إطلالة في سطور (01)
قراءة نقدية لققج "باليوثية"
للقاص محمد أبو الفضل سحبان
من طرف "الناقد الفني" المغربي عبد الحميد سحبان
"باليوثية" عنوان طريف لقصة قصيرة جدا، لكنها كبيرة جدا بتركيبتها ولغتها ومعناها الملغز الذي يطرح إشكالية التمرد على الواقع المدان في وجدان المنتفضين والحيرة بين المضي في الانتفاض الذي لا طائل منه أو البقاء مكتوفي الأيدي في ظل الحرمان والضياع. ما العمل في ظل هذه المعضلة العويصة، التي تركها لنا الكاتب بدون حل بعد أن أحسن طرحها وحبكتها فيما قل ودل، مفسحا المجال لخيال القراء للبحث عن المخرج الأفضل من هذه المتاهة الممتنعة.
1- التركيبة العامة: قص قصير جدا من ثلاثين (30) كلمة على الأكثر، بثلاثة أفعال مؤثثة للحدث في مجمله، الفعل الأول "شَافَهَ" الذي افتتح القص بحوار أحادي الجانب بين جيلين متناقضين نجم عنه قرار للجيل الأكبر لا رجعة ولا توبة فيه بمواصلة النضال والكفاح. الفعل الثاني "مَلَأَ" الذي أنبأنا عن تزود البطل بالذخيرة الطبيعية الحية "الحَجَر" كسلاح فعال في استعداد تام للاحتجاج والانقضاض. الفعل الثالث "رَفَعَ" بمفعولٍ به "العصا" التي لوح بها وأشهرها في وجه الخصم في تحد صارخ وتهديد واضح. وللإشارة فإن "رفع العصي" تعني كذلك الحركة صوب الغاية المقصودة وهي في النص المغناطيس الرهيب المستعمل للجذب والسحب المرعبين. أما الجزء الأخير من القصة فإنه تحصيل حاصل باستعمال فعلين مضارعين "يكرع ويجبذ" كدليل على عدم توقف النزيف والاستغلال البشعين.
2-الجانب اللغوي: استوقفتني كثيرا عتبة النص بعنوانه الفريد "باليوثية"، وبعد أن عرفت أن الكاتب يقصد به العودة إلى الطبيعة، استغربت كثيرا لأن لفظة "البليث" في لسان العرب تعني النبت الذي هو من أسس الطبيعة في معنى غير بعيد عما يقصده القاص، الذي يرمز بعنوانه المتميز إلى أقدم عصر حجري عرفته البشرية. ومن لغة النص أن جاء بـ "شظف العود" والسائد والمعروف "شظف العيش"، لكن شتان ما بينهما فالشظف الأول يعني الصلابة والقوة وفيه ابتكار واجتهاد وسبق من صاحب النص يستحق عليه التشجيع لأن من أساسيات الإبداع التفنن في التلوينات اللغوية. أما الشظف الثاني فيعني الضيق والشدة، معروف ومنتشر ومشهور ولم يرد في النص إنما جئنا به على سبيل المقابلة لا غير. ومن الاستعمالات اللفظية النادرة ورود فعل "الكرع" بمعنى الإرتشاف والإغتراف وعلى قلة تداول هذا الفعل جاء استعماله في هذا القص مجازيا ومجاوزا لمعناه الأصلي ليصل إلى حد الابتلاع الشديد أو الشفط. وتعريجا على بلاغة النص الإبداعية، قام الكاتب بنفي الشكيمة (مغناطيس يكرع مياههم بلا شكيمة) والغرض من نفي الشكيمة تأكيد للنذالة والخسة، فكان من الممكن أن يقول (مغناطيس يكرع مياههم بنذالة وخسة) فاستعمل نفيا لمعنى الشكيمة لإثبات معنى النذالة والخسة، وهي انزياحات بلاغية تدل على رهافة في التناول وتأن في اختيار المعاني عن طريق إنطاق الكلمات بنفيها. ومن بلاغة النص كذلك، اعتماد لفظة تقرأ من وجهين حسب المراد فهمه، فالشوكة تعني البأس حينما يراد بها القوة الحامية للمهيمنين، وهي الأناقة واللباقة والكياسة حينما يراد بها تلميع صورة المسيطرين.
3- الجانب الموضوعي: إن ما حيرني في هذا النص هو تحدثه عن التوبة، والمعلوم أن التوبة تكون بعد ارتكاب الذنب، فهل أن البطل مقتنع أن ما يفعله غير صائب ليعلن عدم توبته أمام ابنه، أم أن التوبة بلغة الآخر الذي يحكم سلبا ويجرم تصرفات البطل الساخط والمنتفض على واقعه؟ هنا يكمن سر مفارقة هذا القص المستعصي والذي نفهم منه أنه بالرغم من صواب موقف الثائر فإن تصرفه الممزوج بالعنف "جمع الحجر ورفع العصي" يعتبر تجاوزا وعملا غير مرغوب فيه ما دام البطل يتهم نفسه بالضلال الذي لا نية له في التوبة منه... متى كان العنف حلا ومتى كانت القوة مباحة؟. لكن ما العمل أمام بلاغة صورة الضياع المرسومة بشفط الثروات والخيرات بالشوكة أي بالقوة، لكن القوة المنظمة هذه المرة، القوة التي تحمي "الكرع والجبذ". هنا نصل إلى قمة العقدة في النص الذي ينبذ فيه البطل لا إراديا العنف بإدانته الصريحة والتمادي في معاكسته بأسلحة غير متكافئة "الحجر والتلويح بالعصي" أمام الشوكة المنظمة والمدججة... العنف غير المتكافئ لن يفضي إلى أي شيء يذكر، سيكون مصير المنتفضين المهيئين نفسيا لتلقي العقاب، الرمي بهم في غياهب السجون. معضلة تشبه متاهة التضحية بالسلم والأمان أو البقاء في الذل والهوان ولكل منهما ثمنه وجزاؤه، [وَافِكْهَا يَا مِنْ وَحَّلْتِيهَا] (مثل بالدارجة المغربية) بمعنى "فُكَّهَا أَنْتَ مَنْ عَوَّصَهَا". فنحن نطلب من صاحب القص أن يفك لنا لغز مكتوبه الذي أبدع في تعقيده، وأنا متيقن من أنه تفنن في تعويس (إتقان) التعويص وغفل أن يأخذ معه مفتاح قصه الذي نسي أنه لا يفتح من الخارج ولم ينتبه، أن بابه انسد وهو يحبك قفلته بجرة من قلمه المبدع.
4- فنية النص: نص ساخر يستهل بحوار بين أب وابنه حول موضوع التوبة من العصيان، حوار تفوح منه رائحة الغباوة والسخف المتعمدة، لأنه جاء بدون مقدمات، والمفاجئة أن الأب هو الذي يرفض التوبة ويحرض ابنه على المروق. إنه قلب للأدوار بشكل تهكمي صارخ على الذات للترويح عنها في ظل استحالة إيجاد الحل أمام المعضلات الشائكة. وتتعمق السخرية عندما يستعرض الثائر أمامنا أسلحته الفتاكة المعدة للمواجهة الحاسمة وهي أدوات تعود لأقدم العصور البشرية "الحجر والعصي" أمام شوكة وبأس الخصم المنظم والمدجج حتى النخاع. ولعل المشهد الكاريكاتوري الموفق في تصوير الاستغلال البشع المتمثل في نصب مغناطيس ضخم يسحب الماء بمعنى الحياة وكل الخيرات بشكل رهيب عن طريق "الركع والجبذ" دون توقف أو انقطاع، صورة تدل على عمق اللمسة الساخرة للكاتب. وفي الأخير يتفنن صاحب النص في تمييع صورة الاستغلال، البشع من الداخل والمنمق من الخارج، باستعمال لفظة الشوكة (من أدوات المائدة) التي ترمز إلى الأناقة واللباقة، وهي قمة الاستهزاء والنيل من "الركع والجبذ" القبيحين في باطنهما الأنيقين في مظهرهما، "آلِمْزَوَّقْ مِنْ بَرَّا آشْ اْخْبَارِكِ مِنْ الدَّاخِلْ" مثل مغربي يعني "أيها المزركش من الخارج ما هي أخبارك من الداخل".
التعديل الأخير تم بواسطة عبد الحميد سحبان ; 08-23-2022 الساعة 07:02 PM
سبب آخر: ملاحظة بعض الهفوات المطبيعة