حقيقَةُ الإنسان
أيها الإنسانُ الكئيبُ المكدودُ ما لي أراكَ دائمَ التَّذمُّرِ والشَّكوى والأنين؟
أُحسُّ بكَ وكأنَّكَ أضعْتَ ذاتَكَ فأصْبحْتَ هائماً تائهاً في صَحارى مُقْفرَةٍ جَدْباء .....
أُحِسُّ في أعماقِكَ صَقيعَ الوحدَةِ الموحِشةِ وكأنَّكَ تَقفُ وحيداً في خِضَمِّ الأهوالِ ،
تَتقاذَفُكَ أمواجُ اليأْسِ والضَّياعِ ......حُشودٌ من الخواطِرِ الجارِحَةِ تُدْمي نَفسَكَ بأشْواكِها اللاذِعَةِ ...تحاوِلُ أن تَفْلُتَ وتَفُرَّ منها ، فتَقْمعُها وتُخْفيها في أعماقِكَ السَّحيقَةِ وتَتخَيَّلُ ، وبكُلِّ بساطَةٍ ، أنَّها اخْتَفتْ وتَلاشَتْ ....ثُمَّ تُحاولُ أن ترْميَ كُلَّ
ثِقَلِها المكْبوتِ والمُؤْلِمِ على ظروفِ حياتِكَ المَعيشيَّةِ وعلى ما تُعاني من آلامٍ جَسَديَّةٍ
ونَفسيَّةٍ ....ألا ترى يا أخي أنَّ كُلَّ هذه المُحاولاتِ ليسَتْ سوى حيلٍ لِتُخْفي وراءها
حَقيقةَ مُعاناتِكَ ومَرَضِكَ ؟
فالإنسانُ كائنٌ عاقِلٌ يَعي ويُدْرِكُ ويَتساءلُ ويُحاولُ أن يُمَنطِقَ القَضايا والأُمورَ ،
ويُحِسُّ في أعْماقِهِ بتَساؤُلٍ وُجوديٍّ خَطيرٍ ومريرٍ ...من أنا في هذا الكون ؟ وما الهَدَفُ والغايَةُ من وجودي فيهِ؟ وهلْ أنا أقِفُ وحيداً مُنعزِلاً أمامَ أعاصيرِ الوُجودِ؟
حاوَلَ فِكْرُ الإنسانِ أن يُجيبَ على هذه التَّساؤلاتِ عبْرَ الزَّمانِ الطَّويلِ ومن خِلالِ
الأساطيرِ وآلافِ المذاهِبِ الفَلسَفيَّةِ والدِّينيَّةِ ... وكمْ شَهَدَ تاريخُ الفِكْرِ حروباً وصِراعاتٍ مَريرَةً ودامِيَةً من خِلالِ مُحاولاتِهِ الإجابَةَ عليها ...
فقَد نَجَحتْ بعْضُ المَذاهِبِ بإدْخالِ شيئٍ منَ الطَّمأنينةِ إلى فِكْرِ الإنسانِ وفَشِلَتْ
مذاهِبٌ كثيرَةٌ في أداءِها ....وأنا لا أُريدُ أن أغوصَ في هذا الخِضَمِّ المُرْعِبِ
والمُخيفِ ... صِراعُ الأفْكارِ ........
2
ولكِنَّني أتَساءَلُ هنا عنِ السَّبَبِ العَميقِ الكامِنِ وراءَ الشُّعورِ بالضَّياعِ وبعَبَثيَّةِ الحياة. وأعْتَقِدُ أن الجَّوابَ بسيطٌ ؛ ففقْدانُ الإحْساسِ بالغائيَّةِ والقَصْديَّةِ واسْتمْراريَّةِ
الحياةِ الفرْديَّةِ يَخْلُقُ عند الإنسانِ الشُّعورَ بالتَّذَمُّرِ وبتَفاهَةِ وعَبثيَّةِ ما يَقومُ به ويَسْعى إليهِ . فإذا لم يَشْعُر الإنسانُ بقصْدٍ وغايَةٍ وهَدَفٍ يَعيشُ ويَسْعى له ،وباسْتمْراريَّةِ
مفاعيلِ هذا الهَدفِ تُصْبِحُ كُلُّ أحاسيسِهِ عَبثيَّةً وسلْبيَّةً وكأنَّهُ يَقومُ بتَمْثيلِ دورٍ تافِهٍ
فُرِضَ عليهِ بدونِ قَناعَةٍ وقُبولٍ منهُ .
ومن هذا الإحْساسِ بالعَبَثيَّةِ والضَّياعِ ولا جَدْوى الحياةِ تَنْبُعُ كُلُّ المشاعِرِ السَّلْبيَّةِ
الأُُخْرى .
يَقِفُ الإنسانُ أمامَ الموتِ مُتَسائلاً : لماذا أنا في هذا الوُجودِ ؟ لماذا جِئتُ وأعيشُ
وأتحَمَّلُ كُلَّ هذه العذابات ؟ أليسَ كُلُّ هذا ضَياع بضَياعٍ وتَفاهة بتفاهةٍ ؟
يَهرُبُ من كابوسِ هذه الأفكارِ فيقْمَعُها ويكْبُتُها ليعيشَ حياةَ التَّفاهةِ مُنغمِساً بشَتَّى
ألوانِ المِتاعِ الكاذِبةِ المُزَيَّفَةِ .
ما دامَ كُلُّ شَيءٍ سَيَنتهي إلى التُّرابِ فلماذا لا يَغْرُفُ من كُلِّ شَيءٍ وبلا حسابٍ؟
ما دامَ كُلُّ شَيءٍ إلى زوالٍ فمنَ المُحالِ أن يُبْقي الإنسانُ على شَيءٍ من القِيَمِ في أعماقِهِ .....يَضيعُ الإنسانُ ويَتيهُ ، يَهْرُبُ من فكرَةِ عَدَميَّةِ المَوتِ ليَذوقَ مرارَتَها
في كُلِّ شَهيقٍ وزَفيرٍ ......
هذه هيَ مُشْكِلَةُ الإنسانِ ككائنٍ عاقِلٍ واعي . يَبني القصورَ والقِلاعَ ويَجْمَعُ المالَ،
يَشَيِّدُ الحَضاراتَ ويَتباهى بالسُّلطانِ آمِلاً أن يَخْتَبيءَ وراءَها ويَفْلُتَ من فكرَةِ المَوتِ
فَفَهْمُنا للموتِ ومَفهومُنا عنهُ هو الدَّاءُ والدَّواءُ ...ومحْوَرُ تَفكيرِ الإنسانِ وبنْيَةُ
3
كَيانِهِ الدَّاخليِّ تَقومُ على عقيدَةِ الموتِ .هل الموتُ نهايَةُ كُلِّ شَيءٍ وبوَّابةُ العدمِ المُطْلقِ ؟ فإذا بَنى حياتَهُ على هذا المُعْتَقَدِ الدَّفينِ تُصْبِحُ جميعُ أحاسيسِهِ ومَشاعِرِهِ
سَلْبيَّةً وعَبَثيَّةً .....أم أنَّ المَوتَ حالَةُ تَحَوُّلٍ وانتِقالٍ من مستَوىً وجوديٍّ ما إلى
مستَوىً آخر يُتابِعُ فيهِ مَشْروعَ بِناءِ وهَيكَلَةِ ذاتِهِ ؟
وهنا أسألُ نفسي إذا كنتُ أعتَقِدُ فعلاً وحقيقةً بوجودِ كائنٍ إلهيِّ سرمَديٍّ لا يُفْهَمُ
الكَونُ ولا يَصُحُّ أو يَقومُ بدونِهِ .؟ ومن أنا وأينَ أنا من هذا الإلهِ ؟
إذا لم أكُنْ كائناً روحيَّاً خالداً فبماذا يَهِمُّني هذا الإلهُ وماذا يُخيفُني منهُ؟ ولكن ما
دُمْتُ أعتَقِدُ بوجودِ كائنٍ إلهيٍّ خالِدٍ وأعْقُلُ ضَرورةَ وحتْميَّةَ وجودِهِ فأنا بالضَّرورةِ
أحمُلُ شَيئاً منهُ وأُشارِكُهُ ديمومةَ البقاءِ .
فضَرورَةُ وحتْميَّةُ وجودِ كائنٍ إلهيٍّ تُفضي إلى ضَرورةِ وحَتْميَّةِ وجودِ كائنٍ روحيٍّ
خالدٍ في الإنسانِ...وهذا الكائنُ يَأْتي إلى الوجودِ المادِّيِّ بمُهمَّةٍ قاصِدَةٍ واعِيَةٍ هادِفَةٍ
تُعْطي لحياتِهِ معنىً واضِحاً وهَدَفاً جَليَّاً ...يَأْتي الوجودَ كذَرَّةٍ روحيَّةٍ صافيَةٍ ليس لها
هُوِّيَّةً ذاتيَّةً ، ومن خلالِ الوجودِ المادِّيِّ المُعاشِ وبالإنصهارِ المُتتالي بآتونِ المِحَنِ
والتَّجارُبِ تُصْبِحُ له هُوِّيَّةٌ ذاتيَّةٌ فرديَّةٌ ...ولهُ الحَقُّ المُطْلَقُ والحُرِّيَّةُ الكامِلَةُ باخْتيارِها ........
وهكذا تُصْبِحُ الحَياةُ ذات معنى جوهري بل تُصبِحُ مشْروعاً لبناءِ الذَّاتِ الفرديَّةِ
المُصفَّاةِ من شوائبِ المادَّةِ لتَعودَ نوراً نَقيَّاً إلى منابِعِها الأصيلةِ ،بعد أن تكونَ قد
خاضَتْ غِمارَ الحياةِ وأصبحتْ ذاتَ شخصيَّةٍ مُتمَيِّزةٍ ...
فالإنسانُ كائِنٌ روحيٌّ سابقٌ للجَّسَدِ وهو باقٍ بعد الموتِ ولا يَقِفُ بمُفردِهِ في هذا
4
الوجودِ ؛ فهو ومضَةٌ منَ الكينونةِ الإلهيَّةِ النُّورانيَّةِ الخالدَةِ الَّتي تَرعاهُ في مَسيرَتِهِ
الذَّاتيَّةِ وتُقوِّي عُضُدَهُ ليَعودَ إليها بعد اكتمالِ الطَّريقِ وانتِهاءِ الإمتحان ..
فلو اعتبرنا من هذه النَّتيجةِ وأيقنَّا أنَّنا هنا في مدرسَةٍ نترقَّى فيها من مستوىً إلى
آخر لأصْبحَتِ الحياةُ جنَّةً نتسابقُ فيها لنيلِ جوائِزِ التَّرقِّي والصُّعودِ ، ولم يَبقَ لطاغوتِ المالِ والجَّاهِ والسُّلطانِ والشَّهواتِ أيُّ تأْثيرٍ علينا ..ثُمَّ تتلاشى كُلُّ الخواطِرِ والأفكارِ السَّلبيَّةِ في نفوسِنا عندما نُدرِكُ أنَّنا طُلاَّبٌ نجتازُ امتحانَ الحياةِ
وعلى كُلِّ طالبٍ أن يَكُدَّ ويتْعبَ ويُكافِحَ ويُعاني المَرارةَ وضَنكَ العيشِ ليَنالَ الفوزَ والنَّجاحَ ؛ فبقدرِ ما تَنْجَلي في أعماقِنا صورَةُ الله ِالحقيقيِّ وبقدر ما نَكْتشِفُ في ذواتِنا أنَّنا ومضاتٌ من هذا الإلهِ بقدرِ ما نُقَيِّمُ ونُقَدِّرُ ذواتَنا حَقَّ التَّقْييمِ والتَّقْدير ..
وهنا لم يَعُدْ الموتُ إلاَّ أمنيةً جميلَةً نَتشَهَّاها ونتمنَّاها لأنَّ الموتَ هنا نهايةُ غُرْبةٍ
قاسيةٍ ، مريرةٍ وطويلَةٍ نقضيها بالألامِ والدُّموعِ ؛ فما أجمَلَ وأحلى عودة المهاجِرِ
إلى وطَنِهِ الأصيلِ .
وهذا ليس شِعراً وخيالاً كما يَدَّعي من أقْفَلَ على عقلِهِ بالجَّهلِ وحَجَرَ فكرَهُ بِجحْرِ
المادِّيَّةِ والعبثيَّةِ والضَّياعِ ...فالعقْلُ أفسَحُ وأرحَبُ منَ الكونِ فكيفَ نحْصُرُهُ ونُحَدِّدُهُ
بكتلةٍ تافِهَةٍ منَ اللَّحْمِ هي تلافيفُ الدِّماغِ ؟ وكيف نُحاولُ أن نُخْضِعَ جوهَريَّةَ هذا
العقْلِ لمبْضَعِ جرَّاحٍ مغْرورٍ يَتصَوَّرُ أنَّ العقلَ الذي يُبرْمِجُ الوجودَ ويُنظِّمُ الكونَ
خاضِعٌ لمشيئةِ مبضَعِهِ ؟ والعقلُ بنوعيَّةِ جوهَرِهِ أبعدُ منالاً من أيَّةِ سيطرَةٍ مادِّيَةٍ ..
وهنا تبدأُ الحِكايَةُ : أنا العَقْلُ الإنسانيُّ خَلَقَني اللهُ وسوّاَني لأُشارِكَهُ خلودَهُ وبقاءَهُ
ولأَفْعَلَ معهُ في الكونِ إبْداعاً وخَلْقاً وتَرتيباً ..فأنا يَدُهُ الفاعِلَةُ المُنَفِّذَةُ في الوجودِ
5
المادِّيِّ ، وبقدرِ ما أعي مُهمَّتي بقدر ما أتحَمَّلُ مسؤوليَّةَ بناءِ وتطويرِ هذا العالمِ
لا هدمَهُ وتخْريبَهُ ........
وهكذا تُصْبحُ لحياتي على الأرضِ أسمى المعاني وأكمَلَ الأهدافِ ...فأنا قَبَسٌ
منَ اللهِ وعليَّ تَقَعُ مُهمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ وغايةٌ ساميَةٌ هي أن أعملَ في الكونِ وأُعَمِّرَهُ لأنَّني صورَةُ التَّجلِّي المادِّيِّ لقدرَةِ اللهِ اللاَّمادِّيَةِ الفاعِلَةِ والمُتَخَفِّيَةِ وراءَ الكونِ المادِّيِّ ....
حكمت نايف خولي