قديم 09-06-2010, 12:39 PM
المشاركة 31
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
شكرا استاذ احمد ...طبعا انا بأنتظار مشاركتك الفاعلة هنا..

قديم 09-06-2010, 12:40 PM
المشاركة 32
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
ب- نرجسية المتنبي عند اليوسف :
نفس المصدر السابق:
إن مصطلح النرجسية استقاه المحلل النفساني سيجموند فرويد من الأسطورة اليونانية، ونرجس هذا هو " ابن الحورية الزرقاء ليروب، من مدينة Thespide، حاصرها يوما إلـــه النهر سيفيسيوس بقنواته، فتمكن من اغتصابها وقد قالت العرافة Lyriopy أن ابنها نرجس سوف يعيش حتى يبلغ سنا كبيرا بشرط أن لا يعرف نفسه أبدا.
وكان نرجس رمزا للجمال، وفي الواقع كان أي شخص له العذر إذا وقع في حب نرجس حتى عندما كان طفلا. وعندما بلغ ستة عشر سنة وقع في حب أحباء وعشاق من الجنسين رفضوا دون رحمة ودون تفكير أن يحبهم، إذ كان لديه غرور كبير.
... وفي يوم من الأيام أرسل نرجس سيفا إلى شخص يدعى امينوس، أحد معجبيه وأكثرهم إلحاحا وقد سمي نهر امينوس باسمه، وفعلا قتل امينوس نفسه على عتبة نرجس داعيا الآلهة أن ينتقموا منه. وسمعت الدعاء الآلهة أرامتوس آلهة الصبر أخت أبولو، وسمعت الصلاة فدعت أن يقع نرجس في الحب. فآثر في يوم من الأيام الذهاب إلى منطقة يطلق عليها " دوناكون " في إقليم ميساثيبا عند نبع ماء صاف كالفضة ، ولم يكن قد عكرته الأغنام ولم تكن الطيور قد شربت منه ولم يسقط فيه أبدا فرع شجرة من الأشجار التي تجاوره وعندما انثنى نرجس ليشرب وقع في حب الصورة المنعكسة في الماء، وفي أول الأمر حاول أن يقبل الولد الجميل الموجود بمواجهته ولكن سرعان ما تعرف على نفسه فظل يحملق مفتونا في النبع ساعة بعد ساعة، وأخذ يتساءل كيف يمكنه احتمال أن يمتلك وفي نفس الوقت لا يمتلك ؟ وهده الحزن ومع ذلك فكان يسعد ويفرح في عذابه عالما على الأقل أن نفسه الأخرى سوف تبقى مخلصة له مهما حدث.
أما عن إكو Echo، فبالرغم مما أصابها فإنها اشتركت معه في حزنه، وكانت تردد ما يقوله نرجس وخاصة في آخر حياته عندما اخذ يردد " خلاص " " انتهى". عندما كان يغمد خنجره في صدره، وأيضا آخر آه نطق بها نرجس هي قول [آه أيها الشقي المحبوب دون جدوى وداعا]. وقد روت دمه الأرض، ومن هذه الأرض نمت زهرة النرجس البيضاء بعروقها الحمراء ".
إن تأويل هذه الأسطورة اليونانية مكن فرويد من اكتشاف هذه العقدة، وهي افتتان الذات بنفسها، وقد حاول اليوسف أن يستجلي معالم هذه العقدة النفسية من خلال شعر المتنبي وسيرته الحياتية.
و لكي يؤكد أطروحته التجأ في البداية إلى مساءلة شعر الصبا وشعر مرحلة المراهقة، فقد استشهد بالأبيات التالية التي قالها المتنبي في صباه :
أمط عنك تشبيهي بما وكأنما
فما أحد فوقي ولا أحد مثلي(الطويل)

إن هذا البيت الذي استشهد به اليوسف قد أربك شراح الديوان، حتى قال أبو العلاء المعري في شرحه للديوان " وقد أكثر الناس في هذا البيت، من حيث أن " ما " ليست من أدوات التشبيه. وقال ابن جني : إن المتنبي كان يجيب إذا سئل عن هذا البيت بأن يقول : تفسيره أنه كان كثيرا ما يشبه فيقال : كأنه الأسد، وكأنه البحر، ونحو ذلك. فقال هو معرضا عن هذا القول : امط عنك تشبيهي " بما " و " كأن "، فجاء بحرف التشبيه وهو " كأن " وبلفظ " ما " التي كانت سؤالا فأجيب عنها بكأن التي للتشبيه وأدخل "ما" للتشبيه لان جوابها يتضمن التشبيه، فذكر السبب والمسبب جميعا.... وقال القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني : إن المتنبي سئل فذكر : أن " ما " تأتي لتحقيق التشبيه كقوله [ عبد الله الأسد] : ما عبد الله إلا الأسد، وإلا كالأسد تنفي أن يشبه بغيره، فكأن قائلا قال : ما هو إلا كذا، وآخر قال : كأنه كذا، فقال امط عنك تشبيهي بما وكأنه، و " ما " في التحقيق للنفي في هذا الموضع، ولكنها تضمنت نفي الأشباه سوى المستثنى منها فمن هذا الوجه نسب التشبيه إلى " ما " و"كأن" ، إذا كان له هذا الأثر .
ويقول ابن سيده في شرح هذا البيت : " أما " (كأن) فلفظة تشبيه، فالكلام بها هنا على وجهه كأنه يقول، لا تقل في : كأنه الأسد، ولا كأنه السيف، ولا كأنه الموت أو السيل فكل ذلك إنما هو دوني، ولا ينبغي أن تشبه الشيء بدونه، إنما المعتاد عكس ذلك. وأما (ما)فليست بلفظة تشبيه بمنزلة كأن، إنما استجازها في التشبيه، لأنه وضع الأمر على أن قائلا قال : ما يشبهه ؟ فقال له المسؤول : كأنه الأسد، كأنه السيف، فكأن هذه التي للمسؤول، إنما سببها (ما) التي للسائل، فجاء هو بالسبب والمسبب جميعا. وذلك لاصطحابهما. ومثل هذا كثير. وقد يجوز أن تكون (ما)هنا بمعنى الجحد، فجعلها اسما، وأدخل الحرف عليها، كأنه سمع قائلا يقول : ما هو (إلا) الأسد، وفي هذا معنى التشبيه أي مثل الأسد، فأبى هو ذلك، ثم رجع إلى النوع الأشرف فقال : " فما أحد فوقي ولا أحد مثلي، مفضلا نفسه عليهم ".
إن أغلب شارحي الديوان استوقفهم هذا الاستعمال الغريب للفظة " ما " باعتبارها أداة تشبيه، ولم ينفذ الشرح إلى الدلالة البعيدة المسكوت عنها في البيت. لذا، فاليوسف في تعليقه على هذا البيت الذي استشهد به من أجل تأكيد أطروحته حول نرجسية المتنبي، لن يتوقف عند سطح البيت فهو يقول : " ربما كان تفوقه على زملائه في الصف، وكذلك شعوره بالنقص الاجتماعي إزاء أولاد الأشراف الذين يشكلون مجمل التلاميذ في تلك المدرسة، هما الدافعان الأساسيان اللذان دفعاه إلى هذا الموقف النرجسي المبكر ". ولتعميق هذه الأطروحة سيستمهد بأبيات أخرى يتجلى فيها الاعتداد بالنفس بصورة مكشوفة يقول المتنبي :
أي محـل أرتـقي
أي عظيم أتقـي (مجزوء الرجز)
وكل ما خلق الله

وما لـم يـخـلق
محتـقـر عن همتي

كشعرة من مفرقي

إن هذا الأبيات التي قالها المتنبي في صباه مفتخرا، اختلف فيها الشراح من حيث الحكم على مضمونها فأبوالعلاء المعري في شرحه، اكتفى فقط بإعادة كتابه الأبيات نثرا، وذاك أن معنى الأبيات لا يكتنفه الغموض، يقول : " أي محل ارتقى إليه ؟ فلا مزيد فوق ما أنا عليه فاصير غليه، وأي عظيم أخشى منه وأقدر ؟ وكل شيء خلقه الله وما لم يخلق بعد، هو محتقر عند همته ".
غير أن أبا البقاء العكبري ، ناقش مضمون هذه الأبيات عقائديا، وأخلاقيا فاتهم الشاعر بالكذب وأنه لزمه الكفر، يقول شارحا الأبيات ومعيدا لشرح الواحدي . قال الواحدي " يريد : أنه لم يبق محل في العلو ولا درجة إلا وقد بلغها، وأنه ليس يتقي عظيما ولا يخافه، وكذب في ادعائه مترقى العلو، بل محله العلو في الحمق، وفي شرح البيتين 2-3، سيستشهد بشرح الواحدي. قال الواحدي : ليس معناه ما لا يجوز أن يكون مخلوقا كذات البارئ وصفاته لأنه لو أردا هذا للزمه الكفر بهذا القول، وإنما أراد ما لم يخلقه، مما سيخلقه بعد، وإن كان قد لزمه الكفر باحتقاره لخلق الله، وفيهم الأنبياء المرسلون، والملائكة المقربون " . أما عبد الرحمان البرقوقي فقد اكتفى في شرح الأبيات بنقل ما ورد في شرح الواحدي.
في حين أن اليوسف سيلاحظ أن هذه الأبيات تعكس نرجسية المتنبي بشكل صارخ وتخفي شيئا آخر، هو الإحساس باللاجدوى، هذا الإحساس الذي ظهر في شعر الصبا بشكل جنيني سيعرف تطورا في مرحلة النضج.
إن النقد القديم الذي تعامل مع المتنبي، وأغلب الشروح المقدمة حول شعره، تعاملت مع شعر الصبا بنوع من التجاوز والصمت، وقد يرجع ذلك إلى المعايير التي سنها النقد، حيث أن هذا الأخير لم يعن بمرحلة الصبا، خصوصا وأن كتب السير والتراجم والوفيات، كانت تقفز في الغالب عن هذه المرحلة فتقدم لنا الشاعر أو الأديب ناضجا. وإذا أشير إلى هذه المرحلة فيقدم فيها الكاتب أو الشاعر قد حصل العلوم والاشعار وحفظ القرآن، ولا يقدم الحيثيات والتفاصيل عن هذه اللحظة.
لقد تحكم هذا السنن الثقافي في جل الكتابات التي ترجمت 1 للمتنبي، بحيث لا تذكر من حياته الطفولية سوى ما يتعلق بالعلم والحفظ وجمع اللغة من أفواه البدو، فنجد أن المتنبي في صغره كان يتردد على مكتب يقرأ فــيـه أبناء أشراف الـشــيــعـة ، وأنـه كـان يـتـردد علـى دكـاكـيـن الوراقـين، إن أبـاه أخذه إلى بـادية السماوة بعد غزو القرامطة للكوفة ، ليتعلم اللسان العربي القح الذي لم تخالطه رطانة أهل المدن.
أما المناهج الحديثة وخاصة المنهج النفسي، فإنها أولت هذه المرحلة من حياة الفرد قيمة أساسية سيما وأن هذه المرحلة تعتبر من المحددات الأساسية لتكوين الشخصية وبنائها. لهذا السبب ألفينا " اليوسف يركز اهتمامه على هذه اللحظة الشعرية ليستخلص منها محددات شخصية المتنبي التي سترافقه طيلة حياته.
خلص اليوسف إلى نتيجة مفادها أن المتنبي أحس بتفوقه وسط محيط كان يشعر فيه بنقص اجتماعي ومن تم أصبحت نرجسيته تعويضا عن هذا النقص، وتعويضا عن الإحساس بالاضطهاد " فالذات تمعن في احتضان ذاتها كلما أوغل الواقع في إحباط النزعات الفردية ". إلا أن هذه النرجسية - كما يرى اليوسف - ليست سلبية خصوصا وان مفهوم الرجولة يتصدر قائمة القيم الاجتماعية و العربية والاعتزاز بالانا هو موضوعة تتواتر بشكل كبير في الشعر العربي. وقد جاء المتنبي ليجسد نرجس الأسطوري في ارض الواقع العربي. وان هذا التجسيد الذي أفضى بالانا حد التضخم ليعد جانبا مهما لإضاءة سر ارتباط العرب بشاعرهم المفضل.
وبالمقابل يلاحظ " اليوسف " ظهور نزعة سادية مجاورة للنزعة النرجسية حيث إن هاتين النزعتين تتعايشان في كيان واحد، وذلك نتيجة للتعامل المزدوج تجاه الإحباط الذي مسني به الشاعر، فهو مرة يتـعالى عليه ومرة يحس بالعبث واللاجدوى.
إن هذا التعامل المزدوج يجعل الذاتي تتأرجح بين نوازع نرجسية ، هي المولدة للنزعة الحيوية وحب الحياة، ونوازع سادية لحب الموت والفناء. فهذه النزعة الأخيرة هي التي أبرزت في شعر المتنبي ميولا مبكرا نحو تدمير الذات، وقد اعتبرها اليوسف ظاهرة ثانية مركزية عند المتنبي.

قديم 09-06-2010, 12:41 PM
المشاركة 33
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
ب- النزعة السادية عند المتنبي أسبابها وتجلياتها
لجأ اليوسف ليؤكد هذه النزعة إلى مجموعة من الخطوات منها أنه :
1- اعتمد بداية على شعر الصبا، محاولا التحقق من فرضية أن المتنبي أبدي منذ الصغر ميلا واضحا إلى القتال، مستدلا بخبر ورد في اغلب كتب الأخبار : " فقد قيل له يوما وهو لم يزل تلميذا في المكتب ما احسن هذه الوفرة (أي الشعر الغزير) فقال :

لا تحسـن الــوفـــرة حـتـى تـرى



منشورة الضفرين يوم القتال " ( ).


ويقول في موضع آخر وهو لازال طفلا :

ألا ليست الحاجات إلا نفوسكم



وليست إلا السيوف وسائل( الطويل )


إن هذه النزعة القتالية ستتطور عبر الزمن وتقلب الأحداث لتتحول إلى نوع من السادية.
2- لكي يبرهن على هذه الفرضية لجأ إلى استقراء الصور الشعرية المتواترة في شعر المتنبي التي تعكس الموضوعة الأساسية لديه في - اعتقاد اليوسف -وهي موضوعة " الالتذاذ بالموت ". فقد نظم عناصر هذه الصور في سلك واحدة قائلا : " الموت في الحرب جني النحل في الفم. يحف به رجال كأن الموت في فمها شهد. وأن المنية عند الذل قنديد (عسل السكر). لقد صمم أن يرى روحه على الأرماح سائلة، وان يكتفي بالدم الجاري على الديم. وأخذ يفكر في معاقرة المنايا. وأغرم بسفك دم الحواضر والبوادي، وأقدم إقدام السيل حتى كأن له سوى مهجته أو كان له عندها تأثر. وإذا عاش فسيجعل الحرب أمه والسيف أخاه والرمح أباه. بل هو يصرح بان القتل هو المسكن الوحيد لروحه :

وما سكني سوى قتل الأعادي



فهل من زورة تشفي القلوبا ( الوافر )


إن موضوعة الموت تشكل هاجسا ملحاحا في شعر المتنبي، حيث أن رؤية العالم لديه تتشكل في فلك هذه الموضوعة، ومن تم تندغم النرجسية لديه بالسادية، هذا " يعني أن ذلك الإعجاب الشديد بالانا لا يمنع النرجسي من أن يوجه إلى ذاته اكبر أذى يمكن أن يلحق بها، الشيء الذي يؤكد أن النرجسيين لا يحبون ذواتهم إلا بقدر ما يكرهونها، ولهذا فإننا نزعم أن المتنبي لا يملك نزعة عدوانية ضد الآخرين وحسب، بل هو يكن القتل لنفسه أيضا، ومثل هذا النزوع هو عقوبة للذات من اجل إخفاقها في مضمار إشباع الدوافع ". ولقد بلغت هذه النزعة التدميرية للذات مبلغا صريحا في قوله :

كفى بك داء أن ترى الموت شافيا



وحسب المنايا أن يكن أمـــانيا (الطويل)


تمنيتهـا لـمـا تـمنيت أن ترى



صديقا فأعيا أو عدوا مداجـيـا


لقد ورد هذان البيتان في مطلع القصيدة التي مدح بها المتنبي كافورا الأخشيدي ، وهي أول قصيدة قالها المتنبي بحضرته كافور بعد رحيله عن سيف الدول.
إن مثل هذه المطالع اعتبرها النقاد العرب القدامى " إساءة للأدب " بالأدب ، حيث أن ذكر الموت في مثل هذا المقام يبعث على التشاؤم ؛ فالمتنبي في هذا المطلع كان واقعا تحت تأثير الفراق المر وتأثير النزعة اللاشعورية للموت باعتباره محركا أساسيا لعوالمه المتنبي الباطنية. لقد أرغم هذا الوضع الشاعر على خرق أدبيات المقام المدحي الذي قيلت فيه القصيدة.
إن هاجس الموت انبثق في شعر الصبا عند المتنبي ورافقه إلى أخريات حياته، حتى أن آخر قصيدة قالها المتنبي بحضرة عضد الدولة البويهي نعى فيها نفسه قائلا :

وأنى شئت يا طرقي فكوني



نجاة أو أذاة أو هلاكا الوافر


وديوانه يضج بالإحالة إلى هذه النزعة، مرة في وصفه للحروب أو في وصفه للصيد في طردياته ومرة في تأملاته الوجودية أو في مراثيه. وإننا نلفي ذكرا لهذا النزوع في بعض قصائده المدحية. لقد أصبح الموت آلية دفاعية في لاشعوره، وقد رد اليوسف مصدر هذا النزوع إلى طبيعة العلاقات الاجتماعية المتناقضة التي عاش فيها المتنبي.

قديم 09-06-2010, 12:42 PM
المشاركة 34
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
ج- المتنبي والاغتراب :

نفس المصدر السابق
يرجع اليوسف استمساك المتنبي بذاته إلى الإحساس القوي باليتم وإلى وهن العلاقة بينه وبين الآخرين، ويعتبر نرجسيته تعويضا عن هذا الوضع المربك، " فحين تتناقض كمية العطف المتلقاة من الآخرين يعمد الفرد إلى تعويض، يتلخص في أن يقوم هو بإغداق الحنان على نفسه.. ويأتي تعاطف الذات مع ذاتها بمثابة آلية دفاعية تحول دون الانهيار الداخلي "، إن هذه النرجسية تخفي شدة الحاجة إلى عطف الآخرين، وبهذا الصدد يستشهد اليوسف بهذين البيتين :

أنا ترب الندى ورب القوافي



وسمام العدى وغيظ الحسود ( )


أنـا في أمـة - تـداركها الله-



غـريـب كـصـالح في ثمـود


معلقا عليهما بقول " البيت الأول نرجسية مفرطة أما البيت الثاني فغربة وشعور حاد بالاضطهاد " .
إن الملاحظة الأولى التي يمكن أن نبديها من خلال هذه الاستنتاجات في التحليل عند اليوسف، هي أنه طبق بعض مقولات المنهج النفسي عند آدلر، الذي ينطلق من فرضية أن الإنسان كائن ناقص، إما عضــويا أو اجتماعيا، ولكي يتفادى عقدة النقص والدونية يلجأ إلى استحداث آليات تعويضية تضمن له التوازن النفسي، أما الملاحظة الثانية فتتجلى في المراوحة بين معطيات التحليل النفسي الفرويدي والأطروحات الأدلرية، خصوصا حينما عالج العقدتين النرجسية والسادية معتبرا أن النرجسية هي بمثابة آلية تعويضية عن فقدان الحنان الأمومي.
في خضم هذه الأجواء النفسية المعقدة يطفو على سطح التحليل مصطلح الاغتراب، هذا الأخير يتصل أساسا بالجوانب النفسية لدى الإنسان، وهو مفهوم ضارب في القدم من حيث ملازمته اللصيقة بالإنسان وكينونته منذ أن وطأت قدمه الأرض، أي منذ الخطيئة الأولى التي جعلت الإنسان ينفصل عن موطنه الأصلي، أي الزمن الفردوسي، حيث ظل هذا الإنسان يعيش اغترابا وجوديا ونفسيا في مواجهته للمجهول. فالقلق الوجودي، والإحساس بالتيه في العالم وفتور العلاقات الاجتماعية هي عوامل تولد الإحساس بغربة الذات في العالم. ومن تم فإن المفهوم يتخذ بعده الفلسفي، إذ كلما قوي الوعي والإدراك اتسعت دائرة الاغتراب.
يعتبر اليوسف أن إحساس المتنبي المبكر بالضعة والهوان هما المسؤولان عن الإحساس بالاغتراب، مستدلا على ذلك بالرجوع إلى المعجم الشعري في المراحل المبكرة من حياة المتنبي، فقد استقرى هذه المرحلة ليجدها " تعج بألفاظ في مثل : الهوان والغربة، العز، الذل، عزيز، كريم، العجز، الجبن، وإن دلت هذه الألفاظ على شيء فإنما تدل على طموحه في التفوق، الشيء الذي يخفي وراءه حسا عميقا بالضعة ".
إن هذا الحس الاغترابي وليد التصادم بين نزعتين، فالمتنبي يحس بنفاسته وبصغاره في الوقت نفسه، في عمق الهوة بين رغبته وطموحه وبين الواقع. من ثم فإن المتنبي أضحى بطلا إشكاليا. يشبه بالمسيح المضطهد من طرف اليهود وبصالح الذي أنكرت عليه ثمود نبوءته.
غير أن إحساسه بالدونية ليس سلبيا، لان " اشتداد حس الدونية يتناسب طردا مع قوة الشخصية وشجاعتها وأصالة محتواها، مثلما يتناسب طردا مع شدة ميلها نحو رفض الواقع الدنيء انه انكشاف ظاهري لعمق حس الأنفة ".
فالمتنبي في تصور اليوسف هو تلك الشخصية التي استلهمت العصر وتمثلته، إنه تمثل حي لعصر ينوء بتناقضات صارخة، إنه ذلك المبدع الفرد الذي استطاع أن يعبر عن رؤية العالم لمرحلة بكاملها، رؤية عصر في حالة انهيار وسقوط. وآية ذلك أن شخصية المتنبي وشعره مبصومان بتقابلات ومفارقات صارخة، فلديه جنوح نهم نحو " العليان والتفوق الذي يواجهه حس القنوط واللاجدوى 2 ". لقد أدرك المتنبي الانحطاط بوصفه " ضرورة تاريخية محتومة، بوصفه القدر الموضوعي للإمبراطورية، والدليل على ذلك هو فكرة الزمان الهرم الذي يطرحه مقابل الزمان الشاب ".
إن المتنبي يعيش بين قوتين متضادتين جعلتاه يعيش طوال حياته معاناة ممزقة. وقد أدى هذا الصراع - حسب اليوسف - أحيانا إلى التنكر لبعض مبادئه القومية، حيث تخلى في أخريات حياته عن اعتقاده في قوة العربي حين مدح ابن العميد حيث " أرغمه نزوعه الرضوخي في أحيان قليلة إلى خيانة مبادئه القومية العزيزة عليه 1 " ومرد هذه الردة القومية نابع من بعدين : إحدهما نفسي والآخر اجتماعي انعكس في مدى تعمق الهوة بين الفرد وآلة الدولة.
نستنتج من خلال هذا التحليل أن معالم المنهج عند اليوسف متعددة المشارب، إذ يمكننا رد المصطلحات التي اشتغل بها الى حقلين رئيسيين : حقل نفسي وحقل اجتماعي.
فمصطلحات الفرد والعليان والشخصية المزدوجة كلها تحيل إلى البعد النفسي، في حين أن آلة الدولة وأزمة العصر والروح العربي والانعكاس تحيل إلى الحقل الاجتماعي، فاليوسف يصف الظاهرة من وجهة نظر التحليل النفسي ويفسرها بآليات المنهج الاجتماعي و البنيوي التكويني. أن النتائج الذي خلص إليها يطغى عليه التفسير السوسيولوجي، فالمتنبي، من خلال تحليله، هو المعادل الموضوعي لعصره، وهو مرآة عكست الشرخ الحضاري، وان استمراريتة المتنبي وصموده جاءا نتيجة لتجذر المتنبي في عصره أو تجذر العصر فيه. وحين أراد اليوسف أن يلتمس حلا للتناقض الكامن في شخصية المتنبي عزاه إلى التناقض الصارخ في المجتمع، وعمد إلى معيار كمي، مبرزا أن العليان والتسامي لدى المتنبي اكبر من النزعة الرضوخية في تركيبه النفسي، وذلك أن نزعة التسامي متجذرة في ذاته بينما نزعة الخمود يقحمها الواقع الخارجي على نفسه، فهو شبيه لعصره، إذ الأصل فيه القوة والسمو أما الخمود فهو نتيجة عامل خارجي

قديم 09-06-2010, 12:43 PM
المشاركة 35
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
د-المتنبي والقلق الوجودي :
نفس المصدر السابق

لقد توصل اليوسف إلى أن سر صمود شعر المتنبي يكمن في تجذره في عصره، وانه استطاع أن يعكس العصر بكل تناقضاته، غير أن السؤال الذي يطرح في هذا السياق، هو هل خلود الشعر رهين بانعكاس العصر الذي قيل فيه ؟ أم هو مرتبط برصد الأسئلة الوجودية المقلقة ؟
إن شروط تلقي الشعر التي تضمن له الاستمرارية لا تنحصر فقط في هذه الرؤية الانعكاسية، بل لابد من التماس أسباب أخرى تحمي الشعر من الاندثار والنسيان، وتجعله قادرا على استنفار أجهزة التلقي عند القراء المفترضين. لهذا السبب، راح اليوسف يبحث عن سبب آخر له من المعقولية ما يكفي للبرهنة على هذا الذيوع الذي اربك النقاد القدامى والمحدثين، وسيحاول اليوسف أن يضع مبضع تحليله على أهم هذه الأسباب " إنه القلق الوجودي، أي الإحساس بوطأة الصراع الداخلي بين الوجود والعدم"، ما يلاحظ على هذا التفسير هو أنه يمتح من الحقل الفلسفي الوجودي الذي تبلور على يد مجموعة من الفلاسفة كهيدجر وسارتر ، بالرغم من أن اليوسف لا يحيل في دراسته على مرجعياته، فإن لغته الواصفة تكشف عن طبيعة هذه المرجعيات، فمصطلح القلق الوجودي والكينونة والوجود والعدم هي مصطلحات قادمة من الحقل الفلسفي الوجودي الذي يحيل إلى علاقة الكائن في العالم.
إن عذا الإحساس العميق بالحياة، وبوطأة الصراع الداخلي، مكنا المتنبي من التعبير عن الصراع الداخلي لدى الإنسان بين الوجود والعدم، وقد يكون هذا السبب جزءا من تفسير معقول لإعجاب الناس بشاعر الكوفة طوال هذه الأزمنة، ولقد ألمح القاضي الفاضل إلى هذا المعنى، قال ضياء الدين بن الأثير في كتاب " الوشي المرقوم " : " وكنت قد سافرت إلى مصر سنة ست وتسعين وخمسمائة ، ورأيت الناس مكبين على شعر أبى الطيب المتنبي دون غيره، فسألت جماعة من أدبائها عن سبب ذلك وقلت : إن كان لأن أبا الطيب دخل مصر فقد دخلها قبله من هو مقدم عليه وهو أبو نواس الحسن بن هاني، فلم يذكروا لي في هذا شيئا ثم إني فاوضت عبد الرحيم بن علي البـيساني (القاضي الفاضل )، رحمه الله فقال لي ' إن أبا الطيب ينطق عن خواطر الناس '. ولقد صدق فيما قال ".

قديم 09-06-2010, 12:44 PM
المشاركة 36
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
هـ- البطل التراجيدي وعقدة الملك :
نفس المصدر السابق
في معرض الحديث عن التناقض الحاد الذي كان يعتلج في صدر الشاعر، حيث أنه كان يعتقد سموه وأهميته، في حين أن الملوك عاملوه معاملة مداح مرتزق إلا قليلا منهم، ستطفو إلى السطح عقدة غريبة دعاها اليوسف " عقدة الملك " ومفادها " أن أبا الطيب من الملوك وان كان لسانه من الشعراء ". ومن أجل تحقيق هذا الاعتقاد أشهر السلاح وقاتل لمدة سنتين. لقد توصل اليوسف إلى استجلاء هذه العقدة من خلال منطوق شعر المتنبي، إذ صرح الشاعر غيرما مرة بهذه الرغبة في الملك وتسيير شؤون الدولة ، وأحيانا ألمح لهذه الرغبة بانتقاده للأمراء والخلفاء العجم ، إن هذه العقدة ليست مرضية بقدرما أنها تعكس انخراط المتنبي في هموم العصر، وذلك أن السؤال الجوهري الذي طرح في عصر المتنبي هو سؤال الوحدة السياسية.
فالأمر أساسا يتعلق بقضية التوحيد، فبالرغم من أن اغلب شعر المتنبي خصص للمدح، فانه تضمن رؤى سياسية عميقة، تجلت في إصراره على الدعوة إلى التوحيد، وقد انعكست هذه الدعوة في تصوره لبناء القصيدة التي جاءت ، بمثابة إطار تركيبي يوجد ما بين القول الشعري التخييلي والقول الحكمي الفلسفة، وقد قام بمثل هذا الصنيع الفيلسوف الفارابي المعاصر له حين ذهب إلى التوفيق بين رأي الحكيمين وبين الفلسفة والدين. وقد نحى نحوهما بديع الزمان الهمداني في نفس العصر إلى التوحيد بين الشعر والنثر في مقاماته. لهذا فإن الإمساك بسؤال المرحلة، والوقوف على الإجابة المقدمة شعريا من طرف المتنبي تعتبر السبيل السالك لفهم هذه الرغبة الملحاحة للانخراط في الهم السياسي.
لقد تعززت لدى المتنبي عقدة الملوك، حين اصبح لا يرى المجد إلا في تضريب أعناق الملوك، سواء كانوا عربا أو عجما، لاسيما العجم الذين نظر إليهم بأنهم من أسباب انحطاط الإمبراطورية الإسلامية.
إن عقدة الملك هاته تقرب شخصية المتنبي من شخصية امرئ القيس، إذ يمكننا أن نرصد التشابه بينهما في اكثر من مستوى، فكلاهما من اصل واحد، من اليمن، وكل منهما راح يبحث عن الملك فاخفق ، إلا انهما عادا ملكين في مملكة الشعر، حتى قيل في حقهما " فتح الشعر بكندي وانتهى بكندي " ، وكلاهما ماتا موتا تراجيديا حيث قتلا في طريق العودة الأول مات بحلة مسموما في أنقرة ، والثاني قتل من طرف الأعراب بدير العاقول

قديم 09-06-2010, 12:45 PM
المشاركة 37
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
الجدل النفسي والفني في شعر المتنبي
إن هذا القسم الثاني من الدراسة خصصه اليوسف لإبراز العلاقة الجدلية بين العوامل النفسية والفنية في شعر المتنبي، وذلك أن المتنبي " قد تخلد على الزمن بسبب من قيام النفساني بإنتاج الأبعاد الفنية لشعره "، فكيف انعكست هذه السمات على الخطاب الشعري ؟ وكيف وجهت عالمه من حيث الرؤية والبنية ؟
لخص اليوسف العوامل النفسية المتحكمة في العالم الشعري للمتنبي في ثلاثة :
1) النرجسية،
2) ازدواجية الميول،
3) حس الإحباط.
i- النرجسية وإعادة كتابة التاريخ :
إن مقولة النرجسية ليست قيمة سالبة بل موجبة، فهي من مآثر المتنبي لا مثالبه، حيث إنها كانت بمثابة طاقة دافعة إلى تمجيد الذات التائقة إلى التحرر وبلوغ الكمال الإنساني عبر مقولة أساسية وهي إرادة القوة، فلقد ظل المتنبي يشيد بهذه المقولة طيلة حياته الشعرية.
اختار اليوسف بعض الأبيات للتدليل على هذه المقولة، مبرزا أن المتنبي قد " أصاب كبد الحقيقة حين طرح الافتراس قانونا أساسيا للتاريخ الاضطهادي، وحين أدرك أن نزعة الأرصاخ هي الدافع النفساني المركزي للسلوك في الحضارات القمعية، وحين بين أن القوة مطلب أساسي لكل فرد ". يقول المتنبي :

إنما أنـــفــس الأنــيــس سباع



يتفارسن جهرة واغـتــيـالا ( )


من أطاق التماس شتى غلابا



واغتصابا لم يلتمسه سؤالا


كــل غـاد لحــاجـتـه يـتمنى



أن يكون الغضنفر الرئبال "


من خلال تعليق اليوسف على هذه الأبيات تلوح معالم سر التشبث القوي بهذا الشاعر، وذلك من خلال تمجيده للقوة، باعتبارها قيمة خالدة، وهنا يستعير الناقد التصور الماركسي الذي يفسر خلود الروائع بربطها بالقيم الإنسانية الكبرى. يقول " من الواضح أن الفن الخالد هو الذي يتعامل مع القضايا الأكثر ثباتا في النفس ". ولقد ربط اليوسف مقولة القوة بنرجسية المتنبي وإحساسه باللاأمن، وبالضعة والاغتراب في زمن السقوط والانهيار. لا جرم أن ما يدعو إليه المتنبي هو شيء متأصل في الذات العربية ومحدد لكينونتها، إنه مفهوم الأنفة والرجولة وتمجيد الانا.
أ/ العودة إلى زمن البدايات :
إن عودة المتنبي إلى تضخيم الانا هي عودة إلى بدايات الزمن العربي، لذا فإن اليوسف يتساءل بهذا الصدد عن معنى عودة أبى الطيب إلى " تلك المرحلة الوثنية ومفاهيمها وقيمها الرجولية ؟ ما معنى أن يتبنى المعتقد الجاهلي الضخم الذي هدمه الإسلام والذي يتلخص بان العرب فوق كل الأقوام ؟ ".
لقد كف الشعر العربي قبل المتنبي عن بسط الانا المتضخمة، غير أن المتنبي جعل هذه الإشكالية محور شعره، فما هي أسباب هذه العودة ؟ يلتمس اليوسف عاملين لتفسير هذه الظاهرة لخصها في :
1) العامل الفردي : تمثل في إخفاق الشاعر في إنقاذ المرحلة من الانحطاط، وفي إخفاق العصر أمام العبودية، هذا الإخفاق المزدوج ولد لدى الشاعر نزعة نكوصية والتفافا حول الذات من أجل الاحتمــــــاء بها،إذ إحساس المواطن بالإهانة القومية أو الاجتماعية يشده بقوة إلى ما يمكن أن يبقى له شخصيا، أعني كرامته الفردية ".
2) العامل الجماعي : فأمام انهيار الحضارة العربية راح المتنبي يبعث الحياة في السماة النفسية التي أبرزت التفوق العربي في الماضي وهي الأنفة والكرم ورفض الخضوع للأجنبي ومن ثم فالعودة للأصول هي عودة دفاعية طفت بشكل حتمي كإجابة عن النكسة والسقوط. إن نرجسية المتنبي من خلال هذا المنظور تصبح ضرورة وليست عقدة مرضية.
ب/ المتنبي كتجسيد للمطلق :
استطاع المتنبي أن يضع يده على جوهر الكينونة العربية، مجسدا بذلك قيمها الكبرى، وبذلك ظهرت قوته " لأنه يستشير في داخلنا حاجة ويشبعها، ويعزز في أعماقنا تلك القيمة الأساسية، أعني قيمة القوة ، فقد جسد المتنبي المطلق، بتجاوزه للظرفي والمرحلي، فهو لم يكن فقط إنتاجا لزمنيته الصغرى في لحظاته القوية، وبذلك أصبح شعره نصا جامعا يشتمل على تجارب الشعر العربي السابقة، إن الماضي الشعري هو المؤسس الأكبر لمجمل إنتاجه فقد " لخص أبو الطيب كل عصور الشعر العربي السابقة عليه : لخص نزوع الجاهليين نحو القوة عبر تمثله للانا الجاهلية المتضخمة، ولخص موضوعة الإقصاء الاجتماعي التي كانت محور العذريين الأمويين، ولخص نزوع شعراء العصر العباسي الأول نحو الصورة والمجاز والتجديد في مضمار لغة الشعر وأشكاله الفنية، ولهذا كان شعره يضم لغة العصور الشعرية كلها ".
إن استمرارية الماضي في الحاضر في وعي العربي هي المسوغ الرئيس لاستمرارية المتنبي، خصوصا وان الآمة العربية الحديثة منيت بهزائم ونكسات وإخفاقات سياسية كبرى، إن مثل هذه الأوضاع المازومة تستدعي ضرورة صوت المتنبي باعتباره شحنة وجدانية أملا متجددا.

قديم 09-06-2010, 12:46 PM
المشاركة 38
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
سلطة النفسي على شعر المتنبي :
وقف اليوسف على مجموعة من الظواهر الفنية المميزة لشعر أبى الطيب محاولا إرجاعها إلى الأصول النفسي، منطلقا من فرضية أن المكون النفسي هو المسؤول على إنتاج المكون الفني.
إن أولى الظواهر الفنية المائزة التي استوقفته هي تواتر المبالغة وتضخيم الصورة، وقد استشهد في هذا الإطار بيت شعري واحد :

ورعن بنا قلب الفرات كأنما



تخر عليه بالرجال سيول (الطويل)


فلم استغنى اليوسف بهذا المثال عن مجموعة من الأبيات الشعرية تتضمن مبالغات ؟ في اعتقادي، أن اليوسف اختار هذا النموذج ليعزز به أطروحته حول تواتر أسلوب المبالغة المنبني على مفهوم إرادة القوة " لان رغبة المتنبي في القوة هي ما دفعه باتجاه تضخيم الصورة عبر شحنها بتشبيهات واستعارات قائمة على المبالغة في القوة " .
فمواطن الاهتمام في تحليله للبيت ، ركزت على المظاهر التي تشير إلى القوة، كترويع الخيل لقلب النهر، والهجوم عليه بكثافة وزخم، وسيول المقاتلين.
إن هذا الاستشهاد بمثابة نموذج يمكن أن نقيس عليه جل مبالغات المتنبي، لكن هل كل مبالغات المتنبي جيدة ؟ سيكون الجواب بالنفي، إذ يتراوح توظيف المبالغة في شعر المتنبي بين القوة والضعف، وقد وضع اليوسف قانونا كليا لعيار توظيف أسلوب المبالغة عند المتنبي، حيث إن النزعة الإضاخية هي المنتجة للمبالغات الجيدة أما النزعة الرضوخية فهي المسؤولة على إخفاق المتنبي في تحقيق مبالغات جيدة، وفي غياب استشهادات نصية لتأكيد هذا القانون الكلي يدعو اليوسف إلى ضرورة تحليل الصور المجازية عند المتنبي وتفكيكها ثم ردها إلى مكوناتها الأولية من اجل الوصول إلى النواة الأصلية التي هي نزعة القوة والسيطرة.
أما الظاهرة الفنية الثانية المنبجسـة من نزوع المتنبي نحو القوة فهي الطابع الملحمي، خصوصا في وصف الحرب والقتال، حيث صير الشاعر ألفاظه في وصف المعارك تنوب مناب الفعل. إن هذا التجويد في الوصف نابع من تفرده في وصف الأشياء المتحركة. مما يضفي عليه حيوية نشيطة.
إن هذه النزعة الملحمية تستأثر باهتمام القارئ لأنها تشبع فيه جنوحا نحو القوة من أجل إثبات الذات. وهنا يوظف اليوسف مفهوما أرسطيا ينتمي إلى الحقل النفسي، إنه مفهوم التطهير، يقول " ويبدو أن هذا القانون النفساني الكبير هو المبدأ الأول الذي انتج الملاحم الشعبية في الثقافة العربية إبان انحطاطها، فربما كان السلاطين يدركون هذا المبدأ حين حثوا الكتاب على تأليف " تغريبة بني هلال، ورواية ' سيف بن ذي يزن '، وقصة عنترة وحكاية " الزير " ... وعلى هذا المبدأ نفسه يمكن أن نفسر ولع الأطفال بأفلام الحرب والملاكمة والفروسية والمغامرات ".
أما الظاهرة الثالثة فهي ظاهرة التقابل، وبالرغم من أن هذه الظاهرة تنتمي للحقل البلاغي فان الناقد سيعطي الأولوية في دراستها للملمح النفسي والاجتماعي. يرى اليوسف أن التقابل في شعر المتنبي هو نتاج لازدواجية حادة في شخصية المتنبي، تمثلت في التقابل بين التسامي الحيوي والتشاؤم العدمي، مما عمق حسن التضاد في وعيه الفني.
ينطلق اليوسف من فرضية ضمنية تفيد أن النص الأدبي ذو وجهين وجه ظاهر والآخر باطن، ومهمة التحليل هي الانكباب على الوجه المخفي للنص والشخص إضافة إلى سعيه الحثيث نحو القبض على الأنوية الكلية المتحكمة في ديمومة شعر المتنبي. لذا فانه في تناوله لظاهرة التقابل، سيقف على القانون الأساسي لهذا المظهر البلاغي مسترشدا بمفهوم التضاد الفلسفي وأثره في ذهن المتلقي، فقد بين " فلاسفة الجدل أن التضاد هو القانون الأكبر للواقع والوعي في آن معا. وهذا يعني أن كل تضاد يعكسه الفن من شأنه أن يغذي العقل وان يشده إليه نظرا لان العقل لا يمكن لشيء أن يجتذبه اكثر من التضاد " .
فاليوسف يبحث عن عوامل موضوعية للتقابل الحاضر بشكل بارز في شعر المتنبي من خلال النفسي والاجتماعي، إذ يتعذر فهم المتنبي بمعزل عن عصره ومن حيث أنه انكشاف ذاتي لتخلخل يجري في الواقع الموضوعي. إن نتائج التضاد والتقابل عمقت لدى المتنبي حس الأزمة والتوتر، وجعلته يقيم مبالغات أدبية على مبدأ المفارقة حيث تواتر في شعره الطباق كحامل شعوري للتضاد، ليؤدي وظيفة اجتذاب المتلقي مع تحقيق عنصر التنوع التعبيري.
ولقد عمق وعي التضاد حس الحركة في شعر المتنبي، وبهذا الصدد يستعير اليوسف المفهوم الهيجلي حول قانون الجدل قائلا " إن أهم القوانين الجدل أن الشي يتحرك بسلبيته الداخلية 2 ". وليدلل اليوسف على هذه الفرضيات وقف على مجموعة من الأبيات الشعرية تعكس هذا الحس الحركي عاقدا مقارنة بين المتنبي وامرئ القيس. ومن بين الأبيات التي استوقفته قول الشاعر :

على قلق كأن الريح تحتي



أوجهها جنوبا أو شمالا ( الوافر )


لقد استوقفته كلمة " قلق معلقا عليها بأنها تعني في العربية الاضطراب والحركة الدائمة للشيء في آن معا.
إن العنصر الحركي في شعر المتنبي علامة مائزة، لفتت انتباه النقاد القدامى والمحدثين، إلا أن اليوسف يشير إلى أن هؤلاء النقاد فاتهم ملاحظة الدور الذي تلعبه الألفاظ الدالة على الحركة في التأثير على المتلقي، ومرد ذلك في نظره أن النقد اللغوي لم يدخل بعد إلى ثقافتنا المعاصرة. وهذا الدور هو ما يمكنني أن ادعوه بالفاعلية التأثيرية المحايثة أو الفاعلية التعبيرية اللامباشرة " . فما المقصود بهذه الفاعلية ؟ إنها المستو الباطني للقول الشعري، ولإبرازها يعمد اليوسف إلى تحليل بيت شعري ورد في قصيدة للمتنبي يرثي فيها أم سيف الدولة يقول :

ونرتبط السوابق مقربات



وما ينجين من خبب الليالي


فقد ميز اليوسف بين مستويين لتحليل هذه الصورة :
1) المستوى السطحي المباشر : وفيه أبرز أن الخيل لا تنجينا من الموت، فهناك مطاردة بين خيلين : الخيل الحقيقية والليالي. لكن خيلنا لا تنجينا من خيل الليالي.
2) المستوى الباطني : وفيه يبرز أن وقع العدو القابع في خلفية الصورة هو الذي أضفي على البيت قوة تعبيرية وجمالية، فالحركة في البيت بشكل فني يتخذ وسيلة للتعبير عن فكرة عميقة.
وكذلك الشأن بالنسبة للميمية التي مدح بها الشاعر سيف الدولة في موقعة الحدث والتي مطلعها :

على قدر أهل العزم تأتي العزائم



وتأتي على قدر الكرام المكارم (الطويل)


يمكن رد عظمتها وقوتها إلى جمالية التضاد والحركة. لذا فاليوسف يدعو إلى دراسة موسعة لتحليل شعر المتنبي تحليلا لغويا، لإبراز الدور الذي تلعبه صور الحركة في العالم الشعري لدى المتنبي.
لقد أضفى حس الحركة ووعي التضاد على شعر المتنبي بعدا ثنائيا تجلى في هيمنة الطباق كوجه بلاغي وظيفي وليس زخرفيا ، فهذا البناء المزدوج يعكس بالمقابل واقعا متناقضا، فهناك جدل بين الفني والواقعي " وبديهي أن اللغة المتناقضة هي من سمات الوعي المتشعب، أعني الوعي المدرك للسلب والعامل على تخطيه. إن مثل هذا الوعي يقع في مشاقة حادة مع شرطة التاريخي أدت إلى مشاقه حادة داخل اللغة

قديم 09-06-2010, 12:49 PM
المشاركة 39
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
علي كامل : المتنبي والنفس:
1- المتنبي والنفس : الإسقاط المنهجي
إن الطريقة التي اتبعها اليوسف في دراسته للمتنبي وشعره تداخلت فيها مجموعة من المفاهيم متعددة الحقول، وقد كان ذلك نتيجة لعدم الاختصاص المنهجي، فاليوسف يمارس العملية النقدية منطلقا من ضرورة تضافر مفاهيم منهجية متنوعة أو بتعبير آخر، يرى أن المنهج ينبغي أن يشمل على أدوات تقارب الذاتي والفردي والمحيط الاجتماعي، لذلك مزج في دراسته بين بعض مقولات التحليل النفسي ومقولات التحليل الاجتماعي، ولم يتربط صرفا بخطوات المنهج النفسي، وقد اتضح ذلك جليا من خلال الوصف التحليلي الذي أنجزناه، حيث إن المصطلحات النفسية المركزية ظلت باهتة في التحليل، وحتى حينما تناول ظاهرتي النرجسية والسادية لم يردهما إلى أصولهما الفرودية المرتبطة بالرغبة الجنسية وهجاس الموت، ولم تستوقفه اللغة كرمزية لعقد الطفولة المكبوتة. بل كان يعدل هذه المفاهيم حتى تتسق مع تصوره القبلي لشاعر العروبة.
أما المحلل " على كامل " في مقالته " المتنبي والنفس " المنشورة بمجلة آفاق عربية العدد 4 ديسمبر 1977 فإنه سينطلق في دراسته للمتنبي من وجهة نفسية بحثة. معولا في ذلك على تخصصه في الأمراض النفسية، مازجا بين الفحص النفسي للشخصية والمزاج للعالم النفساني " ايزانك " والتحليل النفسي الفرويدي والآدلري.
سنحاول في دراستنا لمقالة على كامل أن نبرز أهداف الدراسة والمتن المدروس والوقوف على البعد الاستدلالي والبرهاني الذي اعتمده في التوصل إلى نتائج الدراسة، مركزين على تبيان التوافقات والاختلافات بينه وبين اليوسف.
الإعلان عن أهداف الدراسة :
يعلن " على كامل " في بداية دراسته عن الهدف من اختياره للنظر في حياة المتنبي النفسية، وذلك انه يرغب في " النفاذ إلى نفسية الشاعر من ناحية وإلى فهم شعره من ناحية أخرى 1 ". يبدو أن هذا المطلب في الوهلة الأولى من قبيل المعاد المكرور، وذلك أن كل بحث في أي جانب من حياة المتنبي وشعره لابد أن يعرج من قريب أو من بعيد على بعض مفاهيم البحث النفسي، غير أن الجديد عند على كامل هو أن " هذه أول مرة يكون هدف الدراسة فيها والبحث من المتنبي هدفا نفسيا بشكل أساسي "، إن علي كامل يعي جيدا الفرق بين المضامين النفسية لأي شاعر كيفما كان وبين المقاربة النفسية البحثة التي تعتمد منهجا نفسيا معينا، لأنه لكي نلج في الدراسة العلمية لابد أن " نفرق بين النفسي، وهو الوقوف على ما يتضمنه النص الأدبي مــن العواطف والانفعالات والأخيلة، التي هي عناصر من صميم التكوين الأدبي، ... ولم يكن هذا المنهج جديدا فقد ظهرت آثاره عند الإغريق والعرب وفي عصر النهضة الأوربية أما المنهج النفساني فيقوم على أساس من النظريات النفسية الحديثة، ولاسيما انه يقوم على التحليل النفسي، ويعد منهجا حديثا بدأ مع نظريات فرويد1".
ويبدو أن " علي كامل " من ذوي الاختصاص في القضايا النفسية، مما جعله يعي منذ البداية حدود المنهج النفسي في مقاربته لشاعر من الماضي. هذا الوعي اضطره إلى التصريح بالصعوبات التي اعترضته في دراسته وقد حدد هذه الصعوبات في ثلاث :
1) المسافة الزمنية بين القارئ والنص/الشخص : فإذا كان علماء النفس يجدون الصعوبة في الاتفاق على تشخيص حالة نفسية واحدة تمثل أمامهم اليوم، أدركنا صعوبة الأمر في شخصية وجدت قبل ألف سنة من الزمن، واختلف الناس في أمرها حتى ذلك الحين".
2) الاعتماد مقولة النص كوثيقة وتغيب مصادر الرواية والأخبار :
لم يعتمد " علي كامل " التحليل النفسي السيري وإنما انطلق من النص باعتباره عرضا من الأعراض النفسية، مميزا بين نوعين من القراءة : الذاتية العاشقة والقراءة المتعددة التأويلات.
3) تعذر الفهم الدقيق للنفس الإنسانية بصفة عامة.
تختزل هذه الصعوبات وعي علي كامل بحدود الأدوات الإجرائية والجهاز المفاهيمي الذي يقارب به الشخص والنص. وقد تجلت معالم هذا الوعي في محاورته للمنهج لإعادة النظر في أدواته.
إن هذا الوعي المنهجي سيقود لا محالة إلى الاحتراس من الوثوقية والأحكام المطلقة، وسيفرض على الدارسة أن تحتمي بلغة الاحتمال.
وبالرغم من إدراك هذه الصعوبات الموضوعية فإن المنهج النفسي ونوعية الكشوفات التي حققها في ميدان التحليل الأدبي ستسلط لا محالة بعض الأضواء على الزوايا المعتمة في شعر المتنبي وشخصيته.
وفي إطار تعميق الوعي بحدود المنهج النفسي يحذر على كامل من أن طريقة بحثه ستكون عاجزة عن تفسير عبقرية الشاعر وعملية الخلق الشعري لديه، فلا ضير إذ عزا العجز لمسه فرويد من قبل، واعترف وهو بصدد دراسته للرسام الإيطالي " ليوناردو دافنـتشي " " إن التحليل النفسي (ويعني مذهبه بوجه خاص) لا يستطيع أن يدرس الإنسان من حيث هو فنان، وليس في قدرته أن يطلعنا على طبيعة الإنتاج الفني، وأنه هو في دراسته لدافنتشي لم يدرس الفنان من حيث هو فنان بل درسه من حيث هو إنسان، فدراسته هذه لست سوى عرض للرجل من ناحية الباتوجرافيا .
وقد أشار أيضا إلى ضرورة عدم تفسير العبقرية انطلاقا من الـبـواعـث الـغـامـضـة للـفـعـل الجمالي لان " التقويم الجمالي للعمل الفني وتفسير الموهبة ليسا من مهمات التحليل النفسي ".
وفي هذا السياق يذهب يونغ إلى أن " كل رجع reaction يمكن تفسيره وبيان علته، أما فعل الإبداع وهو نقيض الرجع لما يمتاز به من تلقائية، فسيظل على الدوام يفلت من قبضة الذهن البشري. وهكذا اصدر يونغ حكمه على العلم من الحاضر والمستقبل جميعا، فهو لم يعرف الإبداع ولم يعرفه لان من طبيعة الإبداع إلا يثبت للمعرفة العلمية ".
طرائق البحث النفسي بين المؤلف والقارئ :
يحدد " علي كامل " سبل البحث النفسي للمتنبي في ثلاثة :
منها ما يتعلق بتحليل الشخصية وبيان العناصر المكونة لها، ومنها ما يختص بقدرة الشاعر على فهم النفس الإنسانية وبيان مصادر هذه القدرة وأخيرا التأثير النفسي الذي يحدثه شعر المتنبي في القارئ.
إن هذه التوجهات تعكس التطور الذي عرفه التحليل النفسي بشخصية : التحليل النفسي والمؤلف والتحليل النفسي والقارئ :
أ- التحليل النفسي والمؤلف :
اعتبر التحليل النفسي التطبيقي أن العمل الأدبي شبيه بفانتازيا، فعومل النص كعرض من أعراض المؤلف، مما أفضي بالتحليل إلى الدراسة النفسية للمؤلف، وعوملت الشخصية الأدبية كما لو أنها كائن حي تمتلك عقدها الخاصة. كما أن الرموز اللغوية اعتبرت مدونة محددة وصارمة " فكل الأشياء العمودية ترمز للعضو الجنسي الذكر، وكل الأشياء الأفقية تمثل جسد الأم".
إن هذه الفرضيات تحيل ضمنيا إلى نفسية المؤلف، حيث إنها تتأسس على أن غاية العمل الفني الشبيهة بالحلم هي الإشباع السري لرغبة طفولية مكبوتة تستقر في اللاشعور.
ب- التحليل النفسي والقارئ :
لقد جاء الاهتمام بالقارئ إلى مجال التحليل النفسي ليتدارك القصور الحاصل في هذا الجانب، وقد كان الناقد الأمريكي " نورمان هولاند " من أكبر دعاة هذه النظرية ومطوريها، فقد عالج العلاقة بين القارئ والنص من خلال العلاقة بين تخيلات الايد Id ودفاعات الانا معتبرا أن " مصدر اللذة التي نستمدها من الأدب يكمن في تحويل رغباتنا ومخاوفنا إلى معان مقبولة من الوجهة الثقافية ... ويعتبر النصوص الأدبية تكتمات، أي منظومات مرمزة تؤدي وظيفة التخفي ... إن ما يجذبنا إلى النص كقراء هو التعبير السري عما نريد سماعه ".
إن فعل القراءة هو قبل كل شيء إعادة خلق للهوية ومعنى ذلك انه عندما نقرأ نصا فإننا نمارس معه " عملية توافق مع قيمة الهدية التي تميزنا، ونستخدم العمل على نحو يرمز إلينا ويكرر نفسياتنا في النهاية، ونعيد صياغته لنكشف استراتيجياتنا المميزة الخاصة ونتغلب على المخاوف العميقة والرغبات التي تشكل حياتنا الروحية "، ويبدو أن هذه العملية هي ما يفسر الاهتمام المتزايد قديما وحديثا بشعر المتنبي حيث إن هناك إعادة لاكتشاف الهوية، بالإضافة إلى أن المتنبي يحقق للقارئ من خلال عملية التماهي التغلب على المخاوف النفسية انطلاقا من نشدان القوة والمغامرة في ملكوت المجهول. يقول :

إذا غامرت في شرف مـروم




فلا تقنع بما دون الـنـجــوم ( الوافر )


فطعم الموت في أمر حـقـير




كطعم الموت في أمر عظيـم


إن استكشاف جذور الأثر يتواكب مع استكشاف اللذة التي تنتج عن قراءة متأنية له، إذ هناك تواز بين الصدمة العاطفية التي يثيرها النص في نفس القارئ والصدمة التي يعانيها المؤلف أثناء عملية الإبداع وفي هذه النقطة بالذات قد نجد " تفسيرا لآليات التماهي التي من خلالها نعثر في الفن على لذات تعويضية ".
ج- تحديد معالم الشخصية :
يسلم " على كامل " بأن انطباعات القراء حول شعر المتنبي تتشابه في رسم شخصية المتنبي النفسية رغم التباعد الزمني وتضارب الأخبار حوله ، وإن هذا التشابه مرده إلى أن المتنبي قد كفى القراء عناء البحث عن هذه الشخصية حيث قدم في شعره صورة شخصية portrait ورصد مختلف أحوال نفسه وتحولاتها.
غير أن هذه الانطباعات الأولية غير كافية في سبر أغوار النفس ، لذا فإنه سيعتمد على خطاطة العالم النفسي " إيزانك من فحص الشخصية والمزاج :
1- الخطاطة :
يستنتج علي كامل من خلال تطبيق هذا النموذج أن المتنبي :
1- يتوفر على سبع خصائص واضحة وقوية في الربع اليمن الأعلى وهي :
سرعة التأثر - عدم الاستقرار - العنف - سرعة الهياج والانفعال - التقلب - الاندفاع والنشاط. وهذه الأوصاف تشير إلى أنه ذو مزاج عصبي.
2- أما في الربع الأعلى الأيسر فقد ظهرت خمس خصائص بارزة وهي :
المزاجية (العاطفية) والقلق في الرأي (العناد) والتيقظ والتشاؤم، وهذه الأوصاف تدل على انه ذو مزاج سوداوي مكتسب.
أما حينما نقارن بين غلبة الخصائص نجد أن الغلبة للنصف الأعلى، لذا فان النتيجة هي " أن نفسية المتنبي تعاني من عدم توازن واستقرار طبيعي".
ولقد أسفرت المقارنة بين الجانب الأيمن والأيسر من الدائرتين إلى غلبة خصائص الجانب الأيمن مما يؤكد أن مزاج المتنبي ونفسيته تتجهان نحو الانبساطية والواقعية لكن توفر المتنبي على سبع خصائص من النصف الأيسر يبرز أن لديه نزوعا نحو الانطوائية.
ما يستنتج من هذا الفحص أن المتنبي كان يجمع بين الأضداد، وفي هذه النقطة يلتقي " علي كامل " مع " سامي اليوسف " مبرزين أن هذا التناقض في نفسية الشاعر مكن من التعبير عن عبقريته وحركته الروحية. لكنهما يختلفان في تفسير سبب هذا التناقض ، فسامي اليوسف يرجعه إلى الشرخ الواقعي في حين أن علي كامل يعزيه إلى طبيعة الشخصية كبنية مغلقة.
د- المتنبي : الوجه والقناع :
يذهب " علي كامل " في حديثه عن الخصائص النفسية إلى أن هذه الأخيرة ظلت ثابتة طوال حياته، بالرغم من الأدوار والحالات المختلفة التي عرفتها حياته فقد ظل المتنبي وفيا لنفسه الهائمة التي لم تعرف الاستقرار كأن الريح تحته، وقد صور هذه الحالة بيت شعري نافذ يقول :

على قلق كأن الريح تحتي



أوجهها جنوبا أو شمالا(الوفر)


إن ثبات هذه الصفات المتناقضة يشي بقوة الشخصية، هذه القوة تفتقدها الشخصيات الهادئة المتوازنة، حيث إن التوازن دليلا عن الضعف وفقدان الحيوية.
إن الخاصية المهيمنة في شعر المتنبي هي الحضور الصارخ والمكشوف للأنا، فما هي الدواعي لهذا الحضور المكثف ؟ يستدعي " علي كامل " لمناقشة هذه القضية آراء النقاد حول المدى الذي يجوز فيه للشاعر أن يظهر ذاته في شعره أو أن يبقي عليها مستورة مقنعة. أو أن يتجاوز نفسه كلية بحيث يأتي العمل الإبداعي خاليا من أي إشارة إلى الذات.
فقد أورد آراء القدماء حول أبعاد الفن عن صاحبه، وقد كانت هذه النظرة للفن هي المهيمنة عند اليونان والعرب حيث انهم نظروا إلى " أن الخلق الإبداعي قد حدث بسبب قوة خارقة استوطنت المبدع... وان فعله ليس من صنعه، إنما من صنع الروح الذي تدفعه ولهذا فسر اليونانيون الشعر بأنه من إيماء ربات الشعر وفسر العرب ذلك بعبقر".
لقد اتصل حبل هذه النظرية في عملية الخلق الإبداعي حتى أنصار مبعدي الذات ونفيها عن العمل الأدبي اليوم، معتبرين ذات الفنان قناعا، فإليوت يذهب إلى " أن مسيرة الفنان هي تضحية مستمرة للذات، وإفناء مستمر للشخصية كما أن جيمس جويس يرى " أن شخصية الفنان تسعى إلى أن تصفي نفسها من الوجود، أو بمعنى آخر فإنها تسعى إلى تجريد نفسها".
وبالمقابل فهناك آراء أخرى تؤكد على ضرورة حضور الانا بصورة مكشوفة، " فالشعر الذي تقوم فيه الانا تماما مقام الشاعر يعتبر بالضرورة اكثر علوا من ذلك الشعر الذي ترمز فيه " الانا " ليس للشاعر وإنما لقناعه ".
إن موقف علي كامل من هاتين النظريتين موقف توفيقي، فهو يراوح بين انعكاس ذات المتنبي في شعره وبين أن هذه الذات قد توارت من وراء قناع، وبأن للانا الظاهرة في صوته هي " أنا " أخرى مستترة أو نافية تخالف، أو لعلها تناقض وتنافر كليا وبقوة ما ظهر منها ".
فهذا الاضطراب بين الوجه والقناع تجلى فيه اضطراب التكوين النفسي لدى الشاعر، أمده هذا التناقض العصي عن الحل بحيوية وفعالية شعرية.
إن مبررات حضور الانا، والعناية الفائقة برسم صورة شخصية تتجلى في أن الانا تعكس الاحتراق الداخلي حيث إن المتنبي " وصف شيئا يعرفه في الحياة لا كما هو في الأصل وإنما كما أتفذ في أتون الحياة، ولم يكن من السهل إطفاء هذه الشعلة الملتهبة " ثم إن هناك وفاء كبيرا من طرف المتنبي للتقاليد الشعرية العربية
الأصلية التي تسمح بظهور الشاعر في شعره.
هـ-نرجسية المتنبي :
إن مقدمات التحليل النفسي عند علي كامل أفضت به إلى أن يعالج العقدة النرجسية عند المتنبي، ويكاد جل الباحثين الذين قاربوا المتنبي من وجهة نظر نفسية أن يجمعوا على أن المتنبي كان واقعا تحت سيطرة هذه العقدة، فبدءا من نقد أبى فراس الحمداني للمتنبي مرورا بالعقاد وعبد الرحمان شكري . وصولا إلى سامي اليوسف وعلي كامل، نجدهم يركزون أساس على تضخم الانا حد الجنون.
يميز علي كامل بين مستويين في معالجته للعقدة النرجسية عند المتنبي :
1) النرجسية بالمعنى الضيق، وتتمثل في حب الذات.
2) النرجسية بالمعنى الواسع كما وردت صيغتها الأولى في الأسطورة اليونانية وغي اصطلاحات علم النفس.
وإذا أخذنا المستوى الأول فإننا واجدون أن ديوان الشاعر يفصح بشكل حبي عن هذا الحب المفرط للانا، فقد انبثق هذا النزوع منذ الطفولة أي في المراحل المبكرة المسؤولة عن تكوين الشخصية، وهذه الثلاثية دليل شاهد على توثين الذات وعبادتها :

أي مـــحـل ارتقي



أي عظيم اتقي ( مجزوء الرجز )


وكل ما خلق الله



ومــا لم يـخـلق


محتقر في هـمـتـي



كشعرة في مفرقي


أما إذا أخذنا رمزية الأسطورة اليونانية فإننا سنقف على انه من سوء الحظ أو حتى من المميت أن يشاهد الآنيان انعكاس صورته، وكما أكد ذلك علم النفس الفرويدي حيث تشير النرجسية إلى حالات مرضية بافتتان الفرد بجسده.
إن العقدة النرجسية تتحدد من خلال العلاقة مع الأم، فالطفل يكبت حبه لامه، ويحب نفسه بدلا عنها، أي يقوم بعملية استبدال للصورة المكبوتة بصورة جسده، حيث تصبح ذاته معيارا لاختيار الأشياء التي يحبها.
وتمر هذه العقدة - حسب فرويد - من مرحلتين :
1) المرحلة الأولى : هي المرحلة الطفولية وفيها لا يميز الطفل بينه وبين الأشياء، حيث يتقوى لديها الشعور بالمقدرة العظيمة وأن قوة العالم الهائلة هي قوته.
2) المرحلة الثانية : وهي المرحلة الراشدة وفيها تتضح معالم الفرق بين الذات وغيرها من الأشياء ، ومن هذه المرحلة يتدخل الواقع ليخلق في الفرد شعورا بالفشل والخدلان والرفض ، لذا تتحول الطاقة المتكونة من هذا الشعور إلى الذات.
فكيف سيتم التعامل مع شخصية المتنبي التي لا تعرف عنها الكثير ، أمام هذه التحديدات التي ترد مصدر العقدة النرجيسية إلى الطفولة والعلاقة بالأم والاشتهاء الجسدي ؟
أفصح " على كامل عن وعيه بالعوائق التي تعوق المحلل النفسي لتحليل شخصية المتنبي ، وقد تمثلت في نذرة المعلومات حول طفولته ، وشكله الجسماني وحسن هيأته ، كما أننا لا تعلم شيئا عن طبيعة العلاقة بين المتنبي وأمه. أمام هذا الوضع كان علي كامل يراوح بين نتائج احتمالية.
وقد لجأ إلى تحليل بعض الأبيات الواردة من القصيدة التي يرثى بها الشاعر جدنه. كي يثبت مظاهر وتجليات النرجيسية عند المتنبي.
إن المبرر المنهجي لاختيار هذه القصيدة بالذات هو حضور الجدة التي تقوم من التزكيبة النفسية للمتنبي مقام الأم ، واختياره لأبيات بعينها مرده إلى أنها تتضمن بعض الإشارات النفسية يقول الشاعر :

لك الله من مفجوعة بحبيبها



قتيلة شوق غير ملحقها وصمــا ( الطويل)


أحن إلى الكأس التي شربت بها



وأهوى لمثواها التراب وما ضما


فوا أسفا ألا أكب مقبـلا



لرأسك والصدر ملئا حزما


لو لم تكوني بنت أكرم والد



لكان أباك الضخم كونك لي أما


لين لذ يوم الشامتين بيومها



لقد ولدت منى لأنفهم رغمـا


ركز " علي كامل " تحليله لهذه الأبيات على إبراز الأبعاد النفسية التي تعزز أطروحته حول نرجسية المتنبي، كرابطة الحب والشوق التي تربط بين الشاعر وجدته. وقد توقف المحلل في البيت الأول على قول الشاعر « غير ملحقها وصما " ليستنتج أن احتراز المتنبي من نفي الوصم والعار في موقف لا يمكن أن يتبادر فيه إلى الذهن الوصح فلتة من اللاوعي، وهو تلك الرغبة الجنسية التي يكنها الإنسان تجاه أمه كما يرى فرويد.
أما في البيت الثاني والثالث استوقفه الحنين إلى الموت والاتحاد مع الجدة في القبر وتقيل الصدر، مزكيا بذلك تأويله حول نرجسية المتنبي المؤسسة على نزعة جنسية مكبوتة.
أما في البيت الرابع والخامس، فهناك مؤشرات تدل على أن الجدة تعويض للام عبر الاستبدال المكرر، وان هذا الاستبدال يؤكد حب المتنبي لامه.
إن تعدد القراءات أضحى من بديهيات الدرس الأدبي لكن شريطة أن تتوفر في القراءة عنصر الانسجام، وهذا الشرط يحتم على القارئ أن يرتهن بالنسق الخاص والعام للنص المدروس، فالرؤية التجزيئية للمتن المدروس قد تشرعه على قراءات مبتورة ومغرضة، فهذه الأبيات وردت في قصيدة/مرئية، موضوعها امرأة وصفت بالورع إضافة إلى أنها هي ملهمة الشاعر، فقد ترعرع في أحضانها، فارقها لمدة طويلة، ومنع من رؤيتها، وحينما أتيحت له الفرصة بعث لها برسالة سيتقدمها عنده، لكن المنية حالت دون هذا اللقاء المستحيل، فبعد أن قرأت كتابه قبلته وبكت ثم فارقت الحياة، إن هذا السياق أرغم الشاعر أن يبوح بمقدار حبه لهذه المرأة، وقد بحث عن كلمات وصور قد توهم الدارس النفسي باضطراب نفسي فيما هي صور قد تكون عاجزة عن إيصال الرجة النفسية التي تلبست المتنبي حين سماعه لوفاة أمله الوحيد في الاستمرار في الحياة. هذا من جهة ومن جهة ثانية فقراءة علي كامل تفتقر إلى شرط التعميم، فلكي نستجلي العقدة النفسية فلا مناص من إنشاء شبكة دلالية تشمل المتن الشعري بأكمله مع رصد التكرارات والتوترات الهاجسة، إذ لا يكفي أن نستدل ببيت أو بكلمة ونبني عليها أحكاما قد تسيء للنص والشخص معا.
فأمام هذا التأويل النفسي الذي يستوحي نظرية فرويد الجنسية يبدو " علي كامل " محربا أمام كفاءة النظرية والدلالات التي تبوح بها هذه الأبيات المنتزعة من المرتبة، لذا يقول " ومع أني لا أميل بحماس إلى الأخذ بنظرية فرويد أو إلى تطبيقها بهذه الكيفية على المتنبي غير أن للنفس طرقا عجيبة في الإفصاح عن مكنوناتها قولا أو فعلا، ومن الواضح أن المتنبي في الأبيات التي ذكرتها من رثائه لجدته قد أعطى للمحلل النفسي غذاء للخيال يصعب تركه ".
إن ظهور النرجسة لدى المتنبي - وقف هذا التحليل - نتجت عن كبت الرغبة الجنسية تجاه الأم/الجدة، هذا الكبت تحول إلى طاقة تنمي الذات وإلى قوة دافعة لتقدير النفس.
إن التحليل وفق هذا المنظور يقود ضرورة إلى إثارة مسألة قد تثير من النقاش الكثير، وهي أن النرجسي يميل إلى اشتهاء جسده، لذلك يتجه في حياته الجنسية إلى " المثلية الجنسية "، وإذا تزوج فان زواجه سيكون فاشلا ! فهل كان المتنبي شاذا جنسيا ؟ يذهب علي كامل إلى أن المتنبي لم يذكر زوجته في شعره، كما انه ظل يؤكد في شعره على رجولية ممدوحية. إن هاتين العلتين لا تنهضان حجة لوصم المتنبي بالشذوذ، فعدم ذكر الزوجة يندرج ضمن نسق ثقافي حيث إن اغلب الشعراء لم يذكروا زيجاتهم في الشعر، وحتى أولئك الذين تغزلوا بمعشوقاتهم عوقبوا من طرف القبيلة بمنعهم من الزواج منهن. العذريون على سبيل المثال، إضافة إلى أن المتنبي كان مشغولا عن المرأة بالسلطة، أما حين يمدح بالفحولة والرجولة فانه كان يستعيد زمن الفحولة الذي كاد أن ينسى في عهده. وإلا فالمتنبي كان يثلب أعداءه باللواطية والإحصاء والأبنة ، ولا يعقل أن يهجو بصفات لصيقة به. أورد : أنه ما لاط ولا زمن ولا شرب الخمر ولا صلى ولا صام ولا قرا القرآن ".
ولو أن " علي كامل " عثر على هذا النص الذي أورده البديعي في كتابه " الصبح المنبي عن حيثية المتنبي " لأكد أن المتنبي كان مصابا بهذا الفعل غير الطبيعي : " قال أبو سعيد (خادم المتنبي) : دعاني أبو الطيب ونحن بحلب، ولم اكن : اعرف منه اللهو مع النساء ولا العلمان، فقال لي : أرأبت الغلام ذا الأصداغ الجالس إلى حانوت كذا في السوق ، وكان غلاما وسيما وحالتنا تنافي ما هو سبيله - فقلت نعم، اعرفه، قال فامض إليه وائتني به، واتخذ دعوة فانفق فيها واكثر... وكنت استطلع رأيه في جميع ما انفق - فمضيت، واتخذت له ثلاثة ألوان من الأطعمة وعدة صحاف من الحلوى، واستدعيت الغلام فأجاب، وأنا متعجب من جميع ما اسمع منه، إذ لم تجر له عادة بمثله، فعاد أبو الطيب من دار سيف الدولة آخر النهار وقد حضر الغلام، وفرغت من اتخاذ الطعام فأكلا وأنا ثالثهما، ثم جن الليل فقدمت له شمعة، أمر بوضع دفاتره - وكانت تلك عادته كل ليلة - فقال احضر لضيفك شرابا واقعد إلى جانبه ونادمه، ففعلت ما امرني به كل ذلك وعينه إلى الدفتر يدرس ولا يلتفت إلينا إلا من حين بعد حين، فما شربنا إلا قليلا حتى قال : افرش لضيفك وافرش لنفسك وبت ثالثنا. ولم اكن قبل ذلك أبايته في بيته، ففعلت وهو يدرس حتى مضى من الليل أكثره، ثم أوي إلى فراشه ونام، فلما أصبحنا قلت له ما يصنع ؟ فقال : احبه واصرفه، فقلت له وكم أعطيه ؟ فاطرق ساعة ثم قال : اعطه ثلاث مائة درهم. فتعجبت من ذلك، ثم جسرت نفسي فدنوت منه وقلت له : انه من يجيب بالشيء اليسير وأنت لم تنل منه حظا، فغضب ثم قالها : أتظنني من أولئك الفسقة ؟ اعطه ثلاثمائة درهم ولينصرف راشدا، ففعلت ما امرني به وصرفته ".
إن هذا النص ظني الدلالة ولو أن راويه هو خادم أبو الطيب، فلو أن المتنبي كان معروفا بمجالسة الغلمان لاتخذها أعداؤه وحساده وهم كثر، حجة ضده وثلبوه بها وهذا أمر لم يقع، فما ثبت أن خصما من خصوم المتنبي نسب إليه هذه التهمة. |من تم فان تلقي أخبار المتنبي تحتاج إلى نوع من الجرح والتعديل. ولقد تنبه محمد كمال خيري بيك إلى هذا فعلق على هذا الخبر الذي رواه خادم المتنبي بقول : " فمثل هذا الراوي لا ينبغي أن يؤخذ قوله حجة دامغة مهما قربت صلته بابي الطيب لان مكانته هذه دلت على انه يشتغل بما يأباه شرف النفس، ولا ترضاه الأخلاق الكريمة وذلك مما يسقط عدالته ويجرح شهادته " .
-التعالي كتعويض عن الشعور بالنقص :
يتنبأ - علي كامل - في تحليله لازدواجية شخصية المتنبي نظرية " آدلر " حول مركب النقص والتعويض، منطلقا من مجموعة من الأبيات تدور موضوعاتها حول اصل المتنبي وإخفاقه في المرحلة الكافورية.
إن المتنبي - في نظر علي كامل - كان يخفي شعوره بالنقص من خلال تضخيمه لذاته شعريا، وإسبال صفات العظمة والتعالي من جزء كبير من قصائده، حيث إنه كان يقسم القصيدة المدحية إلى شطرين، يعطي لنفسه الحظ الأوفر من المدح الذاتي وما تبقى يخصصه للمدوح.
فمصدر هذا الشعور يرتبط بعدم اتزان تكوين المتنبي النفسي وبتجربته الحياتية التي استفزت واستنفرت القوى الكامنة والأصلية في نفسه، فهو قد دفع دفعا خفيا إلى هذه النزعة المتعالية.
فالمحلل يحمل نسب المتنبي المسؤولية في الشعور بالنقص فهو يذهب إلى أن والد المتنبي كان سقاء، مستندا في ذلك على كتب الأخبار التي كادت تجمع على هذا الأصل الوضيع اجتماعيا. وقد دفع هذا الوضع المتنبي إلى حدود تعمقت فيها جراحاته النفسية وضاعفت من إحساسه بالضعة والنقص الاجتماعيين فقد كان " المتنبي على تحسس مرهف منذ طفولته بوضاعة اصله، فقد كان ابنا لسقاء، وقد لا يكون في هذا الأصل ما يوهب الشعور بالنقص أو الضعة في فتى آخر، لكن موهبة المتنبي المرتبطة بحساسيته المرهفة لم تكن لتقبل بهذا الأصل الذي لا ينسجم معها وكان لابد له من رفض ذلك في أعماق نفسه أما بالكبت أو بالتعويض أو بالضعف 1 ". لذلك ففي شعر المتنبي منذ صباه اعتداء دائم بفعله لا بنسبه، بنفسه لا بأصله، ألم يقل :

لا بقومي شرفت بل شرفوا بي



وبنفسي فخرت لا بجدودي


ويقول أيضا :

ولست بقانع من كل فضل



بأن أعزى إلى جد همام


فهذه الأبيات يرى فيها علي كامل، أنها تقوم دليلا بعدم قناعة المتنبي بفضل أصله عليه وأنه أفضل من أصله.
ومن مظاهر هذا الشعور بالنقص هو تعرف المتنبي وانتسابه إلى شخصيات مثل شخصية سيف الدولة التي أذاب فيها هذا الشعور ليتساوى مع الممدوح، وقد يكون ذلك وراء استقرار المتنبي في بلاط سيف الدولة تسع حجج، فكل مقومات الشخصية التي يثوق إليها تجسدت في سيف الدولة (العروبة والأصل والنسب الشريف والشجاعة)، لقد حققت هذه المرحلة للمتنبي استقرارا نفسيا حيث تماهت شخصيته مع شخصية سيف الدولة. يقول بهذا الصدد :

ناديت مجدل في شعري وقد صدرا



يا غير منتحل في غير منتحل (البسيط)


أما المرحلة الكافورية وما صاحبها من انكسار وإخفاق فقد ظهرت فيها تباريح المتنبي ومنادبه، فقد أعلن صراحة أنه غير راض على نفسه، متمنيا الموت في وجه الهوان يقول في هجاء كافور :

أريك الرضى لو أخفت النفس خافيا



وما أنا على نفسي ولا عنك راضيا (الطويل)


قديم 09-06-2010, 12:49 PM
المشاركة 40
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
اسـتـنــتــاجــات :
من خلال عرضنا لآراء علي كامل حول شخصية المتنبي يظهر أنه كان خاضعا لتأثير النظريات النفسية، حيث حاول أن يمزج في التحليل بين نظرية فرويد حول النرجسة ونظرية آدلر حول مركب النقص والتعويض وبين برنامج ايزانك حول المزاج، مما جعله يتعامل بنوع من الإسقاط، فبالرغم من وعيه بحدود المنهج النفسي في سبر أغوار النفس والكشف عن مكنوناتها وآليات اشتغالها خصوصا إذا كان الموضوع المدروس ينفصل زمنيا عن الذات القارئة، فإنه عمد إلى بعض الأبيات ومارس عليها عملية التأويل بغية تأكيد فرضياته القبلية. إن الأساس الذي يتحكم في قراءته لشخصية المتنبي هو البحث عن لا وعي الشخص معتمدا النص كوثيقة، في حين أن البحث يجدر أن ينصب على لا وعي النص ولا وعي القارئ والوقوف على العلاقة المتبادلة بينهما.
إن علي كامل تعامل مع شخصية المتنبي باعتبارها كتلة من العقد المرضية، مغيبا تجادل هذه الشخصية مع المحيط، وهنا يبرز الفرق بين دراسة يوسف سامي اليوسف وعلي كامل، رغم أنهما تبنيا نفس المنهج، وهنا يمكن أن نثير قضية هامة تتعلق بالاستخدام المنهجي، فهل المنهج يعتبر وسيطا بين الذات والموضوع ؟ أم أنه يوحد المعرفة بالموضوع ويحول دون تعدد التأويلات ؟ أم أن له فقط وظيفة تنظيمية ؟ يعني أنه ينظم إدراكنا للموضوع، أم أن له وظيفة وقائية بحيث يحمي النص من الإسقاطات الذاتية ؟ إن هذه الأسئلة تبرز لنا مدى تمثل النقد العربي للمناهج النقدية الحديثة، ومدى قدرة النقاد العرب على استحداث تشابكات مع هذه المناهج.
فمن خلال وصفنا التحليلي لدراسة اليوسف وعلي كامل خلصنا إلى تبيان الفروق في النتائج رغم اتفاق المبدأ المنهجي، فعلي كامل يرد ازدواجية شخصية المتنبي إلى التكوين النفسي المضطرب لديه، في حين نجد اليوسف يرجع ذلك إلى أن المتنبي انعكس فيه التفاقم والشرخ الحضاري. وقد ربط اليوسف عقد المتنبي مع سؤال المرحلة (أي السؤال السياسي) فكانت تخدم المشروع القومي الذي كان يتوق إليه الفرد العربي في القرن الرابع الهجري، أما علي كامل فقد فسر هذه العقد في علاقتنا بذات الشاعر وتكوينه النفسي حيث بدا المتنبي مريضا نفسيا يكتب الشعر من اجل أن يتداوى به.
أما مقاربتهما للعقدة النرجسية عند المتنبي نلاحظ أن هناك فرقا كبيرا من حيث المنطلق ومن حيث النتائج بالرغم من وحدة الإطار العام للتحليل، فاليوسف لم يرتبط بمفهوم النرجسية كما تكرس في أدبيات التحليل النفسي الفرويدي حيث تعامل مع المصطلح بنوع من المرونة ليلائم الموضوع الدروس، أما علي كامل فقد تعامل مع المصطلح دون اعتبار لخصوصية الموضوع المدروس وحافظ على حرفيته في التطبيقات الغربية مما أفضي به إلى إثارة البعد الجنسي المصاحب لهذه العقدة.
لقد تبين لنا من خلال التحليل أن كلا من اليوسف وعلي كامل مزجا بين نظرية فرويد ونظرية آدلر، وجلي أن كلا النظريتين تختلفان من حيث المنطلقات والأهداف، ففرويد يرى أن الفن هو بمثابة تعويض عن الإحباط وتسام بالغرائز المقموعة والمكبوتة، أما آدلر في نظرية الاحتجاج الرجولي التي هي نتيجة لعقد النقص التي يعانيها كل إنسان في صغره، يرى أن الفنان يصبح بموجب هذه الرؤية شخصا عصابيا يبحث عن إثبات الذات وتأكيدها.
ويحاول فرويد أن يرد كل فنان وكل إثارة إلى أمراض نفسية تسببها رغبات مكظومة وعقد جنسية مكبوتة ترقد في اللاشعور، وتجد هذه الرغبات عند الفنانين متنفسا في الأعمال الإبداعية والفنية، فالركيزة الأساسية في نظرية فرويد هي الغريزة الجنسية التي يبني عليها تحليله النفسي ومن تم يصبح مفهوم التسامي مفهوما أساسيا في العمل الإبداعي. أما آدلر المتأثر بالفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه في نظريته حول الصراع المستمر في الحياة إرادة القوة، فأنه يرى بان الفشل في السيطرة يؤدي بالإنسان إلى الإحساس بالنقص، وهذا المركب يفضي إلى التعويض هذا المفهوم يعتبر المفتاح الرئيس في نظرية آدلر ويلعب نفس الدور الذي يقوم به الكبت والتسامي عند فرويد. ولقد ارتبطت العملية الإبداعية عند آدلر بالشعور بالدونية ومركب النقص.
لقد بصم هذا المزج المنهجي كلا الدراستين باللا انسجام في النتائج المحصل عليها فالمتنبي كما صورته هذه الدراسات مرة نرجسي ومرة سادي ومرة يعاني من نقص أفضي به إلى عبادة الذات وإثباتها بقوة ومرة أخرى شاذ جنسيا. وكل هذه الأحكام تأسست على تحليل بيت أو بيتين من مجموع ديوان بلغت أبياته.
فالمحلل النفسي حينما يتصدى لتحليل أديب فأنه " يدرس كل جوانب شخصية متقصيا المعلومات اللازمة، باحثا في المراحل الفمية والشرجية والقضيبية، متوغلا في مختلف العقد من نرجيسية وأوديبية وقابلية واستعلائية ودونية ، بحيث يكون فكرة متكاملة من الأديب بعدما استوفى مختلف جوانبها. "
إن هذه التوغل النفسي لتحليل الشخصية قد افتقرت إليه كلا الدارسين وذلك جاء نتيجة لعدم توفر المعلومات الكافية عن حياة المتنبي من الطفولة وتعتبر هذه الندرة في المعلومات العائق الجوهري والثغرة القاتلة في الدراسات النفسية التي تتخذ النصوص الضاربة في القدم.
لقد استنتجنا في الأخير أن مقالتي اليوسف ومقالة علي كامل قد حاولتا تطبيق بعض منجزات المنهج النفسي على شخصية المتنبي وبعض من شعره ، فلقد اتسمت دراسة اليوسف بتداخل مستويات التحليل ، إذ لم يلتزم بطريقة محددة المعالم من طرائق التحليل النفسي ، غير أن ما يبدو أساسيا في مقالتيه هو دفاعه المستميت لإنصاف المتنبي، فالمقالتين في العمق لهما طابع سجالي، لأن محاوره الضمني هو كل الدارسين - عربا ومستشرقين - الذين سعوا إلى تبخيس والحط من قيمة شاعر العروبة ، وما هذه الاستماتة في الدفاع عن المتنبي سوى انعكاس لحاجة اليوسف إلى الدفاع عن حاضره المهزوم ، وهو الفلسطيني الذي رأى وطنه ينتزع منه وشعبه مشردا ، لقد كان في حاجة إلى توازن وجداني وإلى دعامة روحية وقد وجدهما في الزخم القوي وفي التيار الفياض لما يجيش به ديوان المتنبي من دعوة لإرادة القوة وتمجيد الذات والتصدي للآخر ، لذا ألفينا اليوسف يعدل من عقد المتنبي ويعتبرها عقدا إيجابية ذات دافعية مثمرة.
وهنا نسجل أن القراءة التي قدمها اليوسف للمتنبي تعكس بالأساس همومه وانشغالاته الحاضرة، فتركيزه على تحليل الأنا والذات المتعالية عند المتنبي ، والتقاطه العميق للأزمة السياسية وللتفاقم الحضاري كل هذه الأشياء هي مواطن اهتمام اليوسف بسبب تماثلها مع الشرط الموضوعي للقراءة.
في حين أن علي كامل اكتفى بتطبيق بعض المقولات في التحليل النفسي ، وظل ينقب عنها في شعر المتنبي، دون أن يترك للنص الشعري فرصة المفاجأة ومن ثم فإنه وقع في شرك ما اسماه جان ستاروبينسكي بالدائرة التأويلية ، حيث لم يتوصل في النهاية سوى لفرضية البداية.
إذن فما هو الجديد الذي قدمته هذه الدراسة لإضاءة شعر المتنبي ؟ من خلال تحليلنا لم نر جديدا ، إذ لم تعمل هذه الدراسة سوى على تسمية ظاهرة بارزة من خلال منطوق شعر المتنبي ، وقد تنبه لها القدماء فكبرياء المتنبي وجنونه بالعظمة هي من الأشياء التي كانت تغيظ معاصريه. ونتيجة لما سلف فدراسة المتنبي من وجهة نظر التحليل النفسي الكلاسيكي كانت كلها تتشابه من حيث النتائج ، ولم تعمل سوى على تسمية ظواهر نفسية متداولة في أغلب الدراسات التي تبنت منهج تاريخ الأدب .


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: المتنبي : سر بقاؤه وخلوده؟؟
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الغلو في شعر المتنبي حسام الدين بهي الدين ريشو منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 9 08-17-2019 01:49 PM
المتنبي - سر بقائه وخلوده؟: أوراق ساخنة ( 10 ) ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 11 12-09-2015 01:38 PM
مع المتنبي-1- صبحي ياسين منبر الشعر العمودي 2 07-10-2014 09:51 PM
المتنبي يسترد أباه .. دراسة في نسب المتنبي - عبد الغني الملاّح د. عبد الفتاح أفكوح منبر رواق الكُتب. 0 05-04-2014 12:32 PM

الساعة الآن 06:24 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.