات النفسية التي تتخذ النصوص الضاربة في القدم.
لقد استنتجنا في الأخير أن مقالتي اليوسف ومقالة علي كامل قد حاولتا تطبيق بعض منجزات المنهج النفسي على شخصية المتنبي وبعض من شعره ، فلقد اتسمت دراسة اليوسف بتداخل مستويات التحليل ، إذ لم يلتزم بطريقة محددة المعالم من طرائق التحليل النفسي ، غير أن ما يبدو أساسيا في مقالتيه هو دفاعه المستميت لإنصاف المتنبي، فالمقالتين في العمق لهما طابع سجالي، لأن محاوره الضمني هو كل الدارسين - عربا ومستشرقين - الذين سعوا إلى تبخيس والحط من قيمة شاعر العروبة ، وما هذه الاستماتة في الدفاع عن المتنبي سوى انعكاس لحاجة اليوسف إلى الدفاع عن حاضره المهزوم ، وهو الفلسطيني الذي رأى وطنه ينتزع منه وشعبه مشردا ، لقد كان في حاجة إلى توازن وجداني وإلى دعامة روحية وقد وجدهما في الزخم القوي وفي التيار الفياض لما يجيش به ديوان المتنبي من دعوة لإرادة القوة وتمجيد الذات والتصدي للآخر ، لذا ألفينا اليوسف يعدل من عقد المتنبي ويعتبرها عقدا إيجابية ذات دافعية مثمرة.
وهنا نسجل أن القراءة التي قدمها اليوسف للمتنبي تعكس بالأساس همومه وانشغالاته الحاضرة، فتركيزه على تحليل الأنا والذات المتعالية عند المتنبي ، والتقاطه العميق للأزمة السياسية وللتفاقم الحضاري كل هذه الأشياء هي مواطن اهتمام اليوسف بسبب تماثلها مع الشرط الموضوعي للقراءة.
في حين أن علي كامل اكتفى بتطبيق بعض المقولات في التحليل النفسي ، وظل ينقب عنها في شعر المتنبي، دون أن يترك للنص الشعري فرصة المفاجأة ومن ثم فإنه وقع في شرك ما اسماه جان ستاروبينسكي بالدائرة التأويلية ، حيث لم يتوصل في النهاية سوى لفرضية البداية.
إذن فما هو الجديد الذي قدمته هذه الدراسة لإضاءة شعر المتنبي ؟ من خلال تحليلنا لم نر جديدا ، إذ لم تعمل هذه الدراسة سوى على تسمية ظاهرة بارزة من خلال منطوق شعر المتنبي ، وقد تنبه لها القدماء فكبرياء المتنبي وجنونه بالعظمة هي من الأشياء التي كانت تغيظ معاصريه. ونتيجة لما سلف فدراسة المتنبي من وجهة نظر التحليل النفسي الكلاسيكي كانت كلها تتشابه من حيث النتائج ، ولم تعمل سوى على تسمية ظواهر نفسية متداولة في أغلب الدراسات التي تبنت منهج تاريخ الأدب .


الساعة الآن 07:59 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team