الغرض من النقد الأدبي- نظرة مغايرة: أوراق ساخنة (11)
الدارس لموضوع النقد وتطوره يجد أن النقد كان في بداياته يعتمد على الذوق وكان بسيطا ساذجا انطباعيا، لكنه مع مرور الزمن تطور إلى مناهج تقوم على أسس محددة، ومع ذلك ظل يعني كما في اللغة تمييز الجيد من الرديء، والبحث عن أسباب الاستحسان والاستهجان، واستخلاص عناصر الجمال، وتبين سمات القبح، بغرض تقويم العمل الأدبي وتقييمه، وإصدار الحكم عليه، وذلك من خلال دراسته والنظر في كل عنصر من عناصره، واكتشاف محاسنه وعيوبه، وقد تتوسع الدراسة النقدية لتشمل جو النص، أي العصر الذي قيل فيه، وصاحب النص، ومناسبة قوله، إضافة إلى القضايا التي يحويها النص، والأفكار الرئيسية التي يتضمنها، كما قد يتطرق النقد إلى الأسلوب الذي اتبعه المؤلف والذي يشتمل بدوره على المشاعر والانفعالات التي تظهر في النص، إضافة إلى الصياغة الخارجية، ويتضمن الألفاظ والتراكيب، والصنعة الأدبية، والإيقاع، والألفاظ ودلالاتها.
وعلى الرغم أن مفهوم النقد قد تطور تطورا كبيرا لكنه ظل محصورا إلى حد بعيد في أصول أربعة أساسية وهي القراءة ، والفهم ، والتفسير، والحكم...ونجد أن وظيفة النقد النهائية وغايته ظلت تتمحور حول التفسير وإصدار الأحكام.
ومع أن الكثير من المحدثين قد تبدلت نظرتهم إلى وظيفة النقد الأدبي فلم تعد عملية إصدار الحكم هي الأساس عندهم بل أصبحت تتمحور حول تقدير النص الأدبي تقديرا صحيحا وبيان قيمته، لكننا نجد بأن إصدار الحكم على النص الأدبي المراد نقده بل وتخطئة العمل الأدبي الإبداعي، وكشف عيوبه تظل غاية النقد الرئيسية عند الأغلبية.
بل إننا ما نزال نجد من بين النقاد من يظن بأنه يمتلك الحق المطلق في تنصيب نفسه حاكما مطلقا يصدر أحكاما نقدية تؤدي أحيانا إلى وأد العمل الأدبي الإبداعي برمته، وموته، سواء لأسباب انطباعية مزاجية أو ربما لان النص لا ينسجم مع المنهج النقدي الذي يتبناه الناقد في تناوله للعمل الأدبي أو الفني والذي قد يكون قائم على أسس فكرية معينة أو قناعات وقواعد محدده خاصة بعد انتشار مناهج النقد الأدبي القائمة على مدارس فكرية أو سياسية على نطاق واسع، أو ربما لان عقل الناقد لا يترقي لمستوى عقل المبدع من حيث القدرات الإبداعية أو الثقافة والمعرفة.
ونجد انه حتى من يؤمن بأن مهمة الناقد يجب أن تقتصر على الكشف عن مضامين النص الأدبي وأسلوبه فأنهم يتركون مسألة الحكم على النص للقارئ.
وكل ذلك يشير دون لبس أن الغرض من النقد لم يتبدل كثيرا منذ بدايات ولادة النقد، بل أن الغاية والغرض والهدف ظلت دائما إصدار الحكم في نهاية المطاف على النص الخاضع للنقد مهما تعددت التسميات ومهما تم فلسفة الموضوع وكأن النص ومبدعه يخضعان للمحاكمة والتقييم وفي الغالب ضمن معايير الناقد نفسه.
فهل هذا هو الغرض من النقد؟ وهل هناك ما يستدعي إعادة النظر في الغرض من النقد؟ وما الغرض الذي يجب على النقد السعي من اجله؟
في الواقع إن غموض العملية الإبداعية في كل المجالات، وليس فقط في المجال الأدبي، واستمرار العجز عن فهم كافة إبعادها وأسرارها وكنهها ومصدرها بشكل كامل، والإعجاز المذهل الذي يمكن أن تحتويه المخرجات الإبداعية غير المفهومة في عصر ولادة العمل الإبداعي والذي كثيرا ما اشتملت عليه الأعمال الإبداعية، إضافة إلى تطور فهمنا للعملية الإبداعية كسمة إنسانية معقدة، حيث أصبح ينظر إليها على اعتبار أنها عمليات عقلية معقدة ناتجة عن عقل خارق في قوته اللامحدودة ويمتلك مقومات خارقة، يسميه البعض العقل الباطن والبعض الآخر يسميه اللاوعي ويقارنه عالم النفس فرويد بالجزء المغمور من جبل الجليد بالنسبة للوعي، وانه في حالة أذا ما عمل هذا العقل الخارق بوتيرة عالية كنتيجة لمرور الشخص المبدع في ظروف مأساوية، كما تقول نظريتي في تفسير الطاقة الإبداعية والتي أشارت إلى أن القدرة الإبداعية مصدرها طاقة ذهنية متفجرة تتناسب طرديا مع كثافة المآسي التي يمر بها المبدع وعلى رأسها اليتم الذي يمكن أن يصنع العباقرة الأفذاذ الخالدون كنتيجة لما يمتلكوه من طاقه إبداعية هائلة وفي أعلى حالاتها، وعليه فأن المخرجات الإبداعية الناتجة عن هذا العقل يمكن أن تكون خارقة وإعجازية، وقد تأتي بجديد، ثوري، وغير مسبوق، اذا ما عمل ذلك العقل بوتيرة عالية، وقد لا يتم فهم كافة أبعاد هذا العمل الإبداعي حتى من قبل صاحب النص الإبداعي نفسه أو معاصريه مهما امتلكوا من العلم والثقافة والتأهيل، وأحيانا كثيرة يتطلب الأمر مرور أزمان طويلة لفهم أبعاده ومعانيه وإشكالاته وسبر أغواره بشكل حقيقي واسع وعميق.
ويمكن لكل تلك الأسباب أن يكون العمل الإبداعي عبقري وإعجازي وفيه أسرار اعجازية هائلة وأبعاد غير مرئية أو ظاهره، ويصعب كشفها بسهولة من قبل المتلقي وأحيانا من قبل المبدع نفسه، وبحيث ينظر الى ما يعتبر إضافة غير مستساغة أو غير مقبولة عند الناقد أو الجمهور أو المؤسسات التي دائما تدافع باستماتة عما هو قائم وسائد ومألوف، قد يكون يمثل حالة إبداعية عبقرية اعجازية فذة ونادرة وتنتمي في معطياتها لازمان قادمة، قد لا يفهمها الناقد المعاصر للعمل الإبداعي مهما ارتقى في قدراته على التفسير وسبر أغوار النصوص، وخاصة إذا كان عقل ذلك الناقد يعمل بوتيرة اقل من عقل المبدع نتيجة لعدم تفجر طاقات دماغه على شاكلة المبدع وعلى اثر عدم مروره بتجارب مأساوية مفجعة على شاكلة المبدع الفذ صاحب النص كما اشرنا سابقا وحسب معطيات نظرية تفسير الطاقة الإبداعية وشرحها للعملية الإبداعية.
أيضا تُظهر الكثير من الحالات التي تم فيها رفض مخرجات ابداعية لعقول بعض العباقرة الأفذاذ المبدعين المجددين في أزمانهم، وتراكمات ما حصل للكثير من الأعمال والنظريات والأفكار الإبداعية المجددة والتي جاءت بجديد غير مسبوق وغالبا ما كان يتناقض في طرحه ومعطياته مع السائد والمألوف، أو يطرح بديل إبداعي وغير مسبوق سواء من حيث الشكل أو المضمون، تشير كل هذه الحالات بأن هناك سجلا حافلا يظهر تعرض مثل هذه الأعمال والحالات الإبداعية إلى الرفض والقتل أحيانا كثيرة، لا بل تجاوز ذلك في الكثير من الأحيان لمحاكمة صاحب العمل الإبداعي والحكم عليه بأقصى عقوبة وصلت في أحيان كثيرة إلى السجن والحرق والقتل وهي أحداث مسجلة عبر التاريخ بشكل بارز.
وكثيرا ما نجد أن أسباب وأد هذه الأعمال الإبداعية وأصحابها كانت تحدث لأنها كانت تأتي بجديد غير مألوف ثوري ومغاير لما كان سائد ويعتبر مسلمات مقدسه في احيان كثيرة، ولذلك كان ينظر الينه على انه انقلابا حادا يستدعي الحكم على صاحبة بأقصى العقوبات التي قد تصل إلى الموت أحيانا في محاولة لطمس العمل الإبداعي ومعطياته، لنجد فقط انه وبعد سنوات وربما قرون ان العالم يعود لاكتشاف عظمة مثل تلك الأعمال الإبداعية، ويقوم على رد الاعتبار لهذه الأعمال وأصحابها وتكريمهم في اغلب الاحيان.
كل ذلك يستدعى دون أدنى شك ضرورة إعادة النظر في الغرض من عملية النقد، لان العملية الإبداعية تظل غاية في التعقيد والغموض، وقد تأتي بمخرجات مهولة مذهلة قد لا يتنبه لها حتى المبدع نفسه، وعليه أرى بأن سلطة الناقد في إصدار الأحكام على الأعمال والمخرجات الإبداعية يجب أن تتوقف والى غير رجعه، مهما كان موقع هذا الناقد وسواء كان فردا أو مؤسسة...مهما قل شأن العمل الابداعي.
ويجب أن لا يمتلك احد السلطة على رفض مخرجات عقل مبدع أو إصدار أحكام مطلقة عليه مهما بدت هذه المخرجات هزيلة أو مختلفة أو معقدة أو جديدة أو مجنونة في شكلها ومضمونها أو لأنها ضد السائد والمألوف أو لأنها ضد منهجيات وقوانين ومدارس نقدية تم وضعها من منطلقات فكرية أو فلسفية أو نفسية أو انطباعات شخصية، فلا شك أن العملية الإبداعية قد تظل عصية على عقول النقاد لان مصدرها قوة خارقة هي العقل بقوته اللامحدودة وغير المفهومة بشكل كامل.
وبدلا من ذلك يجب أن ينحصر دور الناقد حتما في محاولة فكفكة أسرار وأبعاد وأعماق العمل الإبداعي، ومحاولة كشف الجوانب الاعجازية والجمالية والابداعية فيه والتي غالبا ما تتفلت وتخرج من عقل المبدع الخارق في قوته أثناء العملية الإبداعية وفي أحيان كثيرة يحدث ذلك بصورة تلقائية غير واعية لا يدركها المبدع نفسه.
كما أن دور الناقد يجب أن يكون مثل دور المنقب في منجم أو الغطاس الباحث عن اللآليء في قعر المحيط، وان يجتهد في عمله ذلك، لكن عليه ان لا يصدر احكام ابدا وأن لا يجزم برؤية اواستنتاج مطلق، بل عليه أن يبقى الأبواب والاحتمالات مفتوحة لمزيد من القراءت النقدية فهما أبدع هو في عمله فربما يكون قد عجز عن فهم الكثير من الأعماق والأبعاد الابداعية والاعجازية أو بعضها في النص، وان مثل ذلك الفهم يتطلب ناقد من زمن آخر قادم، وحتى هذا الناقد القادم من زمن آخر عليه أن يبقى الأبواب مفتوحة لاجتهادات أخرى تظل قائمة دائما لان العلمية الابداعية وليدة العقول الفذة التي تعمل بطاقة مهولة فوق طبيعية قد تظل عصيه على العقول الناقده مهما اجتهدت. وطبعا ان ذلك لا يعني أبدا بأن كل الاعمال الابداعية هي عميقة بعمق المحيط وربما يكون بعضها مجرد سراب.
إذا فليتوقف وأد الأعمال والعقول الإبداعية فورا!!!! وليتمحور عمل الناقد حول فكفكة اسرار العمل الابداعي وفهم اعماقه وابعاده دون اصدار احكام ابدا مهما قل شأن العمل الابداعي...فمن يدري ان ما قد نعتبره عمل سريالي معقد في رمزيته مثلا انما هو في الواقع عمل يشتمل على كودات ذهنية يصعب فكها ويتطلب ذلك عقول تعمل بوتيرة ومستويات اعلى لفهمه من اجيال قادمة؟؟؟