احصائيات

الردود
19

المشاهدات
10124
 
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي


عمرو مصطفى is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
420

+التقييم
0.12

تاريخ التسجيل
Nov 2014

الاقامة
مصر

رقم العضوية
13385
03-01-2016, 02:03 PM
المشاركة 1
03-01-2016, 02:03 PM
المشاركة 1
افتراضي ليس الآن...............


هذه قصة واقعية لا تعتمد اعتماداً كلياً على الواقع..
وخيالية لا تعتمد اعتماداً كلياً على الخيال..
هي شيء له مذاق خاص جداً..
وإحساس دافئ جداً..


المؤلف


قديم 03-01-2016, 02:04 PM
المشاركة 2
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
مقدمة




كنت في صباح ذلك اليوم كعادتي أمارس رياضة المشي بين أحياء شرق المدينة..
حيث كل شبر وتحت كل حجر تقبع ذكرى ما..
وما أشجى الذكريات بشرق المدينة..
تحت إبطي رزمة من الورق هي نتاج عمل مضني من الكتابة على مدار عامين ..
ولعل الدار التي اتفقت معي على نشر ذلك العمل قد مات صاحبها أو
على الأقل نسي اتفاقه معي..
ـ " أعرف أن القصة تمثل لك ذكريات خاصة..
لكن تلك الذكريات لم تعد ملكاً لك وحدك ولابد
للأجيال القادمة أن تطلع عليها وترسخ في وجدانها"
تلك العبارات التي دغدغ بها صاحب دار النشر مشاعري يومها ـ
والتي لم تكن بحاجة لدغدغة حقيقة ـ مازالت ترن في أذني..
قلت له يومها.. أي منذ عامين :
ـ " أنت محق.. لكن هل تتصور أن ما حدث تستوعبه قصة "
ـ " أعرف أنها ملحمة كبرى تلك التي خاضها شعبنا ضد الظلاميين..
لكن حتى إن لم تكن قصتك كافية فهي على الأقل ستكون ضربة
المعول الأولى التي ستصنع شرخاً في حاجز الصمت.. بعدها
سيتتابع الكتاب على إثرك
وسيكون لك فضل أول محاولة.. ومن سن سنة حسنة..."
قلت له في ملل :
ـ " لقد نجحت في إثارة حماسي فعلاً.. لكن هذا العمل لن يكون سهلاً
إنه بحاجة لطول نفس وصبر.."
ابتسم وهو يتراجع في مقعده متمتماً :
ـ " متى يمكنك الانتهاء منها على أقصى تقدير؟ "
صمت برهة وشرد بصري قليلاً.. الجواب كان محفوراً في صدري..
ـ " ليس الآن "
لقد مر عامان على هذا الحوار.. اليوم أحمل قصتي تحت إبطي
وأمر بها في جنبات شرق المدينة حيث وقعت أحداث القصة..
وكأنني أقارن بينها وبين معالم المدينة العجوز.. مراجعة أخيرة
وعجيبة للقصة قبل أن تقع في يد الناشر..
والبداية كانت عند مقهى شرق المدينة العتيد..
مقهى المعلم فوزي الذي كان مأوى لجميع أطياف مجتمعنا..
العامل والموظف والجامعي ومن لا عمل له.. اليوم صار
معلماً سياحياً بعد حرب النضال التي خاضها شعبنا منذ عدة سنوات..
اليوم صار رواد ذلك المقهى نجوماً في سماء تاريخنا الحديث..
لوحت بكفي لرواد المقهى محسن والشيخ حسن الفقي وابتسمت متذكراً..
وتنهدت حسرات على تلك الأيام..
كان هذا المقهى هو نواة المقاومة التي اجتاحت شرق المدينة زمن الحرب..
الأن هو مجرد مقهى يساعدك على قتل بعض الوقت مع كميات
من المشروبات الشعبية التي تدفع على (النوتة) غالباً..
لكنهاـ أي المشروبات ـ ليست من النوع الذي ينسيك نفسك والحمد لله..
ليس في هذا المقهى على الأقل .. فهذا المقهى له تاريخ لا ينبغي له أن يدنس..
تركت المقهى تطاردني أصوات ارتطام قطع الزهر و الدومينو
المستفزة و أكملت السير الحثيث.. هنا لفحت أنفاسي
رائحة (زفارة) السمك المعتادة كلما أقبلت على محل سمكة..
كان الأخير يتسلى برش الماء على طاولة السمك ولم يكد
يراني حتى أشار لي مبتهجاً أن هلم.. شكرته واضعاً كفي على صدري..
ـ " تعلم يا سمكة أنني عاشق لعالم البحار.. لكن.. ليس الآن.."
وكالعادة يبدأ سيال الذكريات يتداعى..
وجه سمكة معلم أخر من معالم شرق المدينة..
لكنها ذكريات أبعد ما تكون عن بيع السمك..
وتحسست قصتي تحت إبطي وكأنني اطمئن على تلك
الذكرى قبل أن أترك محل المعلم سمكه..
ثم أحكمت غلق فتحتي أنفي استعداداً لـ...
لا أطيق رائحة الدواجن خصوصاً تلك التي امتزجت برائحة الدم والأحشاء..
لو تسللت الرائحة إلى أنفي ربما تقيأت في أية لحظة..
"طيور وزة ".. لافتة متسخة بجوارها رسم ساذج
لدجاجة تشبه الفيل .. وبجوار الأقفاص
التي يرمقك منها الدجاج في ترقب يقف وزة ممسكاً بسكين مرعبة الشكل..
لوحت له بكفي الحرة وخرجت الكلمات من فمي خنفاء قليلاً
بسبب ضغطي على فتحتي أنفي بيدي الأخرى :
ـ " مسك وعنبر يا وزة.."
ـ " تفضل يا أستاذ.."
قلت بنفس النبرة الخنفاء المثيرة للضحك :
ـ " أريدك أن تذبح لي وزة ؟"
ابتسم كاشفاً عن صفي لولي! وقال واضعاً كفه على صفحة عنقه:
ـ " رقبتي يا أستاذ.. فقط تفضل وشرفنا.."
قلت مشيراً للأوراق كي يفهم :
ـ " ليس الآن يا معلم وزة فلدي مشاغل.."
وتركته ومضيت .. فسمعته يصيح من خلفي ضاحكاً :
ـ " اسمي مكتوب؟.."
قلت دون أن التفت :
ـ " جداً.."
وابتسمت للذكرى التي طفت على السطح.. وهمست لنفسي:
كانت لنا أوطان...
اخترت أحد الشوارع الجانبية الضيقة والتي تفضي إلى الطريق الرئيس..
لكنني كنت محظوظاً كالعادة فالشارع الضيق لم يكن خالياً!
مجموعة من الصبية يلعبون الكرة بحماس شديد..
حتى أنهم لا يشعرون بأي شيء يدور من حولهم ..
العالم كله صار رقعة لا تتجاوز عشرة أمتار طولاً في ثلاثة أمتار عرضا..
تتأرجح فيها كرة عابثة من هنا إلى هناك ..
وعلى المار بين اللاعبين الصغار أن ينتبه لنفسه ويأخذ
حذره وعينه على الكرة. كأنه تحول إلى لاعب أخر لكن بهدف مختلف..
الخروج من بينهم سالماً..
عندما كنا في مثل سنهم كنا نتوقف عن اللعب
حينما يمر أحدهم حتى لا يصاب بأذى.. اليوم تتوسل
عيناك لهؤلاء الصبية أن توقفوا قليلاً حتى أمضي في سبيلي ..
لكن جنون الكرة يصل للذروة فقط حينما يرون طلتك البهية..
وتطير الكرة لتنسف كل أمالك في المرور الهادئ..
وكيف تتحرك قيد أنملة وقد طارت نظارتك الطبية
إلى حيث تنتظرها قدم حافية تدهسها بقسوة..
حاولت أن أتحسس الأرض بحثاً عنها بيسراي..
وفي نفس الوقت الذي أطبق بعضدي الأيمن على
رزمة الذكريات كي لا تفلت وتحدث الكارثة..
وسمعتهم يتصايحون فيما بينهم..
الكل يتبرأ مما حدث.. هذه الكرة جاءت من الشارع الأخر!..
ـ ‌" أسف يا عمو.."
دنا الصوت الذي يخطو بحذر نحو الرجولة وشعرت
بملمس نظارتي الحبيبة وهي تدس في يدي ..
بسرعة ارتديت النظارة متلهفاً العودة مرة أخرى للعالم..
وأول ما طالعت كان وجه الصبي الذي ناولني النظارة ..
ـ " أسف يا عمو .."
كان يرمقني في ترقب.. هل سأصفعه على وجهه ؟
أم أكتفي ببعض السباب..
هو مستعد لأي رد فعل قاسي فيما يبدو..
كان الصبية قد تحلقوا من حولي وكأنهم يشاهدون فقرة في سيرك..
الوجوه المغبرة والأقدام الحافية والسراويل القصيرة وقصات الشعر العجيبة..
كل هذا كان أكثر مما تحتمله أعصابي ..
من حق هؤلاء الصبية أن يلعبوا.. لكن من حقهم كذلك علينا أن
يفهموا طبيعة العالم من حولهم.. وأنه لا يقتصر على عشرة أمتار
تركض فيها كرة من هنا إلى هناك..
اعتدلت قائماً ونفضت الغبار عن ثيابي وسعلت مرتين بفعل الغبار طبعاً..
بحثت بعيني المنهكة عن الساحرة المستديرة حتى وقعت عليها بالقرب
من منزل خرب.. تتأرجح على حافة حفرة صنعها أحدهم
بجوار باب البيت الخرب لسبب مجهول..
ولا إرادياً تحسست رزمة الأوراق كعادتي كلما لاحت لي ذكرى ما..
ذكرى دفعتني دفعا لتوجيه السؤال التالي للصبية المتحلقين حولي :
ـ " هل يعرف أحدكم قصة شعبنا مع الظلاميين ؟ "
تبادلوا النظرات فيما بينهم .. هذا أخر ما يمكنهم توقعه مني ..
لسان حالهم يتساءل : لماذا لم يمضي ذلك الكهل إلى حاله وتركنا لحالنا؟
ـ " لا تعرفون؟ "
تكلم الصبي الذي ناولني النظارة :
ـ " وهل كان لشعبنا قصة؟ "
شعرت بغصة في حلقي.. وصعوبة في التنفس.. لكنني بالرغم
من ذلك عدت أكرر بصوت مبحوح :
ـ " لا تعرفون ! "
قال الصبي وهو يبتسم بلا مبالاة :
ـ " نحن لا نعرف سوى لعب الكرة .. إنها الإجازة الصيفية يا عمو.."
وتناثرت من حولي الضحكات.. وتردد صداها في أذني
ممتزجاً بأصوات أخرى قادمة من ماضي ليس ببعيد ..
ليس للحد الذي ينسى معه أبنائنا ما جرى وما كان ..
" ماذا تعرف أنت أيها الغر الساذج عن الظلاميين.. هه؟ "
" أريد فقط أن أفهم .."
" ليس الآن ..."
" لماذا ...؟ "
" ليس الآن .."
استجمعت أنفاسي وكبحت جماح ذكرياتي وعبراتي..
الكابوس الذي كنت أخشاه قد تحقق.. ونشأ جيل لا يعرف
ما جرى لشعبنا من جراء أفة النسيان..
قلت لهم بمرارة :
ـ " اجلسوا معي ساعة .. أحكي لكم قصة شعبنا.."
تبادلوا نظرات الحيرى..
ـ " ليس الآن يا عم.. نريد أن نواصل اللعب .."
لكن صوتي هدر منذراً بالويل :
ـ " بل الآن .."
وجلست على الأرض.. وجلس الصبية من حولي ممتقعين..
وبيد مرتجفة تناولت رزمة الأوراق.. وبأنفاس ملتهبة بدأت أقرأ لهم قصتهم التي يجهلونها..


***

قديم 03-01-2016, 02:06 PM
المشاركة 3
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


تمهيد


لا يذكر تحديداً متى أظلمت من حوله الموجودات..
عندما قرر والده أن يترك الأسرة وينضم لقائمة خرج ولم يعد..
أم عندما ترك مدرسته صغيراً ليعمل ويساعد أمه ؟..
أم عندما وضعته أمه.. وجاءت به لتلك الحياة..
كذا سأل والدته يوماً..
ـ "الظلام هو أصل الأشياء.. كذا قال لي والدك قبل أن يرحل"
ـ " رحل إلى أين ؟ "
أخبرته أنه ذهب إلى قاع المدينة.. واختفى في فجوة أرضية من تلك الفجوات
التي تملأ القاع.. أخذه الظلاميون إلى غير رجعة..
ـ " من هؤلاء الظلاميين ؟"
ـ " مخلوقات تعيش في الظلام تحت الأرض.. إنهم يأتون ليلاً من أجل
الأطفال المزعجين كثيري الأسئلة.."
لم ينس حركة إصبعها التحذيرية أمام ناظريه وهي تقول:
ـ " إياك أن تقترب من قاع المدينة.. لن تعود.."
ابتلع ريقه متمتماً :
ـ " أمن الممكن أن ألقى والدي هناك يوماً ؟ "
تهزه بعنف صارخة :
ـ " لا أحد يظل حياً في قاع المدينة.. الشيطان يسكن هناك "
نظر لها في رعب.. وأقسم أنه لن يقترب من القاع.. لن يقترب..
ابتسامة منتصرة ارتسمت على وجه أمه.. لقد نجحت في زرع الرعب
الأبدي في قلب ابنها.. هكذا هي تحميه للأبد من الضياع كما ضاع والده الأحمق..
الذي ظن أن الفشل سبب وجيه للفرار إلى قاع المدينة.. لقد شعرت أن
ابنها سيصيرنسخة أخرى من والده.. لذا هو مرشح للضياع كما ضاع أبيه..
لكنها لن تسمح له بذلك..
ومازال الفتى يتساءل متى أظلمت من حوله الموجودات؟..
عندما ماتت أمه وتركته وحيداً..
أم عندما طرد من عمله للمرة الثالثة..
ـ " أنت فاشل ابن فاشل.."
نظر لصاحب العمل في غل :
ـ " هل كنت تعرف والدي؟ "
دفعه صاحب العمل خارجاً وهو يسبه :
ـ " وهل يخفى القمر.. الحمار الذي ترك زوجته وفر إلى قاع المدينة
ولم يعد.. لعله الأن ينتظرك هناك مع الظلاميين.. أذهب إليه فمن شابه أباه ما ظلم "
أم لعلها أظلمت حقاً عندما عاد إلى الغرفة التي يسكن بها ليجد حاجياته
قد ألقيت في الشارع بجوار الرصيف.. صاحب البيت كان عملياً..
وحينما رفع طرفه إلى نافذة حجرته رأى وجه جديد يطل عليه منها..
الساكن الجديد..
حمل حاجياته على كتفه وانطلق هائماً على وجهه..
لا يكاد يرى أي بصيص من ضوء.. ظلام.. ظلام..
ليل سرمدي يزحف على كل شبر من عالمه لا يترك له أي أمل في نهار جديد.
" الظلام هو أصل الأشياء "
تباً لصاحب العمل.. تباً لصاحب البيت.. تباً للعالم أجمع..
عملياً لا يوجد مكان يأوي إليه غير.. غير قاع المدينة..
قاع المدينة!
لكنه لم يرتجف هذه المرة.. ولم لا.. قاع المدينة المكان الوحيد
الذي لن يطرده منه أحد.. ولن يطالبه بأجر..
" الشيطان يسكن هناك "
فكر أنه لم يتعامل طوال حياته إلا مع شياطين.. حتى أمه التي
كانت تخوفه من الشيطان.. كانت شيطان أخر في صورة أم..
ماتت ولم يستفد منها إلا الرعب من قاع المدينة التي ابتلعت أبيه يوماً ما..
ما الذي يخيف في قاع المدينة.. الظلام؟
" الظلام هو أصل الأشياء "
لا يدري لماذا بدا له والده في تلك اللحظة عبقرياً..
تأمل اللافتات التحذيرية التي يضعها رجال السلطة لمنع
الزائرين وابتسم في مقت.. هو لا يخشى ما يحذرون..
أي جحيم سيلقاه سيكون أفضل بالتأكيد من الجحيم الذي لفظه..
ـ " قف.."
تجمدت الدماء في عروقه.. استدار حيث الصوت فرأى دورية جوالة
من دوريات السلطة التي تحوم حول القاع لمنع الحمقى من التوغل..
كان قد اتخذ قراره.. هو لن يعود.. لن يعود..
وهكذا ألقى بأحماله وانطلق يعدو بجنون..
ـ " قف.. قف.."
لن يتوقف.. لن يتراجع.. لقد اتخذ قراره.. سيلحق بوالده..
سيهبط إلى باطن الأرض.. لن يعود.. لن يعود.. لن يعود..
إلا............
لينتقم...

***

متى شعر بقدمه تنزلق في إحدى الفجوات؟
حاول التشبث بشيء.. أي شيء.. لكن سرعة انزلاقه مع المفاجأة أفقدته التحكم بنفسه..
فراغ مظلم دامس غاص فيه لثوان..
ثم تدحرج جسده على ما يشبه المنحدر.. شعر بوخذات عديدة في جسده..
وحينما سكن جسده أخيراً تحسس نفسه فأدرك أنه قد جرح في أكثر من موضع..
ظلام دامس ورائحة عضوية خانقة.. إنه في إحدى ممرات الصرف الصحي
لقاع المدينة والتي لم تعد تستعمل منذ عقود..
هي الآن مسكن الطائفة الظلامية التي يخشاها سكان السطح..
بالرغم من ذلك لم يشعر بالخوف.. كان قلبه يدق بعنف لكنها لم تكن بسبب الخوف..
إنها دقات تخبره أنه قريب جداً منه..
ـ " أبي !"
صرخ فتردد صدى صرخته عبر ممرات الصرف العتيقة..
ـ " أبي! "
صرخ وهو يتوغل أكثر وأكثر...
ـ " أبي! "
صرخ وهو يسمع صوت حركة خافتة بجواره.. إن لم يكن فأراً فماذا يكون؟
ـ " أبي! "
صرخ وهو يتساءل عن تلك الأنفاس الكريهة التي تلفح وجهه الآن..
إن لم تكن أنفاسهم فماذا تكون؟..
ـ " أبي! "
ـ " شششششششششش"
توقف عن الصياح وتوقف قلبه عن النبض.. أغمض عينيه..
وبدأ يسمع الصوت الهامس في أذنيه :
ـ " لا تلوث الظلام.. "
ومن قلبه تمنى أن تكون النهاية أسرع وأرحم.. ولأول مرة في حياته يشعر بالرضا..
فعما قليل سيلقى والده..

***

قديم 03-05-2016, 06:22 PM
المشاركة 4
حسام الدين بهي الدين ريشو
مشرف منبر بـــوح المشـاعـر

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
أتابع بشغف
هذا القص الرائع
واللغة الجميلة المعبرة

قديم 03-07-2016, 09:11 AM
المشاركة 5
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
أكرمك الله أستاذ حسام ..
جاري تنزيل الفصول إن شاء الله..
تقديري البالغ لمتابعتك..

الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام..
حتى الظلام.. هناك أجمل فهو يحتضن الكنانة..
قديم 03-07-2016, 09:21 AM
المشاركة 6
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
" سنمتص الصدمة يا سيدى.. مهما كانت الصدمة مؤلمة..
سنمتصها.. وفي الوقت المناسب سنرد الرد المناسب..
هذا عهدي لك.."







(1)
في ذلك الوقت كنا لا نعرف تحديداً من أين جاءوا..
هناك نظريات عدة تتحدث عن أصل النشأة لما كنا نسميهم بالظلاميين..
في البداية كان الحديث عن تحور طرأ على بعض أبناء شعبنا نتيجة ظلم
طبقي صارخ أدى بهم إلى اللجوء إلى الكهوف والمغارات والسراديب تحت الأرض..
من هنا نشأ جيل لا يعرف النور .. ومن هنا أطلق عليهم البعض الظلاميين ..
لكن بعض الجمعيات الخيرية كانت تعتبر هذه التسمية زيادة في الظلم
والقهر لهذه الطائفة المطحونة..
ـ " ما يحدث على أرض شعـ.. شعبنا الأسمر جريمة بكل مقاييس الشعوب المتحضرة..
فصـ.. فصيل كامل من أبناء الشعب يحيا في باطن الأرض والويل كل الويل له
إن فكر في الخروج للنور.. هذه قصة تصـ.. تصدم كل إنسان متحضر.."
هكذا تكلم الدكتور العوادلي في إحدى الندوات التي كانت تسمح لها السلطة
بالانعقاد في تلك الفترة من أجل التعبير عن الرأي.. تحديداً في غرب المدينة
حيث تسكن النخبة المثقفة من شعبنا والمرفهة كذلك..
ـ " سياسة القمع وتكميم الأفواه هي ما انتجت لنا ما نسميه زوراً بالطائفة الظلامية "
والعوادلي هو أحد أبناء شعبنا لكنه قضى معظم حياته يعمل عند الشعب الأصفر..
وهذا كان مدعاة للتشكيك فيه من قبل أصحاب النظرية المضادة حول حقيقة
الطائفة الظلامية..
البعض يعتبره بطلاً ثائراً من أجل حرية الشعوب..
.. والبعض الأخر وكانوا قلة في ذلك الوقت يعتبرونه رجل الشعب الأصفر
والذي يتولى تمهيد الأرض لمقدمهم.. لكن ما علاقة ذلك بالظلاميين يا ترى؟..
حاول بعضهم أن يتساءل في تلك الندوة :
ـ " لكن يا دكتور هناك وجهة نظر لدي سلطتنا أن..."
هنا تمت مقاطعة المتسائل البريء من قبل الحضور ولم يستطع أن
يواصل أمام سيل التهم التي انهالت على رأسه..
ـ " هذا عميل للسلطة مدسوس علينا.."
ـ " يسمحون لنا بعقد الندوات ثم يزرعون بيننا من يفسدها علينا "
وقال المتسائل وهو مبهوت :
ـ " والله أنا منكم فقط كنت أعرض وجهة النظر الأخرى ليرد عليها الدكتور العوادلي .."
هنا تكلم العوادلي :
ـ " يا عزيزي هناك نقاط محد.. محددة تم الاتفاق عليها لتتم مناقشتها
في الندوة ولا يـ.. يحق لأي أحد أن يخرج على تلك النقاط.. واضح؟.."
وجلس المتسائل ممتقعاً وهو يداري أفكاره السوداء..
بعدها عاد العوادلي يواصل كلامه عن القمع وتكميم الأفواه!
لكن ما حقيقة النظرية الأخرى التي تتبناها السلطة.. والتي لم يسمح العوادلي بعرضها في ندوته..
النظرية المضادة تتحدث عن الظلاميين كشعب غامض مخيف لا يمت بصلة لشعبنا الطيب المسالم..

***

" لا تقترب "
هذه اللافتة ستجدها بكثرة بالقرب من قاع المدينة..
حيث تكثر تلك الفجوات التي توصل لعالم سفلي يمر عبر شبكات معقدة تحت أرض المدينة..
لكن ماذا لو تجاهل أحدهم تلك اللافتات..
بعض من قرروا الولوج في قاع المدينة والاقتراب من الفجوات الأرضية..
لم يعودوا ليخبروا ذويهم بما رأوا.. ولم يتوقف الأمر على المغامرين فقد جرت
حوادث قتل عديدة وغريبة لأفراد من شعبنا بعيداً عن قاع المدينة وكان
التفسير عند السلطة أن هذه الحوداث جراء تسلل ليلي لأحد كائنات الظلام..
وفي الصباح كنا نجد جثة أو جثتين وأحياناً كان يتم خطف الأجساد إلى سرداب غائر
في قاع المدينة أو كهف عميق في أحد الجبال .. ماذا كان يحدث للمختطفين .. ؟
حول هذا تدور التكهنات .. ويمكنك أن تستنتج ذلك بسهولة لو علمت أن الجثث التي
وجدت كانت خالية من الدماء.. لكن طبعاً هناك من يشكك في نسبة ذلك للظلاميين
أصلاً وتبقى الأمور عائمة.. وهذه النظرية التي تبناها رجال السلطة عندنا عاملوا
الطائفة الظلامية من خلالها..
كنا نسمع بين الحين والحين أن السلطة جردت حملة شعواء على كل البؤر
القريبة للكائنات الظلامية ..
لا أحد يغامر بإنزال قوات السلطة لتلك البؤر لذا يتم ضرب تلك البؤر بقاذفات اللهب ..
وكان هذا يثير الجمعيات الحقوقية لدى شعبنا والتي تتصل مباشرة بشعوب
الخارج خصوصاً الشعب الأصفر ..ويبدأ الضغط العالمي على شعبنا من أجل رفع
الأكف عن طائفة مقهورة يدفعها القحط والظلم إلى اعتداءات فردية غير مسئولة.
والحل...
ـ " الحوار ...."
هكذا قالها السيد الأشقر نوسام المندوب السامي عن الشعب الأصفر أمام حشد
من رجال الصحافة والإعلام في مؤتمر عالمي صاخب ..
سأله أحد الصحفيين:
- " وكيف يتم الحوار مع طائفة تحيا في السراديب والكهوف ولا أحد يعلم لهم متحدث
رسمي يمكن التفاهم معه ."
هنا أشرق وجه الأشقر وقال بحماس يحسد عليه :
ـ " الحوار لغة الشعوب المتحضرة وإذا كنت تحاور همجياً بربرياً بنجاح فهذا
يعنى أنك غلبته بتحضرك ..أما الفشل فقد يعنى أنك لست متحضراً كما تدعى ..."
كانت كلماته تتنزل على أذان السيد المسئول الأكبر عن شعبنا كالكرابيج والرسالة
باتت واضحة .. نحن فاشلون في دمج تلك الطائفة المسكينة في باقي أطياف الشعب ..
ولم يكن أمام السيد المسئول الأكبر سوى دعوة السيد الأشقر للقاء كائنات الظلام
ولسان حاله يقول :
ـ " عسى أن تبتلعه حفرة من حفر الظلاميين أو يغوص في كهف من كهوفهم
إلى الأبد وتكف سلطة شعبه عن الحديث حول الحوار معهم"

***

في تلك الأثناء غادر السيد وسام دائرة الظل التي لا يفارقها إلا في حالة حدوث أمر جلل..
كان فارع القامه أصلع الرأس لم يبق إلا بعض الشعر التذكاري على جانبي رأسه
لكن له عينان سوداوان عميقتان تجذبانك جذباً ناحية هاويه بلا قرار ...
وكان كذلك مندوباً من سلطة شعبنا لاستقبال نوسام القادم للحوار مع الظلاميين ..
وسام وإن كان يظهر بمظهر الدبلوماسي الحاذق لكنه في نفس الوقت رجل
أمن من الدرجة الأولى .. بطل من أبطال شعبنا المنسيين..
وهو كذلك خبير في مواجهة الطائفة الظلامية
( فهو ممن يتبنون النظرية الأخرى عن الظلاميين )
وكان خير مبعوث من شعبنا لاستقبال السيد الأشقر واصطحابه
إلى شتى البؤر التي يريد زيارتها في محاولته الاتصال بالكائنات السفلية ...
ـ " السيد وسام "– قالها نوسام – " أنت أخر شخص اتوقع وجوده في استقبالي."
نظر له وسام وابتسم في مقت قائلا ً:
ـ " المسئول الأول عن شعبنا يهتم بدعوتك للحوار.."
ـ " أظن أن مجيئي كان من أجل الحوار .. لا الحرب.."
ـ " لست هنا بصفه أمنية .. أنا معك بصفة دبلوماسية بحتة.."
طبعا ًلم يقتنع السيد الأشقر وما اهتم وسام بإقناعه.. عليه فقط
أن ينهي تلك المهمة السمجة ويعود بتقريره الموعود للمسئول الأكبر ...
ـ " إذن هلا بدأنا جولتنا..."
قالها السيد نوسام في مرح فرد عليه وسام في سماجه:
ـ " هل تحب أن تبدأ بالحفر في قاع المدينة أم بالكهوف في الجبال؟"
ـ " معي فريق علمي متكامل سيحدد لنا الهدف بدقة..."
تجاهل وسام الرد على عبارته الأخيرة وإن كان عقله قد اشتعل
بها وصار كالأتون الملتهب.. فريق علمي.. سيحدد الهدف ..
وإلى جوار السيد الأشقر كان هناك ثلاثة شباب يرتدون المناظير
الطبية ومعهم حقائب متوسطة الحجم قدمهم نوسام بانتشاء لوسام :
ـ " رجال الفريق ب.. لديهم وسيلة علمية ترصد تحركات الظلاميين بدقة.."
قال وسام من بين أسنانه :
ـ " هل شكلتم فريق كامل لاختراع وسيلة رصد لكائنات الظلام ..
هذا مجهود شاق واهتمام فائق لو أردتم رأيي."
ـ " السلام العالمي هو أسمى أهداف شعبنا الأصفر كما تعلم ومن
أجل هذا الهدف نبذل الكثير والكثير..."
فرك وسام أذنه قائلا ً في ملل :
ـ " هذا يحفظه كل طفل يشاهد طائراتكم وهى تقصف بيوتهم ليل
نهار من أجل السلام العالمي..."
مط نوسام شفتيه معلنا ً عبثيه الحوار مع وسام في تلك النقطة
ثم إنه أعلن في حبور عن بزوغ فجر جديد ..فجر الحوار التاريخي مع كائنات الظلام .
وسطعت أضواء عدسات التصوير على وجهه ووجوه رجال الفريق ب .
وظهر وسام الذى فضل أن يوليه لعدسات التصوير...
فهو لم ينس بعد حسه الأمني الرافض لأضواء الصحافة والإعلام ..
وسمع همس نوسام في أذنيه :
- " ليس الظلاميون وحدهم من يخشى الأضواء يا عزيزي.."
ولم يجد وسام رداً أفضل من أن يبتسم له مكشراً عن أنيابه ....


***











الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام..
حتى الظلام.. هناك أجمل فهو يحتضن الكنانة..
قديم 03-07-2016, 09:31 AM
المشاركة 7
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


(2)
قاع المدينة ...
حيث تكثر الفجوات التي توصل لعالم سفلى تحكمه طائفة الظلام ..
لا أحد يمرح ويسرح ليلاً بالقرب من تلك الفجوات إلا إذا كان مخبولاً أو مخموراً ...
وغالباً لن يعود ليحكي ما حصل ..ليؤكد أو ينفي .. وتبقى الأمور عائمة..
لكن ذلك الشاب اليافع الذى يمضى قدماً في سبيله لا يلوى على شيء تؤكد
خطواته الواثقة الحازمة أنه ليس مخبولاً أو سكيراً .. ذلك الشاب يمضي ناحيه الخطر بإصرار ...
لم يبق إلا الانتحار ... ذلك الفتى يريد أن ينتحر بولوجه إلى قاع المدينة في ذلك الوقت من الليل ..
ـ " قف .."
صرخة حازمه لا تخرج إلا من حنجرة مدربة على الصراخ بهذه الطريقة الأمنية الحازمة ...
تجمد الشاب في مكانه ثم التفت ببطء إلى مصدر الصوت..
ـ " هل أنت معتوه ...؟ "
قالها رجل السلطة وهو يقترب من الفتى.. تلفت حوله في حذر ثم أمسكه من كتفه هامساً :
ـ " هل تريد الانتحار ..؟ "
نظر له الشاب نظرة خاوية... وتساءل :
ـ " لماذا تنزعج بهذه الطريقة يا رجل السلطة ...؟ "
ـ " ألا تفهم ... أنت تقترب منهم ...."
ـ " تقصد أبناء الظلام ... ألم تعلن السلطة عن دعوتها للحوار معهم وجاء
وفد من الشعب الأصفر لبداية الحوار ... لماذا نخاف من الاقتراب إذن ..هه..؟ "
وسكت الشرطي..
كان شيخاً قد جاوز الخمسين لكنه وقف حائراً تائهاً لا يعرف كيف يرد على ذلك الفتى اليافع ..
ـ " ما اسمك أيها الشاب ...؟ "
ـ " نادر...من شرق المدينة ..."
رتب الشرطي عاتقه في رفق قائلاً :
ـ " تعال إذن معي بعيداً ... المكان هنا خطر جداً .."
دفع نادر كفه بعيداً وصاح بحنق :
ـ " خطر!... كيف سنتحاور إذن مع ذلك الخطر ...؟ "
ـ " ليس هذا من شأنك .."
جاءت العبارة القاسية الحازمة من خلفهما فأجفلا ...
تراجع رجل السلطة للخلف ممتقعاً وهو يؤدى التحية العسكرية بيد ترتجف
على حين ظل الشاب على وقفته المتحفزة كالسهم الذى يستعد للانطلاق في أيه لحظه ...
ـ " السيد وسام شخصياً .."
مد السيد وسام كفه ناحيه الفتى مصافحاً ولم ينكر الشاب مدى قوة الشخص الذى يواجه..
كأن تياراً كهربائياً مر عبر أعصابه وهو يصافحه ...
ـ " أنت شاب من شبابنا الواعد كما أرى.. ولا يتوجب عليك أن تقف من سلطتك هذا
الموقف الحانق المتشكك ..."
حاول نادر السيطرة على أعصابه وهو يقول :
ـ " أريد فقط أن أفهم .."
نظر وسام في ساعته قائلاً :
ـ " ليس الآن..."
ـ " لماذا ...؟ "
ببطء يرفع وسام عينيه إلى الشاب ..وبهدوء وثقة يكرر :
ـ " ليس الآن.."
هنا وجد الشاب حشداً مرعباً من رجال السلطة في الأزياء الرسمية يحول بينه
و بين السيد وسام حتى لا يكاد يرى سوى صلعته اللامعة وعينيه العميقتين المطمئنتين....
نظر إليه نظرة متسائلة بمعنى : هل اطمئن؟.. فنظر إليه وسام نظرة أبوية مطمئنة بمعنى :
اطمئن هذا وعد .. و بينما حمل نادر حملاً بعيداً عن المشهد عقد وسام كفيه خلف
ظهره ورمق المكان في برود قائلاً :
- " هل المكان جاهز..؟ "
اقترب منه سليمان ساعده الأيمن و همس في أذنه بشيء ما .. فرفع ساعته إلى عينيه و قال :
ـ " على بركة الله..."
بعدها ظهرت السيارة الدبلوماسية تحمل شعار الشعب الأصفر و بداخلها وفد الحوار الموعود ....

***

تم اختيار الفجوة بعناية فائقة ..
وقام الفريق ب بوضع أجهزة دقيقة وتوصيلها بأسلاك متصلة ببعض
الشاشات و أخرج الأشقر آلة حاسبة و أخذ يضرب أخماس في أسداس و بعد ساعة
أعلن أن هذه الحفرة أو الفجوة مثالية تماماً ...
كان السيد وسام يراقبه من داخل عربة خاصة من وراء منظار داكن و بيده اليمنى
تناول علبه عصير ورقيه و قام برشف رشفات منها ثم التفت
متسائلاً إلى سليمان الجالس إلى جواره بالسيارة :
ـ " هل أحضرتم بعض اللب و الفول السوداني ...؟ "
قال معاونه في هدوء :
ـ " اعتقدنا أن السيد الأشقر سيكون أكثر تسلية من اللب و الفول السوداني يا سيدى .."
بالفعل كان مسلياً وهو ينبطح على وجهه جوار الحفرة و يسترق السمع..
ثم يعتدل و يخلع سترته و يشمر عن ساعديه معلناً أنه مستعد الأن للنزول..
كان هناك عدد لا بآس به من كاميرات التليفزيون وكاميرات عدة قنوات عالمية
و محلية تنقل الحدث الجلل لحظه بلحظه..
الحدث العالمي .. اللقاء المرتقب مع أبناء العالم السفلى تتبناه حكومة الشعب الأصفر ..
ـ " الأن سأنزل و معي الفريق ب مزودين بكاميرا لنقل الحدث ..
لا حراسه و لا سلاح ... هذا هو القانون ... اليوم سنكشف لكم جانب خفي
ظل مستوراً لعقود عن الطائفة الظلامية ..."
و همس سليمان في أذن السيد وسام :
ـ " ترى هل سيعود ...؟ "
ضغط وسام على أسنانه و قال :
ـ " سيعود ... بنى الأصفر لا يتهورون .. و لا يضحون برجل مثل نوسام ."
ثم ألقى نظرة من أسفل منظاره الداكن على نوسام والفريق ب وهم يثبون
داخل الحفرة حاملين معدات التصوير اللازمة... وعاد ليقول لمعاونه في حسم :
ـ " من أجل هذا تم تكليفي بتلك العملية.."
الملايين علت شهقاتهم المنبهرة بما فعله نوسام وفريقه منذ ثانية واحده..
مذاعاً بالبث الحى عبر الاقمار الصناعية.. يا لشجاعته!.. يا لبسالته!..
وتفانيه من أجل قضية الحوار .
هكذا كانت عبارات الإعجاب و الانبهار عبر شعوب العالم ...
واحد فقط أبتلع كل هذا بداخله وحافظ على هدوء أعصابه رغم ما يعتمل في نفسه
من قلق و شك و ريبه.. هذا الواحد هو وسام رجل الشعب الأمني ...
قال لمعاونه في برود لا يخلو من حدة :
ـ " شغلوا البث المباشر..."
كانت سيارته مزوده بجهاز مرئي صغير الحجم لكنه أستطاع رؤيه ما يحدث بدقه ...
حشد الصحافة والإعلام يتابعون ما يجرى داخل الفجوة عبر شاشة مرئي مسطحه ..
كان الأشقر يتحرك داخل الفجوة الأرضية في حذر..
تأملته أم نادر في انبهار عبر الشاشة و هي تضع صفحة الطعام أمام ولدها لكنه
كان قد استعاض عن الطعام بأصابعه التي كان يعض عليها متابعاً الأحداث على الشاشة ..
ـ " إنه يشبه ذلك الممثل الذي يحبه أخوك مدحت.."
نظر لها نادر ولم يعلق ..ابتلع أفكاره وعاد يتابع العرض ..
الأشقر يتعثر يعتدل فيتنفس المشاهدين الصعداء...
كان نوسام يقدم عرضاً سينمائياً لا تستطيع معه أن تغمض عينيك...
ممر ضيق طويل يبدو بلا نهاية و يبدو من صوت أنفاس الأشقر أن الهواء
بدأ يقل و من قلبه دعي عليه السيد وسام بأن يلفظ أنفاسه الأخيرة..
هنا سمع المشاهدون عبر الشاشات صيحة الأشقر المنتصرة ..
ـ " مرحى... هل ترون ما أرى ...؟ "
ولمح المشاهدون ذلك الجسد النحيل المضطرب يتحرك من اليمين لليسار
و سمع الكل صيحة حادة أشبه بصيحة وطواط منزعج
ـ " تعال يا صغيري ... لا تخشى شيئاً.. بابا جاء إليك للحوار..
أعرف أنك مبعوث من قبل عشيرتك... أعرف أنك تفهمني مثلما أفهمك ...
دعنا نثبت للعالم أنكم أناس مسالمون..."
مره أخرى تحرك الجسد النحيل و بدا للحظه وجهه أمام الشاشات
فعلت صيحات الدهشة و الفزع من ملايين المشاهدين و رجال الصحافة المحيطون بالفجوة ...
أما وسام فقد أراح ذقنه على راحته وهو يتمتم :
ـ " إنه هو ..كما توقعنا .."
قال سليمان في بطء حذر :
ـ " كان ينبغي أن نبيد تلك الطائفة الملعونة.."
لم يعلق وسام ..وعاد يتابع المشهد ..
كان نوسام الآن قد جلس متربعاً..
جذب نفس عميق ثم تمتم في انبهار وهو ينظر في الجهة التي يختبئ فيها الكائن :
ـ " مذهل ... لقد حدث تبدل مزرى لهذه الطائفة البائسة..."
و تحركت الكاميرا لتتركز الصورة على الكائن ...
كان شبيهاً بالبشر في أطرافه مع نحول شديد وشحوب في البشرة
وله عينان واسعتان جداً و شفتين و أذنيه تشبه أذني الوطواط...
وشعره أسود فاحم منسدل على كتفيه و يرتدي معطف طويل أسود ومهترئ..
ـ " مصاص دماء.."
هكذا تمتم نادر وهو يتأمل الكائن على الشاشة..
بالفعل هذا هو ما كان يبدو عليه ذلك الكائن بالنسبة لغالب المشاهدين ..
حتى أن الأشقر بدأ يتحسس عنقه وهو يقترب منه حثيثاً ..
ـ " هل تفهم لغتي...؟ "
لمعت عينا الكائن للحظه ثم .. انفرجت شفتيه فبرزت أسنانه الحاده لتزيد الطين بلة..
وشهق نوسام وحبس المشاهدين أنفاسهم .. و
ـ " نعم أفهم ..."
ودوت الشهقات المذهولة عبر حناجر ملايين المشاهدين...
المفاجأة كانت مذهلة... وصاح الأشقر مهللاً :
ـ " مرحي... أنتم تتكلمون بلغة الشعب الأسمر...
هذا سيسهل مهمتي و سيوضح قضيتكم أمام العالم ...
العالم كله الأن يستمع إليكم ... و لأول مرة بعد عقود من الاضطهاد و العنف الذى عانيتموه في القاع..."
مرة أخرى تلكم الكرابيج تهوى على أذن وسام ...
هذا التبكيت الموجه كالصواريخ الموجهة.. لابد أن صاروخاً وصل لحجرة السيد المسئول الأكبر
الأن وهو جالس يتابع الأحداث من مكتبه ...
كان وسام يعرف أن حكومة الشعب الأصفر تصطاد في الماء العكر
و أنها ستستغل قضية الكائنات الظلامية أسوأ استغلال ...
لكن المدهش هنا بالنسبة لأبناء شعبنا هو: كيف قررت تلك الكائنات الوحشية
أن تبدل سياستها مع سكان السطح و تقرر الجلوس على مائدة الحوار؟..
و لماذا يتم هذا مع بنى الأصفر... وسام يعلم أنهم يجيدون لغتنا لأنهم أصلاً
من بنى شعبنا و لأنه واجههم كثيراً و له معهم ملف حافل بالأسرار...
لكن المدهش هنا هو هذا الكائن الذى جاء ليوصل للعالم رسالة ما من عشيرته...
رسالة ربما تقلب العالم على رؤوس سلطة شعبنا....
كان يتكلم الأن بصوت كالفحيح يتناسب مع هيئته التي تشبه الصورة التقليدية لمصاصي الدماء ...
ـ " لم تمتد إلينا أيدي البشر إلا بالقتل و الحرق..."
اعترض نوسام قائلاً :
ـ " تقصد أيادي شعبكم الأسمر فأنتم بشر مثلهم لكنه القهر الغير مبرر.."
ـ " نحن لا نفرق ... كل الكائنات التي تحيا في النور تتشابه ... "
ـ " صدقني هذا التشابه شكلي فقط ... و إلا ما أرسلت من قبل شعبي الأصفر
لإجراء هذا الحوار معكم ... نحن نختلف عن الأخرين ."
ـ " إنه لمن دواعي سرور شعبنا الظلامي أن يجد أخيراً من يستمع
إليه... نحن طائفة عاشت لعقود طويلة تحت الأرض و في الكهوف لكننا لم ننس أصلنا أبداً ...
لكن البعض حاول على مدار السنوات أن يجعلنا ننسي ... و نقنع بباطن الأرض ...
و نحن نعلم أولادنا جيل بعد جيل ... أننا و أبناء ظهر الأرض إخوة لكنهم بغوا
علينا و لابد أن نعود يوماً للسطح و ننعم بالضياء مثلهم ."
مسح نوسام عبرة كادت تغادر مقلتيه!.. ثم قال في تأثر :
ـ " هذا فظيع !..."
ـ " مهما تكلمت أيها السيد القادم من السطح فلن أعبر عما يجيش به شعبنا
من مشاعر المرارة و الحسرة و الظلم ... و لم يكتف إخواننا بهذا بل أثاروا حولنا الشائعات
المغرضة التي زادت من الفجوة بيننا و بينهم فوق الأرض ..."
ـ " لا تظلم جميع إخوانك ... لعلها طبقه معينة تتحكم بمصير هم على مدار العقود
و تعمى عيون الجميع عن الحقيقة ..."
ـ " أعرفهم ... و نسميهم عندنا تنانين النار ... لأننا لم نري منهم سوى الحرق بالنيران ..."
قالها ثم خلع رداءه واستدار كاشفاً ظهره للكاميرا ..
فظهرت فقرات ظهره جلية مع عظام قفصه الصدري و معها علامات
حرق بشعه جعلت نوسام يكتم فمه بكفه مانعاً شهقة جزع عارمة!...
كان ظهر الكائن الظلامي قد حفرت فيه أخاديد بفعل النيران ..
" لا أحد يغامر بإنزال قوات شرطية لتلك البؤر .. لذا ..يتم ضرب تلك البؤر
القريبة للكائنات بالنابلم .."
كانت قبضة وسام تسحق علبه العصير الورقية وكان من داخلة يصرخ :
هذا عبث .. هذا خطر ..هذا للأسف لا يمكن إيقافه لأنه يشاهد من قبل الملايين ..
وكان الكائن الظلامي قد عاد بوجهه للشاشات ليستطرد :
ـ " نحن لا نطالب إلا بحقنا في النور .. أن تلسع جلودنا حرارة الشمس و ننعم بضيائها .. فهل تسمحون ..؟ "
تنحنح نوسام ثم قال في جدية :
ـ " أيها السيد الظلامي .. باسم شعبنا الشعب الأصفر .. أبلغكم تضامننا الكامل مع قضيتكم ..
و دعمنا الكامل لكم في حياة متكافئة مع إخوانكم فوق الأرض...
و ستتحمل حكومة شعبنا عبء التفاوض مع شعبكم حتى يسمح
لكم بالعيش معكم على السطح سواء بسواء .."
و مد يده إليه مصافحاً وهو يكمل بدبلوماسية :
ـ " شرفت بلقائكم .. أنا نوسام مندوب الشعب الأصفر."
ومد إليه الكائن كفاً نحيلة باردة وهو يقول :
ـ " شرفت بلقائكم .. أنا يسرم مندوب الشعب الظلامي .."
وكان التصافح الحار عبر الشاشات و أمام ملايين المشاهدات وتحت سيل العبرات..
يقول بكل وضوح أن الأيام القادمة حبلى..

***






الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام..
حتى الظلام.. هناك أجمل فهو يحتضن الكنانة..
قديم 03-12-2016, 09:05 AM
المشاركة 8
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي

(3)

أحياناً يذهب نادر إلى مقهى مجاور لمنزله .. ليس له أصحاب كثر
لكن هناك حشد من رواد المقهى يتمتعون بروح مرحة ومسلية..
يجد نفسه أحياناً أمام عروض مسرحية بلا مسرح لشرائح متنوعة ومختلفة من مجتمعه..
كان بحاجه هذه المرة إلى قياس ردة فعل الشارع بخصوص اللقاء غيرالعادي مع الطائفة الظلامية...
فيما يفكر الناس؟..
و هل هناك أحد يوافقه في رأيه فيصرح به؟.. أم يخرس للأبد؟ ..
كان أولهم الحاج فوزي صاحب المقهى وهو دائماً متهم من قبل رواد المقهى بالاستغلال
والغش فيما يقدم من مشاريب شعبية.. كان رأي ذلك الطاغية الصريح كما يلي :
ـ " لقد أدمع ذلك الكائن قلبي قبل عيني.. هل هؤلاء هم وحوش ما تحت الأرض كما حاولت السلطة
المفترية أن تقنعنا ..؟ حسبي الله و نعم الوكيل .."
وثانيهم الشاب محسن أحد هؤلاء الذين اعتبروا البطالة مهنة مقدسة والجلوس على
المقهى هو استراحة محارب لابد منها بين ساعات العمل الشاق!! كان يدخن النرجيلة
و ينفس سحب الدخان من منخريه باحتراف واقتدار فبدا كتنين أسطوري قرر أن يتنازل
ويدلو بدلوه في أزمتنا السياسية :
ـ " مئة بالمئة هناك سر تخفيه السلطة حول هذه الطائفة .. لماذا تضطهد تلك الطائفة المسكينة لعقود
من قبل السلطة .. لابد أن هناك في الموضوع سر .."
وهناك الشيخ حسن أحد مقرئي المآتم المعتبرين في المدينة ويبدو أنه يقوم بعمل (عمرة) لرأسه قبل أن يقرأ على روح أحد المراحيم بمأتم مجاور .. لكن هذا لا يمنعه أحياناً من أن يكون له رأي فيما يدور.. وبلهجة العالم ببواطن القبور تكلم :
ـ " الافتراء له أخر.. و الكذب ليس له أرجل.. لقد فضحتهم شعوب بني الأصفر ...و قلبت عليهم بقية الشعوب .."
بعدها تتابعت الآراء المفحمة ..
ـ " هؤلاء لديهم حرية .. حرية حقيقية يا رجل .."
ـ " ونحن لدينا (حُمرية) .. (حُمرية) حقيقية يا رجل..."
ـ " هع .. هع .. هع ....."
أغلق نادر أذنيه بكفيه و قرر أن يفر من هذا الجحيم .. لقد فهم .. عليه أن يخرس و لا يدلي بدلوه ... لا أحد يفهم .. و ربما كان هو واحداً من هؤلاء الذين لا يفهمون .. لكن ..
" أريد فقط أن أفهم .."
" ليس الأن .."
" لماذا ..؟ "
" ليس الأن.."
السيد وسام يفهم .. أنه يثق به .. كذلك شعبنا كله يثق به .. لكن هل ستظل تلك الثقة موجودة بعد عرض السيد نوسام المباشر على الهواء ..؟
هنا صم أذنه صياح جماعي حانق..
مظاهرة عارمة تجوب الطريق الرئيس رافعة لافتات تندد بممارسات سلطة شعبنا تجاه الظلاميين .. لكن هل هذا المحمول على الأعناق هو العوادلي شخصياً؟..
كانت صورته دائماً ما تثير الضحك بصلعته وعويناته التي تشترك مع أنفه وشاربه في صنع وجه كاريكاتيري يثير السخرية ..
لكنه بدا له في تلك اللحظة أقرب لغراب البين..

***

مقابلة هامة جرت بين السيد وسام و المسئول الأكبر عن شعبنا و دون تردد أخرج السيد وسام ملف ضخم ووضعة على مكتب المسئول الأكبر .. نظر الأخير للملف ثم لوسام.. ثم تكلم بلهجة هادئة :
ـ " هل هذا هو كل شيء يا وسام ؟.."
ـ " خلاصة مجهود شهور مضنية من جمع المعلومات و فحصها و تحليلها وصولاً للنتائج النهائية والتي كنا نتوقعها أيها المسئول الأكبر .."
قلب المسئول الأكبر أوراق الملف وهو يلقي بنظرات عابرة على بعض الفقرات و حبس وسام أنفاسه ..
ترى كيف سيكون القرار ..؟
ـ " ما رأيك ..؟ "
قالها المسئول الأكبر دون أن يرفع عينيه عن أوراق الملف.. و جاء الجواب القاطع من وسام ..
ـ " لابد أن نفضح كل شيء أمام الرأي العام العالمي ... نتغدى بالشعب الأصفر قبل أن يتعشى بنا .."
قطب المسئول الأكبر حاجبيه مستنكراً الفكرة .. هو يعرف حكومة الشعب الأصفر جيداً ... وهذا الكشف المدوي قد يدفعهم إلى عمل جنوني غير مضمون العواقب ..
ـ " لكن يا سيدى ...."
قاطعة المسئول الأكبر في حسم :
ـ " هذا هو قراري يا وسام ..المرحلة القادمة ستكون أصعب ما يكون على شعبنا و أمنه و سلامته سيكونان على المحك.. الصدام مع الشعب الأصفر قادم لا محالة فقط علينا أن نؤخره بقدر الإمكان"
وأطرق وسام إلى الأرض.... لم يكن ليعترض رأي المسئول الأكبر فهو صاحب القرار النهائي و الحاسم لسياسة شعبنا ... كما أنه ـ أي وسام ـ مستعد لكل الاحتمالات و قد أعد بالفعل خطة احتياطية إذا ما قرر المسئول الأكبر سلوك الطريق الأخر...
و شد وسام قامته في اعتداد أمام مكتب السيد المسئول الأكبر و ووعده أنه سيبذل و رجاله أقصى ما يمكنهم لتحقيق أمن و سلامة شعبنا... كلا الرجلين كان يثق في الأخر .. كلا الرجلين كان مقدما على أحداث عاصفة و جارفة .. تحتاج إلى قدر خرافي من التحمل و التضحية و التفاني ..
و كانا أحق بها و أهلها..
ـ " لقد بدأت التظاهرات بالفعل.. العوادلي يقودها بنفسه.."
قالها سليمان للسيد وسام و هو يغادر مكتب المسئول الأكبر فلم يبد عليه أي تأثر ..فقط قال و هو يضع منظار الشمس الداكن على عينيه
ـ " لقد دارت العجلة و لم يعد باستطاعة أحد إيقافها..."

***

بالأمس كان شعبنا يرتجف خوفاً من ذكر بؤر الظلاميين و يخشى الاقتراب من الفجوات التي يتسللون منها.. و اليوم .. تخرج التظاهرات تطوف بالفجوات مطالبة بخروج الظلاميين إلى النور ..كثير من الأبواق الشعبية التي كانت تندد بالظلام و الظلاميين صارت أبواق دعاية لهم .. و لقضيتهم ..
الدكتور العوادلي ظهر أمام الشاشات يقود المظاهرة الحاشدة ناحية واحدة من الفجوات .. وتوقفت المظاهرة عند حافة الفجوة وبدأ الهتاف المحموم بحق الظلاميين في الخروج للنور.. وبعد قليل نقلت وسائل الإعلام صورة العوادلي وهو يتأبط ذراع يسرم الذين غادر باطن الأرض وابتسم الاثنان وهما يشيران بعلامة النصر ..
طبعاً اقتحم المشهد حشد من رجال السلطة المدججين بالعصي والدروع بغية الوصول ليسرم..
لكن كان عليهم أولاً أن يخوضوا بحراً متلاطماً من البشر الغاضب
وبدأ الصدام المروع ..
ومع أول قنبلة دخانية و أول دفعة مياه لتفريق المتظاهرين تنصب كراهية شعبنا لرجال السلطة حماة الشعب و تنانين النار كما يدعوهم الظلاميون ..
لم تعد المعركة معركة السلطة مع الظلاميين..
صارت معركة سلطة مع شعب.. لم يكن رجال السلطة من المريخ.. هم من أبناء شعبنا.. يستفذهم ما يستفذنا.. وينتابهم ما ينتاب سائر البشر.. وكان هناك من يلعب على ذلك الوتر باحتراف..
وحينما نجحت قنابل الغاز والماء في دفع الحشود وإخلاء المكان المحيط بالفجوة التي غادرها يسرم لم يكن للأخير ولا للعوادلي أي أثر..
ذابا كما يذوب الملح.. حتى تشكك البعض في أنهما كانا موجودان أصلاً..
خرجا.. نفخا في نار الفتنة فتأججت.. وعادا من حيث أتيا..
توقف رجال السلطة يلهثون عند حافة الفجوة المظلمة.. هم يعرفون أن الاقتراب بدون سلاح قاذف اللهب خطر جداً.. هكذا علموهم..
ـ " إنهم مصممون"
همس بها أحدهم وهو ينظر للحشود التي عادت تقترب من جديد في تصميم..
ـ " الحرية للظلاميين "
ـ " تسقط السلطة.."
وحينما قذف أول حجر وشج أول رأس ارتفع النداء عبر أجهزة الاتصال يأمر أفراد السلطلة بالتراجع وعدم الرد.. كان مشهداً لا ينسى..
رجال السلطة يتراجعون محتمين بالدروع متبوعين بأمطار من الحجارة.. والحشود الغاضبة تتقدم على أصوات الصراخ والهتاف المحموم..
لقد مرت علينا أيام نحسات لم نر مثلها من قبل ..
لم يكن أحد يفهم بالضبط إلى أين تنقاد الجموع الغاضبة..
وما سر كل ذلك الغضب المبالغ فيه ؟.. كانت عاصفة العقل الجمعي تعصف بكل دعوى للتعقل والنظر عن بعد.. السلطة شياطين من سقر ولابد أن يعودوا من حيث أتوا!..
صدامات عنيفة جرت تطورت إلى حد مهاجمة مقرات السلطة نفسها ونظرة أمنية فاحصة على كل ما يدور كانت تؤكد أن هناك يداً آثمة تعبث بهذا الشعب الطيب وتقوده إلى الهاوية ..
وللناظر من خارج أن يرى ما لا يراه الناظر من قلب ميادين المواجهة بين أبناء شعبنا وسلطته..
ـ " الوضع سيء ..."
ـ " هناك محاولة جادة لإنهاك رجال السلطة.."
قالها السيد وسام عبر الهاتف فاخترقت عبارته أذن مقدم رجال السلطة .. ازدرد لعابه وقال :
ـ " أريد تعزيزات .. لو استمر الأمر ستعم الفوضى المدينة."
ـ " لا تسمح بانهيار رجالك، هذا هو ما يراد .. الظلاميون لن يغادروا إلا بعد انهيار السلطة .. و ستأتيك تعزيزات .."
و أغلق الخط معه ثم التفت إلى معاونه سليمان :
ـ " هذا الرجل لن يصمد لساعات ...الأغبياء يهدمون السد الذى يحميهم من طوفان الظلاميين.."
ـ " المشكلة أننا نمنع رجال السلطة من إطلاق الرصاص الحى على شعبنا الهائج.."
أغمض وسام عينيه قائلاً :
ـ " ولن نفعل .."
قال سليمان في حذر :
ـ " نطلق الرصاص الحى .. فيموت البعض .. من أجل حياة الجميع .. حتى لو لم نفعل.. تهمة قتل المتظاهرين جاهزة قتلنا أم لم نقتل.."
فتح وسام عينيه وقال في برود :
ـ " أو نقطع على الجميع الطريق ... أطلب لي المسئول الأكبر ... "
طلب سليمان رقماً ثم ناول وسام الهاتف... و حينما جائه صوت المسئول قال :
ـ " سيدى .. لا بد من احتواء الموقف سريعاً..."
ـ " لا عنف يا وسام .. هذا خط أحمر ... "
ـ " لست هذا الرجل ... كل ما هنالك أننا سنخرج على الرأي العام و نعلن لهم موافقة السلطة على خروج الظلاميين إلى سطح الأرض..."
لم يتلق جواباً .. فقط صوت تنهيد عميق أصدره السيد المسئول الأكبر..
الكل يعرف أن هذه الخطوة قادمة بلا ريب.. لكن ليس الخبر كالمعاينة.. واستطرد وسام :
ـ " سيغادر الظلاميون إلى السطح بعد إنهاك قوة السلطة فلماذا لا نرتجل وندعهم يخرجون ونحن محتفظين بقوتنا .. من يدري ربما قرروا تغيير قواعد اللعبة كلها.."
ـ " ومن يحب لقواعد اللعبة أن تتغير؟ "
ساد الصمت برهة.. ثم تكلم وسام :
ـ " سنمتص الصدمة يا سيدى.. مهما كانت الصدمة مؤلمة .. سنمتصها.. وفي الوقت المناسب سنرد الرد المناسب.. هذا عهدي لك.."
ـ " لعلك على حق كعهدي بك يا وسام .."
و بالفعل خرج السيد المسئول الأكبر على الشاشات ليعلن أنه قرر بداية عهد تصالح جديد مع سكان باطن الأرض ..
و ليخرجوا إلى السطح بسلام!..

***
نوسام لم يتوقع هذا القرار..
كان يجلس إلى مائدة خشبية في مكان ما تحت الأرض يشبه ممرات الصرف الصحي التي يراها نوسام في بلاده .. ويبدو أن هذا المكان القذر المليء بجثث الفئران هو أنظف مكان يمكن للأخير أن يجتمع فيه بالظلاميين.. على المائدة كان يجلس شيخ عجوز سقطت معظم أسنانه لكنه استعاض عنها بطاقم أسنان قام بخلعه وانهمك في تنظيفه..
وبين الحين والحين كان يهب واقفاً ويوزع ركلاته وصفعاته على الظلاميين من حوله..
ـ " اصمتوا يا حمقى.. أنتم تشوشون علينا تفكيرنا "
كان سمت الزعامة واضحاً على هذا الشيخ.. إذ تكور الظلاميين على جوانب الممرات وهم يعوون كالذئاب.. كانوا جوعى.. وقد طال انتظارهم للطعام..
هنا لمح بعضهم فأر يعدو هارباً فتواثبوا خلفه.. لكن دوت زمجرة حادة جعلتهم يجفلون.. ثم يتراجعون.. وظهر ذلك الظلامي في ذو المعطف الطويل وهو يقبض على الفأر بيسراه.. كان الظلامي صاحب اللقاء التاريخي مع نوسام.. وبدا واضحاً من تراجع الجموع الجائعة أمامه ماله هنا من سطوة ونفوذ هو أيضاً..
الأن يمكنك أن تلمس تشابهاً ما بينه وبين الزعيم.. اقترب واثقاً بحمله من المائدة التي يجلس عليها نوسام مع زعيم الظلاميين.. وهمس بصوت كالفحيح :
ـ " شعبنا جائع يا أبي ؟"
وكزه كبير الظلاميين ليصمته وهو يومئ بطرفه ناحية نوسام..
كان الأخير مستغرقاً في التفكير العميق..
مال دشرم بجسده على المائدة الخشبية وحاول أن يرسم ابتسامة بريئة على وجهه وهو يسأل نوسام بلطف :
ـ " والأن يا سيد.."
نظر له نوسام في برود فأردف :
ـ "هل سنخرج للنور بالفعل أم؟.. "
هز نوسام رأسه متمتماً :
ـ " هناك من يعرقل سير الأمور ... و لابد أن ننحيه جانباً.."
رفع يسرم صيده الثمين إلى شفتيه الداكنتين وهو يغمغم في مقت :
ـ " إنه تنين النار الذى يسمونه السيد وسام .. كم أشتاق إلى تذوق دمه.."
نظر نوسام ليسرم و تقلصت أمعائه رغماً عنه.. هو يعرف أن الشعوب الظلامية تتقمص دور الوطاويط حتي الثمالة لكنه لم يرحب أبداً برؤية هذا الطقس رأى العين ...
ـ "يبدو أنك ستذوق دمه قريباً يا يسرم .."
هنا صاح زعيم الظلاميين في شبق :
ـ " سنغادر إذن ليبدأ الحفل."
التفت إليه نوسام محتداً فانكمش حيث يجلس و قد فطن إلى أنه أساء وتجاوز الحد.. قال له نوسام في حزم :
ـ " لا قرار لكم على السطح ما دامت السلطة موجودة .. لا بد أن نتخلص من تلك الطبقة الحاكمة ..الطبقة التي تعرف الكثير ..سنستغل الحديث عن سنوات الاضطهاد و القهر و الحرق و سنطالب بمحاكمة المسئول الأكبر و عزله من منصبه و سنحرص على أن يصل شخص أخر للحكم ... أخر شخص يمكن توقعه ..."
قالها و هو ينظر إلى يسرم الذى كان ما يزال يستمتع بدماء الفأر ثم قال مستطرداً :
ـ " لنتخلص أولاً من العقبة التي تعرقل مخططنا .. الزميل وسام الذى يبهرنا دائماً بالمفاجئات ..."
رفع يسرم عينيه الواسعتين إليه و قال في برود :
ـ " رجالي لن يستطيعوا الوصول إليه.."
ـ " لا حاجه بي لخفافيشك .. هذا عمل محترف .. عمل للضباع .."
ثم نظر إلى ساعته مغمغماً :
ـ " اتعشم أن يكون الفريق ب مستيقظاً الأن ..."
***
نادر لم يشارك في أي من الأحداث التي جرت ..
كان يقضى معظم وقته في متابعه الأخبار السيئة.. مشاهد الدماء ومقرات السلطة المحترقة صارت شعار المرحلة ..ماذا حدث لشعبنا الطيب المسالم.. أي يد آثمة تعبث بهذا الشعب المستكين وتدفعه دفعاً نحو هدف غامض .. كم أحضرت له والدته الطعام و الشراب و هو جالس كالتمثال أمام الشاشة يتابع الأحداث بعين لا تطرف.. ثم تأتى بعد ساعة لتجد الطعام و الشراب كما هو ... و كان يسمعها و هي تدعوا الله أن يهدئ الأحوال و تعود الحياه الطبيعية لشعبنا المسالم الأمن كما كانت دائماً ...
ـ " كيف و نحن نسعي لإخراج الظلاميين من معاقلهم يا أمي .."
التفتت إليه و هي تحمل الصفحة التي برد بها الطعام و قالت في أمل :
ـ هم إخواننا .. و قد عانوا كثيراً و أن الأوان أن يعودوا إلى ظهر الأرض.."
أمسك نادر رأسه و قد بدأ الدوار يكتنفه ... حتى أمه وصل إليها ذلك الفيروس العجيب ..
أم لعله هوس جرى في عروق الناس مجرى الدم ..
ـ " حتى أنت يا أمي .."
ـ " أخوك مدحت أيضاً خرج صباحاً ليشارك في مظاهرة عارمة أمام هيئة السلطة العامة سيذيعون نبئها بعد قليل .. لقد وعدني أنه سيظهر حتماً و هو محمول على الأعناق .. و سيلوح لي بالتأكيد .."
مدحت أيضاً .. الغر الساذج .. مثال الفشل المجسد قرر أن يكتشف نفسه في جو المظاهرات و الصياح .. و.. و الاختلاط !!
هو يعلم أخيه الطالح جيداً و يعلم سوء نيته .. لكن ماذا يفعل الأن ؟.
هل يبلغ عن أمه و أخيه كي يرتاح منهما؟!.. أم يخرج هائماً على وجهه ... و تذكر الصدامات التي تذاع صباح مساء بين رجال السلطة و الشباب الثائر المؤمن بقضية إخوة الظلام ... هو يعلم أنه لو مات أحدهم في تلك المظاهرة فلن يكون مدحت.. هو كما يقال في المثل العامي مثل العملة الممسوحة سيلف ويدور و يعود إليك مرة أخرى.. لكن من واجبه أن يقلق ..من واجبه أن يخرج ليبحث عن أخيه و يعود به سالماً إلى الدار ..
ـ " أمي سأذهب وراء مدحت .."
ـ "مرحى هكذا تكون ولدي حقاً .. لا تنس أن تتصل بي حينما تكون قريباً من الكاميرا .."
غادر نادر البيت وصفع الباب من خلفه محنقاً...
- " أين ذهبت عقول الناس ؟"
لم يبتعد كثيراً حتى لمح أخيه المبجل على ناصية الشارع كان قادماً منتشيً ملوحاً بعلم شعبنا في يده ... ألم يقل أن هذا الغر الساذج كابوس لا يمكنك الخلاص منه ...
ـ " نادر إلى أين ؟."
ـ " كنت ذاهباً إليك ."
ضحك ضحكه رقيعة و لوح بالعلم في يده قائلاً :
ـ " فاتك الكثير .. لقد انتهت التظاهرات .. ألم تسمع بيان المسئول الأكبر .. لقد قرر أن يذعن لرغبة الشعب...سيخرج الظلاميون إلى النور بعد عقود الظلمة و القهر... نجحت ثورتنا على الرغم من كونها بلا رأس.."
هنا كان نادر قد وصل إلى مرحلة الانفجار... صرخ في وجهه و هو يتردد في ركله :
ـ " ماذا تعرف أنت أيها الغر الساذج عن الظلاميين هه ...؟"
تراجع مدحت وهو يدفع بالعلم ليحول بينه وبين أخيه قائلاً في ذعر :
ـ " ماذا دهاك يا نادر .؟ لقد أفسد رجال السلطة دماغك بالأوهام و شوهوا لك صورة إخوة الظلام البؤساء ..."
ـ " و منذ متى و أنت تهتم حتى بأقرب الناس إليك... أنت أبله بليد المشاعر وعديم المسئولية .."
ـ " سامحك الله .. لكن أمي على مثل رأيي .. أي أننا أغلبية .. و الحق مع الأغلبية دائماً.. و غداً ستعرف كم كنت مخدوعاً من قبل طغاة السلطة .. حينما نحاكم المسئول الأكبر على جرائمه ضد إخواننا الظلاميين.. و بعد أن استعملهم كفزاعة كي يحكم سيطرته على شعبنا .."
وتوقف نادر مشدوهاً..
من أين أتي مدحت الضحل بهذا الكلام العجيب .؟ من الذى لقنه مثل هذا الكلام .؟ وأي شيطان يعبث بعقول شبابنا؟.. هو نفسه كان شاباً لكنه في سن يسمح له أن يميز بين الغث والثمين أما مدحت فقد أتم عامه السابع عشر منذ أسبوع ومازال يخطئ حينما يكتب اسمه مدحت فيكتبه (متحت) لأن هكذا تنطقها الألسنة .. فمن أين أتيتم بالدال إذن ..
إنها مؤامرة ...
كل شيء يحدث حوله يؤكد له أن هناك مؤامرة ما تحاك لهذا الشعب الطيب في الظلام .. ومنذ حل علينا السيد نوسام بطلته البهية بالذات .. لقد صار الوسيط الرسمي بين الظلاميين و سلطة شعبنا وأحياناً كثيرة يخرج ليصرح تصريحات نيابة عن الظلاميين.. هذا الرجل لغز.. ماله ولنا ... لماذا يتدخل الشعب الأصفر في شئوننا؟..
ـ " نادر أين ذهبت؟"
رمق أخيه بنظرة خاوية ثم استدار عائداً للبيت دون تعليق..
ـ " نادر.. عدت سريعاً.. يا لك من فاشل.."
لم يسمع عبارات أمه الساخرة وهو يتجه لشاشة المرئي ويقلب بجنون بين القنوات المتعددة التي تتكلم عن الأحداث.. سيجن لو لم يفهم.. لكن الذي يريد أن يفهم شيئاً من الإعلام في تلك الأوقات لن يكون أقل جنوناً..
هنا توقف عند وجه مميز يدلي بتصريح على إحدى القنوات الإخبارية الخاصة..
أم لعلها تعليمات.. كان السيد نوسام يقرر بلهجة العالم ببواطن الامور: أن الشعب الظلامي لن يغادر حتى يطمئن .. ولن يطمئن حتى يحاكم المسئولين عن ترويعه على مدار السنين الماضية .. وقال عبارة توقف عندها نادر كثيراً :
ـ " لابد أن يحاكم المسئول الأكبر على جرائمه ضد الظلاميين بعد أن جعلهم فزاعة لشعبه الطيب يستخدمها كي يحكم السيطرة على الأمور و يشعر الشعب أنهم بحاجه إليه .."
الأن علم نادر علم اليقين .. من أين يأتي أخيه الصغير بهذا الكلام الغريب..
وعلم كذلك مدى سذاجته حينما تصور أن ثورتهم بلا رأس..

***


الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام..
حتى الظلام.. هناك أجمل فهو يحتضن الكنانة..
قديم 03-12-2016, 09:08 AM
المشاركة 9
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي



(4)


لقد هدأت شوارع المدينة بعد قرار الإذعان .. ما أجمل شوارع المدينة وهي خاوية هادئة من الصخب .. كان وسام متوجهاً بسيارته إلى مقر المسئول الأكبر و معه سائقه وحارس شخصي يجلس إلى جانبه لم يكن معه سليمان لحسن حظه .. لماذا ..؟ لأن الفريق ب الذى لم يكن فريق علمي بالمعنى الحرفي .. كان يرصد سيارة وسام بأجهزة رصد وتشويش في نفس الوقت ..ويستعد لإزاحته من الوجود، الفريق ب فريق محترف من نوع خاص يسمى عند المنظمات الأمنية بفريق الضباع ..وطبعاً لم يأتي بهم نوسام إلى هنا ليعرضهم في حديقة الحيوان!..
قال الضبع ب -1 وهو يتابع مسار سيارة السيد وسام على شاشة رصد أمامه :
ـ " شوارع خالية هادئة .. ستكون عملية هادئة و نظيفة .. "
قال ب -2 وهو يعبئ سلاحه المضاد للدبابات :
ـ " متى سيكون في مرماي ..؟ "
كان الفريق يقف فوق أحد أسطح البنايات في الشارع الرئيس الذى تعبره سيارة وسام الأن ..
قال ب -3 :
ـ " عشرون ثانيه ويظهر في مرماك يا ب -2 .. "
حمل ب -2 السلاح المضاد على كتفه وارتكز على سور السطح وهو يحكم التصويب قائلاً :
ـ " عملية هادئة ونظيفة !! "
وظهرت سيارة وسام ... وضغط ب -2 الزناد ... وعطس ب -3 فارتطم رأسه برأس ب -2 .. و خرجت القذيفة المضادة مخلفة وراءها خيطاً من الدخان وانفجرت على بعد امتار من سيارة وسام التي قفزت مثل بطة عملاقة وانقلبت على الرصيف ... وتبادل الفريق ب النظرات قبل أن يخرج ب -1 منديل ورقي ويعطيه
لـ ب -3 ليمسح أنفه الذى سال وهو يقول في برود :
ـ " قذيفة ثانيه يا ب -2 .. وبسرعة .. "
وقبل أن يلقم ب -2 سلاحه بقذيفة جديدة تحطم باب سيارة وسام بركلة عاتيه ثم قفز منها حارسه الشخصي وهو يطلق الرصاص باتجاه مصدر القذيفة .. وتراجع الفريق ب للوراء فوق السطح .. أخرج ب -1 و ب -3 سلاحين آليين ثم تقدما من حافة السطح وأمطرا سيارة وسام بالرصاص..
بعد دقائق توقفوا بعد أن أدرك كليهما أن الصيد قد غادر السيارة أثناء تراجعهم عن الحافة .. وأدركوا كذلك أن الشارع كله قد استيقظ مذعوراً ... لكن لا مفر من مواصلة العملية لإزاحة السيد وسام من الطريق ..
ـ " لن يبتعدا كثيراً ..."
ـ " ذلك الرجل محظوظ والحظ لا يعتمد عليه كثيرا ً في عملنا .. عطسسس .. تباً.. لقد أصبت بالبرد .."
ـ " أصمت يا ب -3 .. و ابقى أنت هنا حتى لا تفضحنا .."
اخترقا الزحام الشديد المحيط بالسيارة المقلوبة وتفرقا في اتجاهين للبحث عن الصيد .. تباً .. الزحام الشديد.. من أين يأتي كل هذا الكم من الفضوليين ...لحظة ..هل هذا هو وسام ..؟
وحينما شهر ب -1 مسدسه كان ذلك الذي ظنه وسام قد اختفى وسط الزحام .. وسرعان ما علا الصياح من قبل الناس المحتشدين ووجد ب -1 نفسه وقد تكالبت عليه الجموع ..
ـ " ب -1 سقط يا ب -3 "
ـ " تباً ... هذا حظ سيء ... عطسسس ... "
هنا دوت أبواق سيارات السلطة وهي تنهب الطريق مقتربة من الحادث ...
ودوى صوت نوسام عبر وسيلة الاتصال برجليه المتبقيين :
ـ " الفريق ب ..هنا عرين الدودة البيضاء أجب .. "
ـ " ب -1 سقط ... و ب -3 أصيب بالبرد!... والهدف يفر عبر الشوارع الجانبية فيما نظن.. "
ـ " حدد لي المكان الذي فقدتم فيه الهدف ثم انسحب فوراً.. "
ألقى ب -2 بيانات الموضع الذى فقد فيه الصيد بسرعه وتلقاه نوسام في مقره السرى في إحدى فجوات الظلاميين.. هرش رأسه قليلاً ثم طلب رقماً :
ـ " سمكه .. "
أتاه صوت أجش يتحدث بلهجة شعبنا لكن بسوقية احترافية .. هذا صوت بلطجي على الأرجح :
ـ " مرحباً يا بك ... "
ـ " هناك رجلين هربا من التجنيد الإجباري في منطقتك .. سأعطيك أوصافهم وعشرة آلاف ترللى أخضر .. لكن خذ الحذر فالمكان يعج برجال السلطة .. حاول أن تهيج العامة على رجال السلطة حتى يتسنى لك إحداث فوضى عارمة .. هذا مهم جداً.. "
ـ " إذا سيكون هناك عشرة آلاف ترللى أخرى ..."
نوسام يعرف سمكة جيداً ... ويعرف أن موت السيد وسام على يد بلطجية شعبه كان أخر شيء يمكن أن يخطر له على بال.. سيتخلص من وسام ويحدث الفوضى المنشودة .. عصفورين بحجر واحد ..
هذا كثير والله ..

***
كان لابد لنادر أن يترك الفراش .. لا أحد يستطيع أن يواصل النوم بضمير مرتاح بعد سماع دوي انفجار و طلقات رصاص وهرج ومرج يوقظ الموتى.. غادر غرفته فرأى الذعر يطل من عيني والدته و أخيه مدحت ..
ـ " ماذا يحدث .؟ هل هي الحرب .؟ "
طلب من كليهما العودة للغرف و توجه بحرص إلى النافذة .. من وراء الشيش رأي العشرات يتجهون ناحية الشارع الرئيس وسمع كلمات مختلطة حاول أن ينسج منها كلام مفيد ..
ـ " لقد ضربوها بصاروخ .. أي والله .."
ـ " هل هناك مصابين .؟ "
ـ " لقد قبضوا على رجل أجنبي مسلح ..."
كان يرتدي ثيابه على عجل ليعرف أكثر .. و لم ينس توجيه تحذير لأخيه مدحت ألا ينظر من النافذة أو الشرفة .. و حينما فتح باب المنزل ليغادر تلقي دفعة في صدره من خارج طار على أثرها ليرتطم بأثاث المنزل ..
و قبل أن يستوعب الموقف لمح رجلين يدلفان و ينغلق الباب من وراءهما
كان مفترضاً أن يصرخ .. أن يستغيث.. أو حتى يعترض لكنه بالرغم منه شاعت على وجهه دهشة عارمة.. استحالت إلى ابتسامة عريضة ..
ابتسامة ارتياح واطمئنان ..

***
حينما دلف ب ـ2 إلى السيارة الدبلوماسية سمع ب -3 وهو مستمر في العطس.. حياه وجلس في المقعد الخلفي مسترخياً :
ـ " هل من أخبار عن ب -1 .؟ "
ـ " عطسس .. لا أسمع إلا أصوات جلبة وأصوات أبواق سيارات السلطة.."
لا أظن الموضوع يستغرق كل هذا الجدل ... لماذا لم يتسلم رجال السلطة ب -1 وينتهي الأمر ...
هنا انفتح باب السيارة ودلف إليها ب -1 ليجلس بجوار ب -3 ...
ـ " أنت تسمع جلبة لأنى فقدت جهاز الاتصال هناك .."
ـ " ب -1 .. هذا غريب ..."
قالها ب -3 وهو يدير المقود وتنطلق السيارة ..
على حين بدأ ب -1 يفسر لهم سر عودته :
ـ " شعب غريب .. لقد كادوا يفتكون بي في أول الأمر .. ثم لما جاءت عربات السلطة انصب غضبهم على رجال السلطة و رفضوا تسليمي مما أدى إلى اشتباك عنيف بينهم و بين رجال السلطة ... ووجدت نفسى حراً بعد أن كدت ألفظ أنفاسي الأخيرة .."
قهقه ب -2 وهو يتراجع في مقعده أكثر ثم قال في استمتاع :
ـ " شعب غريب بالفعل ... لكنه يستحق ما سيحدث له .."
هنا لاحت لهم تجمعات بشرية غاضبة .. ظهر من بينهم شخص أسمر فارع الطول يرتدي سترة جلدية ويلوح بسيف طويل بيده في الهواء
وتبدو عليه أمارات القيادة .. كان معه عدد لا بأس به من بين الجموع يحملون السلاح الأبيض وينادونه بسمكة..
كانت هناك أدخنة تتصاعد وألسنة نيران مصدرها إحدى سيارات السلطة والتي تحولت لكومة فحم مشتعل .. وللأسف كان حشد كبير من أبناء شعبنا الغاضب يلهج بالهتافات الملتهبة المنادية بسقوط السلطة الغادرة الخائنة !..
كان سمكة يمارس دوره التحريضي بينهم :
ـ " الأمر أوضح من الشمس يا رجال .. السلطة تبغي إبادة الشعب الذى وقف في وجهها .. خدرونا ثم انقلبوا علينا في المساء .. و يضربون الناس بالصواريخ .."
وهتف متحمس أخر :
ـ " لا تتركوا رجل واحد من رجال السلطة يمشي على الأرض .."
و لم يكن الشعب بحاجه إلى ذلك الهتاف بالفعل .. ومن جديد انفجرت جموع شعبنا وعدنا من حيث بدأنا .. الويل لكل رجل سلطة عاثر الحظ ...
يلقيه حظه مصادفة في طريقهم .. لقد مات العديد من رجال السلطة في تلك الليلة المشؤمة وتفرقت دمائهم بين الجموع الثائرة ..
و بينما الجموع الغاضبة تجتاح المدينة اقترب أحد رجال سمكة من الأخير و مال على أذنه قائلاً :
ـ " لم نعثر له على أثر .. ربما غادروا الحي بالفعل .."
ـ " عشرون آلف ترللي يا ابن الـ ... ستضيع علينا .. اقلبوا الأرض بحثاً عنه ولا تعبئوا بالسلطة فقد انكسرت شوكتها أخيراً .. "
و انطلق الرجل ليباشر البحث المضنى عن رجل الأمن الأول .. بينما أجرى سمكه اتصال بالسيد نوسام ليخبره بالتطورات ..
كان نوسام سعيداً بالرغم من ذلك .. فقد استطاع استغلال حادثة وسام أسوأ استغلال .. الأن وسام معزول عن رجال السلطة ...
و سيسقط عما قريب في يد رجال سمكه .. على حين سيجهز الشعب الأخرق على جهازه الأمني .. بعدها .. يخرج الظلاميون إلى النور ..
و.. إلى مهمتهم الأساسية ...
ـ " اسمع يا سمكة.. سوف أحدد لك عدة مراكز أمنيه حساسة .. عليك أن تدفع الجموع إليها حتى يتم شل حركة السلطة نهائياً .. "
ضحك سمكة كأي بلطجي يحترم نفسه و قال :
ـ " هذا يوم سعدي بالتأكيد ..سنتخلص من السلطة.. و يصير القانون أن لا قانون .. سنصير ملوك الشوارع ... "
و أنهى نوسام المكالمة وهو يلتفت إلى دشرم و يسرم مبتسماً في خبث :
ـ " يؤسفني أنك لن تجد الوقت الكافي لذلك يا عزيزي سمكة ... فملوك الشوارع الحقيقيون سيكونون أخر من تتوقع أنت و بنى شعبك ...."
هنا دخل أحد الكائنات الظلامية صائحاً في شبق :
ـ " هناك ثلاثة من الصفر يطلبون الإذن بالدخول .. و دمائهم شابة.. شابة.."
صاح نوسام في تقزز :
ـ " إنهم الفريق ب إياكم أن تمسوهم بسوء ..."
لوح الكائن الشبق بكفه الدقيق محبطاً فدخل رجال الفريق ب و انضموا للحفل ... قال يسرم في قلق :
ـ " شعبنا الظلامي صبر كثيراً .. و لا أحد يضمن العواقب لو انفلت الزمام .."
كان يتكلم وهو يتشمم رجال الفريق ب في شبق فزجره نوسام قائلاً :
ـ " اصبروا يا حمقى هؤلاء رجالى و ليسوا للأكل .."
امتقعت وجوه رجال الفريق ب وقد فطنوا إلى طبيعة الحوار و تحسست أيديهم أسلحتهم لكن نوسام هدأهم قائلاً :
ـ " هدوء يا رفاق.. نحن في معسكر واحد .. أليس كذلك يا يسرم .."
هز الأخير رأسه نافضاً عن رأسه صورة الدماء التي يكاد يراها تجري عبر عروق رجال الفريق ب و تدفعه إلى الجنون ...
قال في خضوع :
ـ " إنه كذلك يا زعيم ..."
و قال دشرم مؤيداً :
ـ " إننا نفضل دماء شعبنا .. ساكني السطح .. و أنتم أصدقائنا ..."
عقد نوسام كفيه خلف ظهره مثل أي قائد عسكري يقود معركة ..
قال في حزم :
ـ " ساعات قليلة و يبدأ الحفل الحقيقي .."
بالفعل لم تمض ثلاث ساعات حتى عمت الفوضى المدينة وخرج مذيع القناة الأولى لشعبنا على الشاشات ليعلن أخر الأنباء لكن أحدهم أزاحه ونزع منه ناقل الصوت واستدار في مواجهة الشاشة ..كان نحيلاً مفلفل الشعر من ذلك النوع الذي يلبس الحلق ويمضغ نصف كيلو من اللبان ..ابتسم في بلاهة قائلاً :
ـ " الشعب سيطر على المدينة .. لم يعد هناك سلطة سوى سلطة الشعب ..ولم تعد هناك نشرة أخبار لأننا لم نعد بحاجة لمزيد من الأكاذيب ..."
هنا دق جرس هاتف نوسام فوضعه على أذنه مستغرقاً في السماع ثم أصدر همهمات مندهشة قبل أن يغلق هاتفه و يعيده إلى جيب سترته قائلاً للظلاميين :
ـ " لقد توارت السلطة بالفعل.. اختفى المسئول الأكبر و رجاله و المدينة تفتح ذراعيها أمامكم .."
هنا أصدر الظلاميان دشرم و يسرم فحيحاً له مغزى ..
لكن نوسام بحكم خبرته شم رائحة فخ ما ..
لابد أن نتريث ..
لكن الظلاميين فقدوا السيطرة على أنفسهم.. الشبق إلى الدماء كان هو محركهم ... وأصدر دشرم أوامره بالخروج إلى السطح ...
ـ " انتظروا يا حمقى ..."
لكن ذهبت مناشداته سدى ..وكان أول من أطل برأسه خارجاً من إحدى فجوات قاع المدينة .. يسرم .. الممثل الذى أجاد دوره يوماً ما في استدرار العبرات من شعبنا الطيب المسكين ...
وكانت مسيرة شعبية تجوب قاع المدينة و تهتف بحقوق الظلاميين في الخروج للسطح .. و حينما لمح منظر المسيرة خروج أول الظلاميين
صاح :
ـ " ها هم إخواننا ..."
لقد مرح الظلاميون كثيراً مع تلك المسيرة .. كانوا مثل الجراد المنتشر و المسيرة كانت لا تحمل إلا العصي تحسباً لمواجهة مع السلطة .. وماذا كانت لتفعل تلك العصي مع الأسنان الحادة تنغرس في الأعناق ....
سرعة الهجوم و الامتصاص كانت رهيبة .... وفي قاع المدينة فرشت الأرض بالجثث الخالية من الدماء .. واستلقى المئات من إخوة الظلام منتفخي البطون بعد أن ملئت دماً .. و لعق يسرم شفتيه قبل أن يقول في نشوة :
ـ " ما أشهى الدماء التي تجري في عروق الحمقى .."
عشرات و مئات الفجوات في الأرض وفي الكهوف كانت تفيض بالمئات و الألوف من الطائفة الظلامية التي تئن بطونهم جوعاً ... ما كانت تجرؤ على الخروج بتلك الكميات أيام السلطة .. الأن .. لم يعد شيء يوقفها ...
ـ " ألم تفكروا في أن ما يجرى مجرد خدعة لاستدراجكم .. "
كذا صاح نوسام في جنون.. لكن دشرم قابل جنونه بكل بساطة :
ـ " ولو .. سيموت البعض والباقون سيعودون مرة أخرى إلى باطن الأرض هذه هي حياتنا .."
ـ " لستم أصحاب القرار .. "
ابتسم دشرم كاشفاً عن صفين من الأسنان الحادة القذرة و قال في خبث :
ـ " من يستطع أن يسيطر على جحافل الظلاميين إذا ما هاجت شهوتها للدماء.. هذا عيب صنعة لو أردتم رأيي .."
غطى نوسام عينية بكفه وقد صعد الدم إلى رأسه ... هل يبلغ القيادة العليا للشعب الأصفر؟.. أم ينتظر ما تسفر عنه الأحداث... ربما يسيطر الظلاميون على السطح بالفعل من يستطيع أن يجزم أن في الأمر خدعة من رجل الشعب الأمني ... صحيح أنه أختفى كما أختفى المسئول الأكبر .. لكن ربما كان الاختفاء هروب من السفينة قبل أن تغرق و...
لكنه يعلم قيادة شعبنا جيداً.. خصوصاً السيد وسام.. ليسوا من ذلك النوع. رباه .. لقد وقع في حيص بيص ... هنا دوى هاتفه النقال فرفعه إلى أذنه قائلاً بصوت مبحوح :
ـ " سيدي المسئول الأعظم ..كح ..كح .. هل وصلتكم الأخبار؟ وسائل الإعلام تنقل ما يدور على السطح... إنه بفضل توجيهاتكم العليا..."
و أنهى الاتصال و العرق يتفصد من جبينه ... لقد انغرست قدماه في مستنقع الأحداث الغامض .. سلطة شعبه لا تفهم لغة الاحتمالات .. لقد طلب منه تحديد وقت مناسب للتدخل الفوري لقوات الشعب الأصفر في شأن شعبنا .. طبعاً نتيجة غريبة على أذن العامي لكنها حتمية بالنسبة لصانعي القرار ..هم لا ينتظرون الذريعة التي بها يعتدون على مقدرات الشعوب الأبية ..بل يصنعونها ..والذريعة هي سيطرة الظلاميون على مقدرات الشعب الأسمر فما كان للشعب الأصفر مرهف الحس أن يترك شعبنا المسكين لحفنة من الظلاميين !!

***








الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام..
حتى الظلام.. هناك أجمل فهو يحتضن الكنانة..
قديم 03-15-2016, 09:25 AM
المشاركة 10
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


(5)

ـ " جحافل الطائفة الظلامية تجتاح غرب المدينة.."
هكذا استهل النشرة مذيع القناة الأولى للتليفزيون الشعبي ذو الشعر (المفلفل) والقرط المتدلي من إحدى أذنيه ـ المذيع لا التليفزيون طبعاً ـ كان يحاول أن يبدو متماسكا وهو يمضغ نصف كيلو من العلكة .. فمازال لديه المزيد من الأخبار المفجعة ..
ـ " لا يوجد رجل سلطة واحد يوحد الله في المدينة .. لا جديد بخصوص اختفاء السيد المسئول الأكبر و رجله الأمني السيد وسام .. فليرحمنا الله ..."
كان هذا حينما وثب عليه كائن ظلامي ونشب أسنانه في عنقه وسط صراخ وعويل ودماء تناثرت على الكاميرات.. بعدها برز وجه يسرم والدماء تنساب من بين شفتيه وقام بتثبيت ناقل الصوت إلى رقبته قبل أن يبتسم قائلاً :
ـ " نعتذر عن المشهد المؤسف ..لكنه شيء ضروري لحياة الظلاميين أمثالي .. أرجوا أن يكون جميع إخواني الأن متابعين لهذا البيان العاجل... نحن نسيطر على غرب المدينة تقريباً... لا داعى للمقاومة ... دعونا نعقد اتفاق . نحن حريصون على حياتكم .. لا يوجد عاقل يفسد سلة الطعام كلها ... ولا يوجد راعي ضأن يذبح كل الشياه التي يملكها مرة واحدة... أنتم طعامنا شئتم أم أبيتم ... سنقوم برعايتكم رعاية تامة .. أفضل طعام وشراب في مقابل أن تمدونا بدمائكم الحارة .. محدثكم يسرم ... المسئول الأكبر الحالي عن دمائكم ..هـي هـي .. انتهى البيان .."
وصرخ المعلم فوزى صاحب المقهى :
ـ " يا أولاد الـ... أنا قلت منذ البداية هؤلاء شياطين أبناء شياطين.."
ولطم الشاب محسن وجهه بمبسم النرجيلة وهو يولول :
ـ " الأن فهمت السر الذى جعل السلطة تضطهد هؤلاء الوحوش.."
واصفر لون الشيخ حسن الفقي وهو يضع كفه على رأسه هاتفاً :
ـ " لقد خدعنا الشعب الأصفر... خونة .. خونة .."
ـ " وماذا بعد ..؟ "
التفت الجميع إلى مصدر الصوت .. كان نادر يقف على باب المقهى وقد اكتسى وجهه بصرامة وحزم لم يعهدها أحد عليه من قبل ... لكن هذا لم يمنعهم من الإيجاب ...
ـ " سيفتكون بنا ... يجب أن نختبئ بسرعة .."
ـ " نختبئ أين ؟ في باطن الأرض مثلاً ! "
ـ " لنرحل عن هنا فوراً.."
صرخ نادر والدخان الأسود يتصاعد أمام عينيه :
ـ " هل لدي أحدكم اقتراح أخر أكثر جبناً ...؟ "
قال محسن وهو يحاول منع ساقيه من الارتجاف :
ـ " الوقت ليس وقت الشعارات يا أخ نادر ..."
ورتب المعلم فوزى على عاتق نادر مهدئاً :
ـ " يا ولدي هؤلاء الوحوش الليلية مصاصي دماء .. لم يصمد أمامهم أحد في غرب المدينة فماذا نصنع نحن هنا .. في الشرق ..."
ـ " نعيدهم إلى حيث جاءوا ..."
ضحك الشيخ حسن الفقي ضحكة مفتعلة هي أقرب للبكاء قبل أن يقول بصوت يقطر رعباً :
ـ " كيف ؟.. نصنع لهم عمل سفلي مثلاً ..؟ "
ـ " لا ..سنحيط شرق المدينة بالنيران ..."
حملق جمهور القهوة في وجه نادر مستغربين اقتراحه فعاجلهم هو قبل أن يتفوه أحدهم بكلمة :
ـ " أنا أعرف جيداً كيف نواجه تلك الكائنات .. النار تفزعهم .."
وشرد قليلاً وهو يستطرد بأسى :
ـ " لهذا كان رجال السلطة يضربونهم بقاذفات اللهب .. كانت تمنعهم من العبور إلينا .. وهذا ما سنفعله .. إذا كانت السلطة قد توارت بسبب حماقتنا .. فكل فرد في شعبنا سيتحول إلى رجل سلطة."
ـ " من أين أتيت بهذا الكلام .؟ "
جذب نادر نفس عميق وهو يحدجهم بنظرات تبض بالقوة والعزم..
ـ " ليس الآن... "
ربما شك البعض أن الواقف أمامهم الأن هو نفسه الشاب نادر المسالم المنطوي على نفسه الذى كان بالأمس ... كلماته تفيض بالقوة والثقة .. هو يعرف ما يتكلم عنه جيداً .. هو يذكرهم بشخص ما شخص كان يعرف عن شعبنا الكثير والكثير ..لكنه صار الأن مجرد ذكرى مجهولة.. المهم أن كل ذلك بعث في نفوسهم شيء من الاطمئنان والثقة.. أما نادر .. فكان من داخله لا يقل دهشة عن رواد المقهى .. وسكان شرق المدينة .. لقد تحول بين عشية أو ضحاها إلى رجل الأمن الأول لشعبنا ... ولم يشعر لحظة بالفخر أو الكبرياء ... فالمسئولية أكبر من كل تلك المشاعر وحينما حانت منه نظرة لوجهه في مرآة المقهى المغبشة شعر أنه كبر عشر سنوات على الأقل ...

***
تصريحات شعوب العالم تتري تبعاً لتصريحات الشعب الأصفر سيد شعوب الأرض!! ..
" إننا نشعر بالقلق لما يحدث .."
" استيلاء الظلاميون على مقدرات شعب عريق مثل الشعب الأسمر شيء محزن..."
ونسى العالم من الذى دعي للحوار مع الظلاميين أولاً ...
ألم نقل أن النسيان هو أفة الشعوب ..
ودعا السيد الأعظم للشعب الأصفر إلى انعقاد اجتماع طارئ لقيادات شعوب الأرض لبحث الشأن الداخلي لشعبنا الأبي ... نوسام بدأ يتفاءل شيئاً فشيئاً .. كل شيء يمضى كما خطط له الأجداد .. أمة بني الأصفر لن تسود إلا بالتفريق والتحريش .. ظلاميين وسطحيين تافهين .. فلتهدأ روح الأجداد التي خططت .. لم تعد ثمة سلطة أو قيادة لشعبنا يلتف حولها الناس .. الظلاميون ينتشرون في غرب المدينة وغداً سيجتاحون شرقها .. دون مقاومة .. لقد انتصر عقل نوسام على عقل السيد وسام .. كم كان يتمنى أن يرى وجهه الأن .. وجه الرجل الذى أذل أجهزة أمن عديدة على رأسها الجهاز الأمني للشعب الأصفر.. الذي يعتبر نفسه سيد شعوب الأرض..
لم يعد هناك من يسد مسد ذلك الرجل الأمني الفذ ..
ـ " السلام عليكم ورحمة الله... إليكم هذا البيان الهام .."
انتفض نوسام في مقره تحت الأرض إلى جوار دشرم .. كانت شاشة المرئي تنقل بث حي من شرق المدينة ... لعق دشرم شفتيه وقال :
ـ " مازالت هناك قنوات بث في شرق المدينة ؟! "
ـ " انتظر لنسمع ..."
قالها نوسام وقلبه يدق بعنف .. ترى من الذى سيدلي ببيان .. وعلى الفور احتلت ذهنه صورة شخص واحد ... وسام ..
يسرم كان يتابع من مكتب المسئول الأكبر بعد أن صار مكتبه ولم تكن حالته بأفضل من حالة نوسام ... كان يجلس على سطح المكتب نفسه وهو يلعق كفيه وعينيه الواسعتين تترقبان البيان .. كان لتوه قد فرغ من شرب دم أحد رجال السكرتارية لعله أخرهم.. وتركه جثة هامدة خالية من الدماء بجوار مكتبه.. الغريب أن بجواره وقف شخص مألوف عاقداً ساعديه وفي عينيه نظرة خضوع وترقب ..
ـ " سيد سليمان .. بصفتك مستشاري الأمني الخاص !.. استمع معي لهذا البيان وقل لي رأيك.."
قالها يسرم في برود وعينه تتابع الشاشة بانتظار من سيظهر..
ـ " بسم الله الرحمن الرحيم.. هذا البيان موجه لكل سكان شرق المدينة .. ومن تبقي حياً في غربها .."
صاح نوسام في استنكار :
ـ " تباً .. ومن هذا الشاب ؟!.."
لعق الظلامي الأكبر دشرم شفتيه وهو يقول في بطء :
ـ " انتظر لنسمع ..."
كان نادر يرتدي زي رجال السلطة المميز وقد ظهر متجهماً وهالات سوداء تحيط بعينيه.. وخلفه كان علم شعبنا المجيد... كان منهمكاً في إلقاء البيان بنبرة ألية خالية من أي انفعال :
ـ " إلى كل أبناء شعبنا.. بأيدينا أخرجنا الظلاميين من جحورهم.. وبأيدينا سنعيدهم مرة أخرى.. شعبنا لم و لن يتوقف مصيره على أحد كائناً من كان.. شعبنا قادر بحول الله وقوته على رد كائنات الظلام إلى جحورها وسيفعل.. إن شاء الله.. "
" إلى كل من يأبى أن يصير طعاماً لقوى الظلام وما تزال تنبض عروقه بالدماء الحرة الأبية.. حي على شرق المدينة.. فالشرق ما يزال صامداً.. "
تقلص وجه نوسام وهو يكرر سؤاله بقرف :
ـ " من هذا الشاب ..؟ "
داعبت أصابع ب 1 لوحة مفاتيح حاسوبه النقال بحثاً عن معلومات ثم رفع رأسه إلى رئيسه قائلاً :
ـ " اسمه نادر ! "
التفت إليه نوسام في حده منتظراً المزيد لكنه استطرد في برود :
ـ " هذا هو ما لدينا من معلومات..."
وعاد نوسام يتابع البيان على الشاشة بوجه محتقن...
ـ " إننا هنا نقول لقوى الظلام.. كل قوى الظلام.. تحت الأرض وفوقها .. بالداخل والخارج : نحن هنا في الشرق.. بانتظاركم..."
واختفت صورة نادر من على الشاشات وظهرت أفلام تسجيلية تصور عمليات رجال السلطة السابقة على بؤر الظلاميين .. هجمات بقاذفات اللهب ...
ـ " مستحيل .. إنهم لا يملكون شيئاً في الشرق ... المنشئات الأمنية والسلاح كله سقط في أيدينا في الغرب ..."
قالها يسرم عبر الهاتف بحقد .. بغل .. فجاءه صوت نوسام ليقول في برود صارم :
ـ " لكنهم يملكون وسيلة إعلام مرئي... سيقلبون الدنيا على رؤوسكم."
ـ " سنهاجم الليلة شرق المدينة ولن يشرب من دم ذلك الأراجوز غيري ..."
ـ " يسرم .. أنا لا أرتاح إلى هذا الفتى .. كن على حذر ..."
قالها نوسام لكن يسرم نظر لمستشاره الأمني الجديد مستفتياً فهز الأخير رأسه نافياً وقال بلهجة حازمة :
ـ " لا تلتفت إلى أراجيفه... ربما كان ما تشاهدونه رسالة تم تسجيلها منذ أيام قبل سقوط السلطة .. لتستخدم فيما بعد لتعطيلكم "
أطلق يسرم فحيحاً حماسياً وأنهى المكالمة مع نوسام ثم قفز من فوق سطح المكتب وتعلق بنجفة عملاقة في السقف صارخاً بصوته الحاد:
ـ " إلى الشرق .."
وقفز عبر النافذة التي تطل على فناء واسع محاط بسور ضخم لحماية مقر المسئول الأكبر .. وبه حشد هائل من الظلاميين لم تكد تري يسرم يحط بقدميه على الأرض حتى أصدرت فحيحاً جماعياً تصاعد إلى عنان السماء وهي تردد اسم يسرم...
ومن النافذة التي قفز منها يسرم لتوه.. وقف السيد سليمان يراقب المشهد بوجه جامد ...

***
ـ " ينصر دينك .."
ـ " عاش .. عاش .."
ـ " شعبنا ولاد والله ..."
لم يسمع نادر معظم عبارات المديح وهو يشق طريقه عائداً من مبنى البث المباشر لقد صار الشاب المنسي حديث الساعة الأن .. وكان يرى في وجوه الشعب نظرة جديدة حلت محل نظرة الخراف اليائسة إلى شفرة الجزار ... صارت هناك نظرة أمل في غدٍ جديد لا وجود فيه لكائنات الظلام ...وبرز العديد من رجال السلطة المتوارية وقدموا أنفسهم إليه وحلفوا له على الثبات في مواجهة قوى الظلام .. وبدأ هو في شرح خطة المواجهة ...
ـ " سيتم عمل لجان شعبية تحيط بشرق المدينة وكل لجنة تستعد بالمشاعل والحطب الوافر لإيقادها في المساء ..
في المساء سيحاط شرق المدينة بالنيران.. الليل هو أفضل وقت لهجوم الكائنات الظلامية ..هي ترى جيداً في الليل بعكس البشر الطبيعيين.."
هنا برز له من بين الجموع رجل طويل متين البنيان وقدم نفسه على أنه أحد رجال السلطة السابقين ويدعى جلال ..
كان يتكلم وهو ينظر إليه نظرة فاحصة لا تخلو من شك :
ـ " هذا حل مؤقت أيها الـ.. القائد ... وسنظل محاصرين للأبد بقوى الظلام حتى تنضب مواردنا ونستسلم في النهاية .."
ـ " من قال أننا سنكتفي بالدفاع فقط .. لابد أن ننتقل للهجوم .. معظم السلاح الخفيف والثقيل و الآلات العسكرية معبأ في مخازن سرية غرب المدينة ولابد أن نصل إليه يوماً ما..."
داعب جلال شاربه وهو ينظر لنادر مليا ثم قال مغمغماً :
ـ " هذا صحيح ..."
وتبادل النظرات مع بقية رجال السلطة المحيطين .. وفهم نادر سر نظراتهم إنه نفس السؤال الذى يتردد كثيراً ..
من أين يأتي ذلك الشاب بالمعلومات ؟
" أريد فقط أن أفهم "
" ليس الأن ...."
" لماذا ..؟ "
" ليس الأن ...."
" لابد من تدريب العديد من رجال الشعب على السلاح ..."
انتزعته عبارة جلال من شروده فالتفت إليه قائلاً بسرعه :
ـ " بالتأكيد ... لكن لابد أن نقتصد في الذخيرة .. أعلم أنكم تحتفظون ببعض الذخيرة لكنها ليست بالقدر الكافي .. لذا يجب أن نقتصد ..."
مرة أخرى يتبادل جلال النظرات مع بقية الرجال.. ثم عاد يصوب نظراته المتشككة إلى نادر وهو يقول :
ـ " أيها القائد... على الرغم من أننا لا نعرفك من بين صفوف رجال السلطة ... لكنك تتحدث كواحد منا ..."
نظر إليه نادر في ثبات لبرهة قبل أن يقول في هدوء :
ـ " أنا واحد منكم بالفعل ..."
ـ " كيف هذا؟ "
سأله نادر بغتة :
ـ " ماذا كنت قبل أن تلتحق بالسلطة أيها الضابط .؟ "
أجابه جلال في حذر :
ـ " كنت مدنياً من عامة الشعب ..."
ـ " وحينما كنت تنتهى من عملك اليومي أين كنت تذهب .؟ "
ـ " أعود إلى بيتي لأمارس حياتي العادية .."
ـ " وحينما تحال للتقاعد ماذا ستصبح ؟."
ـ " مواطناً من عامة الشعب ..."
ـ " هل تجد فارقاً ..؟ "
هنا سكت جلال .. ظل يتبادل النظرات مع نادر قبل أن يقول في خضوع :
ـ " لا أجد فارقاً أيها القائد ..."
وأرسل نادر نظرة إلى أبناء شعبنا وهو يهمس بثقة :
ـ " ولا أنا .."

***

ـ " كيف حالك يا سمكة ..؟ "
ضغط الأخير على أسنانه وهو يرد على نوسام عبر الهاتف :
ـ " نحن لم نتفق على هذا يا خواجة ؟.."
ـ " لا تسئ فهمى يا سمكة أرجوك..."
ضرب سمكة المائدة الصغيرة التي أمامه بقدمه وهو يزمجر :
ـ " جعلتني أشارك في إزاحة رجال السلطة ليركب الظلاميين أكتافنا.. لم نتفق على هذا يا خواجة.."
ـ " أرجوك أهدئ يا سمكة .. أنت رجلي الأثير في شرق المدينة ولن يمسك أحد بسوء .."
ـ " لماذا يا خواجة .؟ هل الظلاميون سيفرقون بين دمي ودم أي واحد أخر .. "
ـ " هذا هو ما أعدك به .. أنا الأن أحدثك في عمل .. ألا ترى أنني بحاجة إليك ولا أستطيع الاستغناء عن خدماتك ..."
حك سمكة ظهره بأظفاره الطويلة المتسخة وهو يفكر.. ثم قال بصوت لم يخلو بعد من رنة غضب :
ـ " أنا ما زلت رجلك في شرق المدينة..."
ـ " فتىً طيب..."
قالها نوسام ثم سكت هنيهة.. عاد بعدها ليكمل :
ـ " مهمتك تتعلق بذلك الشاب حديث الساعة عندكم.. ماذا يدعي ؟.."
ـ " نادر يا خواجة .. سيصعدون به للقمر عما قريب .."
ـ " لكنك ستجعل روحه تصعد إلى السماء قبلها يا سمكة .."
تقلص وجه سمكة وهو مستمر في حك ظهرة .. تباً لذلك البرغوث الذي...
ـ " عظيم يا خواجة .. لكن هذا الشاب يساوى الكثير بكل تأكيد ..."
جائه صوت نوسام مرحباً عبر الهاتف :
ـ " خمسون آلف ترللي ... بعد أن تقتله .."
ـ " مئة يا خواجة ... وقبل أن أقتله ..."

***

الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام..
حتى الظلام.. هناك أجمل فهو يحتضن الكنانة..

مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: ليس الآن...............
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
سيري الآن...الآن إبراهيم ياسين ومضات شعرية 8 09-18-2021 10:55 PM
الآن عبدالحكيم ياسين منبر النصوص الفلسفية والمقالة الأدبية 6 10-09-2018 08:00 PM
حتى الآن .. !! محمد الشهري منبر النصوص الفلسفية والمقالة الأدبية 196 05-21-2013 01:35 AM
الآن ندى اليعقوبي منبر البوح الهادئ 1 09-03-2011 09:23 AM
وقع الآن......... هشام زيد منبر البوح الهادئ 22 03-21-2011 01:51 PM

الساعة الآن 08:57 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.