احصائيات

الردود
11

المشاهدات
3404
 
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي


محمد جاد الزغبي is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
1,179

+التقييم
0.18

تاريخ التسجيل
Jan 2006

الاقامة

رقم العضوية
780
02-10-2024, 05:05 AM
المشاركة 1
02-10-2024, 05:05 AM
المشاركة 1
تحليل كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)
كيف نفهم قضية فلسطين
(عدسة على التاريخ من حملة نابليون بونابرت حتى طوفان الأقصى)

هذه بعض الفصول من كتابنا الأخير (كيف نفهم قضية فلسطين), والذي وضعنا فيه تاريخ القضية الفلسطينية منذ بداية الفكرة على يد نابليون بونابرت, وحتى اليوم.
أما الكتاب كاملا فقد صدر عن (دار حواديت للنشر) بمصر.

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة



قديم 02-10-2024, 05:12 AM
المشاركة 2
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)

تمهيد


إن التاريخ هو المجال العلمي الوحيد الذي يصلح فيه التعامل مع العدسات المختلفة دون أن تختل الفائدة منه!
بمعنى أن العدسات الزجاجية التي تمتلك القدرة على تكبير الأشياء وتصغيرها، كما تمتلك القدرة على إعطاء الأشياء حجمها الطبيعي.
هذه العدسات لا تعطى صورة حقيقية للأشياء إلا إذا كانت عدسات مستوية غير محدبة وغير مقعرة، وإلا فإنها تضاعف الحجم أو تصغره وتعطي له صورة منافية للحقيقة.
ولا شك أن الحقيقة العلمية في أي مجال هي حقيقة محايدة، ينبغي أن تكون بصورتها الحقيقية وإلا أعطت صورة مزيفة لا تفيد.
وهذا يصلح في كافة العلوم عدا مجال واحد وهو علم التاريخ.
لأن التاريخ باعتباره أخطر العلوم البشرية وأكثرها تفردا" " كان هو العلم الذي تمكن به الإنسان من بناء الحضارات عبر الزمن.
ولأن أساس بناء الحضارة يكمن في دراسة وتحليل التاريخ كي نتعلم منها لإصلاح الحاضر والمستقبل، لأجل ذلك كان التعامل مع التاريخ يتم من خلال ثلاثة طرق.
والطرق الثلاث تمثل الجوانب الثلاث للعدسات.

*العدسة المستوية
ننظر من خلالها للتاريخ نظرة أكاديمية بحثية محايدة، حيث نعتني بتسجيل وتحقيق الأحداث والوقائع التاريخية بدقة كما حدثت بالضبط.
وهنا تكون عين الباحث أشبه ما تكون بعين الكاميرا، حيث تسجل وتلتقط وتوضح الحدث نفسه بشكل محايد دون التدخل بالتحليل واستخراج الدروس أو التفكر.
وتأتي أهمية الدراسة الأكاديمية المحضة في كونها توفر المادة الخام للتاريخ، والتي يتيح وجودها للباحثين والمؤرخين وعلماء الاجتماع أن يتأملوا فيها وَيُمَحّصونها بعد ذلك.
ومثالها المراجع الأصلية الكبرى في التاريخ الإسلامي مثل (تاريخ الأمم والملوك) للعلامة ابن جرير الطبري، والذي حرص فيه الطبري على جمع كافة مرويات التاريخ الإسلامي بأسانيدها في كتابه وتركها دون تحقيق أو تمحيص واكتفى بأنه ذكر كافة الأسانيد لكل رواية على حدة.
وهو هنا قام بدوره وترك للباحثين تمحيص وفحص أسانيد الروايات لتمييز الروايات الصحيحة من الضعيفة وهو الذي قام به علماء الجيل الثاني من المؤرخين حتى الأجيال المعاصرة في الدراسات الجامعية والأكاديمية

*العدسة المحدبة
وهي التي تقوم بتصغير الأشياء عن حجمها الأصلي، وهي ضرورية للباحثين في المجال الفكر ي العام والمهتمين بمعالجة واقع المجتمع في كل عصر.
ولكي يقوم هؤلاء الباحثون بمهمتهم فلابد لهم من استكشاف التاريخ وأخذ الأفكار والدروس العامة من أحداثه والربط بينها وبين واقع المجتمع المعاصر كي تتولد الأفكار التي تفيد المجتمع في قضاياه المختلفة.
والباحثون أو المفكرين من هذا النوع لا يحتاجون إلى قراءة التاريخ قراءة سردية كاملة وتفصيلية، لأن أخذ العبرة والدرس يكفي فيه أن تحيط بالأحداث بشكل عام ومختصر ومركز كي تنجح في استخلاص العبرة والدرس من عدة أحداث عبر عدة قرون.
لذلك فهؤلاء يفيدهم النظر إلى التاريخ من خلال العدسة المحدبة التي تقوم بتصغير حجم الوقائع واليوميات وإهمال التفاصيل والاكتفاء بإعطائهم الصورة العامة للحدث التاريخي.
ومثال ذلك كثير من الكتابات الفكرية الهامة في الحضارة العربية أو الغربية سواء من القدماء أو المعاصرين، مثل الموسوعات المختلفة وكتب تاريخ العلوم، وكتب معالجة أزمات المجتمع الأخلاقية والسياسية وغيرها.
ونجد أمثلة هذه الكتابات في تراث مفكرنا الكبير (مصطفى محمود)، وفي تحليلات العالم العراقي (أحمد الكبيسي) في تاريخ وقصص الأنبياء، وكتابات (عباس العقاد) في تحليل التاريخ الإسلامي وفي كتابات (خالد محمد خالد) وغيرهم من مفكرينا المعاصرين

*العدسة المقعرة.
وهي التي تقوم بتكبير حجم الأشياء عن حجمها الطبيعي وتعطيها حجما أكبر بأضعاف.
وهذا النوع من العدسات هو الذي يستخدمه المفكرون الاستراتيجيون وقادة الرأي العام، وعلماء الاجتماع أصحاب الرؤية النقدية النافذة ممن يلعبون أدوارا عظمى في أوطانهم بل ويكون لهم القدرة على تغيير موازين مجتمعاتهم سياسيا واجتماعيا وحضاريا.
وهؤلاء هم من يستخدمون العدسة المقعرة لتكبير أحداث صغيرة الحجم والتأثير بالمقاييس العادية لكنها تصبح بالنسبة لهم أحداثا كبرى وصاحبة التأثير الأكبر في المجتمعات.
حيث يتناولون هذه النقاط الصغيرة ويفصلونها بالشرح والتحليل والتركيز، ليخرجوا منها بأكبر الفوائد المتمثلة في وضع تصور شامل للأزمات ووضع الحلول المناسبة لها
وأول وأكبر المفكرين في هذا المجال هو العلامة (عبد الرحمن بن خلدون) الذي أسس (علم الاجتماع) بكافة فروعه، وانتشرت كتبه وأبحاثه لتكون الأساس الذي اعتمدت عليه حضارتنا والحضارة الغربية في مجالات علم الاجتماع الحضري والسياسي
وامتلك ابن خلدون مكانة عظمى في مجال الفكر الاجتماعي والسياسي، هي نفس المكانة التي حظي بها (الخوارزمي) في مجال الرياضيات بعد تأسيسه لعلم الجبر والتفاضل والتكامل، وكذلك مكانة (ابن النفيس) في الطب والجراحة وغيرهم كثير.
وقد ابتكر ابن خلدون طريقته في النظر للتاريخ عن طريق تركيزه الشديد على تأثيرات البيئة والطباع المجتمعية في صناعة الأحداث، وكتب مقدمته الشهيرة (مقدمة ابن خلدون) التي جعلها تلخيصا لمدى تأثير البيئة والطباع على التاريخ العربي.
ثم كتب بعدها كتابه الموسوعي (العبر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر وغيرهم من ذوي السلطان الأكبر) والمعروف باسم (تاريخ ابن خلدون)
والمتأمل في مجموع ما قدمه ابن خلدون في المقدمة والتاريخ يجد أنه روى التاريخ مختصرا في الأحداث والوقائع لكنه كان شديد التفصيل والتأصيل في النتائج والأفكار.
وقد صاغ أفكاره التي حددت نقاط القوة والضعف وأسباب قيام الحضارات وانهيارها بشرح سلس ولخصها بعبارات جامعة مانعة منها تلك التي شرح فيها آفة الطباع العربية في قوله:
(فهم متنافسون في الرئاسة وَقَلّ أن يُسَلّم أحد منهم الأمر لغيره ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته إلا في الأقل وعلى كره)
والتي تم تلخيصها في الحكمة الشهيرة:
(آفة العرب الرياسة)
وهي عبارة تستحق شرحها برسالة دكتوراه، إذ وضع ابن خلدون يده على الداء الأكبر في المجتمع العربي بأكمله ألا وهو حب الرياسة والتصدر، ومهما كانت شدة الحروب على أنفسهم وهم في وقت اجتماعهم تجدهم على قلب رجل واحد لا يقدمون إلا المصلحة العليا.
وما إن يتم لهم النصر ويبدأ التفكير في الغنائم حتى تظهر المصالح الشخصية.

كذلك من أبرز من استخدموا العدسة المقعرة لمعالجة التاريخ مفكرنا الكبير (جمال حمدان) والذي وضع موسوعته الكبرى (شخصية مصر ــــــــ دراسة في عبقرية المكان).
وعنوان الدراسة وحده كفيل بمنحه درجة العبقرية حيث عالج جمال حمدان مبرر الأهمية الكبرى لمصر في سائر عصورها بين دول العالم من خلال التأمل في تاريخها بتوسع، والنظر في أسباب وقوعها دوما في قلب الأحداث الإقليمية والعالمية.
وانتهى في دراسته إلى أن عبقرية المكان الجغرافية هي التي جعلت من بروز أهمية مصر قَدَرا متكررا ومحسوما، كما أن مكانها المتفرد فرض عليها مفهوما واسعا لأمنها القومي يتخطى حدودها باستمرار.
لأنه مع هذا الموقع الواقع في قلب العالم من المستحيل أن تنعزل مصر عن محيطها الإقليمي أو الدولي وتكتفي بحدودها الجغرافية وحدها كصمام أمان.
لذلك دوما كانت في حاجة للتحالفات وللدخول في معارك دفاع عن الأراضي المحيطة بها شرقا وغربا، شمالا وجنوبا.
كذلك عالج جمال حمدان واحدا من أخطر عيوب الشخصية التاريخية في مصر، وهو عيب شامل متكرر عبر تاريخ مصر القديم والحديث.

فمصر تضيق بالعباقرة فعليا في كل مجال، وبدلا من أن تصبح هذه الحالة منحة تفوق أصبحت في المجتمع المصري آفة خطيرة في كثرة الكم والكيف من حيث النبوغ، مما أدى لأن تكون طاقة المجتمع السلبية موجهة دوما للمتميزين والعقليات المتفوقة الذين ينبغون في الغالب خارج بلادهم، ويبرز القليل منهم داخل البلاد
في نفس الوقت الذي تنساق العقلية المجتمعية لعديمي الموهبة إذا امتلكوا القدرة على النفاق الاجتماعي الذي يجذب العوام بعيدا عن الخطاب النقدي الذي يستخدمه أصحاب العقليات المتفوقة!
فقال جمال حمدان عن هذه الصفة العجيبة:
(واحد من أخطر عيوب مصر هي أنها تسمح للرجل العادي المتوسط، بل للرجل الصغير بأكثر مما ينبغي وتفسح له مكانا أكبر مما يستحق، الأمر الذي يؤدى إلى الركود والتخلف وأحيانا العجز والفشل والإحباط، ففي حين يتسع صدر مصر برحابة للرجل الصغير إلى القميء، فإنها على العكس تضيق أشدَّ الضيق بالرجل الممتاز، فشرط النجاح والبقاء في مصر أن تكون إتباعيا لا ابتداعيًّا، تابعًا لا رائدًا، محافظًا لا ثوريًّا، تقليديًّا لا مخالفًا، ومواليًا لا معارضًا. وهكذا بينما تتكاثر الأقزام على رأسها ويقفزون على كتفها تتعثر أقدامها في العمالقة وقد تطؤهم وطئًا

كذلك من مفكري مدرسة العدسة المقعرة أستاذنا وأستاذ الأجيال (محمد حسنين هيكل) ومفكرنا الكبير (عبد الوهاب المسيري)
وكلاهما توجه بالعدسة المقعرة لأهم قضايا الأمن القومي عن طريق توجيه العدسة المقعرة لأدق التفاصيل المهمة في علاقتنا مع الغرب، فتناولها هيكل من خلال التحليل الفذ للوقائع السياسية، وتناولها عبد الوهاب المسيري من خلال دراسة بالغة العمق للتوجه الفكري الغربي وتتبع مدارسه المعاصرة وانهيارها الأخلاقي والتركيز على إسرائيل كصنيعة غربية محضة بهدف تحقيق الفلسفة المادية القائمة على تحويل البشر لمادة استعمالية –على حد تعبيره-أي تحويل الإنسان لآلة مادية لا تربطها أو تُقَيدها الأمور المعنوية كالأخلاق والأديان.
وهذا التوجه هو الهدف الاستراتيجي الذي قامت عليه الرأسمالية الأمريكية المسماة بالليبرالية الجديدة والتي تجاوزت حتى التطرف المالي في الرأسمالية الأصلية التي وضعها (آدم سميث) بكتابه الشهير (ثروات الأمم).
أما هيكل فقد كان دوره السياسي واحدا من أهم وأخطر الأدوار التي نقلت لنا من الوثائق الغربية والعربية تاريخ منطقة الشرق الأوسط في واحدة من أحلك فتراته وهي فترة القرن العشرين وركز على المشروع الصهيوني وعاونته عقليته المتفوقة ومصادره العميقة والمنتشرة على إخراج أهم موسوعات التاريخ الحديث على الإطلاق.
حيث ركز بالعدسة المقعرة على التفاصيل الخفية شديدة التأثير والتي كان لها أخطر الأدوار في تحويل مسار تاريخ المنطقة خلال الحربين العالميتين" "

من خلال هذه الرؤية نستطيع أن نضع أيدينا على مفتاح الفهم في قضية فلسطين.
لأن النظر إلى القضية الفلسطينية في حدود مُسَمّاها، هو القصور بعينه.
فالقضية الفلسطينية حَمَلَت عنوانا ضخما هو (الصراع الأزلي بين الشرق والغرب)، والذي بدأ في عصره الأول مع تكوين دولة الخلافة الراشدة وسحق فارس والروم، وانتهى هذا الفصل بالريادة والسيادة التامة لدولة الخلافة في عصورها الذهبية.
وبدأ بعدها الفصل الثاني مع ضعف وتشرذم إمارات الخلافة العباسية منذ عصرها الثاني واحتفاظها فقط بالمسمى المنتمي للخلافة، وهي المرحلة التي بدأ فيها الغرب يستعيد قوته وشن حملته الصليبية الأولى ثم سقطت القدس والشام وتكونت إمارات الصليبيين فيهما، وكان هذا الفصل إيذانا بظهور عهد المقاومة وظهور الإمارات القوية المستقلة التي خاضت المعارك ضد الصليبيين من بداية تجربة (نور الدين زنكي) و(نور الدين محمود) و(صلاح الدين الأيوبي) حتى الحملة الصليبية السابعة التي انكسرت في مصر في نهاية العصر الأيوبي وبداية عصر المماليك الذي وقف فيه المماليك أيضا ضد الصليبيين والمغول بالذات في عهد المماليك الأقوياء مثل قطز وبيبرس وقلاوون وأبناؤه خليل ومحمد وغيرهم.
وهذا الفصل انتهى بانتصار الشرق الإسلامي أيضا ولو أنه كان انتصارا بالنقاط لا انتصارا بالضربة القاضية كما هو الحال في عهد دولة الخلافة القوية (الراشدة – الأموية – العباسية)
وبدأت الجولة الثالثة ببداية تكون الخلافة العثمانية التي نشأت كإمارة صغيرة على أطراف الشام العليا وامتدت وتوسعت وسببت انشغالا أوربيا ساحقا بالعثمانيين الذين خففوا الضغط على جبهة الشرق بغزاوتهم ضد الروم.
وكانت العلاقة بين العثمانيين والمماليك علاقة تحالف حتى ثارت الخلافات والطموحات بين (سليم الأول) و(قنصوه الغوري) ودخل سليم الأول لمصر وهنا أصبحت الخلافة العثمانية هي الركن الجامع لأراضي الخلافة الإسلامية التاريخية فضلا على الأراضي الشاسعة التي فتحتها في أوربا بما فيها الإنجاز الأعظم وهو إسقاط دولة الروم بسقوط (القسطنطينية) في عهد (محمد الفاتح)
وهنا تمكنت الخلافة العثمانية من تجديد شباب دولة الخلافة الأولى بعصرها القوي ونجحت في فرض إرادتها على سائر أوربا لتنتهي أحلام أوربا والحملات الصليبية بشكل تام في ذلك العصر بعد أن أصبحت أراضي أوربا نفسها نهبا للعثمانيين.
وبالتالي انتهت الجولة الثالثة من الصراع بتفوق ساحق ولكنه تفوق استمر ساحقا من عصر العثمانيين الأول حتى نهاية عصر السلطان (سليمان القانوني)
وهنا مَرّت الخلافة العثمانية من عهد (سليم الثاني) إلى نهايتها بمراحل ضعف متدرجة، بدأت بسيطة ولكنها تعاظمت بمرور الزمن حتى دخول العصر الحديث.
وبدخول العصر الحديث بقيام الثورة الفرنسية كان المسرح في أوربا قد شهد ميلاد قوى عظمى عسكرية وعلمية لا سيما في بريطانيا وفرنسا والبرتغال وإسبانيا وهولندا الذين قاموا بغزو البحار والمحيطات واستعمار الأراضي الشاسعة في أقاصي الأرض.
وبدأ النظر يكثر لميراث الخلافة العثمانية في الشرق بالتحديد.
وهنا كانت بداية الجولة الثالثة من الصراع بالحملة الفرنسية على مصر.
وكانت الحملة الفرنسية –كما سنرى-هي السبب الرئيسي في تحويل الشرق الأوسط لمنطقة صراع عالمية شديدة التأثير على العالم أجمع.
لأن المؤامرة الغربية التي تطورت بإضعاف العثمانيين وضرب تجربة (محمد علي) في مصر والتمهيد لاحتلال مصر والشام، هذه الأحداث كلها رسمت خريطة تفصيلية لكل ما حدث بالعالم أجمع بعد هذا التاريخ.
ولنا أن نتخيل أن قضية فلسطين وتوطين اليهود في فلسطين، كان عنوانا لحرب عالمية فكرية خسرها الشرق وربحها الغرب وفرضت النظام العالمي الجديد الذي أصبحت فيه الولايات المتحدة وأوربا الغربية أصحاب معادلة القوة في كل ركن من العالم حتى اليوم.

لذلك فإن ضرورة فهم القضية الفلسطينية لابد أن يتم في هذا الإطار حتى يمكن القول بفهم أبعاد هذا الصراع

ولهذا كله فإن النظر للقضية على أنها قضية تحرير المسجد الأقصى والأراضي المحتلة والخلاص من العدو، ستكون نظرة قاصرة حتما لأنها تقصر القضية على المقاومة المسلحة المماثلة للمقاومة التي اشتعلت في بلادنا العربية كافة ضد المحتل الغربي خلال القرن العشرين
بينما احتلال فلسطين كان احتلالا عسكريا واستيطانيا مختلفا ووراءه مشروع سياسي واقتصادي متكامل.
فالاحتلال الغربي لمصر والشام والعراق واليمن وليبيا والمغرب العربي، كان احتلال الجيوش والقواعد العسكرية، ومثل هذا الاحتلال محكوم عليه بالرحيل مهما طالت المدة.
أما الاحتلال في تجربة فلسطين فكان احتلال التطويع لا احتلال السيطرة، واحتلال الاستيطان لا احتلال استغلال الموارد فقط، احتلال تأسيس للسيطرة الغربية على الشرق الأوسط لا مجرد احتلال عسكري لأقطار استراتيجية

كما أن النظر إلى القضية الفلسطينية على أنها فلسطينية وفقط، أو مسألة دينية وفقط، أمر قاصرٌ جدا لأن مسألة فلسطين ليست مسألة قومية ضيقة ولا يمكن أن تكون، فالنُظم والتقسيمات الحدودية الحالية كانت تقسيما فرضته القوة الغربية من خلال اتفاقية سايكس بيكو، بينما التقسيم الأصلي في زمن الخلافة العثمانية وما قبلها لم يكن يعرف من الدول المركزية في المنطقة إلا عددا محدودا من الدول ذات العمق التاريخي.
وهذه التقسيمات فرضها الاحتلال لخدمة مصالحه كما سنرى.
ومن ناحية أخطر.
لم تكن فكرة زرع اليهود في فلسطين فكرة قومية أو حتى دينية الهدف منها جمع شتات اليهود، بل الفكرة-كما سنرى-هي استمرار فرض القوة الغربية المحتلة لسطوتها على منطقة الشرق الأوسط بأكمله، ومنع أي محاولة جادة للتوحد بين دول المنطقة سواء كان توحدا جزئيا أو كاملا.

ومن خلال الرؤية المتعمقة أيضا سندرك حقيقة أخرى كان ينبغي أن تكون في مقدمة الحقائق التي يجتمع عليها الناس.
ألا وهي فكرة معرفة حدود الحرب بيننا وبين الغرب.
فالحرب بصورتها القديمة كانت حربا مسلحة أي حرب تكسير عظام وفرض الإرادة بالقوة، لكن الحرب منذ الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت أصبحت حرب (استراتيجية فكرية) وأصبحت الجيوش فيها أداة وعامل من عوامل القتال لا أكثر.
حيث أصبحت الحرب الفكرية هي الأصل والأساس الذي نجحت به القوة الاستعمارية في تفتيت المنطقة وفرض الحصار عليها دون استخدام القوة المفرطة، أو التكاليف الباهظة حيث وضعت دول المنطقة بأكملها داخل دائرة محدودة لا تخرج منها مهما حاولت.
وبما أن الحرب الفكرية الغربية نجحت نجاحا ساحقا في فرض إرادتها على المنطقة منذ بدايات القرن العشرين، فهذا يعني أن فَهْم هذه الحرب وفهم أبعادها وكيف بدأت أصبح الآن هو الهدف الأهم والأسمى لتأسيس جيل التحرير الذي سيحمل على عاتقه شرف القتال لأجل قضية الأقصى.
فالمعرفة، والمعرفة الواعية وحدها هي التي تؤسس المقاتل ليصبح مقاتلا عن عقيدة واعية، يدرك بها عدوه، ويدرك بها المتخفي في شكل الصديق بينما هو أعدى الأعداء.

وهذا الكتاب محاولة لقراءة وفهم القضية في مجملها بثلاث نقاط.
النقطة الأولى:
وهي أننا سنترك مصادر الكتاب في الهوامش لمن أراد التفاصيل التاريخية كاملة وبهذا تتوفر العدسة المستوية لمن أراد التاريخ كاملا.
والنقطة الثانية:
وهي العدسة المحدبة التي سنسلطها على الأحداث التاريخية لنمزج بين الوقائع العسكرية والاختراقات الفكرية معا ونشرح كيف نجح الغرب في تحقيق النجاح فيها بصبر واستماتة.
والنقطة الثالثة:
وهي العدسة المقعرة التي سنضخم فيها الخطوات التي اتخذها الغرب لتأسيس منهج (الصهيونية المسيحية واليهودية)، وسبب لجوئهم لتلك النظرية في التعامل مع العرب وكيف نجحت خطوات المشروع الصهيوني في إفراز الوضع الحالي للدول العربية.
وهو الوضع المزرى الذي لم تشهده أمة العرب منذ قيامها قبل ألف وأربعمائة عام!
حيث رأينا في الأحداث الجسيمة المعاصرة ما لم نتخيله في أبشع كوابيسنا، حيث تعربد إسرائيل بجيشها وعنفوانها على أقصى اتساع دون أدنى رد فعل من الأنظمة والجيوش العربية للدرجة التي تُعجزهم -حتى عن المساعدات المدنية-بغير الموافقة الإسرائيلية!
ناهيك عن وجود الأنظمة الحليفة لإسرائيل والغرب والتي تعادي المقاومة الفلسطينية بأكثر مما يعاديها الغرب نفسه!
فهذه الظواهر كلها في حاجة إلى تفسير وقراءة تاريخية تزيل اللبس الواقع في نفوس وعقول الأجيال الجديدة التي لا تدري كيف وصلنا إلى هذه النقطة.




قديم 02-10-2024, 05:22 AM
المشاركة 3
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)
الفصل الأول
في البدء كانت فرنسا

القضية لم تكن أبدا قضية فلسطين.
بل كانت منذ البداية قضية تعامل الغرب مع الخلافة الإسلامية منذ نشأتها، ومنذ انهيار سلطان الروم على الشام ومصر وإفريقيا، ثم انهيار الرومان وتفتت أوربا المسيحية لعدة دول ورثت عن أسلافها عقيدة الحرب تجاه الخلافة الإسلامية عبر عصورها المختلفة.
فجاءت الحملات الصليبية تترى على الشام ومصر تحديدا طمعا في انتزاع موطن قدم يمكنهم من فرض وجودهم الاستعماري مجددا.
لكن تلك الحملات-رغم نجاح بعضها في تكوين إمارات صليبية-إلا أنها كانت تفشل دائما رغم التشتت والتمزق الذي عانته الإمارات العربية المتناحرة
وهكذا مر تاريخ الحملات الصليبية صعودا وهبوطا حتى انتهت آخر الحملات الصليبية إلى غير رجعة بعد أن قامت الخلافة العثمانية واتسعت رقعتها، وامتد سلطانها إلى تخوم أوربا ثم كانت الضربة القاصمة بإسقاط (القسطنطينية) عاصمة الروم التاريخية لتنتهي حقبة المعارك الصليبية على الشرق في صورتها القديمة بعد أن نجحت الخلافة في مد رقعة سلطانها على شرق أوربا، وفرض إرادتها على معظم الممالك الصليبية في أوربا

وبمرور الزمن وضعف الخلافة العثمانية عاد الغرب فجَرّب الحملات العسكرية مرارا في العصر الحديث، ولكن مع الحملات العسكرية انتبه إلى طبيعة المواجهة بينه وبين المسلمين.
حيث كان التساؤل الدائم منذ أول معركة جرت بين المسلمين والرومان، هو الدهشة والذهول الحقيقي من تلك القدرة الفائقة التي اكتسبها العرب والتي مَكّنتهم بدون إمكانيات من إسقاط القوتين العظميين في عصرهما (فارس) و(الروم)
وكانت الفوارق الرهيبة في التسليح والتنظيم والإمكانيات اللامحدودة كلها لصالح الفرس والروم في مواجهة أعداد من العرب لا تجد عددا كافيا من الخيول أو أدوات القتال.
حتى عندما تعملقت الخلافة الإسلامية في عهد الأمويين والعباسيين والعثمانيين، كانت الغلبة الساحقة للمسلمين في مواجهة جيوش نظامية أوربية عالية الإمكانيات ومن عدة تحالفات بين دول أوربا.
بل إنه في زمن التشرذم والانهيار وبداية تفتت الخلافة العباسية إلى إمارات صغيرة، ورغم نجاح الأوربيين في تكوين إمارات صليبية في الشرق واحتلال القدس لسبعين عاما، إلا أن الإمارات الإسلامية الصغيرة نجحت في قهر الصليبيين عبر عشرات المواجهات، بل ونجحت في صد المغول أيضا" ".
وتجارب الإمارات الإسلامية المستقلة ونجاحها كان أمرا لافتا للغاية، لأن التمزق كان يضرب وحدة المسلمين في مقتل، لهذا كانت الدهشة واجبة من نجاح تجربة (عماد الدين زنكي) وولده (نور الدين محمود) وهما التجربتان اللتان مهدتا لظهور إمارة (صلاح الدين) وتحرير القدس في معركة (حطين) ثم التصدي للتحالف الأوربي بقيادة ريتشارد قلب الأسد
كما أن الدهشة كانت موجودة على الجانب الآخر من أوربا حيث تأسست إمارة (المرابطين) في المغرب وإفريقيا ببضعة أشخاص يتزعمهم فقيه مقاتل هو (عبد الله بن ياسين) مع الزعيم المغربي (يحيي بن إبراهيم) حيث قاموا بغير إمكانيات بتأسيس بذرة المرابطين لتصبح الإمارة بعد ذلك دولة عظيمة وسامقة نبغ فيها الأمير (يوسف بن تاشفين) والذي نجح في تأخير سقوط الأندلس بيد الصليبيين لعدة قرون، بعد أن خاض أول معاركه ضد القشتاليين بالتحالف مع أمراء الطوائف في معركة (الزلاقة)
ثم مد ابن تاشفين سلطانه إلى الأندلس لتحكمها دولة (المرابطين) ثم دولة (الموحدين) التي وقعت فيها موقعة (الأرك) المماثلة لموقعة حطين في القوة والتأثير لتمتد الإمارة الإسلامية في الأندلس من الفتح حتى السقوط قرابة ستة قرون كاملة بعد أن كادت تسقط بأكملها في يد القشتاليين في عهد ملوك الطوائف
وبطبيعة الحال كان الجواب دائما هو طبيعة العقيدة الإسلامية التي تُوَحد المسلمين تحت راية واحدة بغض النظر عن العرق والجنس واللغة.
وهي نفس العقيدة التي جعلت من القبائل العربية المتناحرة في عهد الجاهلية، قوة عظمى موحدة بالوحي الإلهي مصداقا لقوله تعالى:
(وَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِهِمۡۚ لَوۡ أَنفَقۡتَ مَا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا مَّآ أَلَّفۡتَ بَيۡنَ قُلُوبِهِمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيۡنَهُمۡۚ إِنَّهُۥ عَزِيزٌ حَكِيمٞ)

لذلك بدأ الغرب مبكرا في دراسة الإسلام وعقيدته وتاريخه من الداخل بحركة بحثية عملاقة المعروفة باسم حركة (الاستشراق).
وكانت الحرب الفكرية قد استوت على سوقها وتأسست في العصر الحديث بداية من عصر النهضة الأوربية وبعد أن نجح الأوربيون في إلحاق الضعف والتآكل بالخلافة العثمانية وَدَفْعِها بالتدريج لكي تتخلى عن ثوابت الشريعة الإسلامية والغرق في محاولات التحديث الأوربية التي كانت الخطوة الأولى للسيطرة الفكرية والسياسية والاقتصادية على البلاط العثماني.

واللافت للنظر أن أوربا في عصر النهضة ومنذ الثورة الفرنسية خاضت حروبا داخلية عنيفة، ورغم ذلك لم تكن تلك الحروب عائقا عن إدراكهم وعقيدتهم الثابتة في عدوهم المشترك المتمثل في الخلافة العثمانية والإسلام بعموم.
وكان رأس الحربة الأوربي الحقيقي يتمثل في بريطانيا وفرنسا، حيث خرجت منهم أكبر الجيوش وأعتى الأقلام البحثية لمحاولة تطويع العثمانيين، وتطويع الشرق والتطلع لإعادة الحملات الصليبية بشكل جديد في العصر الحديث.
لكن البداية الحقيقية بالفعل كانت لدى فرنسا...
وبالتحديد عند إمبراطور فرنسا الشهير (نابليون بونابرت) والذي يُعْتبر القائد الأوربي الوحيد الذي نجح في وضع الاستراتيجية الفكرية والعسكرية الناجحة للسيطرة على الشرق وهدم الإسلام من داخله فكريا، وهزيمة قوته العسكرية خارجيا.
ودور نابليون وحملته الشهيرة على الشرق التي بدأت بمصر وانتهت بالشام، هذا الدور المركزي هو السبب الرئيسي والأساسي الذي استفادت منه بريطانيا بعد ذلك لتفعيل خطة نابليون وفكرته بتأسيس وطن قومي لليهود في الشرق في بؤرة أرض فلسطين بالتحديد.
ليس محبة في اليهود أو محاولة لمساعدتهم.
بل كانت فكرته العبقرية في إنجاح الغزو الصليبي للشرق بأكمله دون أن تتكلف أوربا إرسال الحملات العسكرية والنفقات الباهظة والحروب المتوالية.
وهذه النقطة الخطيرة كانت غائبة عن صفحات تاريخنا ودفينة في وثائق الحملة الفرنسية حتى حقبة التسعينيات من القرن العشرين.
لذلك كان من المهم أن نلخص طبيعة دور نابليون وفرنسا في تأسيس المشروع الصهيوني الذي كان له أكبر التأثير على تاريخ المنطقة والعالم.

*الثورة الفرنسية وأثرها على الشرق الإسلامي.
ربما كان من حق القارئ أن يندهش إذا عرف أن قيام الثورة الفرنسية كان له تأثير عارم وجارف على الشرق الإسلامي.
رغم أن المعلوم بالضرورة من كتب التاريخ أن الثورة الفرنسية كان لها التأثير الأعظم على أوربا باعتبارها الحدث المفصلي الذي أصبحت أوربا قبله مختلفة جذريا عن أوربا بعده.
وتأثير الثورة الفرنسية في الغرب لا علاقة له بموضوعنا، لكن تأثيرها على الشرق يكفي أن نقول بأنه لولا قيام الثورة الفرنسية وظهور شخصية (نابليون بونابرت) في موقع الأحداث، لما بزغت فكرة الوطن القومي لليهود، ولا تكونت دولة الكيان الصهيوني من الأصل!
وبالطبع تخالف هذه الحقائق كل ما درسناه سابقا عن نابليون والحملة الفرنسية والرعاية البريطانية لفكرة الدولة اليهودية.
وسبب ذلك أن الوثائق الكاشفة لهذه الحقائق ظلت مستترة ومهملة عنا حتى تسعينيات القرن العشرين تقريبا!
أي أن وثائق الحملة الفرنسية التي قلبت طاولة البحث العلمي حول الحملة الفرنسية ظلت بعيدة عنا حتى تسعينيات القرن العشرين.
ولكي يدرك القارئ تسلسل الأحداث بترتيبها التاريخي سنبدأ القصة من بدايتها.

حيث ظهر في التسعينيات مرجع بالغ الأهمية للقضية الفلسطينية كتبه أستاذ الأجيال (محمد حسنين هيكل) وأصدره بعنوان (المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل) يؤرخ فيه للتاريخ السياسي الخاص بالقضية الفلسطينية واحتوى الجزء الأول من الكتاب على مفاجأة مذهلة وهي أن وثائق الحملة الفرنسية على مصر تم العثور عليها رغم أن هذه الوثائق كان متعارفا بين الباحثين أنها مفقودة وضاعت بعد خروج الحملة الفرنسية وأنها في الغالب غرقت مع الأسطول الفرنسي الغارق بعد معركة أبي قير البحرية الشهيرة.
واقتنع الباحثون أن كنز وثائق نابليون ضاع وتم فقده لأن الوقائع التاريخية تشير إلى أن الأسطول الإنجليزي الذي هزم الفرنسيين في معركة أبي قير قد ترصد للسفن الناجية من الأسطول الفرنسية وأغرقها
وقد بحث علماء التاريخ الحديث في خزائن وزارة الخارجية الفرنسية ووزارة المستعمرات ووزارة الحربية الفرنسية عن تلك الوثائق وبالفعل لم يجدوا منها شيئا
لكن أحد أهم علماء التاريخ الحديث وهو الدكتور (أحمد حسين الصاوي)، خطر بباله أن تلك الوثائق ربما نجت بالفعل وتم تخزينها في محفوظات وزارة البحرية الفرنسية والتي لم يخطر ببال الباحثين أن يطالعوا وثائقها.
وفوجئ الدكتور الصاوي بأن كنز وثائق الحملة الفرنسية يتركز معظمه في تلك المحفوظات، حيث عثر الصاوي على عشرين ألف وثيقة منها تقبع في انتظار التحقيق والبحث.
وهرع الدكتور الصاوي لوزارة الثقافة المصرية ووزيرها (فاروق حسني) ليطلب تمويل الجهود العلمية لتحقيق تلك الوثائق لكنه لم يجد حماسا أو تشجيعا!
وهذا أمر طبيعي لأن شلة وزارة الثقافة ومثقفيها ومن شايعهم كانت الحملة الفرنسية بالنسبة لهم كالكعبة المقدسة، لأنهم ينظرون لها كحملة تنوير!
أضف إلى ذلك أن الحديث عن مشروع نابليون الاستيطاني الذي مهد وخطط لتكوين الدولة اليهودية كانت موضوعا محظورا بالنسبة لفاروق حسني وبقية مثقفي التطبيع الذين ظهروا بمصر على فتر ات متفاوتة ويعطل طموحاتهم المختلفة، فمنهم من كان يسعى لمنصب دولي مثل (فاروق حسني) الذي تقدم لمنصب مدير اليونسكو، ومنهم من كان يسعى لجائزة نوبل ومنهم من كان يسعى للشهرة في عالم الغرب .... الخ تلك الطموحات" "!
وفي النهاية قاد الدكتور الصاوي حملة تبرعات لتحقيق الوثائق ونجح بالفعل في ذلك ليقدم للباحثين مصدرا هائلا أعاد النظر به إلى تاريخ تلك المرحلة من جديد
وكان الاكتشاف المذهل الذي أعلنت عنه وثائق نابليون وأوراقه الخاصة أن فكرة تجميع اليهود في موطن واحد في أرض فلسطين بالتحديد، لم تكن فكرة بريطانية بدأت مع نداءات المؤتمر الصهيوني الأول.
بل كانت الفكرة في الأساس فكرة (نابليون بونابرت).
بل المفاجأة الأعظم أن حملة نابليون على مصر لم تكن بهدف تأسيس إمبراطورية فرنسية في الشرق وفقط كما قالت كتب التاريخ، بل كانت حملة نابليون تهدف في الأصل إلى تخصيب وتجهيز الأرض لتوطين اليهود تحديدا على أرض فلسطين في خطة بعيدة المدى تمنح الاستقرار والديمومة للإمبراطورية الفرنسية في الشرق بحيث لا تتمكن حركات التحرر القومي من إعادة طرد الصليبيين الجدد مرة أخرى
وقد تمكن الإنجليز بعد ذلك من مطالعة خطة نابليون وأعادوا إحيائها وتخطيطها ليتم تنفيذها بخطوات استمرت أكثر من مائة عام قبل التنفيذ الفعلي!

لكن السؤال هنا؟
ما الذي كان يهدف إليه نابليون من فكرة توطين اليهود في فلسطين، وما الفائدة التي كانت ستعود على الإمبراطورية الفرنسية من ذلك؟
وكيف وقعت أوراق خطة نابليون في يد مليونيرات اليهود في إنجلترا وتحمست لها السلطة الإنجليزية باعتبارها خطة عبقرية تحقق لهم احتلال الشرق الأوسط والسيطرة عليه دون التورط في الاحتلال المباشر لكافة الدول العربية؟
ولماذا تحالف الغرب بأكمله حتى اليوم لدعم وجود إسرائيل في المنطقة باعتبارها صمام أمان المصالح الغربية في الشرق الأوسط؟!
هذا ما سنعرفه من تفاصيل فكرة نابليون وشخصيته.

*نابليون وحلم الإمبراطورية الفرنسية في الشرق

المصالح وثروات الشرق دائما كانت المحرك الرئيسي من الغرب في التعامل مع كافة دول الشرق الأقصى والأدنى والأوسط
وعندما احتل الرومان المشرق العربي في الشام ومصر لم يكن الهدف الرئيسي والمحرك الأساسي إلا المصالح الاقتصادية، رغم أنهم دوما يحملون الصليب ويجعلون الشعارات الدينية هي المحرك الظاهر أمام الجماهير.
وذلك لطبيعة التحالف الحاكم بين الكنيسة الغربية والأسر الحاكمة، حيث تقوم الكنيسة بمنح الشرعية الإلهية بالدين لسلطة الحكم، وفي المقابل يعطيها أهل الحكم الشراكة والدعم في مواجهة الجماهير المطحونة.
وليس معنى هذا أن التطرف الديني الصليبي كان زائفا، أو غير موجود بل كان موجودا – ولا زال-وبقوة لدى الكنيسة الغربية، لكن قصور الحكم الأوربي وقادته السياسيين دعموا هذا التطرف ووضعوا قواتهم تحت تصرفه لأنه يتوافق تماما مع مصالحهم السياسية والاقتصادية، ولولا هذا لظلت أحلام الكنيسة باستعادة الشام ومصر مجرد أحلام على الورق.
بمعنى أن حرب الغرب على الشرق كان دافعها لدى الملوك هو الهدف الإمبراطوري والسياسي الاقتصادي، ودافعها عند الكنيسة هو الهدف الديني

وعندما فتح المسلمون الشام وإفريقيا وحاربهم الرومان، ومن بعدهم الإمارات الصليبية كانت الحرب أيضا قائمة للنفوذ السياسي والمصالح الاقتصادية المتزاوجة مع الشعارات الدينية المتطرفة التي كانت سببا في الحملات الصليبية على الشرق.
وبطبيعة العصر في زمن أوربا الوسيط كانت المواجهة مع الشرق تتمثل في الحملات العسكرية وتأسيس الإمارات الصليبية في منطقتين تحديدا هما مصر والشام.
لكن القوة العسكرية الأوربية كانت تفشل دائما في تلك المواجهات بسبب التحالف الوثيق بين إمارات مصر والشام باستمرار.
حيث أصبح تواصل مصر والشام ضد الاحتلال الصليبي أمرا متكررا ومنهجا محسوما للدفاع عن الشرق والمنطقة بأكملها
وبفشل آخر الحملات الصليبية على مصر وهي الحملة الصليبية السابعة التي وقع فيها (لويس التاسع) أسيرا في المنصورة.
توقف النشاط الأوربي العسكري في فرنسا نتيجة للصراعات الداخلية والخلافات الخارجية حتى بدأت إرهاصات الثورة الفرنسية بعد فترة طويلة مع حكم لويس الرابع عشر حتى نجاحها في عهد لويس السابع عشر، نتيجة لجهود وكتابات فلاسفة (نظرية العقد الاجتماعي)، مثل (جان جاك روسو -لوك – هوبز)
وهم المفكرون الفرنسيون الذين خرجوا بأفكار جديدة مخالفة لأفكار الفلسفة الأوربية العتيقة لأفلاطون وأرسطو وسقراط وهي الفلسفة التي استمرت الكنيسة الغربية في تبني بعض أفكارها لتظل أوربا محكومة بالظلام الحضاري تحت سيطرة الكنيسة وقصور الحكم" ".
فجاءت فلسفة العقد الاجتماعي لتطرح قضية مشاركة الشعب في الحكم ومحاربة استئثار القلة الحاكمة بثروات البلاد
وقد تمت مواجهة هذه الأفكار بعنف السلطة لكنها لاقت رواجا كبيرا بين العوام، خاصة مع العنصرية العنيفة التي كانت تحكم الطبقات في المجتمع الأوربي.

في تلك الأثناء وُلد نابليون في جزيرة (كورسيكا) الإيطالية التي كانت ترضخ لظلم حكام (جنوة) الإيطاليون ولكن هذا الظلم تزايد بمصادفة قدرية جعلت هناك علاقة بين فرنسا وكورسيكا، حيث قامت فرنسا باستئجار كورسيكا لمدة 99 عاما من حكام جنوة فتوجه الغضب الشعبي الساحق في كورسيكا تجاه فرنسا التي كانت تعيش آخر فترات جبروت الأسرة الملكية الحاكمة
وولد نابليون عام 1769 تحت الاحتلال الفرنسي الغاشم، ورغم كون عائلته من العائلات الثرية العريقة إلا أن الاحتلال قام بتضييق سُبل الرزق والعيش لأقصي حد واضطرت أمه لاحتراف الأعمال اليدوية كي تنفق عليه فانحدرت أحوال الأسرة للفقر المدقع
وكعادة الظلم الغاشم ظهر من بين الشعب في كورسيكا زعيم شاب مناضل حاز شهرة واسعة بين العوام وهو (باسكال ياؤولى) قام بتشكيل ميلشيات مسلحة لمقاومة الاحتلال الفرنسي كان منهم والد نابليون وتم قمع حركة ياؤولى بالقوة المسلحة مما حداه للهروب إلى إنجلترا، وعلى إثر ذلك قام والد نابليون بالانسحاب من قوات المقاومة وحاول مد جسور الصداقة مع الحكام الفرنسيين المحتلين خوفا على عائلته
وكان والد نابليون من الآباء العباقرة الذين يجيدون قراءة مواهب أبنائهم فأدرك موهبة ابنه نابليون في هوايته للتاريخ والخطط الحربية، فعمل على إلحاقه بإحدى المدارس العسكرية التابعة للإمبراطورية الفرنسية التي تحتل بلاده عن طريق استغلال علاقته الجديدة مع الحكام الفرنسيين لبلاده، ونجح بالفعل في إلحاقه بمدرسة (برين) الحربية العريقة التي كانت تضم أبناء الصفوة والمتفوقين دراسيا فقط، وعانى نابليون من شظف العيش بين أبناء الأثرياء لذلك عمل على تقوية مركزه الدراسي والتفوق فيه كي يتفادى شعوره بالاحتقار بين زملائه أصحاب النفوذ والثراء الفاحش" "

والواقع أن عقدة نابليون من زملائه كان لها أكبر الأثر في تشكيل عبقريته العسكرية والاستراتيجية لأنه وجد الحل الوحيد لمقاومة تكبر زملائه هو الانفراد بنفسه في المكتبة حيث عكف على قراءة المراجع الكبرى في التاريخ والعسكرية والتخطيط وخاصة مؤلفات المؤرخ الفرنسي (بلو تارك)
ظهر أثر ذلك سريعا عندما أحاطت الثلوج بمدرسته وَعَطّلت فنائها، فتقدم بفكرة عبقرية لقادته وهي استغلال الثلوج في تدريب الطلبة على مقاومة عوامل الجو والحرب في ظل ظروف جوية صعبة. وقد كانت هذه أول تكتيكات حروب الصاعقة الحديثة في أوربا والتي عرفها المسلمون الأوائل قبلهم بقرون.
لكن تطبيقها الأول في أوربا كان على يد نابليون.
وعلى إثر ذلك حاز نابليون على المركز الأول بلا منازع، ومن ثم انتقل للمدرسة الحربية الرئيسية للجيش الفرنسي في باريس وهناك صَدَمَته مظاهر الترف المذهلة للطلاب فتقدم بمذكرة لمدير المدرسة ينتقد فيها تلك المظاهر التي لا تناسب الحياة العسكرية مما لفت إليه الأنظار كضابط موهوب.
وظل نابليون بعيدا عن أسرته في باريس مشغولا في دراسته، حتى وفاة أبيه لكنه قاوم أحزانه واستمر بمدرسته حتى التخرج وخدم في فرقة الجنرال (لافيير) كملازم ثان ولم يتجاوز عمره 16 عاما

وكانت العنصرية في إمبراطورية فرنسا كعادة أوربا موجودة حتى في المجال العسكري, فكانت الترقيات العليا يتم توزيعها بناء على الانتماء للطبقات العليا في المجتمع لا الكفاءة العسكرية وكان نابليون يعلم ذلك بالطبع, لكنه وبقية عوام الشعب الفرنسي كانوا يقرءون ويطالعون أفكار فلاسفة الانقلاب الحضاري في فرنسا الذين تحدثنا عن أفكارهم إلى جوار بروز كتابات المفكر الفرنسي (فولتير ) الذى ركز الدعوة للتمرد والعصيان وهدم نظام الحكم وأفكار (جان جاك روسو ) الداعية لعقد اجتماعي جديد وإعلان حرب مستعرة ضد الحكم الإمبراطوري الإستعبادي
وتزايد التفاعل الجماهيري مع استمرار زيادة الضرائب وتنويعها لصالح الطبقة الحاكمة ورجال الكنيسة فضلا على القمع الشرس للشعب وشحن كافة المعارضين في معتقل (الباستيل) الرهيب الذي كان معتقلا تاريخيا في استخدامه لشتى أنواع التعذيب
وقد زاد من قوة الشحن أن الملك (لويس الرابع عشر) جد الحاكم المعاصر للثورة (لويس السابع عشر) كان قد بنى مجمعا سكنيا رهيبا بالغ الفخامة والاتساع بعيدا عن العاصمة وملأه بالقصور والمنتجعات وأطلق عليه اسم (قصر فرساي) وأصبح مقر الحكم الإمبراطوري ونقل إليه جميع الوزراء والنبلاء والأمراء وكبار رجال الحكم والإقطاعيين ليسكنوا فيه جميعا وتحيط بهم الأسوار الشاهقة، بعيدا عن العاصمة القديمة (باريس)

ورغم أن الهدف الرئيسي من هذا التجمع هو أن لويس الرابع عشر كان يخشى من انقلاب الأمراء عليه فعمل على جمعهم معه في مكان واحد، إلا أن هذا لم يكن الهدف الوحيد بل كان أحد أهم الأسباب هو جمع رجال الدولة في حصن فخم بعيدا عن الفقر المدقع وعشوائية العوام وتمردهم
وقد ورث (لويس السابع عشر) كل حقد الشعب الفرنسي على قصر فرساي ورغم أنه لم يكن حاكما غشوما كسابقيه إلا أن ضِيْق عقله وسيطرة رجال دولته عليه زادت من القمع بعد سيطرة (ماري أنطوانيت) زوجته على مقدرات الأمور واستغلت الملكة حصن قصر فرساي في حجب آهات الشعب عن مَلِكِه وأقنعه وزراؤه أن التمرد يأتي من قلة قليلة كالعادة
ولأن الثورة كانت تحتشد في النفوس بشكل طاغ يذكيها فلاسفة الثورة فقد تعددت التجمعات والإضرابات الشعبية وزادت ضراوتها حتى تجمع في العاصمة عدد هائل من جموع الشعب الفرنسي بغير قائد معروف أو رموز ثورية تقود الجماهير
ولعل هذا هو ما منح الثورة الفرنسية طابعا شعبيا كبيرا.
وفى غياب القادة وقفت الجماهير حائرة إلى أين تذهب؟!
فمقر حكم الإمبراطورية في قصر فرساي، ومقر القمع والقتل في معتقل الباستيل، ووسط هذه الحيرة دوت صرخة أنثوية من عجوز فرنسية بلا مأوى وتعيش على التسول قائلة:
(إلى الباستيل)
وبغير ترتيب مسبق استمعت الجماهير لها وتوجهت إلى معتقل الباستيل الرهيب لتكسر أسواره وتفتك بحراسه وتحرر آلاف المعتقلين في خطوة قذفت الرعب الحقيقي في قلوب الحكومة ورجال القصر، واستمر فوران الثورة رغم استفزازات النبلاء لهم ووصفهم بالرعاع والغوغاء فردت الجماهير بتتبع كل المنافقين ورجال الحكم الموجودون بالعاصمة باريس ووجهوا خطابا مفتوحا للملك لويس السابع عشر بترك قصر فرساي والانتقال لباريس العاصمة حتى يعاين أحوال رعيته" "
كانت الملكة (ماري أنطوانيت) سياسية محنكة وأدركت من انتشار جموع الغضب أن مطلب الشعب للملك بالانتقال لباريس لن يكون المطلب الوحيد وأن الاستجابة له معناها نهايتها ونهاية أسرتها
ولذلك قررت الفرار إلى شقيقها ملك النمسا، وبالفعل أقنعت زوجها بالفرار فحزموا حقائبهم للفرار إلى النمسا غير أن الخبر تسرب إلى جموع الثوار فتمكنوا من إلقاء القبض عليهم جميعا وحملوهم لباريس وهناك كان الشعب قد انتخب عددا من الثوار ليكونوا متحدثين باسمه فقدموا عريضة مطالب إلى الملك عام 1791 تتضمن دستورا وعقدا اجتماعيا جديدا للبلاد
واضطر الملك للقبول بلا قيد أو شرط وأصبحت الأمة هي مصدر السلطات وفق الدستور الجديد المبنى على نظرية العقد الاجتماعي
وهرب أغلب النبلاء والمتحالفين مع النظام الملكي إلى النمسا بطبيعة الحال باعتبار أن الحاكم فيها هو شقيق الملكة ماري أنطوانيت ووقف ملك النمسا في وجه الحكومة الفرنسية الجديدة وانتوى العمل على إعادة الحكم الإمبراطوري بالقوة
وأعلن أن الحكم الملكي الفرنسي هو الأصل وقام بسب الثوار، وتحت تأثير تصرفات ملك النمسا كان الملك الفرنسي المحاصر بالثوار لا يجرؤ على إبداء تأييده لتصرفات صهره ملك النمسا، وخضع للفرمانات التي طالبه بها الثوار من اعتبار كل من فر إلى النمسا خائن، وأعلن الحرب على النمسا وهو مجبر وعندما حاول إبداء اعتراضه على قرار إعلان الحرب على النمسا حاصر القصر أكثر من أربعين ألفا من الثوار
وتطورت الأحداث سريعا في أغسطس عام 1792 واندلعت مظاهرة أخرى أشد عنفا من الشعب وقاموا بمهاجمة القصر الملكي وقتل كافة أفراد الحراسة الملكية وألقوا القبض على الملك وزوجته وزجوا بهم في السجن عقابا لهم على ما فعلوه بالشعب الفرنسي
وفى تلك الآونة اهتزت عروش أوربا كلها في إنجلترا وإيطاليا وألمانيا والنمسا من قبلهم لما قد تفعله الثورة الفرنسية من تأثير ساحق على شعوبهم المقهورة فكان من الطبيعي أن يحاولوا الوقوف في وجهها بالتآمر ما دام التدخل العسكري لن يجدي، غير أن الشعب الفرنسي قام بمحاكمة سريعة للملك وزوجته وحاشيته وقاموا بإعدامهم تحت المقصلة بعد أن رأى الثوار تواطؤ ملوك أوربا لحماية الملكية الفرنسية وقامت الحروب بينهم وبين وأوربا التي قررت التدخل عسكريا لقمع الثورة الفرنسية بالقوة.

وهنا برز نجم نابليون.
ففي وسط غمار الأحداث وعندما واجهت الثورة الفرنسية منعطفا تاريخيا بعد أن انتوت الدول الأوربية التدخل العسكري لقمع الثورة.
هنا قرر الجيش الفرنسي وقياداته خوض غمار الحرب مدفوعا بقوة الثورة الشعبية.
وشاء القدر أن تكون المواجهة الأولى مع تحالف الجيش الإنجليزي شديد الاحتراف مع الجيش الإسباني، لكن نابليون –الذي قد أصبح ضابطا فذا في الجيش الفرنسي – قَدّم أول إبداعاته عندما نجح في كسر الجيش الإنجليزي في موقعة (تولون)
ورغم أن نابليون كان في عمر الرابعة والعشرين، ولم يكن قائد المعركة الأعلى، إلا أن حنكته وذكاءه في محاصرة الجيش الإنجليزي وبراعته الشديدة في استخدام المدفعية جعلت الجيش المهاجم يبادر للانسحاب تحت تأثير قوة النيران الفرنسية والاستبسال الذي خاض به نابليون المعركة مع فرقته.
ولمع اسم نابليون بشدة بعد هذه المعركة ليصدر القرار بترقيته لرتبة الجنرال، وتنفجر شعبيته وسط العوام كأسطورة حية.
وأدرك الإنجليز أنهم تسببوا في خلق أسطورة فدائية للثورة الفرنسية قد تسبب لهم القلق فيما بعد إذا التف حوله الشعب والجيش
فحاولوا اغتياله مرتين لكنهم فشلوا.
وبعد فشل محاولات الاغتيال بدأ نابليون يظهر كمفكر استراتيجي وسياسي محنك جنبا إلى جنب مع براعته العسكرية
وانتشرت كلماته الشهيرة التي قال فيها (المستحيل كلمة غير فرنسية) وأيضا مقولته العسكرية الشهيرة (الهجوم خير وسيلة للدفاع)
ومن أهم الملاحظات التي ينبغي التوقف عندها في آثار معركة (تولون) أن نابليون كان قائدا عسكريا بارعا لكنه من زمرة القواد أصحاب العنف الوحشي في القتال
فقد كانت الأشلاء المحترقة والضرب بالمدافع بلا تمييز هي سمة معركة تولون مما جعل جنود نابليون أنفسهم يشعرون بالاشمئزاز بعد دخولهم المدينة، وفى هذا كتب الأديب الأمريكي (آلان شوم) عن طبيعة نابليون في المعارك قائلا:
(إن مقارنة أفعال نابليون بجنكيز خان تبيض صفحة هذا الأخير ومجازره وأهواله التي سطرها التاريخ)

وهذه الوحشية في سلوك نابليون الإجرامي الذي لا يمت لتقاليد الشرف العسكري بصلة، هي مجرد تكرار واستنساخ للعقيدة العسكرية الأوربية كلها، بمعنى أن ما كتبه المفكرون والأدباء عن وحشية نابليون وهتلر وموسولينى بالذات، ورغم أنه حقيقي تماما إلا أن هناك ملحوظة بالغة الأهمية وهي أن وحشية هؤلاء كتب عنها المؤرخون الأوربيون والأمريكيون تحديدا للخصومة التاريخية بينهم وبين هؤلاء القادة بفعل معارك نابليون ضد الإنجليز ومعارك هتلر وموسولينى ضد الإنجليز والأمريكيين
وهذه الكتابات انتشرت فقط لمجرد تبييض صفحة قادة يتفوقون في الوحشية بمراحل على تلك الشخصيات وهم قادة الإنجليز والأمريكان الذين قادوا الحربين العالميتين وارتكبوا من المجازر ما تزيد أهواله بكثير أفعال نابليون وهتلر وموسولينى
فالفرنسيون قتلوا عشرات الملايين في مستعمراتهم أثناء احتلالها بعد العصر النابليوني، ومجازرهم في الجزائر وحدها خَلّفت مليون ونصف المليون قتيل تقريبا منهم مئات الآلاف في مظاهرة حاشدة تم ضربها بالطيران
والإنجليز ارتكبوا نفس المجازر في الشرق الأوسط والأقصى رغم سياستهم المنتشرة عنهم أنهم لا يلجئون للعنف المباشر ويفضلون سياسة (فرق تسد)
والأمريكيون في مجموع أعمالهم منذ الحرب العالمية الثانية فقط وحتى اليوم يتفوقون في عدد الضحايا على ضعف عدد ضحايا مجازر الدول الأوربية مجتمعة بدون أدنى مبالغة ويكفي أن بداية مجازرهم المعاصرة كانت بإلقاء القنابل الذرية والنووية على هيروشيما ونجازاكي دون أدنى مبرر عسكري فعلى لهذا الإجراء بعد أن انهزمت اليابان وألمانيا وإيطاليا وأصبح استسلامهم مسألة وقت لا أكثر
إلا أن الوحشية الأمريكية استخدمت القنبلة الذرية الأولى فقط لتعلن للعالم عن وجود سلاح هائل في حوزتها لم يعرف التاريخ الحديث مثله، فجربوه على اليابان في قنبلتهم الأولى، وبعد أن تبخر مائة ألف بشري في لحظة واحدة وأصيب نصف مليون من جراء هذه القنبلة لم يكتف الأمريكيون بذلك وقاموا بإلقاء القنبلة النووية الثانية لمجرد وكان مبررهم يبين مدى الاستهتار المخيف بالحياة البشرية
حيث قالوا لترومان -الرئيس الأمريكي وقتها -أنهم اخترعوا قنبلتان إحداهما انشطارية والثانية اندماجية ويحتاجون لتجربة القنبلتين معا في ميدان القتال، وبالفعل تم إلقاء القنبلة الثانية لتترك نفس الأثر الذي تركته القنبلة الأولى" "
وعبر تاريخ طويل من الوحشية في فيتنام والأميركتين والشرق الأوسط ختموا أعمالهم بما فعلوه في العراق عندما استخدموا الأسلحة الذرية المحدودة وقنابل اليورانيوم الـمُنَضّب لإخضاع المقاومة العراقية في (الفالوجا) تحديدا لتصبح هذه المدينة صاحبة أعلى رقم في معدلات التشوه الجنيني والأمراض السرطانية, فضلا على ما فعلوه قبل غزو العراق من الحصار الذى تسبب في موت مليوني طفل عراقي بدم بارد, حيث تم حظر تصدير الألبان والأدوية إليهم فقط لإخضاع نظام صدام , وعندما سُئلت مادلين أولبرايت عن هذه الفاجعة الإنسانية وكيف يسمح بها الضمير الأمريكي قالت أولبرايت بمنتهى البرود:
(نعم إنها تضحية كبيرة ... لكن الثمن يستحق!)
فالخلاصة من هذه الوقائع هو ضرورة الانتباه لأمرين:
الأول:
أن كثرة المصادر التي تتحدث عن فظائع نابليون وهتلر وموسولينى راجعة بالأساس أنه انتقام تاريخي نفذته الحضارة الغربية التي تتجاهل وحشيتها المماثلة لوحشية هؤلاء القادة
الأمر الثاني:
أن الإرهاب بأعتى صوره ومفاهيمه هو دين أوربي مستمر منذ عهد الإمبراطورية الرومانية وحتى العهد الأمريكي الحالي، بل إن عدد ضحايا النظام الغربي الحالي أضعاف التاريخ الوحشي القديم بسبب اختلاف نوع السلاح، وأن هذه الصورة الوردية التي يصدرونها لنا باعتبارهم دعاة إنسانية إنما راجعة بالأصل لسحر الإعلام الذي يمتلكون مفاصله حتى تمكنوا به من أن يقنعوا بعض المسلمين أن تاريخنا نحن هو تاريخ الإرهاب وأن الغرب دعاة لحقوق الإنسان!
وقصة الديمقراطية الغربية وحقوق الإنسان كشفتها عشرات بل مئات الجرائم التي توضح الانتهازية الغربية في السياسة الدولية وحتى السياسة الداخلية.
وقد لخص المفكر الكبير (نعوم تشومسكي) هذه الازدواجية الغربية في التعامل مع حقوق الإنسان بقوله في إحدى اللقاءات العامة:
(أن جزء كبيرا من مأساة الفلسطينيين يعود إلى أنهم لا يحظون بدعم دولي من الدول الغربية الكبرى، وسبب ذلك يعود في الأصل أنهم لا يملكون الثروات أو القوة التي تعود بالفائدة على الغرب وهذا هو مفهوم الغرب للحقوق.
فلو كنت بلا قوة أو ثروة فأنت لا تملك حقوقا، فلو كنت طفلا زنجيا فقيرا فلن تحظى بأي دعم أو حقوق)
وهو نفس الأمر الذي كشفه المفكر الفرنسي المسلم (روجيه جارودي) الذي فضح السياسة الغربية من الداخل في معظم مؤلفاته" "
فالبرجماتية والنفعية المحضة هي التي تحرك السياسة الغربية بالكامل, حتى ضد مواطنيهم أنفسهم, وقد رأينا في القديم والحديث أدلة ذلك بشكل علني لعل آخرها الحملات الدعائية المضادة لحرب روسيا مع أوكرانيا والتي اتهم فيها الغرب روسيا بارتكاب جرائم حرب بينما جرائم إسرائيل منذ الثلاثينيات ومذابحها الدورية لا تلقى أدنى إدانة أو اهتمام, بل بلغ بهم التبجح أنهم اتهموا المقاومة الفلسطينية في عملية (طوفان الأقصى) بارتكاب جرائم حرب بينما إسرائيل أغرقت غزة بأطنان المتفجرات التي قتلت 6000 طفل و5000 امرأة بخلاف الرجال والشباب حتى أوائل ديسمبر 2023 فقط.
وليس هذا فقط.
بل تم استنفار الآلة الإعلامية في الغرب كله للوقوف ضد المظاهرات الشعبية الغربية الداعمة لفلسطين في فرنسا وإنجلترا والولايات المتحدة وتم اضطهاد ومحاكمة معظم من شاركوا فيها أو دعوا لها رغم أنها كانت مظاهرات شعبية مليونيه.
فأين حرية الرأي والتعبير وأين الديمقراطية؟!

وعودة لتاريخ نابليون ...
ونابليون كما قلنا كان عبقريا حساسا، لذلك جاءت الوحشية رد فعل على صدمات نفسية تعرض لها كانت أولها صدمة العنصرية والفقر، وثانيهما صدمة عنيفة تكمن في أنه فشل في قصص حبه حيث فشلت قصته الأولى لرفض حبيبته الزوج منه احتقارا لشأنه
أما قصته الثانية والأشهر وهي قصته مع (جوزفين) التي تزوجها وهام بها فكانت أسوأ أثرا عليه من قصته العاطفية السابقة، حيث كانت جوزفين حديث المجتمع الفرنسي في انحلالها الأخلاقي الذي لم تكن تكتمه، وعندما تزوجت نابليون وأدركت عشقه لها استخدمت عواطفه للسيطرة عليه وجعلته يرفض نصائح واعتراضات عائلته ومستشاريه على العار الذي تسببت فيه جوزفين لسمعته بعد استمرارها في مواعدة عشاقها في فترات غياب نابليون في الحروب
وهذه الصدمات تحديدا غَيّرت في طبيعة نابليون لتكرس الوحشية في شخصيته العسكرية ثم كانت صدمة جوزفين سببا رئيسيا من أسباب لجوء نابليون للفلسفة العلمانية في الحكم وذلك بعد أن ضرب عرض الحائط بالقواعد الكنسية وطلق جوزفين فيما بعد، رغم أن الشريعة الكنسية تحرم الطلاق بقيود كثيرة

قديم 02-11-2024, 06:45 AM
المشاركة 4
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)

* رحلة الصعود وبداية ظهور أفكاره.
رحلة صعود نابليون لمقعد الإمبراطورية لم تكن سهلة لكنها بدأت فعليا بعد انتصار تولون وترقيته إلى رتبة الجنرال وهو بعد في سن الخامسة والعشرين، مما أثار عاصفة من السخط والغضب في أعماق قادة الجيش الفرنسي الجديد الذي تحكمه الثورة، فحاول خصومه استغلال بطش نظام الحكم الثوري الذي يحكم بالحديد والنار ففي تلك الفترة العصيبة التي تكون في أعقاب الثورات غالبا
ونجحوا وقتيا في الزج بنابليون في زمرة المغضوب عليهم لكن شعبية نابليون وعبقريته كان لها أنصارها أيضا وهم من تمكنوا من كشف المؤامرة عليه وإخراجه من سجنه
حيث ظهرت الحاجة الملحة لنابليون بعد أن ضاق النظام الثوري الفرنسي ذرعا من ممارسات النمسا عدوته اللدود، فتم إعلان الحرب على النمسا وحلفائها وتم انتخاب نابليون لقيادة الحملة رغم صغر سنه بعد أن شهدت له التقارير العسكرية بالامتياز، ومنها شهادة أستاذه وقائده السابق الجنرال (دوتيل) الذي شهد له بالنبوغ فتغلبت العبقرية على الروتين
وبالفعل قاد نابليون الحملة على النمسا عام 1794 م، وانتصر فيها انتصارا مذهلا كعادته، وثارت من جديد ثائرة الخصوم ونقموا عليه عند كبار قادة الثورة وخوفوهم من طموح نابليون غير المحدود، مما قَلّص احتفالات النصر المتوقعة بعمله الكبير بحجة الأوضاع الأمنية، وكانت الأوضاع الأمنية في حالة تردى كامل من ممارسات القمع الوحشي لنظام الثورة واتخاذهم تهمة عداوة الثورة كمبرر للبطش
ونظرا للدور الأوربي الغربي في التأليب فقد لجأت بريطانيا وحلفاؤها لمحاولة ضرب الثورة من الداخل باستغلال التيارات السياسية الانتهازية مما تسبب في حالة تطاحن تطور إلى ما يشبه حرب أهليه تمت مواجهتها بالقوة المسلحة من النظام الفرنسي الجديد

ووجد خصوم نابليون الفرصة مواتية لتحطيم شعبيته الساحقة بين جموع الشعب عن طريق العمل على إصدار أمر عسكري مباشر لنابليون كي يقود إحدى الحملات العسكرية لإخماد الثورة المضادة في غرب البلاد ...
وكان هدفهم أن يضعوا نابليون القائد الشعبي في مواجهة الشعب.
ولم يكن نابليون القارئ والمثقف الكبير بغافل عن تلك الخديعة والهدف منها، فرفض الوقوف في وجه الشعب وذهب لوزير الحربية يطلب قيادة حملة عسكرية ضد العدو الإيطالي الذي يعبث بحدود البلاد، فرفض الوزير بعنف وناقشه نابليون بقوة ولم ينجح في إقناعه وغادر مكتب الوزير إلى بيته معتزلا العمل وبالفعل تعرض لفترة قاسية نفذت فيها موارده حتى فكر بالهجرة خارج فرنسا
ثم تدخل القدر لصالح نابليون بعد سقوط الحكومة العرفية للبلاد وبالتالي تغير وزير الحربية وكبار قادة الجيش الفرنسي، وتم ابتداع نظام حكم جديد وهو مجلس الدولة الفرنسي (الديركتوار) وتم استدعاء نابليون لمكتب وزير الحربية الجديد الذي قام بتكريمه بصفة شخصية وسياسية عن دوره العسكري في مساندة الثورة وتولى نابليون بعدها قيادة الجيش الفرنسي على إيطاليا وحقق نصرا ساحقا حيث أسقط إيطاليا في ساعات محدودة وأيضا عاود الإغارة على النمسا ثم كلل انتصاراته بإسقاط النمسا كلها مما أثار رعب أوربا بأكملها من نابليون

وبعد أن تم تتويج نابليون فعليا كقائد لجيوش فرنسا والمتحكم بالأمور فيها قام بإظهار المذهب العلماني شيئا فشيئا
فرغم أن الثورة الفرنسية في الأساس قامت ضد التحالف الانتهازي بين رجال الحكم ورجال الكنيسة، وضد تسلط رجال الدين الكنسي بالخرافات على الشعب، إلا أن الشعب نفسه في فرنسا وأوربا لم يكن يريد تخليا عن الدين ذاته بل كان يريد التخلي عن كل ما اعتبره تَسَلطا في الأحكام، ولهذا لم يتم إعلان العلمانية الفرنسية بشكل مباشر وإنما تم هذا بشكل متدرج، لكن العقيدة الصليبية نفسها ظلت كما هي لم تمس بالتغيير الجذري الذي حدث في الحكم
وتكشف فترة نابليون أن الأحقاد والطبائع الصليبية المكتسبة من كتب الكنيسة الغربية العنصرية، والتي بلغ من عنصريتها أنها حاربت العقيدة المسيحية الشرقية رغم كونهم مسيحيون مثلهم، ثم تسلطوا بالحروب الصليبية والتحريضية ضد المسلمين، هذه العقيدة الصليبية لم تتغير بالاتجاه العلماني مطلقا، بعكس ما يظن أو يروج جهلة العلمانيين العرب.
ويتضح هذا بسهولة من خلال استقراء المنهج الإمبراطوري لفترة نابليون والذي سارت عليه فرنسا وأوربا كلها بعد ذلك بنسب متفاوتة.
حيث ورث نابليون الحقد والتاريخ الصليبي الفرنسي ضد الشرق الإسلامي وراثة كاملة رغم أنه من المفترض كان تاريخا وحشيا وقمعيا ينتمي لأسرة (البربون) الحاكمة في فرنسا.
لكن انقلاب الثورة الفرنسية على حكم الأسرة الحاكمة والكنيسة المتسلطة لم يكن انقلابا على العقيدة الغربية وتاريخها ضد المسلمين.
لذلك جاء نابليون ابنا مخلصا لنفس الميراث الفكري الفرنسي القديم، وكانت تقوده نفس الأفكار التوسعية التي قادت من قبله من الحكام تجاه الشرق.
لكن التعديل الذي أخرجه نابليون هو أن مشروعه الإمبراطوري كان فرنسيا خالصا يريد منه أن تسيطر فرنسا على مقادير القارة الأوربية أولا ثم تنطلق بحملتها لإنشاء إمبراطورتيها في الشرق.
وهو نفس المشروع العنصري الذي قاده (أدولف هتلر) تحت إيمانه بتفوق الجنس الآري على بقية الأجناس البشرية وحقه في السيطرة على أوربا والعالم.

ونجح نابليون في بلورة مشروعه الإمبراطوري غير التقليدي بعد أن استغل كافة قراءاته التاريخية والاستراتيجية المتعمقة وأضاف لها البعد الثقافي اللازم لتنفيذ مشروعه وضمان استقراره.
والمذهل أن مشروع نابليون كان مشروعا استراتيجيا وفكريا يعتمد على حقائق دامغة للتاريخ والجغرافيا يجعل من قارئ المشروع يظن أن القائمين على إعداده هي لجنة رفيعة المستوى من خبراء التاريخ والعسكرية والسياسة الدولية والأديان.

وقد اكتسب نابليون خبرته بفعل حشد الكتب والمراجع التي التهمها في شبابه الأول، وكان معظمها في التاريخ السياسي والديني للشعوب، ولا شك أن قراءة التاريخ هي أهم باب ثقافي يرتقي بالعقل إلى مسافات عالية جدا فوق سِنّه وخبرته.
وذلك يعود إلى طبيعة التاريخ نفسه باعتباره حاشدا بآلاف التجارب والوقائع والحوادث والشخصيات التي تعطي للإنسان أعمارا فوق عمره.
ولم يكتف نابليون بنفسه في هذا المجال، بل حرص على تدشين روح الفدائية والعسكرية والثقافة العامة لدى ضباطه وجنوده، وقام بتنمية الإيمان لديهم بالتفوق الفرنسي والحرية التي نتجت عن الثورة الفرنسية ومبادئها
لذلك فإن السر الحقيقي لتفوق العسكرية الفرنسية في عهده لم يكن قوة السلاح أو التدريب، لأن السلاح والتدريب والقوة كانوا متوفرين في جيوش إنجلترا والنمسا وإسبانيا وروسيا بأكثر من فرنسا نفسها.
ومع ذلك انطلقت الجيوش الفرنسية تحت قيادة نابليون كالوحش الكاسر والتهمت أوربا كلها حتى أنه أقتحم الجليد الروسي ووصل لعاصمتهم، فضلا على نجاحه في هزيمة التحالف الأوربي ضده عدة مرات.
ولم تكن العسكرية الفرنسية قبل نابليون بهذه القوة والجسارة والعنفوان.
لأن سر التفوق يكمن في أن نابليون كان قائدا عسكريا بارعا، وفي نفس الوقت مفكر ومثقف موسوعي من طراز رفيع.
وكان أبرع ما فعله هو أنه اهتم بالجانب المعنوي للجيش والروح القتالية المبنية على عقيدة عسكرية سليمة.
فكان يحرص على أن يكون كل جندي في الجيش له نصيب من القراءة والفكر والثقافة، حتى أنه في طريق حملته إلى مصر وأثناء تفقده الجنود في سفينته، صادف جنديا يتسلى بقراءة إحدى الروايات العاطفية.
فاشتعل غضب نابليون وأمسك بالرواية وألقاها إلى ركن الغرفة وقال للجندي:
(ما هذا الذي تقرؤونه، هذه قراءة تليق بخادمات الغرف، اقرءوا التاريخ فهو قراءة الرجال)
لهذا كان من الطبيعي أن يجعل نابليون من الجيش الفرنسي جيشا لا يُقهر، لأن جيوش أوربا كانت جيوشا مستعبدة، لا يلقى فيها الجنود الاهتمام، بل الاهتمام مُنْصَب فقط على القادة والضباط المترفين والمنتمين للعائلات الأرستقراطية.
وأمثال هذه الجيوش مهما بلغت قوتها وعتادها فإن روحها المعنوية تكون في أدنى معدلاتها نظرا للعنصرية الفجة التي يلاقيها الجنود بينما وقود الحرب في الأصل.
بخلاف انعدام الاهتمام الثقافي وتربية الجنود تربية فكرية واسعة تقنعهم بجلالة المهمة التي يؤدونها، وهو ما كان نابليون متفوقا فيه حتى جعل من جنوده نُسَخا مكررة من فكره وحماسته.

ونأتي الآن لنتأمل عناصر مشروع نابليون تتخلص في العناصر التالية:
الأول:
أنه بعد استقرار الأمور نسبيا في أوربا وضمان حدود فرنسا بانتصارات نابليون التي مثلت ردعا كبيرا للقارة العجوز، رأى نابليون أنه ليس هناك مجال مباشر لمواجهة خصمه اللدود بريطانيا في مواجهة مباشرة وشاملة، فضلا على بقية خصومه من دول أوربا لذلك فالحل هو تكوين الإمبراطورية الفرنسية في الشرق وقطع خطوط مواصلات بريطانيا بالهند التي تعتبر درة التاج في المستعمرات البريطانية.
الثاني:
أنه بعد النظر المدقق إلى ساحة الشرق الأوسط قرر نابليون حقيقة بازغة بالنسبة له، صارت فيما بعد عنوانا لأوربا كلها في التعامل مع الشرق.
حيث قرر نابليون أن (مصر هي أهم بلد في الدنيا)!
ولم يقل نابليون أن مصر هي أهم بلد في الشرق بل في العالم!
لأنه حدد استراتيجية تكوين قوة فرنسية عظمى بضرورة السيطرة على مفاصل الشرق الأوسط الذي يعتبر هو أهم منطقة مواصلات وثروات في العالم.
وبما أن هذه المنطقة ضرورية لتكوين الإمبراطورية، فقد وجد نابليون أن مفتاح السيطرة على المنطقة بأكملها لا يمكن أن يتم بغير السيطرة على مصر التي هي أهم بقعة في المنطقة ومصدر التأثير الأقوى لدول الشرق على كافة المستويات.
من ذلك خرج بتلك النتيجة التي عمل عليها وهي أن مصر مفتاح الشرق والشرق مفتاح السيطرة العالمية ولذلك أصبحت مصر بالنسبة له هي أهم بلد في الدنيا.
الثالث:
من دراسته المستفيضة للحملات الصليبية وقع نابليون على السر الذي وقف خلف فشل كافة محاولات أوربا في السيطرة الدائمة، رغم تمتع بعض الحملات الصليبية باستقرار طويل في منطقة الشام، ورغم تأسيس إمارات كاملة للصليبيين فيها، ورغم فوارق القوة العسكرية بين أوربا والشرق، حيث كانت تلك الحملات دائما حملات غير مستقرة إما بسبب وجود إمارات مسلمة قوية بمصر والشام، وإما بوجود مقاومة دائمة لا تنكسر يتم تتويجها بتحرير المنطقة مرة أخرى.
وكان السر الذي توصل إليه نابليون الارتباط الأزلي بين الشام ومصر تاريخيا منذ آلاف السنين والذي يجعل من القطرين قطرا واحدا متصلا.
فالأمن القومي لمصر منذ عهد الفراعنة وهو مرتبط ارتباطا وثيقا بالشام، فلا يمكن لحدود مصر الشرقية أن يتم تأمينها بغير نظام حليف في الشام، ولا يمكن لدولة تقوم في الشام أن تضمن أمنها بغير ضمان وجود الحليف في مصر.
وذلك للاتصال الجغرافي بين البلدين والتماهي الديني والثقافي والحضاري بين الشعبين.
وبمراجعة تاريخ الحملات الصليبية توصل نابليون إلى أن مواجهة الصليبيين والمغول كانت دائما وأبدا تتم بالتحالف بين قوى مصر والشام
لذلك فإن انتصار المسلمين في المنطقة كان دائما بفضل وجود الزاوية القائمة التي تتكون من مصر والشام وتطل على بوابة البحر المتوسط من الجانبين.
لذلك وضع نابليون مشروعه على ضرورة فك هذا الارتباط بين ضلعي الزاوية بطريقة تضمن عدم التقائهما أبدا في مستقبل الأيام إذا أراد أن يضمن لمشروعه الاستمرار.

الرابع:
كان العنصر الثالث الذي بنى عليه نابليون مشروعه الاستعماري هو توصله للفكرة الاستراتيجية التي تضمن فك ضلعي الزاوية.
وذلك بزرع كيان غريب على المنطقة عند نقطة التقائهما البرية في فلسطين.
ضلع غريب وَمُعادي ومختلف تماما يتم زرعه في رأس الزاوية بين مصر والشام ليجعل تواصلهما الفعلي مستحيلا أو بالغ الصعوبة على الأقل.
فإذا تم زرع هذا العنصر الغريب بالتوطين في هذه المنطقة وتحت الحماية الفرنسية فهذا يعني ضمان النجاح لمشروع نابليون.
وكان العنصر الغريب الذي يمكنه أداء هذا الدور بكفاءة تامة هم (اليهود).
والواقع أن فكرة نابليون بتأسيس وطن قومي يهودي الديانة معادي بالفطرة للمنطقة فكرة خيالية جدا في ذلك الوقت نظرا لأن اليهود لم يكن لهم تجمع متفق أو وطن قومي بل هم مشردون في أصقاع الأرض وجمعهم في مكان واحد أمر من الاستحالة بمكان.
كما أن إيجاد الدافع والحماسة لتنفيذ هذا المشروع كان صعبا للغاية، حيث كانت الديانة اليهودية نفسها تعارض هذا الحلم!
السبب في ذلك أن شريعة اليهود كانت – ولا زالت-تؤمن بأن موعد تحقق الوعد الإلهي –بزعمهم-في التجمع بأرض فلسطين أو أورشليم هو وعد سيتحقق بعد نزول المسيح المخلص وفق معتقدهم وليس قبله.
أي لابد لهم أن ينتظروا ظهور المسيح المخلص الذي سيدعوهم لاستيطان أرض الأجداد وتكوين دولة (يهوذا) أو (داوود).
وبالتالي فمن المخالف لشريعة اليهود أنفسهم أن يتم تكوين هذا الوطن قبل ظهور المسيح الذين يؤمنون بعدم ظهوره حتى اليوم.
والأهم من ذلك أن عدد اليهود في منطقة الشام والقدس لم يكن كافيا قط لتكوين وطن أو دولة بالشكل الذي يتمناه نابليون في مشروعه.
فاليهود في فلسطين كان عددهم 1800 في الشام منهم 135 يهوديا في القدس!
الخامس:
وهنا جاء العنصر الرابع من عناصر مشروع نابليون وهو وضع الحلول لمعضلات تحقيق حلمه بتكوين دولة يهودية في فلسطين تملك القوة والعتاد لصنع فاصل معادي بين مصر والشام.
حيث كان الحل الأول اختراق مصر بحملة عسكرية من عنصرين متمازجين، وهما العنصر العسكري والعنصر الفكري.
فأعد حملته المكونة من أربعين ألف جندي بأحدث الأسلحة، ومعها في نفس الوقت طابور طويل من العلماء في مختلف التخصصات، فضلا على المطبعة ذلك الاختراع الثوري في النشر وقتها.
ولهذا فالحملة الفرنسية عندما جاءت لمصر بالعلماء والمخترعات الحديثة لم يكن هدفها تطوير مصر أو تصدير الحضارة كما يقول بعض المتغربين في عصرنا الحالي، وإنما جاءت بالعلماء والمطابع كأسلحة حربية لتحقيق هدف الحملة ذاته.
بل إن خطورة تأثير العلماء والمخترعات أن نابليون كلفهم بضرورة ممارسة غسيل المخ على جموع الشعب المصري وإقناعهم بأن الحملة الفرنسية ليست حملة احتلال بل حملة تنوير وحضارة، وأن الهدف العسكري من الحملة هو تخليص مصر من حكم المماليك الذي شاع فساده وكرهه الناس.
وكان الهدف الاستراتيجي لنابليون من هذا أن يرحب المصريون بالحملة الفرنسية بحيث يواجه المماليك وحدهم ويقضي عليهم وتصفو له مصر وشعبها بالتأييد والتشجيع حتى يضمن الاستقرار الكامل للحملة في مصر.
ولذلك أعد العدة لما أسماه (الورقة الإسلامية).
والورقة الإسلامية هو المنشور الذي كتبه نابليون ليتم توزيعه على المصريين وفيها أجمل العبارات المنمقة عن الصداقة والإعجاب المتبادل بين نابليون والخليفة العثماني وعداؤه لحكم المماليك الذين قهروا الشعب المصري.
ثم زاد نابليون في ورقته الإسلامية نفاقا واضحا بإعجابه بالشريعة الإسلامية والمجتمع المصري وبمكانة وإعجاب الفرنسيين بمصر!
وهي بالطبع ورقة خداعية ظن فيها نابليون أنها ستمنحه التأييد الشعبي المصري وبالتالي يستقر له المقام دون الخشية من مقاومة مسلحة ضد حملته.
أما بالنسبة للخلافة العثمانية فلم تكن تمثل مشكلة في ذلك التوقيت لأن قوة الخلافة نفسها كانت قد دخلت مرحلة (رجل أوربا المريض) وبدأت الدول الأوربية بالفعل مرحلة التفكير في كيفية توزيع إرث العثمانيين فيما بينها بمجرد انتهاء الحروب الأوربية ـــــ الأوربية.
لكن الشيء الذي كان يخشاه نابليون هو تحالف السلطان العثماني مع البريطانيين ضده عند دخوله الشام.
وهو ما وضعه في حسبانه بأن تتم عملية احتلال مصر بسرعة قياسية ثم يتوجه بعدها للشام سريعا مع فتح خطوط التفاوض مع البلاط العثماني لمنع تحالفه مع أي طرف أوربي يعطل مشروعه.

أما بالنسبة لليهود.
فقد أعد لهم ورقة أكثر مصداقية وهي المعروفة باسم (الورقة اليهودية).
وقد أعدها أيضا قبل حملته، غير أن الفارق بين الورقة الإسلامية واليهودية أن ورقته اليهودية سبقتها خطوات تنفيذية في أوربا حيث كلف نابليون بعض علماء الفرنسية بالاتصال بحاخامات اليهود المؤثرين في فلسطين مثل (موسى موردخاي) و(جاكوب الجازي) وغيرهم يُطْلعهم فيه على تعاطفه مع المسألة اليهودية والاضطهاد الذي يتعرضون له في أوربا وكان سببا في حملات طرد وتهجير وتضييق في مختلف الدول الأوربية وأنه يتعاطف مع مشروعية وبطولة الشعب اليهودي ويدعمهم لإقامة وطن تاريخي في أرض الأجداد تحت حماية الإمبراطورية الفرنسية.
وهو هنا قام بتمهيد الأرض في فلسطين حتى يقوم بتوزيع ورقته اليهودية في القدس، تلك الورقة التي يخاطب بها نابليون عموم اليهود في العالم ويدعوهم لترك الأوطان التي تحتقرهم وتضطهدهم ليقيموا وطنهم القومي في فلسطين تحت رعايته" "
وفي شأن مشكلة تبعثر اليهود في العالم وعدم تأثير وجودهم في فلسطين فإن نابليون اعتمد على أن مشروعه سيكون خطة بعيدة المدى تتسلح بإمكانيات مادية وسياسية هائلة بحيث يستغل حاخامات اليهود لإعادة اختراع الوعد الإلهي المزعوم لهم بفلسطين وتجاهل ضرورة وجود المسيح لتحقيق الوعد، بحيث يتم اعتبار نابليون مكان المسيح مؤقتا!
وبخبرة نابليون باليهود وتاريخهم فقد كان يعلم جيدا أن أسهل شيء لدى الحاخامات هو تزوير وثائق التوراة لأغراضهم الدنيوية" ".

وبالتالي إذا قامت حملة إعلانية ضخمة برعاية فرنسية لدعوة اليهود لوطنهم المزعوم، فإن العديد قد يستجيبون لها خاصة مع وجود جاليات يهودية كبيرة في أوربا وفي روسيا تبلغ 12 مليون يهودي معظمهم من الفقراء والمضطهدين وأقليتهم من الأغنياء والمؤثرين.
لذلك فإن قوام مشروع نابليون راهن على فقراء اليهود لأن غالبية اليهود من المهمشين المضطهدين في أوربا منذ زمن طويل حيث بدأت حملة الاضطهاد منذ سقوط الأندلس وانتشار محاكم التفتيش البشعة التي قامت بحملات اضطهاد دموية ضد المسلمين في الأندلس ومعهم اليهود الذين كانوا تحت حماية الحكم الأندلسي لقرون طويلة.
ولنا أن نتخيل المفارقة!
أن حماية الخلافة الأندلسية بل والعثمانية لليهود كانت تاريخية، بينما أوربا كان لها سجل هائل من الاضطهاد والتنكيل ضدهم.
وبالتالي فإن هؤلاء اليهود سيكون لدى معظمهم ضعف تجاه وطن يحتويهم بعقيدتهم الدينية المتفقة.
وفي سبيل ذلك دعا نابليون في عام 1807م، إلى عقد مؤتمر أو مجمع يهودي يحضره كل ممثلي اليهود في أوربا ممثلين في رؤساء طوائفهم المختلفة وتم عَقْد المؤتمر فعلا في (سانهردان) ودعا فيه نابليون إلى لم شمل اليهود واتخذ المجمع عدة قرارات، كان أخطرها – كما يقول هيكل – هو البند الثالث الذي جاء فيه:
(ضرورة إيقاظ وعي اليهود إلى حاجتهم للتدريب العسكري لكي يتمكنوا من أداء واجبهم المقدس الذي يحتاج إليه دينهم)
وهذا البند بالتحديد كان هو خلاصة مشروع نابليون، وذلك أنه لم يكن يريد تأسيس دولة أو تجمع يهودي مفتقد للقوة تقوم فرنسا على حمايته من الألف إلى الياء، بل كان يحتاج دولة وظيفية ذات نظام عسكري في مجملها، تقاتل وتدافع عن وجود هذا الوطن تحت ظل الحماية الفرنسية عند الحاجة.
وهكذا أصبح مشروع نابليون منطقيا وقابلا للتنفيذ كاستراتيجية بعيدة المدى تسير بخطوات ثابتة على الأرض.
ولم يبق إلا التنفيذ ببداية الحملة الفرنسية على مصر.

قديم 02-11-2024, 06:55 AM
المشاركة 5
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)

*الحملة الفرنسية ومصير مشروع نابليون.
أعد نابليون حملته على مصر متسلحا بمنشورات الخداع للمصريين في (الورقة الإسلامية) وبالسياسة التي انتوى ممارستها مع الشعب المصري عن طريق تبرير الحملة بأنها استجابة حضارية من فرنسا لإنقاذ المصريين من ظلم المماليك
ورغم أن مستشاريه من علماء الحملة الفرنسية كانوا مؤمنين بعبقريته بعيدة المدى إلا أن (روسبي) فيلسوف الثورة الفرنسية، عارض حملة نابليون على مصر وتنبأ بفشل ورقته الخداعية على المصريين وتوقع أن المصريين سيرفضونها
فقال:
(إن أكثر الأفكار شذوذا هي التي يظن السياسي فيها أنه قادر على خداع الجماهير لمجرد حمله للسلاح وتملكه للقوة)
وللأمانة كان (روسبي) عبقريا في عبارته تلك لأنه تنبأ بما وقع فعلا عندما فشل نابليون فشلا ذريعا في إقناع المصريين بقبول الغزو!
فقد كان نابليون رغم عبقريته العسكرية والسياسية غافلا عن طبيعة المصريين تجاه الغزاة المخالفين في العقيدة وهو ما جعله يتصور واهما أنهم سيستقبلونه بالورود لمعاناتهم من ظلم المماليك.
كما أنه وقع في وجهة نظر سطحية عندما ظن أن المماليك يحكمون بمقتضى القوة والجبروت التي يخضع لها الشعب المصري بنفس طريقة خضوع الفرنسيين لأسرة (البربون)، وهو تفسير خاطئ تماما لأن معيار العقيدة كان –ولا زال-له دور كبير في استقرار أي حكومة وأي نظام بمصر مهما بلغت قوته.

فالحقيقة التاريخية الراسخة للشعب المصري تتمثل في عنصرين:
* أنهم قد يتسامحون لفترات محددة مع ظلم الحكام ويتمسكون بحفظ كيان الدولة، فإذا بلغ الظلم مداه خرجوا على نظام الحكم لا على الدولة نفسها وكيانها، وتكون ثوراتهم بهدف تغيير الظلم وواقع الحال وليس هدم النظام المتفق معهم عقائديا وتاريخيا.
بمعنى أنهم يتقبلون نظام الحكم الظالم ومساوئه إذا كان الحاكم يتفق معهم في العقيدة والتاريخ وليس غازيا أجنبيا صرفا.
أما إن كان الحاكم يُمثل حكومة أجنبية بالكامل معادية للعقيدة والوطنية والتاريخ فهنا يكون رفض الشعب لهذه الحكومة راسخا حتى لو جاءت تلك الحكومة بأعدل أهل الأرض كي يحكموا به
لذلك رفض الشعب المصري احتلال الرومان رفضا تاما، وظلت المقاومة الشعبية ضدهم مستمرة –رغم اتفاق الرومان مع المصريين في الدين المسيحي-غير أن الكنيسة الشرقية التي تمثلها مصر كانت تخالف عقيدة الكنيسة الغربية مخالفة تامة، ولا تعترف بهم كمسيحيين، ورغم طول فترة احتلال الرومان إلا أن الشعب قاومهم وَفَرّ بدينه وعقيدته لإنشاء المجامع الكنسية في الصحراء لحفظ المعتقد الشرقي، ورفض الخضوع للكنيسة الغربية تماما لعدم اقتناعه بها.
لذلك عندما جاء الإسلام ضامنا لحرية العقيدة ومخاطبا لوعي المصريين في رسالة الإسلام وقف الشعب مع الفتح الإسلامي وانضمت طوائف المصريين للإسلام شيئا فشيئا، وبقي المسيحيون أيضا على حرية معتقدهم دون أدنى تعارض.
كذلك عندما دخلت دولة الشيعة العبيدية المعروفة خطأ باسم (الفاطميين) إلى مصر وتم احتلالها بهدف تحويل المصريين إلى عقيدة الشيعة، ونظرا للاختلاف الفادح بين عقيدة المصريين المنتمية للسُنة المشرفة، وبين عقيدة الشيعة الإسماعيلية المتطرفة التي يمثلها العبيديون
لأجل ذلك حاربهم الشعب حربا طاحنة لمدة ثلاثة قرون وفشل العبيديون في تحويل مصر لمعتقد الشيعة فشلا ذريعا بل إن المصريين تمكنوا من تحويل (الجامع الأزهر) ليكون أكبر جامعة ومرجعية للإسلام السُني بينما الذي أسسه في الأصل كان الشيعة العبيدية ليكون معهدا لعلوم التشيع.

ولهذا رحب المصريون بدخول صلاح الدين الأيوبي لمصر والذي أعلن عودة مصر لحاضنة الخلافة العباسية السنية.
وعندما دخل العثمانيون لمصر، هنا وقف الشعب المصري محايدا، لأن المماليك والعثمانيين كلاهما كانا من أهل العقيدة السنية المتفقة مع معتقد عموم الشعب.
ولم يكن المماليك ذوو شعبية بين الناس نظرا لظلمهم الكبير، كما أن المصريين لم يكن لديهم تحفظات ضد العثمانيين لأنهم أصحاب الخلافة الجامعة.
فرفض الشعب المصري مقاومة العثمانيين مع المماليك وتركوا الصراع بينهم يدور مع التزامهم الحياد ودخلت مصر تحت الخلافة العثمانية دون اعتراض شعبي
بينما عندما تكرر نفس الأمر بحذافيره مع دخول الحملة الفرنسية بغرض محاربة المماليك، رفض المصريون تلك الحملة ورفضوا دعاوى نابليون ووقفوا صفا شعبيا واحدا ضد الاحتلال الفرنسي والاحتلال الإنجليزي بعده

* أن طبيعة المصريين منذ عهد الفراعنة راسخة في رفض الغزاة رفضا قاطعا ولهم مفهوم خاص للغزو الذي يعادونه، وهم الغزاة الذين يأتون إليهم بعقيدة باطلة أو ديانة مخالفة لمعتقداتهم الراسخة، هنا تقوم ثورة المصريين بالسلاح والمقاومة ضد الغازي القادم مهما كانت معاناتهم من نظام الحكم القائم أثناء الغزو ما داموا يرونه متفقا معهم في العقيدة،
أما إن كان القادم إليهم سواء بقوة عسكرية أو على سبيل الدعوة المفردة بعقيدة جديدة لكنها تعتمد على الوحي السماوي
هنا يكون رد فعل الشعب هنا تكون بالاستقبال والترحيب التام حيث تعتبر مصر هي القُـطر الوحيد في الأمم السابقة التي آمن شعبها بكافة الأديان السماوية التي وردت إليها منذ عهد سيدنا (إدريس) عليه السلام، وهم الذين احتضنوا (بني إسرائيل) منذ عهد (يوسف) وخلال عهد (موسي) عليهما السلام وناصروه ضد فرعون وجنوده
فمفهوم الشعب المصري الخاص عن الغزو هو الذي عجز نابليون عن فهمه، بينما فهمه فيلسوف الفرنسيين (روسبي) وحاول إقناع نابليون به لكنه فشل، ولهذا كانت المقاومة عنيفة وقوية من الشعب المصري ضد الغزو الفرنسي منذ اللحظة الأولى وهو ما صدم نابليون.
وبدأ نابليون حملته ورفض قرار مستشاريه حتى من ناحية الخطة العسكرية
فالدخول إلى مصر من سواحل دمياط كان هو الاختيار العسكري الأمثل لكن نابليون رفض بشدة بسبب الذكرى السيئة له مع مطالعته لتاريخ حملة (لويس التاسع) التي دخلت من دمياط وانتهت في المنصورة بسقوط (لويس التاسع) أسيرا، فدخل نابليون من الإسكندرية التي أعلن شعبها النضال بقيادة (محمد كريم)، وتأكدت عقيدة المصريين لنابليون عندما رفض (محمد كُرَيّم) عَرْض الأسطول البريطاني - قبل مجيء الفرنسيين - والذي عرض عليهم النزول على سواحل الإسكندرية للتصدي لنابليون فرفض (كريم) رفضا قاطعا وقام محمد كريم والحامية الإسكندرية مع عموم الشعب بشن الهجوم على الفرنسيين فور نزولهم دون أن يمنحوا نابليون فرصة ممارسة الخداع بمنشوره.
وقام نابليون بفتح نيران مدافعه المتقدمة وسقطت المدينة بعد مقاومة عنيفة خلفت آلاف الشهداء أعقبها نابليون بإعلان الحكم العسكري على الإسكندرية وأصدر قانونه الذي حمل البنود التالية:
* جميع القري الواقعة في حدود ثلاث ساعات من مقر حملة الفرنسيين ترفع علم الفرنسيين.
* كل قرية تقاوم الفرنسيين أو تعلن رفض العلم الفرنسي يتم حرقها بالنار بمن عليها.
* كل قرية تستسلم وترفع العلم ستجد الدعم من الجيش الفرنسي.

وبالطبع كان الرد فوريا على نابليون لا سيما بعد استمر بالزحف نحو القاهرة ورفضت كافة القري والمدن منشور نابليون وأعلنت الجهاد والمقاومة في مواقع مشهودة شملت موقعة الشرقية والمنصورة التي انتقم منها نابليون شر انتقام نظرا لأنها المدينة التي أسقطت (لويس التاسع) وأسرته في دار ابن لقمان وهو ما يؤكد صحة ما ذهبنا إليه من أن نابليون والثورة الفرنسية لم تنظر لأسرة (البربون) الحاكمة على أن أفعالهم جميعها إجرامية، بل كانوا ينظرون لسياستهم الداخلية فقط.
أما سياستهم تجاه الشرق الإسلامي فقد تبناها نابليون وزعماء الثورة الفرنسية بل كانوا يواصلون منهج أسرة لويس التاسع وينتقمون لها أيضا
وبعد المنصورة واصل نابليون اختراقاته الوحشية بهدف بث الرعب لتفكيك مقاومة الشعب، فاشتبك الشعب مع الغزاة في موقعة دمياط وموقعة قرية الشعراء ثم المنوفية وطنطا ومواقع القاهرة في الجمالية وإمبابة ثم واصل إلى الفيوم وبني سويف والمنيا وأسيوط وسوهاج وقنا وأبنود وأسوان،
وكان من المواقف المشهودة لنضال الشعب المصري ما سجله قواد نابليون في مذكراتهم عن مواقف رهيبة واجهوها ومنها موقف طفل من المنيا من قرية (الفقاعي) أثار ذهول الجنرال (ديزيريه) عندما فوجئ بالطفل ذي الاثني عشر عاما يختطف بندقية أحد الجنود ويستخدمها لإطلاق النار على جنود الحملة غير آبه بما يواجه، فألقوا القبض عليه وأحب الجنرال (ديزييه) أن يختبر شجاعته فأصدر حكما بإعدامه وساقوه للمشنقة فظل الطفل ثابتا فجاء به (ديزيريه) مرة أخرى وأمر بجلده وتلقي الطفل ثلاثين جلدة في صبر وَتَحَمّل فازداد إعجاب الجنرال وعرض عليه أن يصاحبه لفرنسا قائلا له أنه يليق بطفل مثله أن يربيه كي يصبح جنديا وضابطا فرنسيا، فرد الطفل بشجاعته:
لا أنصحك لأنك لو ربيتني فإني قاتلك في النهاية.
وغرور ديزيريه الذي دفعه لعرض الجنسية على الطفل يماثل غرور هتلر عندما عرض نفس العرض على البطل الأوليمبي (خضر التوني) ورفضه.
وبلغ عدد شهداء المصريين في المقاومة فترة دخول المحتل الفرنسي فقط حوالي 300 ألف شهيد، تكفي دماءهم والوحشية الرهيبة لنابليون أن تثبت للعلمانيين أصحاب الانتماء للثقافة الفرنسية قدر الجريمة التي ارتكبوها عندما رَوّجُوا لفترة طويلة للاحتفال بمقدم الحملة الفرنسية باعتبارها حاملة مشعل الحضارة والتنوير، فإذا بها كانت مشاعل الحرق الشامل والتي أبيدت فيها قري وأحياء بأكملها بكل ما عليها ومن عليها بالذات في المنصورة وطنطا والمنوفية, فضلا على أن الحملة الفرنسية كانت الخطوة الأولى والكبرى لتوطين اليهود داخل القدس, أي أن الحملة الفرنسية والسياسة الفرنسية التي يروج لها أهل التغريب كانت سببا في أكبر كارثتين على العرب جميعا ومصر خصيصا.


*تضعضع حلم نابليون مع استمرار المقاومة وكان أكثر ما أثار غيظه أن خطته الرئيسية في فصل مصر عن الشام تنذر بالفشل قبل بدايتها لأن الشوام المقيمين بمصر لا سيما طلبة الأزهر وقفوا صفا واحدا ضد مع المصريين ضد الاحتلال، وزادت المقاومة عنفا في كافة أرجاء البلاد وواجهها نابليون بمنتهى القسوة في ثورتيْ القاهرة الأولى والثانية حتى قام بضرب أحياء القاهرة بالمدافع من أعلى جبل المقطم، ودخل الأزهر بخيله بعد أن مارس شيوخ الأزهر دورهم التاريخي في قيادة الناس, وكان قادة الثورة هم الشيخ (سليمان الجوسقي) والشيخ (الشرقاوي) والشيخ (المحروقي)" "
وضغط نابليون بمواصلة الجهود لإخضاع المقاومة بالترغيب والترهيب، لا سيما وأن خطته الإعلامية داخل مصر بدأت بالفعل مع وصول الحملة للقاهرة عن طريق تأسيس أول جريدة في مصر والشرق الأوسط التي أصدرها بعنوان وكانت جريدته (كير دي لي ايجيبت) أو (البريد المصري) الناطق الرسمي والوحيد باسم الاحتلال وأذنابه وإعلامه، وَحَشَاها نابليون بكل ما يمكن أن يلفت نظر المصريين ويكسب ودهم وتأييدهم، واستعان على ذلك بالمحترفين الذين جلبهم معه" ".
ورغم أن أسلوب التأثير الإعلامي باستخدام الصحافة وقتها كان أمرا لم تُجَربه مصر قبل ذلك، ورغم أنه أسلوب شديد التأثير مع العوام، خاصة بعد أن استعان نابليون بمنافقي سلطة الاحتلال من خونة المصريين للترويج له باعتباره ليس محتلا بل بطلا أنقذ مصر من جبروت المماليك!
رغم كل هذا فقد كان رد المصريين العوام على نابليون مفاجئا جدا له ولكبار رجال حملته، حيث استخدموا الدعاية المضادة ضد الجريدة باستخدام الطريقة الخارقة التي تتميز بها مصر وهي السخرية من الاحتلال وأعوانه.
فاتخذوها وسيلة للسخرية من نابليون وجنوده، حتى أصبح من يقتني الجريدة أو يروج لأخبارها هدفا سهلا للسخرية والتحقير.
وكانت الجريدة الفرنسية تنشر أخبار الإعدامات لشيوخ المقاومة أولا بأول، في نفس الوقت الذي كان فيه شيوخ السلطان يُحَرّمون الخروج على نابليون باعتباره حاكما متغلبا!
فكانت ردة الفعل الشعبية محبطة للغاية على نابليون حيث تزايدت أنواع المقاومة واكتسبت المزيد من الأساليب، وصاحبها أيضا انهيار معنويات الجنود في الحملة بعد أن تعرضوا لوابل من الأمراض المعدية فضلا على ما عانوه في طول مصر وعرضها من حرب العصابات المرهقة" ".
بخلاف الصدمة التي تلقاها نابليون والتي تمثلت في أن شجاعة المصريين في الدفاع عن بلادهم وتعدد المواقف البطولية لشيوخهم وشبابهم ونسائهم، والإصرار العجيب على مهاجمة القوات الفرنسية ومواجهة المدافع والنيران.
كل هذه الظواهر وقف أمامها ضباط وجنود الجيش الفرنسي وتبلبلت أفكارهم وشعروا لأول مرة أن نابليون يقودهم إلى معركة غير شريفة بمقاييس الحرية التي رفعتها شعارات الثورة الفرنسية.
فالجيش الفرنسي –كما سبق أن شرحنا-كان ينتصر انتصارات ساحقة في أوربا مع إيمان الجنود بعدالة قضيتهم وأنهم يحاربون الرجعية الملكية في أوربا التي تربصت للثورة الفرنسية وأرادت سحقها، لذلك استبسل الجيش الفرنسي في معاركه ضد مختلف الدول الأوربية.
لكنهم الآن وقفوا موقفا شديد الاضطراب وهم يرون شعبا من الفلاحين يرفض التدخل الفرنسي رفضا تاما وَيُصّر على محاربة الجيش النظامي رغم فارق القوة الهائل، ويرتضي الحرق بالمدافع على أن يستسلم.
وهنا ظهرت الكثير من الأصوات المعترضة من بعض علماء الحملة ومن بعض الجنود والضباط أنهم يهاجمون شعبا أعزل ويقتحمون أرضه لاحتلالها وهو ما ينزع عنهم شرعية القتال وروحهم المعنوية المعتادة، وأن نابليون بخالف –لأول مرة-مبادئ الثورة الفرنسية ويلجأ لنفس أساليب الأسر الأوربية الملكية في استضعاف الشعوب واحتلالها بالقهر.
ومن خلال سياق أحداث الحملة الفرنسية، نستطيع أن نقول باطمئنان أن ورقة نابليون الإسلامية فشلت فشلا ذريعا وأن خدعة نابليون لم تنطل على عموم المصريين.
وأن الفئة الوحيدة التي استجابت لنابليون كانوا مجموعة الخونة المنتفعين مثل (المعلم يعقوب) الذي ذهب لنابليون يطلب منه السلاح لكي يمده برجال للقتال في صف الفرنسيين وبالفعل قاتل يعقوب ومجموعته ضد وطنهم، ولقي جزاءه المستحق لأن الحملة الفرنسية عندما فشلت فر المعلم يعقوب للأسطول الفرنسي ورحل معهم، لكنه مات في الطريق وألقى الفرنسيون جثته في البحر" "
وبناء على ذلك لا يستطيع أحد أن يقول بأن خدعة نابليون انطلت على الشعب أو حتى على بعضه، ولذلك فقد أخطأ أستاذنا الكبير (محمد حسنين هيكل) في حديثه عن أن نابليون صادف توافقا مع بعض فئات الشعب، فهذا غير صحيح من واقع التاريخ ورواية شهود العيان، كما أن ظهور فئة من الخونة المتعاونين مع المحتل قد رفضهم الشعب وسخر منهم، ليس معناه أن هؤلاء الخونة يمثلون نسبة يُعْتد بها أو يعبرون عن فصيل من الشعب.

ولم يستسلم نابليون بل أصر على المضي قدما في خطته، ولهذا ترك نائبه الجنرال (كليبر) يواصل جهوده لإخضاع المقاومة وانطلق هو إلى الشام لإتمام الخطوة الأولى في المشروع.
ووقفت مناعة مدينة (عكا) التاريخية في وجه نابليون وفشل في فتحها في نفس الوقت الذي تلقى فيه خبرا أطار صوابه وهو مقتل الجنرال (كليبر) نائبه في مصر على يد الطالب الأزهري الشامي (سليمان الحلبي)
ولنا أن نتخيل ردة فعل نابليون عندما علم أن الذي نجح في اغتيال أبرع قواده كان شابا شاميا يدرس في مصر مما زاد من حنقه وإدراكه بصحة وجهة نظره بمدى التمازج الرهيب بين مصر والشام ضد العدو الغربي.
وقد انتقم الفرنسيون من (سليمان الحلبي) انتقاما رهيبا حيث أحرقوا يده اليمنى، ثم أعدموه على الخازوق في منطقة (تل العقارب)، ولم يكتفوا بذلك بل قاموا بتسليم جثته إلى أطباء الجراحة المصاحبين للحملة الفرنسية حيث استخرجوا جمجمته واحتفظوا بها وحملوها أيضا إلى فرنسا وأودعوها متحفا خاصا لا زال قائما لليوم هو (متحف الإنسان)!
وهذا المتحف لا علاقة بالإنسان أو الإنسانية فهو حاشد بآلاف الجماجم التي كان منها جماجم شهداء الحروب من المقاومة في مختلف البلاد التي احتلتها فرنسا!
حيث يحتوي المتحف على عشرات الجماجم لقادة المقاومة الجزائرية، فضلا على جمجمة البطل (سليمان الحلبي) القابعة حتى اليوم في المتحف وتحمل عبارة (مجرم قاتل)!
وهذا يكشف لنا بعضا من إنسانية فرنسا والغرب!
كما يكشف لنا في وضوح أن الغرب اليوم يعتز بتاريخه المغرق في الوحشية ولا يستنكره بدليل أن فرنسا المدافعة عن الحريات لا زالت تحتفظ بعداوات الماضي في الجزائر ومصر ضد المقاومة الوطنية لهذه الشعوب.
وذلك بدلا من أن تستحي من تاريخ نابليون وخلفائه الذين احتلوا الجزائر وتونس وحاولوا احتلال مصر وأوقعوا ملايين الضحايا في سبيل الميول الاستعمارية!
في نفس الوقت الذي لا زالت تدفع فيه ألمانيا عشرات الملايين لإسرائيل في سبيل خرافة محارق النازية في زمن هتلر!
ولهذا فإن بوصلة الغرب العمياء وتعاملهم المزدوج مع قضايا حقوق الإنسان مكشوف لكل ذي عينين غير أن وكلاء الغرب لدينا من الحكومات والإعلام يحلو لهم دائما استنكار تاريخنا نحن وكأننا نحن الذين ارتكبنا هذه المجازر؟!
وتجد فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الصفاقة الكافية لتنشر الإسلاموفوبيا في العالم باعتبار أن الإرهاب صناعة إسلامية!

المهم.
مع استمرار النضال فشلت الحملة وعاد نابليون إلى مصر ومنها إلى فرنسا كي يواجه اضطرابات الحكم هناك، وزاد من جراحه، تلك الهزيمة التي تلقاها أسطوله في معركة (أبي قير) البحرية أمام الأسطول الإنجليزي بقيادة الأدميرال (ويلسون)
وخاض نابليون عقب عودته من مصر حروبا عديدة ورغم نجاحه في معظمها إلا أنه تلقى الهزيمة الكبرى في معركة (ووترلو) على يد الجيش الإنجليزي أيضا بقيادة الجنرال (ولنجتون)، وانتهت صفحة نابليون بنفيه إلى جزيرة سانت هيلانه.
لكن مشروعه الإمبراطوري كان لا زال قابعا في وثائقه وأفكاره، والأخطر أنه كان معروفا لجنرالاته وعلمائه في الحملة الفرنسية، كما أن كبار الحاخامات اليهود ورموزهم كانت لديهم أجزاء كثيرة من حلم نابليون أهمها الفكرة نفسها.
فكرة توطين اليهود في وطن مستقل تحت حماية القوى الأوربية.
وظلت الفكرة سابحة في مجرى الزمن حتى وقعت في طريق فئة محددة هي فئة أغنياء اليهود الأوربيين الكبار والذين استهوتهم فكرة تجميع اليهود الفقراء في وطن مستقل بعيدا عن أوربا لأن أغنياء اليهود كانوا يعانون بشدة من تطفل واستنجاد اليهود بهم، لذلك جاءت الفكرة حلا عبقريا لكي يتخلص أباطرة اليهود من تلك الفئات التي تنغص استقرار استثماراتهم في أوربا.

واللافت للنظر أن أغنياء اليهود وكبارهم لم يكن لديهم اهتمام بتفاصيل مشروع نابليون، بل كانوا يهدفون منه لفكرة جمع اليهود الفقراء في مكان واحد بعيدا عنهم، بغض النظر عن المكان سواء في فلسطين أو غيرها.
لكن الذي أعاد مشروع نابليون بحذافيره للصدارة، هو أن أباطرة اليهود حملوا المشروع لبريطانيا وعرضوه عليها لتتبناه بريطانيا مع إعطاء المشروع أسباب قوة ونجاح أكثر بكثير من التي كان يمتلكها نابليون!
وقد كانت هذه هي نقطة العبقرية البريطانية المتوارثة كما سنرى في الفصل القادم.


قديم 02-16-2024, 08:57 AM
المشاركة 6
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)

الفصل الثاني
في الوسط .... كانت بريطانيا


بالتأمل في أقطار وأركان العالم الأربعة سنلاحظ ملحوظة شديدة الأهمية.
أنه في كل منطقة من العالم توجد دائما دولة أو عدة دول تمتلك التأثير الأكبر تاريخيا على المنطقة بأكملها، بحيث تكون تلك الدولة أو المجموعة هي الميزان الحساس لقوة المنطقة وضعفها.
ويختلف تأثير الدولة أو المجموعة بحسب دورها التاريخي ومدى عمقه في الماضي والحاضر.
فهناك دول استمر تأثيرها على منطقتها فاعلا منذ عهد العصور القديمة وحتى اليوم، وهناك دول بدأ دورها الإقليمي في التشكل من بدايات العصور الحديثة ليصبح دورا مركزيا حتى اليوم.
ومثال ذلك مصر في محيط الشرق الأوسط، والصين والهند في محيط الشرق الأقصى وروسيا في أوربا الشرقية، وبريطانيا منذ بداية عهد المستعمرات

والواقع التاريخي حقيقة يعطينا فكرة واضحة عن قدرات البريطانيين التي بدأت في الظهور والتكشف منذ عهد (الماجنا كارتا)، واستمرت في الصعود حتى بداية عصر الاستعمار الأوربي الناجم عن الكشوف البحرية التي بدأتها البرتغال وإسبانيا.
ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم استمر الدور البريطاني يعمل كبوصلة رئيسية تسيطر معنويا على أوربا ثم جاءت فترة من الفترات من بدايات القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين لتصبح بريطانيا الدولة الأكثر تأثيرا على العالم أجمع.
فخلال مائة وخمسين عاما امتدت في تلك الفترة، كان التأثير البريطاني فاعلا في الهند والصين، وفي الولايات المتحدة وفي الشرق الأوسط وفي أوربا نفسها.
وعندما نتكلم عن التأثير فإننا لا نعني السيطرة الجغرافية بالاحتلال والاستعمار الذي جعل من بريطانيا إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس.
بل نتكلم عن التأثير الشامل على السياسة الدولية الذي شمل انتهاء دول وتأسيس دول أخرى وتغيير خريطة العالم عدة مرات والنفوذ المعنوي وانتشار الثقافة واللغة الإنجليزية التي عَمّت أركان العالم وغربه عن طريق نشر المدارس والجامعات البريطانية التي كان يدخلها أبناء الإقطاعيين والأغنياء في المستعمرات ويتلقون فيها أفضل أساليب التعليم البريطاني الحديث بعيدا عن التاريخ القومي لبلادهم أو ثقافتهم بحيث أصبحت لبريطانيا طبقات كاملة داخل هذه الشعوب تدين بالولاء للثقافة البريطانية ومن ثم لسياستها واستعمارها.
وهي أهم ميزة تميزت بها بريطانيا عن سائر الممالك الأوربية، حيث حظيت بريطانيا بأعلى معدل استقرار في مستعمراتها على الإطلاق بين كافة المحتلين الأوربيين الذين عانوا من الثورات والمقاومة المسلحة المستمرة.
ورغم مواجهة البريطانيين مقاومة مماثلة إلا أنهم كانوا دوما ما يستطيعون امتصاص الغضب والهَبّات الشعبية بابتكارهم للسياسات الداخلية القائمة على اصطناع الأتباع والعملاء داخل المستعمرات واستخدام سياسة (فرق تسد) التي نجحت بها بريطانيا كثيرا في تطويع الحركات الثورية وكسرها، واستغلال وجود الطبقات المنتفعة بوجود الاحتلال الإنجليزي.

لهذا نقول وبحق.
أن بريطانيا هي الشيطان الأكبر الحقيقي في الساحة العالمية منذ مائتي عام، ولو كان الدور البريطاني غائبا عن العالم في تلك الحقبة لتغيرت خريطة القوى العالمية تماما، بل لم نكن لنشهد معظم الحروب الإقليمية التي دارات في أنحاء العالم، وما كنا لنشهد النظام المالي العالمي الذي سيطر بالعولمة على مقدرات الشعوب النامية لصالح أباطرة الاقتصاد في الدول العظمى.
فهذا كله كان لبريطانيا الدور المؤسس فيه.
فضلا على أنه لولاها لما نجح مشروع إنشاء الوطن القومي لليهود على أرض فلسطين وَلَتَمَكّن العرب من قتل المشروع في مهده في عدة فرص سانحة لولا وجود البريطانيين.
ولولا بريطانيا لما نشأت فكرة (الصهيونية) بفرعيها الصهيونية المسيحية واليهودية، والتي لم يقتصر تأثيرها على مجرد تأسيس الوطن القومي لليهود بفلسطين بل كان تأثيرها السياسي والاقتصادي هو الذي أدى فيما بعد لما شهدناه في العالم من سيطرة رأس المال على مقدرات الدول في أقطار العالم الأربعة عن طريق العولمة الاقتصادية

والسر التاريخي خلف التفوق البريطاني على المستوى الاستراتيجي له عدة أسباب
:
الأول:
أن بريطانيا – في عصرها الحديث-كلاعب رئيسي في الساحة الدولية لم تكن تعمل اعتمادا على وجود (القائد الملهم) أو (الزعيم المتفرد) الذي يعتبر وجوده ضرورة لقيادة الدولة للتطور النوعي في عصر الصراعات الذي بدأ في القرن الخامس عشر واشتد في القرن الثامن عشر، واشتعل في القرن التاسع عشر والعشرين.
فالذي ينظر للعالم في تلك الفترات يجد أن معظم الأقطار والدول التي نبغت وتعملقت استندت في قوتها بالأساس لظهور شخصيات قيادية بعينها صنعوا تجربتها وكان تأثيرهم على أوطانهم أشبه بمهاجم كرة القدم المتفوق والمتفرد الذي يقود فريق بلاده ويصنع مجده وانتصاراته.
فإذا غاب اللاعب لأي ظرف عجز الفريق عن الأداء بنفس القوة والكيفية.
وهو ما رأيناه مثلا في النقلة النوعية التي صنعها (نابليون) في فرنسا، والنقلة الأكبر التي صنعها (بسمارك) في ألمانيا وغيرهم.
لكن إنجلترا بعد مرورها بفترة اضطرابات عاصفة عقب فشل حملة (ريتشارد قلب الأسد) على الشرق وبلوغ الملك (جون) شقيق الملك ريتشارد (ريتشارد) لسدة الحكم عام 1225م،
من هذا الوقت المبكر جدا من القرن الثالث عشر بدأت إرهاصات التغيير الإنقلابي في السياسة البريطانية
حيث بدأت فترة اضطرابات داخلية أثارها الأمراء والنبلاء وهو الصراع السياسي الذي انتهى بصدور (الماجنا كارتا) الذي كان صدوره في عهد الملك (جون) يمثل انقلابا دستوريا أبيض على السلطة الملكية المنفردة التي كانت تحكم بريطانيا وبمثلها كانت سائر أنظمة الحكم في أوربا.
وقصة إعلان (الماجنا كارتا) بدأت عندما تولى الملك جون العرش، حيث كانت إنجلترا غارقة في الديون، ووجد الملك الجديد نفسه مضطرا لخوض حرب على عدة جبهات
أولها مع فرنسا (التي تمكنت من استعادة الكثير من الأراضي الفرنسية التي كانت خاضعة لسيطرة إنجلترا)
ومع البابا (بسبب خلاف حول مرشحه لتولي منصب كبير أساقفة كانتربري)،
ومع النبلاء الإقطاعيين، أو "البارونات" في بلاده، الذين كانوا غاضبين لفرضه ضرائب باهظة عليهم.
وبينما كان الملك جون يشن حربه الكارثية في فرنسا، اجتمع كبار البارونات الإنجليز سرا واتفقوا على إجباره على احترام حقوقهم وحقوق رعيته. وعندما عاد، قدّموا له سلسلة من المطالب.
حاول الملك حشد التأييد لكي يتفادى الرضوخ لتلك المطالب، لكن يبدو أن غالبية أتباعه انفضوا من حوله. ومع ضعف موقفه وانخفاض شعبيته، لم يتمكن جون من مقاومة البارونات والأساقفة الذين أيدوهم، وَقَبِل في نهاية المطاف الاجتماع بهم، ووضع ختمه على وثيقة المطالب التي عُرفت بالماجنا كارتا في 15 يونيو عام 1215م
وتناول الميثاق عدة بنود معظمها حقوق الإقطاعيين وواجباتهم، ولكن بعض بنودها نص كذلك على حماية حقوق الكنيسة والتجار وسكان المدن والقرى.
كما أنها كفلت حقوق النساء والأطفال في الميراث، ونصت على أنه لا يجوز معاقبة الأشخاص على ارتكاب أي جرائم إلا إذا أدينوا بشكل قانوني" ".
ونظرا لأن أوربا في طول تاريخها وعرضه لم تشهد أي ضوابط تشريعية لحقوق الإنسان أو حتى لحقوق الكبار تجاه السلطات المطلقة التي تحوزها العائلات الملكية الحاكمة.
وأن المناطق الوحيدة في أوربا التي شهدت مثل هذه الحقوق الحضارية هي المناطق التي حكمتها الخلافة العثمانية والأندلسية، نظرا لوجود الدساتير والقوانين المستندة لحكم الشريعة الإسلامية." "
نظرا لذلك كان من الصعب على الملك (جون) أو غيره أن يلتزم ببنود هذا الميثاق رغم أن تلك البنود احتفظت للملك بسلطاته الواسعة غير أنها أعطت جزء من السلطة للنبلاء.
لم يلتزم الملك جون ببنود الميثاق، مما أدى إلى نشوب حرب أهلية بين الملك من جهة، والبارونات الذين استعانوا بالجيش الفرنسي نظرا للعداء التاريخي بين إنجلترا وفرنسا من جهة أخرى.
استمرت الحرب، التي عُرفت بحرب البارونات الأولى لمدة عام، وانتهت بوفاة الملك جون وتولي ابنه البالغ من العمر 9 سنوات (هنري الثالث) عرش البلاد. وتعهد الملك الجديد بالالتزام ببنود ماجنا كارتا وحظي بدعم البارونات.

فإذا بإعلان عهد (الماجنا كارتا) في بريطانيا يعطي أول تجربة في أوربا للديمقراطية والحكم التشاركي في أوربا
ورغم أن الشعب نفسه لم ينل حقوقا زائدة إلا القليل في هذا الإعلان إلا أن الإعلان نفسه الذي وقفت خلفه طبقة الأمراء والنبلاء أعطاهم الحق في مشاركة الملك في معظم القرارات المصيرية التي تخص البلاد.
وتم تفعيل (الماجنا كارتا) واكتسب قوة الدستور شيئا فشيئا وتطور الالتزام به حتى القرن السابع عشر عندما دخلت بريطانيا مرحلة تأسيس الأسطول البحري واكتشاف المستعمرات، مما أدى إلى بزوغ الوجه الجديد لبريطانيا في طريقة الحكم وتقرير سياستها الداخلية والخارجية" "
وبالتالي:
أصبحت السياسة البريطانية منذ ذلك الحين تقوم على فكرة (فريق العمل) أو (team work) التي تجعل من القيادات بريطانيا تشبه فريقا قويا لكرة القدم يعتمد في قوته ونتائجه على التجانس التام بين الفريق وعلى توزيع الأدوار بين اللاعبين وخلفه مدرب خبير لا يتخذ قرارا بغير خطة مدروسة، بحيث يكون الفريق قويا في مجمله لا يعتمد على لاعب متفرد يقوده ويصنع بطولاته.
وهذا التغيير الكبير هو الذي تطور فيما بعد وجعل من السياسة البريطانية تتميز على باقي دول العالم بسياسة النفس الطويل والتفكير الاستراتيجي الممتد الذي يواكب أي تغييرات تحدث على الساحة الدولية ويستعد لها بخطوات استباقية، بحيث لا تستسلم بريطانيا أبدا لليأس حال مواجهة أي تغييرات أو ظروف غير مواتية وتظل على تماسكها حتى تحقيق النصر
وهو ما نفذته بريطانيا بالفعل أمام نابليون عندما اكتسح أوربا كلها، وتحالفت جيوش الممالك الأوربية عليه عدة مرات فهزمهم جميعا، وواجه الجيش الإنجليزي وأذاقه الهزيمة عدة مرات وفي نفس الوقت الذي يئست فيه القوى الأوربية من هزيمة نابليون كانت بريطانيا لا زالت على إصرارها حتى استغلت فشل حملته في مصر وواجهت أسطوله في معركة أبي قير البحرية لتحقق أول انتصاراتها على نابليون.
ثم تتابعت جهودها حتى هزيمة نابليون في (ووترلو).
وبنفس الطريقة واجهت بريطانيا الزعيم النازي (أدولف هتلر)، فعندما اكتسح هتلر أوربا وأسقطها في قبضته ثم استسلمت له فرنسا، وواجهت القوات البريطانية المتحالفة مع فرنسا خطر الفناء على الموانئ الفرنسية في معركة (دنكرك).
وتلقى جهاز المخابرات البريطاني ضربات قاصمة من جهاز المخابرات الألماني عندما وقع اثنان من أكبر ضباطه في أسر المخابرات الألمانية
فلم تستسلم بريطانيا ولا عرضت التفاوض.
بل على الفور قامت بتغيير فريق العمل القديم في حكومة (نيفل تشمبرلين) وجاءت بحكومة جديدة برياسة (ونستون تشرشل) الذي أعلن أنه لا يعد الشعب البريطاني إلا بالدم والدموع حتى تمام النصر على النازية
وكان حلم النصر وقتها حلما بعيد المنال لوقوف بريطانيا وحدها أمام هتلر بكل إنجازاته الحربية وسيادته على أوربا.
لكن أيضا اتبعت سياسة (فريق العمل) وسلكت طريقة النفس الطويل شيئا فشيئا حتى ضمت لها الولايات المتحدة في التحالف وتمت هزيمة هتلر.
فسياسة بريطانيا في تنويع أدوار رجالها وفتح المجال أمام كل موهوب ليؤدي دوره كانت أحد أهم الأسباب في التفوق البريطاني

الثاني:
السبب الثاني يتمثل في حسن التخطيط وإتقان التفكير الاستراتيجي بعيد المدى وعدم الالتزام بطريقة الدول الأوربية المتوارثة في مسألة العداء والصداقة السياسية.
فقد كانت الملكيات الأوربية في عصر الصراعات تعيش على العداوات التاريخية بحيث يظل العدو عدوا والصديق صديقا، كما أن الاختلافات العرقية والأيديولوجية كانت تحكم الصراعات الأوربية منذ عهدها القديم.
لكن بريطانيا رفعت شعار (البرجماتية) أو النفعية المحضة، وهو ما عَبّر عنه ونستون تشرشل نفسه عندما قال:
(إن بريطانيا ليس لها عداوات دائمة أو صداقات دائمة بل لها مصالح دائمة)
وكان تطبيقهم لهذا المبدأ منذ وقت مبكر سببا في تفوقهم النوعي على منافسيهم، حيث سمح لهم بالتحالف المؤقت حتى مع عداوات تاريخية، وسمحت لهم تلك السياسة بالإضرار المباشر بمصالح حلفائهم أيضا عند الحاجة!
وقد بلغت بريطانيا أقصى مدى في تطبيق تلك السياسة الميكافللية البحتة، ولها تجارب عجيبة قديما وحديثا في ذلك.
فرغم العداء التاريخي بينها وبين فرنسا إلا أنها توافقت مع فرنسا في بدايات القرن العشرين بالاتفاقية المعروفة باسم (الاتفاق الودي)، كذلك تحالفت معها في الحرب العالمية الأولى والثانية.
وسياستها مع الولايات المتحدة خير مثال على بيان الطبيعة البريطانية العجيبة، فقد خاضت بريطانيا حربا ضروسا ضد سكان المستعمرات الأمريكية بقيادة (جورج واشنطن) في حرب الاستقلال" ".
وعندما أيقنت أن الزمن قد تغير في المستعمرات، وأن القوة المفرطة لن تأتي بنتيجة لجأت للأسلوب الثاني على الفور فعقدت معهم الاتفاقيات التي تمكنت بها من استيعاب قيام الجمهورية الأمريكية ثم أسست معها تحالفا وثيقا حفظ المصالح البريطانية مع أمريكا دون منغصات.
وهذا يوضح لنا الاستراتيجية البريطانية وخطورتها
كما سمحت لهم تلك السياسة بالسعي للاستفادة من كل تجارب التفوق للدول الأخرى وتقليدها والإضافة عليها.
بمعنى أنهم كانوا يتعلمون من دروس الدول المنافسة وتجاربهم ويقتبسونها منهم ثم يزيدون على تلك التجارب من فكرهم الخاص
فكما يقول هيكل:
رغم أن البرتغال كانت صاحبة السبق في الطرق البحرية بين القارات إلا أن بريطانيا لحقتها وسبقتها، ورغم أسبانيا كانت صاحبة السبق في اكتشاف المستعمرات البحرية في أمريكا إلا أن بريطانيا لحقتها وسبقتها، ورغم أن فرنسا كانت صاحبة السبق في تجربة نابليون لاستعمار الشرق بأسلوب جديد إلا أن بريطانيا أخذت خطة نابليون العبقرية وأضافت إليها تفاصيل استراتيجية عديدة لتجعلها قابلة للتنفيذ والنجاح وتحقق لها هذا بالفعل.

السبب الثالث:
سبقت بريطانيا العالم أجمع باختراع غَيّرت به وجه السياسة الخارجية واستراتيجية الحروب، ألا وهو ابتكارها لفكرة أول (جهاز مخابرات عامة) يختلف جذريا عن فكرة أجهزة المخابرات الحربية والاستطلاع التي كانت تقوم بها الجيوش وتعمل في المجال العسكري.
وقد كانت هذه الفكرة في ذلك الزمن فكرة سابقة للعصر بمائتي عام على الأقل حيث تقوم فكرة جهاز المخابرات العامة على وجود جهاز أمني وسياسي مدني على مستوى رفيع يكون جهده موجها للشعوب لا للجيوش ويعمل على حفظ الأمن القومي البريطاني في الداخل، كما يعمل على تمهيد الأرض للبريطانيين داخل المستعمرات باصطناع العملاء واللعب على الفتن الداخلية داخل المجتمعات وإثارة النعرات الطائفية حتى تنشغل الشعوب المحتلة بالصراع فيما بينها ويغفلون عن التحالف الضروري للخلاص من الاحتلال نفسه!

قديم 02-16-2024, 09:11 AM
المشاركة 7
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)
أما كيف نشأت الفكرة.
فطبقا للسياسة البريطانية المتفردة في استغلال كل عقلية وكل فكرة، كان السياسيون والأدباء والشخصيات العامة مشغولون دوما بطريقة دعم استقرار البلاد في تلك المرحلة المشتعلة من بدايات القرن الثامن عشر
ومنهم أديب وروائي معروف وهو (دانييل دييفو) أحد أعلام الأدب البريطاني وصاحب الرواية الشهيرة (روبنسون كروزو).
وقد نبتت الفكرة بذهنه وهي ضرورة وضع أصول لجهاز أمني فائق تتمكن به الإمبراطورية البريطانية من جمع المعلومات وتحليلها بسرعة قياسية داخليا وخارجيا، فقام من فوره بوضع لبنة مشروعه على شكل بحث من 23 صفحة أرسل به إلى (روبرت هالي) رئيس مجلس العموم البريطاني عام 1704م.
وكانت بريطانيا في تلك الفترة تعاني الصراعات داخليا وخارجيا، وفي الوضع الداخلي المشتعل كانت الثورات وحركات التمرد تقوم في الأطراف البعيدة دون أن تبلغ القصر الملكي أخبارها بالسرعة المناسبة نظرا لصعوبة وسائل المواصلات والتواصل.
وقد أيقن (هارلي) مدى براعة وقدرات (دانييل دييفو)، ورغم أن دييفو كان قد شارك في الثورة وحركة التمرد التي قام بها (دوق مونماوث)، وتمكن من النجاة والهروب ثم تم اعتقاله بعد ذلك، إلا أن (روبرت هالي) تَمَكّن من التوسط لدى الملك بالعفو عنه، وساعده في ذلك بعض صداقات دانييل دييفو نفسه.
فكما قلنا إن السياسة البريطانية الجديدة كانت تقوم على تغليب المصلحة فوق أي عوامل، فرغم أن (دانييل دييفو) ارتكب جرما لا يغتفر في أي بلاط ملكي إلا أنه تم العفو عنه ببساطة بمجرد أن وجدوا في عقليته مجالا للفائدة العامة
وأصبح (دانييل دييفو) محط إعجاب الملك (ويليام الثالث)، وعمل مستشارا له لفترة طويلة وفيما بعد وبمجرد أن استوعب روبرت هالي مشروع دييفو قدمه إلى الملكة (آن) وأصدر معه قرارا بتولية (دانييل دييفو) مهمة تنفيذ مشروعه على الأرض ومنحه كافة التسهيلات.

وهنا تتبدى البراعة البريطانية لدى روبرت هالي رئيس مجلس النواب.
لأنه استخدم قاعدة من أهم قواعد عالم المخابرات، وهي أن أفضل من يقوم بتنفيذ مشروع ما، هو مبتكر المشروع نفسه.
ولذلك لم يكتف (هالي) بالموافقة على المشروع بل كَلّف صاحبه تنفيذه ومنحه الصلاحيات التامة لانتقاء العناصر المطلوبة وتقسيم أعمال الجهاز في طول بريطانيا وعرضها.
وخلال ثلاثة أعوام تمكن (دانييل دييفو) -رغم صعوبة وسائل التنقل -من أن يجوب إنجلترا وإسكتلندا وأطراف باريس ودنكرك وبولتون، وقام بانتقاء أصحاب المواهب والعقليات التي وجد فيها ما يبتغيه وقام بتشكيل اللبنة الأولى من شبكة عملاء جهاز المخابرات البريطاني.
ولم تقتصر براعة (دييفو)على هذا.
بل قام بتدريب سريع لشبكة عملائه بالذات فيما يخص تشفير الرسائل وانتحال الشخصيات، كما قام بنفسه بعدة عمليات اختراق عن طريق انتحال عدد من الشخصيات تتناسب مع المجتمع الذي ينوي اختراقه.
وبالطبع كانت هذه الأساليب غير مألوفة تماما لمجتمع القرن الثامن عشر، مما جعل نتائجها مبهرة.
وعقب انتهاء السنوات الثلاث أصبح لبريطانيا جهاز مخابرات مركزي في العاصمة تمتد أذرعه التخابرية في سائر أنحاء المملكة البريطانية وأصبحت المعلومات الكاملة عن أطراف المملكة والمستعمرات تصل بسرعة قياسية إلى الجهاز المركزي ليضعها أمام قيادته السياسية مع المشورة اللازمة للتصرف إزائها.
وهذا الذي أنجزه (دانييل دييفو) هو الذي رسم به طبيعة أجهزة المخابرات في العالم أجمع بعد ذلك حيث وضع الخطوط الرئيسية لتكوين أجهزة المخابرات الداخلية والخارجية
ولنا أن نتخيل مدى الفارق الرهيب الذي صنعه (دانييل دييفو) للبريطانيين في تأسيس بذرة جهاز مخابراتهم العريق في بدايات القرن الثامن عشر!
أي نعم أن التأسيس والتطوير لهذا الجهاز تم بعد ذلك بوقت طويل، إلا أن البذرة كانت في ذلك الزمن الأول واستمر الجهاز في التطور والتوسع حتى أصبح من أهم أجهزة الدولة في حقبة الثمانينات من القرن التاسع عشر
وفي بدايات القرن العشرين عام 1909م، صدرت القوانين المنظمة لعمل أجهزة الاستخبارات التي انبثقت عن الجهاز الأم وأصبحت عدة أجهزة منها ما هو خاص بالجيش ومنها ما هو خاص بالبحرية والمستعمرات ومنها ما هو خاص بالشأن الداخلي.
لذلك ليس صحيحا ما هو منتشر على الإنترنت أن جهاز المخابرات البريطاني تأسس عام 1909م بل تأسست فكرته وانتشر نشاطه قبل هذا التاريخ بزمن طويل.
أما منذ عام 1909م فقد أصبحت بريطانيا تمتلك مجموعة من أجهزة الاستخبارات الداخلية والخارجية كان لها أعظم الأثر على الساحة الدولية.
ويكفي أن نعلم بأن جهاز المخابرات البريطاني تمكن من الحلول محل قوات الجيش الإنجليزي في بعض المستعمرات وحقق نتائج عسكرية هائلة لصالح البريطانيين في الحرب العالمية الأولى وفي شرق آسيا عن طريق استخدام سياسة التحالفات وإثارة النعرات والصراعات الداخلية والاكتفاء بتمويل الفرقاء ليحاربوا نيابة عن البريطانيين.

ومن أمثلة هذه السياسة ما هو متعلق مباشرة بالقضية الفلسطينية، حيث تمكنت مجموعة ضباط المخابرات البريطانية في الجزيرة العربية من تحويل هزيمة البريطانيين أمام العثمانيين إلى تعادل ثم نصر في العراق أثناء أحداث الحرب العالمية الأولى، فرجحوا كفة بريطانيا التي استسلم جيشها وحوصر أمام الجيش العثماني بالفعل
فإذا برجال المخابرات البريطانية (ويلسون) و(شكسبير) و(جون فيلبي)و(لورانس)، يقومون بالتواصل مع القبائل العربية ومع (الشريف حسين) أمير الحجاز وينجحون في تجنيد ودعم القبائل الموالية لهم في مواجهة القبائل الموالية للعثمانيين، ليتسببوا في إشعال ما تمت تسميته بالثورة العربية ضد الحكم العثماني وهو ما ضعضع من قوة العثمانيين في الجزيرة.
أما في الحرب العالمية الثانية فنستطيع أن نسميها بأنها الحرب التي تحكمت أجهزة المخابرات في نتائجها بأكثر مما تحكمت فيها انتصارات الجيوش على الجبهات المختلفة، وذلك بعد أن انتبهت أوربا لخطورة أجهزة المخابرات وقامت الدول الكبرى بتقليد البريطانيين فخرج للساحة الدولية في بدايات القرن العشرين أجهزة المخابرات الألمانية والسوفياتية والفرنسية.

من هذا الشرح السابق لمسألة التفوق البريطاني على نظرائه الأوربيين سيمكننا فهم كيف نجحت بريطانيا في تطوير خطة نابليون بشأن الشرق الأوسط تطويرا شاملا، بل وحل كافة المشكلات والعقبات التي واجهت نابليون فأفشلت مشروعه.

*
بريطانيا وإعادة إحياء مشروع نابليون

شرحنا سابقا كيف أن نابليون ابتكر حلا عبقريا للفصل بين مصر والشام بزرع وتوطين اليهود الأوربيين والشرقيين في مفصل الزاوية التي بينهما بغرض منع تلاقيهما مما يؤدي إلى تيسير استقرار الاحتلال الفرنسي هناك.
ولذلك بدأ في صناعة رأي عام يهودي للترويج لتلك المسألة وتحفيز يهود العالم الفقراء المضطهدين للهجرة إلى فلسطين.
وشرحنا أيضا أن نابليون واجه معوقات هائلة في التنفيذ كان أكبرها يتمثل في كيفية تحفيز اليهود الفقراء على ترك بلادهم التي استوطنوا فيها، والرحيل لفلسطين برعاية فرنسية وحمل السلاح لمحاربة العرب هناك في سبيل تكوين وطن قومي لهم.
خاصة وأن الشريعة اليهودية نفسها كانت تعارض ذلك.
فضلا على أن اليهود الفقراء أنفسهم لم يكونوا أهل نضال أو جَلَد أو يتمتعون بالحد الأدنى من الكرامة لكي تكون فكرة وطن مستقل مغرية بالنسبة لهم.
فالله عز وجل شرح لنا في القرآن كيف ضُرِبت عليهم الذلة والمسكنة والاستسلام التام لأي اضطهاد أو جبروت يواجهوه من الحكومات المناهضة لهم.
وكلما زاد العصف والتنكيل بهم زادوا هم أيضا في الاستسلام، حتى أنهم يفضلون المعيشة تحت ظلم الاضطهاد على أن يقاتلوا في سبيل رفع الظلم.
وقد رأينا في قصة موسى مع فرعون كيف أن موسى عليه السلام ظهر لقيادتهم ورفع الظلم عنهم ورزقه الله القوة لهزيمة فرعون وهزيمة السحرة أمام جموع الجماهير, وبدلا من أن يتحمس اليهود لمناصرته, نشروا بينهم أن موسى عليه السلام جلب عليهم الخراب بتحدي فرعون وأن محاربته لفرعون تسببت في مزيد من التنكيل والأسى, رغم أنه فرعون نفسه كان قد قضى عشرات السنين في العصف والتنكيل ببني إسرائيل وقتل أطفالهم وسبي نسائهم أي أنه فعل بهم كل ما بيده من ظلم, ورغم هذا كانوا يرون في تحدي موسى له شؤما عليهم نظرا لطبيعتهم التي لا تطيق القتال والمواجهة حتى للدفاع عن حق الحياة!
يقول تعالى:
(قَالُوٓاْ أُوذِينَا مِن قَبۡلِ أَن تَأۡتِيَنَا وَمِنۢ بَعۡدِ مَا جِئۡتَنَاۚ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يُهۡلِكَ عَدُوَّكُمۡ وَيَسۡتَخۡلِفَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَيَنظُرَ كيف تَعۡمَلُونَ)

وقد انتهى مشروع نابليون نفسه والذي كان يتكون من شقين.
الشق الأول:
شق معلن وهو التعاطف مع المسألة اليهودية والدعوة العلنية لتوطين اليهود في فلسطين وهذا ما أعلنه نابليون من خلال مؤتمر (سانهردان) ومن خلال (الورقة اليهودية)، وهذه الفكرة سمعت بها الدول الأوربية وعرفتها.
الشق الثاني:
وهو الشق السري من مشروع نابليون الإمبراطوري الطموح، والذي وجد فيه نابليون الاستراتيجية الكافية لإنشاء إمبراطورية مستقرة في الشرق واستخدام الوطن اليهودي كحارس على هذا المشروع.
فهذه الفكرة كانت في أوراق نابليون وفي أذهان قادته الكبار في الحملة الفرنسية، والتي تسربت فيما بعد لأطراف أوربية فاعلة كما سنرى
ولم تكن أوربا لتهتم بالشق الأول من مشروع نابليون إذ أن اليهود ومعاناتهم لم يكونوا يمثلون أدنى اهتمام لأي دولة أوربية بل يسعون بكل السبل لطردهم وتشريدهم.
لكن الذي يمكن أن يلفت نظر أي قوة أوربية طموحة هو الشق الثاني من الفكرة لما يحمله من خطة بالغة البراعة لفرض السيطرة على قلب العالم المتمثل في الشرق الأوسط

وقد لعب القدر دورا كبيرا في وصول الفكرة والمشروع للحكومة البريطانية وبالأسلوب الذي جعلها تتحمس له، بل وتراه ضرورة وهدف استراتيجي لمصالحهم
خاصة وأن المشروع كان يحمل تحقيقا لأحلام بريطانيا وأوربا كلها دفعة واحدة.
فالمصادفة القدرية جمعت أمرين تجمعا في وقت واحد ليصبحا دافعا قويا لبريطانيا وأوربا للتفكير في توطين اليهود في فلسطين.
وهما:
*ظهور إمارة (محمد علي) في مصر وَتَعَمْلقها في وقت قياسي
* تفجر الأزمة اليهودية وزيادتها بشكل فادح في أوربا
ولا يمكن أن نفهم الدور البريطاني والأوربي في إعادة إحياء مشروع نابليون على نطاق واسع وأكثر تفصيلا إلا بفهم هاتين النقطتين.

فالنقطة الأولى:
وهي نقطة ظهور (محمد علي) وتجربته في مصر.
فلم تكد بريطانيا تتنفس الصعداء بعد خلاصها من نابليون ومشروعه الاستعماري في الشرق الذي كان يهدد مصالحها تهديدا مباشرا.
حتى فوجئت بريطانيا بعد عدة سنوات، بتطور الحوادث في مصر بعد فشل الحملة الفرنسية ورحيلها.
فقد ظهرت شخصية الجندي الألباني الأصل (محمد علي) على مسرح الأحداث، وتمكن من أن يسد الفراغ الأمني الذي خلفته الحملة الفرنسية مما أكسبه شعبية بين رموز الثورة وقيادات المجتمع في مصر مثل السيد (عمر مكرم) نقيب الأشراف، وشيخ الأزهر وقيادات المقاومة ضد الحملة الفرنسية.
واختار العلماء والقيادات الشعبية (محمد علي) واليا على مصر تابعا للسلطنة العثمانية، وكان اختياره مجمعا عليه من السلطنة ومن الشعب المصري في تلك الفترة.
لكن نجاح (محمد علي) في امتلاك ولاية مصر لم يكن بتلك الطريقة المباشرة السهلة، لأن وثائق هذه المرحلة تكشف أن محمد علي كان داهية سياسي ومحنك.
لذلك أوحى للقيادات الشعبية في مصر بأنه منهم ولهم وأنهم إذا اختاروه فإن السلطان العثماني سَيُصَدّق على اختيارهم باعتباره اختيار الشعب والضمان للاستقرار بعد فترة الفراغ التي خلفتها الحملة الفرنسية.

إلا أن (محمد علي) مثلما كانت له خطوط مباشرة وعلنية مع القيادات الشعبية، كانت له أيضا خطوط سرية متواصلة مع النافذين في السلطنة العثمانية، والأهم كانت له خطوط اتصال بالقوى الأوربية الكبرى وعلى رأسها القنصل الفرنسي في مصر (بافاروتي)
لا سيما وأن السلطة العثمانية كانت قد ضعفت كثيرا، ونجحت الدول الأوربية في التدخل بشئونها واختراقها بسبب سياسة إغراق السلطنة بالقروض الربوية، ومصر على مدار التاريخ لم تكن بعيدة عن محط اهتمام الدول الكبرى باعتبارها عاصمة الشرق، لذلك تعرضت لمحاولات الاحتلال العسكري طويلا في الحملات الصليبية وحملة نابليون.
وعندما لا تكون الظروف مواتية للتدخل العسكري الأوربي كانت المؤامرات الخفية تلعب دورها في اللعب على مسرح الأحداث السياسية في مصر، لذلك كانت الرواية الشهيرة لتولية (محمد على) منقوصة...
فمن غير الطبيعي أن تستسلم الدول الغربية الكبرى وتغض الطرف عن الأحداث الهائلة في مصر عقب الإنجاز التاريخي للمصريين في طرد الفرنسيين!

لذلك جاءت الوثائق التي تم كشفها فيما بعد في الدول الأوربية وأفرجت عنها السلطات أوضحت لنا أن هذه الصدفة التاريخية غير واقعية ولا علاقة لها بالأحداث!
والواقعة كما رواها لنا مؤرخنا الكبير (محمد حسنين هيكل)" " أوضحت مذكرات القنصل الفرنسي بمصر في ذلك الوقت (بافاروتي) أن (محمد على) أقبل إلى مصر منتهزا الفرصة التي بدت له فاتحة ذراعيها نتيجة لعجز الخلافة العثمانية إزاء القضية المصرية فتودد للخليفة العثماني وجاء إلى مصر في الجيش القادم لها من تركيا، ومنذ اللحظة الأولى أخذ في التدبير بصبر شديد مع سائر القوى الموجودة بمصر، وهم الزعماء الشعبيون والفرنسيون والإنجليز والقيادة التركية في الأستانة.
ونجح في إظهار نفسه بالصورة المثالية مع جنوده الألبان أمام الشعب عندما تدخل لتستقر الأوضاع ويمنع مفاسد (الجنود الأرناؤد) بالقاهرة فاختاره الزعماء لقيادة مصر ونجح التودد إلى الخليفة كذلك في عدم معارضته للرغبة الشعبية...
كما تمكن ـــ وهو الأهم ـــ من استمالة القيادة الفرنسية وكسبها إلى صفه لتحقيق هدفه عن طريق رشوة القنصل الفرنسي ذي الأصل الإيطالي (بافاروتي) وكانت الرشوة عبارة عن وعد من (محمد على) لبافاروتي أن يطلق يده في بعض الآثار المصرية وتم له بالفعل ما أراد وحمل (بافاروتي) كمية مهولة من الآثار المصرية عقب رحيله من مصر وعودته إلى مسقط رأسه بإيطاليا حيث تمكن من فتح متحف كامل بتلك الآثار.
وبالطبع كان دور (بافاروتي) السياسي والدبلوماسي مؤثرا وقويا لدعم وجود (محمد على) في مصر واليا عليها من قِبــَل السلطان العثماني.

وهذا ما يتفق مع شخصية (محمد على) الذي كان سياسيا داهية -رغم كونه أميا-ويجيد اللعب على أوتار توازن المصالح إلى أقصي درجة!
لهذا نجح في كسب القوى الشعبية إلى صَفّه، وقت فوران الشعب وثورته، كذلك نجح في كسب ود (المماليك) وتحييدهم جزئيا، ونجح بمعاونة (بافاروتي) في تحييد الاعتراض الأوربي، وذلك بعد أن نجح في كسب السلطان العثماني لصفه، وعندها أصبح على سدة الحكم فعلا
وكعادة السياسيين في هذا الباب بدأ بأكل حلفائه واحدا بعد الآخر، ثم بدأ مشروع دولته الخاصة فقام باستخدام نفوذه الشعبي ليتمكن من تكوين جيش نظامي هائل من المصريين أنفسهم لا من المماليك وأسند مهمة تدريبه إلى الجنرال (سليمان الفرنساوي) الذي كان جنرالا من قادة الحملة الفرنسية ثم أسلم وبقي في مصر بعد رحيل الحملة واستعان به محمد علي لتحقيق طموحه في إنشاء جيش معاصر ومتقدم تسليحا وتدريبا، وبعد امتلاكه القوة والاستقرار فتك بالمماليك في المذبحة الشهيرة
ثم استغل هدوء الأوضاع وانطفاء جذوة المد الثوري، وألقي القبض على (عمر مكرم) الزعيم الشعبي الذي كان يمثل مركز قوة لا يستهان به، وقد استعان في ذلك بتقريب شيوخ الأزهر المعادين والمنافسين لعمر مكرم حتى يتمكن من اعتقاله!
وقضى محمد علي عدة سنوات في خدمة السلطان العثماني ومعاونته بالجيش المصري الجديد في هزيمة ثورة الوهابيين الأولى في الجزيرة وكذلك في حرب اليونان.
وعندما أحس (محمد على) أن السلطان أدرك أن قوة الجيش المصري أصبحت تعادل السلطنة المركزية وانتوى الغدر، هنا اتخذ (محمد على) قراره بالاستقلال بمصر وسوريا وضمها إليه.
ورغم أن محمد علي لم يكن يريد أكثر من الاستقلال بمصر وما تحت يدها في الجزيرة العربية وإفريقيا، فإنه لم يكتف بإعلان الاستقلال ولم يكن السلطان ليجرؤ على مهاجمته، وإنما بادر بالهجوم على سوريا وهي خطوة خطيرة تزيد من احتمالية تدخل أوربا في الصراع.
ولم تكن هذه الخطوة حماقة من (محمد علي) بل هي خطوة لازمة من ناحية ارتباط الأمن القومي بالشام في الأصل.
وأن محمد علي كان يؤمن مثل نابليون بأن حدود الأمن القومي يمتد بالبوابة الشرقية إلى سوريا.
بخلاف الأهم.
وهو أن مبادرة محمد علي إلى سوريا تكشف بوضوح أنه كان على علم – بشكل ما – بخطة نابليون وهذا أمر توقعه هيكل بسبب وجود الجنرال الفرنسي (سليمان الفرنساوي) إلى جواره وحتما أفضى إليه بمشروع نابليون باعتبار أن الفرنساوي كان من قادة الحملة الفرنسية الكبار.
لذلك بدأت حملة (محمد علي) على سوريا، ونجح الجيش المصري بقيادة (إبراهيم باشا)، في اكتساح الشام وعندما جاءت النتائج العسكرية مطمئنة ومشجعة للتفوق المصري أكمل (إبراهيم باشا) اقتحام الأراضي العثمانية وكاد يهزم جيش الخلافة في معركة فاصلة.
هنا انتبهت القوى الأوربية لما يحدث في مصر والشام وكيف أن (محمد علي) لو استمر سينجح حتما في إسقاط الخلافة العثمانية والحلول مكانها بدولة فتية وشابة تختلف تماما عن الخلافة العثمانية التي شاخت ورضخت للأوربيين.
لذلك رفع الجنرال (ولنجتون) الذي أسقط نابليون، رفع مذكرة عاجلة إلى رئيس الوزراء البريطاني (بالمرستون) يحذره من المصيبة القادمة من الشرق الأوسط.
حيث أن أوربا قضت سنوات طوال في ضعضعة أركان الخلافة العثمانية واختراقها، والسيطرة على قراراتها سياسيا وماليا عن طريق القروض السخية التي أصبحت حبلا يطوق القرارات السيادية للخلافة.
وبالتالي:
أصبحت الخلافة العثمانية هي (الرجل المريض) في أوربا والذي يترقب الأوربيون جميعا إسقاطه وتوزيع تركته بعد صراع طويل ممتد لعدة قرون.
لذلك لنا أن نتخيل رد الفعل البريطاني والأوربي وهم يجدون محمد علي في بضع سنوات أسس جيشا من الفلاحين المصريين -لا من المماليك-ودعمه بأحدث التدريبات وأصبح على قدم المساواة مع الجيوش الأوربية
كما أسس محمد علي أسطولا ضخما يناهز أسطول الخلافة وبلغ عدد الجنود في الجيش مائة ألف جندي وضابط، ثم اقتحم بهم محمد علي جولات حربية هائلة أكسبت الجيش حساسية المعارك في حروب الجزيرة العربية ثم حرب اليونان ثم مشاركة الأورطة المصرية في المكسيك دعما لحلفاء الخليفة العثماني.
وحتى ذلك الوقت لم يكن محمد علي يمثل تهديدا للطموح الأوربي.
لكن بمجرد أن تفجرت الأزمة الكبرى بين (محمد علي) والسلطان العثماني عام 1938م، وقرر حينها محمد علي أن ينقض على سوريا لضمها لمصر ويؤسس لإمارة مستقلة.
هنا قام الجنرال (ولنجتون) بتقديم مذكرته التحذيرية لا سيما وأن نتائج المعارك في الشام كانت نصرا ساحقا للجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا، وزاد الطين بلة أن الأسطول العثماني الذي أرسله السلطان لمواجهة أسطول محمد علي، انهزم أمامه ثم قرر قائد الأسطول أن يراهن على الجواد الرابح فانضم بقوات الأسطول العثماني البالغ عددها عشرون ألف بحار إلى الأسطول المصري ليصبح الجيش المصري قوة مرعبة لأوربا.
ودعا الجنرال (ولنجتون) رياسة الوزراء البريطانية لسرعة التصرف وعقد تحالف أوربي قوي لمواجهة (الباشا) الذي يظن أنه لا يُقهر – على حد تعبيره-وإعادته إلى الخضوع والطاعة للسلطان.

ولم يكن بالمرستون بحاجة لأكثر من هذه المذكرة وتفاصيلها المرعبة كي تتناسى الدول الأوربية خلافاتها وتشكل تحالفا من بريطانيا وروسيا والنمسا وبروسيا لفرض حصار بحري صارم على الأسطول المصري في البحر المتوسط.
وكان سبب الرعب الأوربي في أن محمد علي سيقوض جهود الأوربيين التي بذلوها لإخضاع العثمانيين، فضلا على أن اقتحام (محمد علي) للشام قابلته حركة تحررية مُرَحِبة من أهل الشام بالشكل الذي أعاد لأذهان الأوربيين عقدتهم الأبدية من اتحاد هذين القطرين والذي سبق أن أفشل كافة الحملات الصليبية من قبل.
وبالفعل نجح الأسطول الأوربي المتحالف في ضرب خطوط مواصلات محمد علي وأعلن الأوربيون استجابتهم لاستغاثة السلطان العثماني الضعيف بعد أن وقف (محمد علي) على بعد كيلومترات من عاصمة الخلافة.
لتنتهي المعركة بنتيجة أشبه بالتعادل عندما أجبرت الدول الأوربية (محمد علي) على أن يخضع لصلح (كوتاهية) عام 1840م في مقابل احتفاظه بمصر كولاية له ولأبنائه على أن يتم تقليص جيشه لأربعين ألف جندي فقط وتظل التبعية المصرية للسلطان العثماني إسما.
وهنا انتهت خطورة (محمد علي) المباشرة على السلطنة وعلى الشام بشكل مؤقت، وعاد السلطان العثماني لسيطرته على الشام بفضل دعم حلفائه الأوربيين أعداء الأمس.
ولم تكن سيطرة السلطان العثماني على الشام من جديد بالسيطرة الفعلية، نظرا لأن الجماهير الحاشدة شاهدت ما حدث وتابعت كيف أن السلطان استعان بأعداء الأمة في سبيل إنقاذ نفسه.
فضلا على النقطة الأكثر خطورة.
وهي أن النفوذ الفعلي في الشام أصبح للدول الأوربية بعد أن كان لقواتهم الفضل في هزيمة محمد علي، وبالتالي أصبح السلطان العثماني على استعداد كامل لسماع مطالب الأوربيين والتفاعل معها، خاصة وأن الأوربيين لم يجعلوا أمامه فرصة لذلك عندما تمكنوا من رشوة وتجنيد معظم رجال البلاط العثماني وأصحاب المشورة فيه.
فهذه هي النقطة الأولى القدرية التي دفعت بريطانيا بضرورة البحث عن حل جذري من صداع اتصال مصر بالشام
وحماسة بريطانيا ورعايتها للمشروع كانت لافتة لنظر مؤسسي الصهيونية الذين تكونوا فيما بعد فسجلوا في مذكراتهم أن الحماسة البريطانية للمشروع كانت غريبة وتفوق المتوقع.
ومنهم (ناحوم سوكولوف) رفيق درب (تيودور هيرتزل) الذي تولى رياسة الحركة الصهيونية، فقال ناحوم سوكولوف في مذكراته أن الحماس البريطاني للمشروع يرتكز أساسا على طبيعة السياسة الإنجليزية في الشرق الأدنى.
بمعنى أن بريطانيا أمسكت بتلابيب المشروع الصهيوني في فلسطين بالذات، نظرا لأن مصالحها الاستراتيجية في الشرق الأقصى والأدنى أصبحت رهينة بوضع نقطة فاصلة بين مصر والشام بعد ضرب تجربة محمد علي وَحَصْره داخل مصر، واستخدام صحراء سيناء كسدادة فلين تمنع تعميرها واتصالها بالشام إلى الأبد


قديم 02-24-2024, 01:04 AM
المشاركة 8
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)

*الوحي اليهودي (شافتسبري وروتشيلد)

بعد هزيمة نابليون ومشروعه ظهر الاهتمام بفكرته حول تهجير الفلسطينيين من شخصيتين كبيرتين من الإنجليز، يعود لهما الدور الأبرز والأضخم في هندسة مشروع التوطين وترشيحه للحكومة البريطانية.
الشخصية الأولى هي اللورد (أنتوني شيلي كوبر) المعروف باسم (شافتسبري السابع) المسيحي الإنجيلي، والشخصية الثانية هي البارون (روتشيلد) المليونير اليهودي الأشهر في بريطانيا والذي كان أغنى شخصية يهودية في أوربا وربما في العالم، وهو الشخص الذي امتلك نفوذا ماليا وسياسيا ضخما على الحكومة البريطانية.
أما كيف امتلك الصديقان الاهتمام بفكرة نابليون فهذا يعود بالأصل إلى أن أوربا عندما كانت تضيق وتضطهد عوام اليهود الفقراء، لم تكن تفعل ذلك على مستوى الأوربيين المسيحيين وحدهم.
بل كان يشاركها الضيق من عوام اليهود كبار مليونيرات اليهود الأوربيين، وهؤلاء بالطبع لم يكن منهم من يتعرض للاضطهاد أو العنصرية لأنهم أصبحوا بفعل ثرواتهم العملاقة واتصالاتهم الكبرى بالحكومات الأوربية مراكز قوى في أوربا يتساوى نفوذهم أو يتعدى أبرز الشخصيات الحاكمة على مستوى القارة.
وكان من الطبيعي أن يشعر مليونيرات اليهود بالسأم والضجر من مشاكل فقراء اليهود الذين يبتزون عواطفهم الدينية بهدف رفع الظلم والاحتقار عنهم.
ولذلك كان مليونيرات اليهود يقفون صفا واحدا مع السياسة الأوربية الراغبة في الخلاص من اليهود بتصديرهم إلى مكان آخر خارج القارة الأوربية بغض النظر عن المكان سواء كان في المستعمرات أو في فلسطين.
فالذي حكم رغبة أغنياء اليهود هنا هو تصدير اليهود خارج منطقة نفوذهم لكيلا يعكروا صفو حياتهم أو يتسببوا بمشكلات سياسية لهم مع الحكومات الأوربية.
لذلك تحمس البارون (روتشيلد) لتبني فكرة (نابليون) ورأى أن أهم دولة تستطيع تنفيذ الفكرة بالفعل هي بريطانيا التي تخلصت من كابوس نابليون وأبطلت خططه بالسيطرة على خطوط مواصلاتها في الشرق.

ونظرا للصداقة الوطيدة بين (روتشيلد) والسياسي البريطاني الكبير (شافتسبري) فقد صارح صديقه بفكرته ودعاه لأن يتواصل مع صهره رئيس الحكومة البريطانية (بالمرستون) ويعرض عليه الفكرة والمشروع ويدعوه لتنفيذه بالتعاون والتمويل من مؤسسات اليهود المالية الكبيرة في بريطانيا وأوربا.
ووجود شخصية (شافتسبري) في الأحداث هي التي مزجت الفكرة السياسية بالفكرة الدينية وكانت البذرة الأولية لمنهج (الصهيونية).
لأن روتشيلد اختار بالفعل الشخصية المناسبة لفتح الموضوع مع رئيس الحكومة البريطانية (بالمرستون), لأن شافتسبري يمت له بقرابة المصاهرة من ناحية, ومن ناحية أخرى فإن ميول وانتماءات (شافتسبري) كانت خير بداية للمشروع نظرا لأن هذا الأخير مسيحي إنجيلي, والإنجيليون – كما هو معروف- هو أكثر طوائف المسيحية تعاطيا مع المسألة اليهودية, فإلى جانب شعورهم التقليدي ناحية اليهود بالازدراء, إلا أن الإنجيلية البروتستانتية كانت تنظر لليهود على أنهم فئة ضالة من بنى إسرائيل ومن رعايا المسيح, ومن أهم معتقدات الإنجيلين أن جمع اليهود من العالم وإعادتهم إلى أرض فلسطين الموعودة أمر ضروري لأن إعادتهم إلى أرض الأجداد ستكون هي المقدمة التي يتحولون بها من اليهودية إلى المسيحية.
وهذه الفكرة بالتحديد – فكرة إعادة اليهود أولا للأرض الموعودة ثم تحويلهم للمسيحية-هي الفكرة الأساسية لمنهج (الصهيونية المسيحية)
وبالمقابل فإن (الصهيونية اليهودية) كانت تعتقد بوجوب بعث المسيح أولا لبني إسرائيل وظهوره فيهم وعندئذ فقط يكون من حق اليهود أن يعودوا للأرض المقدسة تحت قيادته.
وهكذا نرى أن الصهيونية المسيحية تعاكس اليهودية رغم وحدة الهدف.
ولكن مسألة الاختلاف العقائدي الواضح بين الصهيونية المسيحية واليهودية أصبح من قبيل الشعارات الفارغة والهزل، بعد أن تم عرض المشروع على الحكومة البريطانية وتحمست له وتم اتخاذ الخطوات التنفيذية له.
عندئذ أصبحت (الصهيونية) مذهب سياسي علماني لا علاقة له بشريعة اليهود أو المسيحيين بل يدين بالولاء المطلق لسياسة المصالح الاقتصادية للدول الكبرى وإن كانت الشعارات الدينية تكسوه من الخارج.
تماما مثلما حدث في أوربا قبيل الحملات الصليبية حيث ظلت الكنيسة الغربية تنادي بضرورة إعادة احتلال الشام والقدس، وطرد المسلمين منها، ولم تستجب السلطات الأوربية وتنفذ الحملة تلو الأخرى إلا بغرض الاحتلال السياسي والتوسع الإمبراطوري الذي جعلوا من فلاحي أوربا جنودا ووقودا للحرب من أجل أهدافهم، ورفعوا شعار الصليب على الحملات حتى تتحمس الشعوب فتقبل التجنيد وتقاتل بحماسة لصالح الإرادة الصليبية.

الخلاصة.
تحمس (شافتسبري) للوحي اليهودي الذي صَبّه صديقه (روتشيلد) في أذنيه وبدأ يناقش هذه المسألة من منطلق معتقده الإنجيلي، ويؤسس لنظرية الإنجيليين في ضرورة عمل الملكيات المسيحية في أوربا على إعادة اليهود إلى الأرض الموعودة وتنصيرهم هناك.
(وقد نشر شافتسبري عام 1838 في مجلة "كوارترلي ريفيو " -وهي من أكثر المجلات نفوذاً في ذلك العصر-عرضاً لكتب أحد الرحالة إلى فلسطين. وقد بدأ المقال بالديباجة الدينية المعتادة عن قضية اليهود ثم تناول بعد ذلك تربة فلسطين ومناخها باعتبارها مناسبة لنمو محاصيل تتطلـبها احتيـاجات إنجـلترا مثل القطن والحرير وزيت الزيتون.
ويبين شافتسبري أن كل المطلوب لإنجاز هذه العملية هو رأس المال والمهارة، وكلاهما سيأتي من إنجلترا، وخصوصاً بعد تعيين قنصل لإنجلترا في القدس إذ سيؤدى وجوده إلى زيادة أسعار الممتلكات. ثم يقترح عند هذه النقطة توظيف اليهود على أن يكون القنـصل البريطـاني الوسـيط بينهم وبين الباشــا العثمـاني، حتى يصبـحوا مرة أخــرى، مزارعين في يهوذا والجليل. وهذا الاقتراح يحوي بعض عناصر الصيغة الصهيونية الأساسية مثل شعب عضوي منبوذ نافع ينقل خارج أوربا لتوظيفه لصالحها)

وبهذه الأفكار التي استمر (شافتسبري) في كتابتها وتطويرها ووضع الخطة التنظيمية لتحقيقها من الحكومة البريطانية بل والحكومات الأوربية الكبرى، هذه الكتابات نستطيع القول بأنها النص الأساسي الذي انبثق عنه المشروع الصهيوني بعد ذلك.

ومن أخطر ما ابتكرته قريحة شافتسبري هي شرحه للفائدة السياسية والاقتصادية التي ستعم أوربا من تنفيذ المشروع، هذا الشرح الذي قدمه (شافتسبري) في مذكرة خاصة لرئيس الوزراء البريطاني (بالمرستون) في ديسمبر 1840م لاسترجاع اليهود وحل المسألة الشرقية وتطوير المنطقة الممتدة من جهة الرافدين حتى البحر الأبيض المتوسط -وهي البلاد التي وعد الإله بها (إبراهيم) حسب أحد تفسيرات الرؤية التوراتية
ويؤكد شافتسبري في مقدمة المذكرة أن المنطقة التي أشار إليها آخذة في التصحر والبوار بسبب التناقص في الأيدي العاملة، ولذا فهي تتطلب رأس مال وعمالة. ولكن رأس المال لن يأتي إلا بعد توفير الأمن. ولهذا، فلابد أولاً من اتخاذ هذه الخطوة، ثم يشير بعد ذلك إلى أن حب اختزان المال والجشع والبخل ستتكفل بالباقي، فهي من أهم دوافع الإنسان "الوظيفي"، ولذا فهي ستدفع به إلى أية بقعة يمكن أن يحقق فيها أرباحاً ومثل هذه الضمانات ستشجع كل محب للمال عنـده الحمـاس التجـاري، أي أعضاء الجماعات الوظيف
كل هذه المقدمات العامة تقود شافتسبري إلى الحديث عن «العنصر العبري» أو الشعب العضوي المنبوذ -باعتباره جماعة وظيفية استيطانية -ثم يقترح أن القوة الحاكمة في الأقاليم السورية -دون تحديد هذه القوة -لابد أن تحاول وَضْع أساس الحضارة الغربية في فلسطين وأن تؤكد المساواة بين اليهود وغير اليهود فيها. وتحصل هذه القوة على ضمانات الدول العظمى الأربع عن طريق معاهدة ينص أحد بنودها على ذلك،
وسوف يشجع هذا الوضع الشعب اليهودي العضوي المعروف بعاطفته العميقة نحو فلسطين حيث يحمل أعضاؤه ذكريات قديمة في قلوبهم نحوها. وهذا الشعب اليهودي العضوي جنس معروف بمهاراته وثروته المختبئة ومثابرته الفائقة. وأعضاء هذا الجنس يمكنهم أن يعيشوا في غبطة وسعادة على أقل شيء، ذلك أنهم ألفوا العذاب عبر العصور الطويلة. وحيث إنهم لا يكترثون بالأمور السياسية، فإن آمالهم تقتصر على التمتع بالأموال التي يمكنهم مراكمتها... إن عصوراً طويلة من العذاب قد غرست في هذا الشعب عادتيْ التحمل وإنكار الذات
ورغم أن هذه المذكرة قد كُتبت قبل عشرين عاماً من ميلاد هرتزل، فإن كل ملامح المشروع الصهيوني موجودة فيها، وخصوصاً فكرة توظيف وضع اليهود الشاذ داخل المجتمعات الغربية لخدمة هذه المجتمعات، وذلك عن طريق نَقْلهم ليصبحوا كتلة عضوية واحدة لا تخدم دولة غربية واحدة وإنما الغرب بأسره)

وعقلية (شافتسبري) في صياغة هذا المشروع لا تقل براعة أو عبقرية عن عقلية (نابليون) صاحب الفكرة الأصلية.
السبب في هذا أن (شافتسبري) باعتباره واحدا من ألمع الساسة البريطانيين وأكثرهم خبرة، كان يدرك تماما أن حماسة الحكومة البريطانية للمشروع لن تتحقق بمقدار خردلة إذا اقتصرت فكرة التوطين على المزاعم الدينية الإنجيلية وحدها.
كما أنها لن تتحقق لمجرد رغبة أباطرة اليهود في طرد الفقراء منهم لخارج أوربا، لذلك بنى شافتسبري مشروعه على أن يكون المشروع نفسه يحمل فوائد لا حصر لها للحكومة البريطانية وللحكومات الأوربية الحليفة.
ولذلك جعل أفكاره حول المشروع تحمل نفس إرهاصات فكرة نابليون حول الفوائد السياسية التي سيجنيها البريطانيون من اصطناع وطن كامل لليهود يكون تحت رعايتهم ويعمل لصالحهم في أخطر منطقة تهم البريطانيين وهي منطقة الشرق الأوسط.
باختصار.
وضع شافتسبري اللبنة الأولى لفكرة (الصهيونية) وهي أن تقوم أوربا بالتعامل مع اليهود كما يتم التعامل مع المخلفات، حيث يتم إعادة تدويرهم واستخدامهم للفائدة الاقتصادية مرة أخرى بدلا من الخلاص منهم بلا ثمن أو استبقائهم في أوربا مع استمرار مشاكلهم فيها.

ويشرح (شافتسبري) في مذكراته كيف أغرى صهره (بالمرستون) رئيس الوزراء البريطاني بالمشروع حيث أنه عندما ذهب للقائه وأخذ يبالغ ويشرح مدى معاناة اليهود وحاجتهم إلى التوطين في أرض الميعاد، لم يكترث بالمرستون لكلامه وعواطفه حتى أنه كان يستمع إليه وهو يمسك بكأس من خَمْرِه المفضل.
ويكمل شافتسبري بأنه عندما قام بتناول الموضوع من جهة المصالح البريطانية الأكيدة الكامنة وراء هذا المشروع عندها فقط انتبه له بالمرستون وترك كأس الخمر وأخذ يستمع إليه.
فهذه المناقشة التي دارت بين شافتسبري وبالمرستون جاءت في وقت حساس عقب نجاح بريطانيا وحلفائها في تحييد محمد علي وإبعاد خطره عن الشام.
وعندما جاء شافتسبري بمشروع توطين اليهود كعازل ضامن بين مصر والشام يمنع اتحادهما، هنا وجد بالمرستون أنها الفكرة العبقرية التي يبحث عنها كي يتمكن من كف خطر محمد علي نهائيا عن الشام.
وقد تأكدت وجهة نظر بالمرستون عندما تلقى من (روتشيلد) خطابا يشرح له فيه أن محمد علي ترك فراغا في الشام لم يستطع الحلفاء الأوربيون أن يملئوه.
وأن الضمان الوحيد للمصالح البريطانية يكمن في خطوتين تكمل إحداهما الأخرى.
الأولى:
وهي طرد محمد علي من الشام وحجزه خلف صحراء سيناء واعتبار سيناء سدادة فلين أمام تقدم محمد علي، وهذا ما تحقق بالفعل
الثاني:
ضمان مستقبلي نهائي بعدم تكرار تجربة محمد علي مرة أخرى عن طريق إنشاء شبكة عملاقة من المشروعات الاستيطانية التي تستقبل مهاجري اليهود من كافة أنحاء العالم وتمنحهم فرصة العيش الرغد في المزارع والمستوطنات بالرعاية الأوربية مما يمثل حاجزا طبيعيا أمام أي حاكم مصري أو شامي يفكر في إعادة اتصال الزاوية المصرية الشامية.

ولم يضع بالمرستون وقتا كعادة مسئولي بريطانيا في سياستهم الجديدة.
فقد وضع الفكرة قيد البحث ودراسة الخطوات التنفيذية والبدء في دراسة العوائق التي تقف أمام المشروع وتذليلها.
وبدون تضييع الوقت، وقبل أن تمر عدة أشهر على كبح جماح محمد علي عام 1840م، بادر بالمرستون إلى إرسال توجيهاته إلى سفيره في إسطنبول، كي يبدأ الاتصالات مع السلطان العثماني الذي عاد للشام وَضَمِن عرشه على رماح التحالف البريطاني.
فكان من الطبيعي أن ينتظر السلطان وحاشيته الثمن المرتقب الذي ستطالب به دول التحالف وعلى رأسهم بريطانيا.
وظهر الطلب في البرقية التي أرسلها بالمرستون لسفيره اللورد (بونسونبي)، وكان محتوى البرقية أن يتكلم السفير مع السلطان عن مأساة الشعب اليهودي وأن هذا الشعب المشرد يجب أن يعود إلى أرضه التاريخية تحت رعاية السلطان.
ثم يُلْفت بالمرستون نظر سفيره إلى أن السلطان إذا لم يتقبل هذه الحجة أو المزاعم العاطفية فعليه أن يخاطبه بمقتضيات المصلحة العثمانية في فتح باب الهجرة لليهود حيث أن كثيرا من اليهود لديهم ثروات ضخمة مما سيعني هذا انعكاسا اقتصاديا كبيرا إذا استثمروا هذه الأموال على أرض فلسطين التابعة للخلافة.
ثم تابع بالمرستون خطاباته لسفيره عند السلطان بضرورة مخاطبة حاشية السلطات بالرغبة البريطانية وأنها مطلب أوربي عام ستتلقاه أوربا بكثير من الامتنان!
ثم كانت أخطر البرقيات التي أرسلها بالمرستون لسفيره كي يواصل الضغط على السلطان كي يعلن عن سماحه بالهجرة اليهودية لفلسطين.
حيث طلب بالمرستون من سفيره أن يبلغ السلطان أن بريطانيا لا تريد أن تتكفل الخلافة أية تكاليف في سبيل فتح الفرص أمام العودة اليهودية، ولا حتى في سبيل الدفاع عن اليهود المهاجرين، وأن بريطانيا توافق على أن تكون دعوة السلطان لليهود بالعودة لفلسطين ستكون تحت حماية السلطات الإنجليزية وأن اليهود المهاجرين ستتم مخاطبتهم رسميا في نقل شكاواهم المتوقعة عن طريق الإنجليز.

ولم يكتف البريطانيون بالتمهيد السياسي.
حيث ظهرت فائدة التفوق البريطاني في الاستراتيجية التي وقفت خلفها التغييرات الإيجابية في الحكم والتي سبق شرحها.
حيث قادت بريطانيا ما يشبه حملة علاقات عامة ضخمة للترويج لعودة اليهود لأرض الأجداد كما تزعم أساطيرهم، واستخدمت بريطانيا شعراء أوربا وأدبائها وفلاسفتها لخدمة المشروع ومنهم الشاعر الأوربي (بايرون) الذي أصدر ديوانا كاملا بعنوان (الأغاني العبرية) يحكي فيه بالشعر الحماسي والتراجيديا مأساة اليهود وهم مشردون من آلاف السنين بينما أرضهم يرثها غيرهم!
وبالتالي جرت خطوات المشروع على كافة المستويات وفقا للخطة البريطانية، وبدأ الإعداد الفعلي لرسم خطة إنشاء المستعمرات الاستيطانية داخل فلسطين بالتمويل اليهودي من أغنياء أوربا
مع ضرورة ملاحظة هامة.
أن اللورد شافتسبري وكذلك روتشيلد وبالمرستون، كانوا يتابعون المشروع بخطوات تنفيذية لكن دون الإفصاح مطلقا عن النوايا البريطانية في تأسيس كيان ودولة يهودية مستقلة في فلسطين، تنتمي وظيفيا إلى الغرب وتنافي تماما محيطها العربي والإسلامي.
بمعنى أنهم طالبوا السلطان العثماني فقط بمنح اليهود حق الهجرة إلى فلسطين كرعايا في خدمة السلطان وضمن ولاية الشام كلها، دون الحديث عن النزعة الانفصالية للمشروع وهي السر الكبير الذي رأى بالمرستون وروتشيلد ضرورة الحفاظ عليه لكيلا تنقلب الدنيا فوق رءوسهم قبل أن يتم تغيير البيئة الديمغرافية والتوزيع السكاني في القدس.
لأن السلطان وباقي بلاد المسلمين في الشرق لو خطر ببالهم أن النية تكمن في جلب أكبر عدد من اليهود لفلسطين بحيث يكون للعدد قوة كافية تمنحه الاستقلال عن الخلافة وعن الأرض العربية المتوحدة فإن المشروع لن يُكْتب له النجاح
وهذا ما نتأكد منه بمطالعة رد فعل (شافتسبري) على ما نشرته جريدة (التايمز) البريطانية عن خطوات إعادة اليهود لأرض لفلسطين.
حيث خشي شافتسبري أن ينتبه السلطان وغيره لمعنى كلمات رئيس الوزراء بالمرستون الواردة في الخبر الصحفي والتي تتحدث عن هجرة اليهود باعتبارها (عودة) و(استدعاء) لأرضهم التاريخية وهو ما يُعْتبر كشفا للنوايا في وقت مبكر للمشروع قبل أن تقوم قائمته.
لذلك كان شافتسبري يرى أنه من الأسلم استخدام كلمة (السماح بهجرة اليهود) كي يظل الأمر في إطار كونه طلبا واستعطافا من السلطان لا مطالبة بحق واستعادة إرث مغصوب.

باختصار.
أخفى البريطانيون تماما الهدف الأصلي للمشروع وهو إنشاء دولة متكاملة العناصر ومعترف بها لليهود في فلسطين وخارجة عن إرادة الخلافة العثمانية وغير تابعة للسلطنة.
وهو الغرض النهائي للمشروع الذي لم يكن يخطر ببال أحد حينها لكونه غير متوقع في ذلك الزمن حيث كانت الشام كلها ولاية واحدة تابعة للسلطان ومحاطة من كافة جهاتها بالبلاد العربية الخاضعة للولاية العثمانية.
كذلك لم يكن هذا العهد يعرف تأسيس الدول بمنطق (الشظايا الجغرافية) أو الدول الوظيفية كما يُسَميها المفكر الكويتي (عبد الله النفيسي)، بمعنى الكيانات الصغرى التي كونتها بريطانيا وورثتها الولايات المتحدة وكل ما تقوم به تلك الكيانات هي تأمين احتياجات الدول المركزية وفي المقابل تملك الأسر الحاكمة فيها حماية القوى العظمى للدولة وللنظام.

وبالتالي كان الهدف الرئيسي لبريطانيا لا زال مخفيا، لأن سياسة تقطيع الأوصال وتأسيس الدول التابعة نفذتها بريطانيا بعد هذا العهد بزمن طويل عندما مَزّقت أوصال مستعمراتها لنظم لها شكل ووصف الدولة لكنها في الحقيقة مجرد تقسيم إداري يفتقد المقومات الرئيسية للقيام كوطن مستقل، سواء من العمق التاريخي أو البعد الجغرافي أو عدد السكان والقوة العسكرية التي تسمح له بحماية نفسه.
وهو ما نفذوه في تقسيم الجزيرة العربية لعدة دويلات عقب انتهاء الخلافة العثمانية، ثم اقتطاع ضفة نهر الأردن وتأسيس إمارة وظيفية فيها باسم (إمارة شرق الأردن) والتي وضعوا عليها (عبد الله بن الحسين) أميرا بعد طرد (الشريف حسين) والده من حكم مكة والحجاز عقب قيام الدولة السعودية الثالثة، وإمارة شرق الأردن هي التي طوروها فيما بعد لتصبح مملكة باسم الأردن، ثم اقتطاع منطقة (الكوت) على الخليج العربي وتأسيسها كدولة باسم (الكويت)، وأيضا اقتطاع (ساحل عمان) من التبعية لعمان، وتأسيسه كدولة باسم (الإمارات)
وبالمثل قطعوا أوصال الشام لأربع تقسيمات بالتعاون مع فرنسا، ثم فصلوا مصر عن السودان، وأشعلوا أزمة حدودية بين المغرب والجزائر في قضية الصحراء
وهذا التقطيع الذي تم بشراكة بريطانية فرنسية كان بمثابة خطة لا تقل خطورة عن خطة توطين اليهود في فلسطين من حيث تدمير قدرة الدول العربية على التوحد ككيان واحد تحت أي مسمى!
لذلك كان التصور العثماني فيما يبدو قاصرا على أن هدف بريطانيا من توطين اليهود هو تجميعهم من كل مكان في العالم ووضعهم في فلسطين التاريخية بحيث يصبحون ضمن النسيج الشعبي التابع للخلافة.
وإن كان هذا التصور نفسه لا يمحو الجريمة العثمانية في الخضوع والضعف تجاه موافقتها على بدء المشروع إلا أن الحقيقة التي يجب تقريرها أنه لم يكن هناك من يتوقع أن تكون الخطة البريطانية طموحة لهذه الدرجة، وممتدة إلى هذا المدى، حيث وضع البريطانيون الخطة للسعي الحثيث البطيء حتى تم لهم الأمر بعد قرن كامل من الزمان.
ومن عجائب القدر حقيقة أن أعداء العرب التاريخيون مثل اليهود والفُرس وأوربا جميعهم تميزوا عنهم بهذه الصفة وهي الصبر المطلق الذي لا يملون منه في سبيل الوصول إلى أهدافهم، بينما نجحوا في أن يستغلوا الطبيعة العربية سريعة الملل في أن يدفعوهم دوما لليأس السريع والتنازل.
وقد اكتشف الغرب فينا هذه الصفة كما اكتشفها الإسرائيليون مبكرا، حين كتب رئيس أحد أجهزة الأمن الإسرائيلية (يوحشفات هركابي) كتابه (العقل العربي) وحَفّز القيادات الإسرائيلية على استغلال صفة سرعة الملل عند العرب لأنها كفيلة بتحطيم أعصابهم واستسلامهم للمفاوض الإسرائيلي في النهاية
وهذا بعينه هو ما حذرنا منه النبي عليه الصلاة والسلام عندما كان يتعوذ من (جَلَد الفاجر) و(عجز الثقة)، لأن جَلَد الفاجر معناه قدرة أهل الباطل والكفر على الصبر والدأب في سبيل تحقيق أهدافهم الشيطانية، بينما عجز الثقة هو عجز أهل الحق عن تقليدهم في الصبر رغم أن أهل الإيمان هم أولى الناس بالصبر والجلد

وهذه السياسة التمهيدية الصبورة والمخادعة، هي التي حكمت أوربا منذ ذلك الحين وحتى اليوم في تعاملها مع القضايا العربية.
وبنفس الأسلوب وصلوا لسائر أهدافهم عن طريق الصبر والتأني الشديد في تسيير خططهم مع استخدامهم لألفاظ مخففة لوصف الأمور الجسام, مثل استخدام لفظ (الصداقة) للتورية على لفظ (العمالة), ولفظ (التحالف) لوصف الحماية العسكرية للدول الوظيفية في المنطقة, واستخدام لفظ (حقوق المضطهدين) للتورية عن الغرض الأصلي بتثبيت أركان الكيان اليهودي, واستخدامهم لفظ (عملية السلام) للدلالة على تفريغ القضية الفلسطينية من داخلها عن طريق تحفيز المقاومة الفلسطينية على ترك السلاح والاكتفاء بالمفاوضات المستمرة التي لا تنتهي وإغراق الشعب الفلسطيني في الوعود تلو الوعود حتى يصبح اليأس حاكما لكل مقاومة.
ومن الغرائب حقيقة أن الحكومات العربية بعد استقلالها الظاهري من فترة الاحتلال الأوربي خلال القرن العشرين مارست تلك السياسة بدأب مع شعوبها.
فظلت الحكومات تلو الحكومات تبشر الشعوب بالنصر في وسط الهزائم المتوالية وتبشر المواطنين بالرخاء والتقدم في ظل الانهيار الاقتصادي المتسارع، وليس أدل من ذلك أن الشعوب العربية تنتظر وعود الرخاء منذ الخمسينيات ورغم هذا لم يأت بعد.

قديم 02-24-2024, 01:11 AM
المشاركة 9
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)
الخلاصة.
بعد التمهيد البريطاني الكبير وَصُنع البيئة المناسبة لتفعيل المشروع بدأ التنفيذ الفعلي بتجنيد حاخامات القدس لكي يقوموا بدورهم أيضا، وعلى الفور بدأ الحاخامات بشرح الموضوع لليهود في الشام، وقام حاخام القدس الأكبر بإرسال رسالة إلى الملكة (فيكتوريا) ملكة إنجلترا ومعها حجاب واقي من الشرور كهدية تقدير ودعاء من يهود العالم عام 1849م، وقام روتشيلد بتسليم الحجاب والرسالة للملكة وإعلان مطالبهم التي تمثلت في الآتي:
• إعلان قبول يهود العالم للحماية البريطانية
• التوجه برجاء للحكومة الإنجليزية أن تسهل لليهود استعمار فلسطين.

وفجأة وقعت واقعة قدرية أخرى دفعت الحوادث دفعا لزيادة حماسة بريطانيا وأوربا للمشروع الصهيوني عندما قامت الحرب في شبه جزيرة (القرم) -وكما يقول هيكل – إن الحرب كانت تعبيرا عن دفع الحوادث دفعا بعد أن أدت معارك القرم إلى تدفق هجرات يهود البلقان إلى أوربا الغربية طالبين يد العون من أبناء ديانتهم هناك.
ثم يضيف هيكل:
"كانت الحوادث أيضا هي التي دفعت إلى القمة في بريطانيا بجيل جديد من الساسة الإنجليز لم يكونوا أقل حماسة من أسلافهم، حيث تناوب على رياسة الوزارة البريطانية في إنجلترا اثنان من الساسة هما (جلادستون) البروتستانتي و(دزرائيلي) أول وآخر يهودي يتولى رياسة الحكومة البريطانية
باختصار يشرح لنا مفكرنا الكبير هيكل أن الحوادث القدرية التي وقفت خلف إحياء المشروع الصهيوني في بدايته من حيث تفجر المشكلة اليهودية في أوربا، تكررت أيضا بشكل أكثر تأثيرا عندما تفجرت حرب القرم التي زادت من فداحة الهجرة اليهودية داخل أوربا الغربية.
ثم كانت الحادثة القدرية الأشد في أن الساسة البريطانيين الذين خططوا للمشروع الصهيوني وهم (شافتسبري) بمعتقداته الإنجيلية التي تؤمن بضرورة دفع اليهود للتوطن بفلسطين، و(بالمرستون) رئيس الوزراء الطموح الهادف لتحقيق أحلام بريطانيا في الشرق.
هؤلاء الساسة تركوا مقاعدهم في مراكز اتخاذ القرار البريطاني ليأتي في أماكنهم من هم أشد حماسة للمشروع الصهيوني من سابقيهم.
وهما (جلادستون) الذي كان إنجيليا مثل (شافتسبري)، و(دزرائيلي) الذي كان يهوديا أصلا.
"

أما الواقعة التي أراها من وجهة نظري أشد من كل الحوادث السابقة لها، وكان لها الدور الأعظم في بدء توطين وإنشاء المستعمرات اليهودية فعلا في فلسطين.
فهي واقعة موت الخديو (سعيد) والي مصر، ليتولى بعده الخديو (إسماعيل) عرش مصر كأول أحفاد (محمد علي باشا)، حيث أن إسماعيل هو ابن (إبراهيم) باشا ابن محمد علي.
فلم يحدث في تاريخ مصر المعاصر أن قامت في مصر دولة عظمى مثل (دولة محمد علي) امتلكت في سنوات قليلة نهضة علمية وعسكرية هائلة، وتمكنت من الوصول بحدودها إلى منابع النيل.
ورغم ذلك تنهار الدولة على يد والٍ مثل إسماعيل فيما لا يزيد عن عشر سنوات.
والواقع أن القدر فعلا هو الذي حكم بمثل هذه النهاية العجيبة، لأن محمد علي رغم أنه تلقى الهزيمة من التحالف الأوربي الكاسح ضده إلا أنها لم تكن هزيمة بالمعنى الكامل وإنما هي أقرب للتعادل حيث استقل محمد علي بمصر فعليا، واستكمل فتوحاته في العمق الإفريقي وبقي جيشه قوة عسكرية لها حساب يدعمها أسطول قوي.
كما امتلكت مصر خليفة له يماثله قوة هو ابنه وولي عهده وقائد جيشه (إبراهيم باشا) الذي لم يكن يقل أبدا عن أبيه في خبرته العسكرية والسياسية وإدراكه لتغيرات السياسة الدولية، لكن مع الأسف انهارت صحة (محمد علي) في أخريات عمره وأصيب بأعراض داء (السعار) رغم أنه لم يصب منه أصلا بعدوى
ولهذا اعتزل وتولى مكانه إبراهيم باشا للحكم نيابة عنه، لكن القدر أيضا تدخل بموت إبراهيم باشا في حياة أبيه، ليتولى بعده (عباس) باشا و(سعيد) باشا على الترتيب
وكلاهما كانا أبعد ما يكون عن رجال الدولة، ومع الأسف لم يكن هناك في أبناء محمد علي من يمكن أن يماثله قوة وخبرة إلا (طوسون) الابن الأكبر و(إبراهيم) وكلاهما مات في حياة أبيه، وكانت المعضلة الكبرى أن سياسة عباس وسعيد فتحت الباب أمام النفوذ الأجنبي في مصر ليصبح بلاط الحكم مُخْتَرقا من الأوربيين
وهو الذي أدى فيما بعد لكارثة موافقة الخديو (سعيد) على مشروع إنشاء قناة السويس بعد إلحاح صديقه (فرديناند ديلسيبس) والذي لم تقتصر كوارثه على أن المشرع كان باتفاقية مجحفة للغاية أضاعت حق مصر في المشروع حيث امتلكت الشركة الفرنسية نصف القناة دون أن تتكلف شيئا أصلا، فضلا على أن اتفاقية المشروع التي مَثّلَت انتهاكا صارخا لسيادة الدولة على جزء من أراضيها
بالإضافة إلى تجنيد واستعباد الآلاف من المصريين للعمل بالسخرة في حفر القناة
لم تقتصر كوارث المشروع على هذا، بل كانت كارثته الكبرى أن القناة فتحت الباب لمطامع الدول الأوربية في مصر بأضعاف مضاعفة نظرا لأن قناة السويس قدمت حلا عبقريا لاختصار المسافة البحرية بين أوربا وشرق آسيا مما يعني أن مصر أصبحت أكثر أهمية بمراحل مما كانت عليه، بعد أن أصبحت قناة السويس أهم مجرى ملاحي في العالم للتجارة الدولية.
وهذا السبب تحديدا هو الذي دفع (محمد علي) لرفض مشروع قناة السويس رفضا باتا لنفس السبب، وقد كان رفضه عبقرية حقيقية تدرك جيدا أنه مهما كانت منافع المشروع فإن خطره أعظم لأن المشروع سيدفع أوربا للتحالف مرة أخرى على مصر بغرض السيطرة التامة عليها هذه المرة.
وهو ما تحقق بالفعل.
ليأتي الوقت الذي تحققت فيه الواقعة التي قلنا عنها أنها الأخطر من سابقيها في التأثير على نمو المشروع الصهيوني، ألا وهو تولى الخديو (إسماعيل) حكم مصر.
وكانت شخصية إسماعيل شخصية شديدة الاختلال النفسي، يشعر بالانحدار والضآلة بشدة تجاه أوربا وقصور الحكم فيها مع شعوره بالاحتقار لمصر والمصريين، وعندما جاءته فرصة الحكم -الذي لم يكن يتوقعه في الأصل-ازدادت حالته ضراوة، فأصبح يرى نفسه أعلى من مصر والمصريين وأقل من الأوربيين.
ولا يوجد أخطر من تلك النوعية من الشخصيات التي تدفعها الأقدار للرياسة بينما لا تتناسب مؤهلاتهم ولا توازنهم النفسي ولا طبيعتهم على الصعود السريع لقمة الحكم، لأنها في الأصل شخصيات تعودت على التبعية لا على الاستقلال، والنظر للأكثر قوة على أنه الأفضل والأعلى حتى لو كان عدوا.
لذلك تكون عقليتهم القاصرة ونفوسهم المتدنية سببا في تدمير أوطانهم طبقا للحكمة العربية الشهيرة التي تقول:
(وما في الظلم مثل تحكم الضعفاء)
فالانهزامية تسيطر على تلك النوعية –مهما امتلكت من القوة – لذلك فهم يوجهون أنفسهم لمن يشعرون أنهم أقوى منهم فيتخذونهم مثلا وقدوة طبقا لمقولة ابن خلدون.
(المغلوب مولع بتقليد الغالب)
وكان إسماعيل من تلك النوعية لا يحمل انتماء دينيا أو قوميا للحضارة الإسلامية، ويشعر بالانتماء والانبهار لأوربا بكل تقاليدها الإباحية وعنصريتها المقيتة، لذلك أعلن عن أهدافه التي كان أهمها هو تحويل مصر إلى قطعة من أوربا في الشكل الخارجي والقشرة الحضارية لا في القوة والنفوذ فقد كان على عكس أبيه وجده لا يشعر مطلقا بالعداء تجاه أوربا.
وليت أن شعوره بالضعف والضالة أمام الأوربيين كان في مسألة تفوقهم العسكري أو نفوذهم العالمي، بل كان انبهاره مُنْصَبا فقط على القصور والأبنية الضخمة وحياة الترف والبذخ الهائل التي كانت سببا في وقوع الثورة الفرنسية لكون رفاهية القصور والأبنية العملاقة كانت تتم على حساب طبقات الشعب المطحونة في أوربا بذلك العهد.

واتجه إسماعيل من فوره إلى سياسة تجميع الأموال من أي مصدر وكل مصدر فزادت الضرائب في عهده لأرقام خزعبلية واستمرت تنمو عاما بعد عام طيلة حكمه.
واستوزر لأجل ذلك وزيره (إسماعيل المفتش) الذي ولاه الوزارة المالية، ولم تكن مهمة (المفتش) هي إدارة المالية المصرية بل كانت مهمته الرئيسية هي إدارة أموال مصر للخزانة الخديوية وحدها والحرص على تنفيذ رغبات إسماعيل الترفيهية.
ولم تكف الميزانية المصرية هذا الإنفاق المهول الذي صرفه إسماعيل على إنشاء القصور الضخمة في كل مكان في مصر، وإنشاء الحدائق والنوادي والمتنزهات في كل شبر من المدن الكبرى حتى بلغت عدد قصوره واستراحاته أكثر من مائة قصر واستراحة في كافة أرجاء مصر!
وكان أول قصوره هو بناء قصر (عابدين الشهير) كمقر حكم هائل له، وهذا القصر تتصاغر أمامه قصور القياصرة والأكاسرة من حيث المساحة الرهيبة له ولحديقته وللتحف الرهيبة التي ملأ بها أرجاء القصر وكانت كل تحفة منها يعادل ثمنها ثمن إصلاح أحوال قرية كاملة من الفقر.
وقد بلغت التكلفة النهائية لقصر عابدين 700ألف جنيه إسترليني للبناء فقط، بينما بلغ ثمن التحف من اللوحات الفنية لكبار فناني أوربا، والتماثيل المرمرية، والديكورات الذهبية، حوالي 2مليون جنيه مصرd.
وقد زادت تكلفة بناء القصر عن الميزانية الموضوعة له بمقدار 28000 جنيه إسترليني بسبب هذه التحف، بخلاف مبلغ هائل آخر لإصلاح ما أفسده الحريق الذي شب في القصر عام 1879م.
وهنا لجأ إلى الاقتراض الأوربي لتغوص مصر في عهده حتى أذنيها في الديون خاصة بعد أن حرصت أوربا على تمويله بكل ما يطلبه لأن سياسة الإقراض كانت سياستهم المفضلة التي أوقعت البلاط العثماني في حبائل أوربا بعد أن بلغت الديون الأوربية للعثمانيين قرابة 18 مليون جنيه إسترليني.
واستدانت مصر ضعف هذا الرقم من أوربا، لتقع الواقعة عندما عجز الخديو إسماعيل عن السداد وانهارت مالية البلاد، ورغم هذا أصر إسماعيل على أنه لم يخطئ بل رأى أنه أحال مصر لقطعة من أوربا فعلا، ووصل به العته إلى أنه أنفق على حفل افتتاح قناة السويس 2 مليون و400 ألف جنيه، كانت منها تكلفة بناء قصر ضخم للغاية كي تقيم فيه الإمبراطورة (أوجيني) ملكة فرنسا وزوجة (نابليون الثالث) لأن إسماعيل كان مغرما بها، فبنى لها قصرا يماثل قصر الحكم الفرنسي نفسه، لتقيم فيه فقط مدة استضافتها خلال حفل الافتتاح!
وبالطبع كانت النتيجة متوقعة، حيث لجأ للحل الوحيد الذي رأى أنه سينقذه من بعض التزامات الديون التي تورط فيها.
ألا وهو رهن حق مصر في قناة السويس لتصبح القناة بأكملها رهنا للأوربيين!

وقد كان إسماعيل يرغب في بيع حقوق القناة بثمن كاش مباشر وبشكل سري حتى لا ينقض الدائنون على ثمن القناة فيسلبونه منه.
ووصل الخبر إلى إنجلترا، ليجدها رئيس الوزراء (دزرائيلي) فرصة هائلة كي تضع إنجلترا قَدَمَها في مصر بشكل نافذ إلى جوار القدم الفرنسية الموضوعة بالفعل منذ تأسيس مشروع القناة.
ورغم أن الخزانة البريطانية لم تكن تحتمل تسديد الثمن الذي يطلبه إسماعيل وهو أربعة ملايين جنيه ذهبا.
فكان الحل أن قام دزرائيلي بمخاطبة (روتشيلد) راعي المشروع الصهيوني ورئيس أكبر عائلة من حيث الثراء في أوربا لتدبير مبلغ الصفقة، وكان دزرائيلي يدرك أن المبلغ كبير حتى على قدرات العائلة كونه سيكون ثمنا لمشروع واحد.
إلا أن دزرائيلي لم يكن يُقَدّر عبقرية روتشيلد الثعلبية حق قدرها، لأن روتشيلد بمجرد أن سمع بعرض القناة أدرك على الفور أن امتلاك إنجلترا لقناة السويس معناه أن بريطانيا ستقطع خطوة هائلة في طريق المشروع الصهيوني.
فالسيطرة المالية على مصر كفيلة وحدها بتحييد مصر عن التدخل في الشأن الفلسطيني وهو أقصى ما يتمناه كل كبار المشروع الصهيوني.
لهذا بادر روتشيلد بتدبير المبلغ لرئيس الحكومة في يوم واحد فقط.
وتم لهم ما أرادوا.

ورغم كارثية الصفقة على مصر إلا أن إسماعيل لم يكن قد تراجع أو ندم على سياسته المترفة التي أضاعت مالية البلاد على مشروعات لا فائدة منها.
فقام بتبديد المبلغ الهائل الذي استلمه، ليقوم دائنو مصر بتشكيل ما يُعرف بصندوق الدين المصري والذي كان من نتيجته أن أجبرت أوربا الخديو على تعيين وزيرين أجنبيين في الحكومة يمثلان بريطانيا وفرنسا، أحدهما وزير للمالية والآخر وزيرا للأشغال لتصبح مالية البلاد وأراضيها الزراعية وأبرز مشاريعها الاقتصادية محكومة من الخارج" "!
وانتظرت بريطانيا تتابع الحوادث كي تتدخل في الوقت المناسب، وبالفعل تدخلوا لإقالة إسماعيل ونفيه خارج البلاد وتولية ابنه الخائن الخديو (توفيق) مكانه ويكفي أن نعرف أن توفيق خان أباه أولا ورفض حتى إعادته من المنفى في مرض موته!
وبالتالي.
كان طبيعيا عندما تحركت الثورة وَعَبّر عنها الجيش بحركة (أحمد عرابي) كان من الطبيعي أن يستنجد توفيق بالبريطانيين الذين انتهزوا الفرصة وتدخلوا بأسطولهم في مصر بعد أن قاموا بمخاطبة السلطان العثماني لإصدار فرمان بخيانة عرابي!
فاستجاب لهم بالطبع.
في نفس الوقت الذي كان فيه توفيق والمنتفعين منه من طبقة الحكم ومعهم الجاليات الأجنبية تُرَوج لاعتبار (عرابي) خائنا للوطنية عندما طلب استقلال مصر من النفوذ الأجنبي، وتحرك عرابي بالجيش في تحالف مع قوى الشعب لإيقاف البريطانيين لولا أن تلقى الهزيمة في معركة (التل الكبير) عام 1982م، لتصبح مصر تحت الاحتلال الإنجليزي" "

وقد كانت الثورة العرابية حَدَثا مفصليا في التاريخ المصري المعاصر، وموجة من موجات تطور الحركة القومية التي بدأت مع الحملة الفرنسية واستمرت فاعلة في المجتمع المصري" ".
وقد احتوى ملف الثورة العرابية على بطولات خارقة ومشهودة من أبطال عدة، كان أبرزهم من الجيش البكباشي (محمد عبيد) صاحب الضربة الأولى في أحداث الثورة، وكذلك المناضل المصري الكبير (عبد الله النديم) أول وأشهر صحفي للكتابة الساخرة في مصر وأكثرهم تألقا في زمنه وأعلاهم مساهمة في القضايا الوطنية
من هنا نستطيع أن نقول بأن الدخول العسكري الإنجليزي لمصر والذي تسبب فيه إسماعيل حرم مصر والعرب من أكبر قوة كانت من الممكن أن تهدد استقرار المشروع الصهيوني في مرحلته الأولى.
لأن بلدا يقع تحت الاحتلال والقهر والسحق الإقتصادي لا يمكن أن نتخيل قدرته على التفكير أو التدخل لمناصرة قضية خارجية مهما كان تفاعله معها.
وظلت السياسة البريطانية والإسرائيلية منذ ذلك الحين قائمة على تلك المعادلة، وهي أن تكون مصر مثلما كانت الخلافة العثمانية، عبارة عن بلد مريض لا يسمحوا له باليقظة ولا يسمحوا له بالانهيار أيضا، بل المطلوب هو وجودها في حالة موت إكلينيكي مشغولة دائما بمشاكلها الداخلية.

رغم أن مصر لم تقع فريسة لتلك النظرية طيلة الوقت، خاصة بعد أن تفجرت المقاومة المصرية ضد الاحتلال الذي لم يستقر بمصر استقرارا كاملا، فقد واجه الاحتلال عند دخوله المقاومة العسكرية والشعبية المتمثلة في الثورة العرابية، ثم واجه تشكيلات مختلفة من فرق المقاومة السرية فضلا على النضال السياسي والشعبي على يد (مصطفى كامل) و(محمد فريد) الذي استمر حتى تبلور في ثورة 1919م بقيادة (سعد زغلول)، ثم تصاعدت الأحداث مرة أخرى مع إرهاصات الحرب العالمية الثانية وما تلاها حتى اضطر الجيش البريطاني لتجميع الفرق العسكرية في قواعد القناة بعيدا عن مصر من الداخل حتى رحيل الاحتلال عقب قيام ثورة يوليو.
فمصر لم تستسلم لمحاولة التقزيم ومحاولات إبعادها عن القضايا القومية العربية، إلا أن محاولات الغرب لتكتيف مصر داخليا أصبحت استراتيجية ثابتة منذ ذلك العصر، بذل فيها الغرب قصارى جهده حتى اليوم" "
ولكي ندرك خطورة التقدم الذي أحرزه المشروع الصهيوني باحتلال مصر فيكفي أن نعلم بأنه في سنة الاحتلال نفسها عام 1982م، قام البارون (روتشيلد) بتنظيم أول هجرة جماعية كبيرة لفلسطين وبهذه العملية ارتفع عدد اليهود في فلسطين من ثمانية آلاف إلى أربعة وعشرين ألفا دفعة واحدة.
فهل يتخيل القارئ مدى التأثير الذي أحدثه إبعاد مصر عن الساحة الشامية" "
وليت الأمر اقتصر على هذا.
فعقب الفوج الجماعي الهائل الذي دخل فلسطين بدأت عائلة روتشيلد في جمع التبرعات والمساهمات لشراء أراضي شاسعة في فلسطين تحت ستار شركة كبرى للأعمال الزراعية!
وتحت رعاية الاحتلال البريطاني قامت شركة روتشيلد خلال عشر سنوات فقط بإنشاء مستعمرات استيطانية كبيرة بلغ عددها 20 مستوطنة تراوحت مساحة الواحدة منها من (2750فدان) إلى (460) فدانا بإجمالي مساحة بلغ أكثر من عشرين ألف فدان.
بخلاف إنشائها في نفس الفترة مستوطنات أصغر حجما على الأراضي الفلسطينية بل والأردنية أيضا.

ونستطيع أن نقول بأن الاحتلال الإنجليزي لمصر فتح المجال على مصراعيه لتطور الصهيونية فكريا وعمليا على الأرض.
فأصبحت الخطوات التنفيذية أكثر جرأة، وأصبحت الأفكار أكثر صراحة.
فإلى جوار إنشاء (روتشيلد) المستوطنات السابق ذكرها في فلسطين، امتدت عيونهم داخل مصر أيضا باعتبار خضوعها للاحتلال البريطاني وسيطرتها على مقدرات البلاد في وجود حكومة عميلة بالكامل مثل حكومة الخديو توفيق.
فقام (روتشيلد) عام 1891م، بمشاركة عملاق مالي آخر من اليهود هو (دي هيرش) ومعهما يهودي ثالث هو السير (أرسنت كاسل) لإنشاء مؤسسة زراعية أخرى برأس مال خرافي 2 مليون جنيه إسترليني –بمقاييس ذلك الزمان-وكان من نتاج المشاركة إنشاء شركة (وادي كوم أمبو) في صعيد مصر والتي امتلكت أراض شاسعة المساحة في مدينة (كوم أمبو) بأسوان.
ولم تكن تلك الخطوات الحثيثة تجاه مصر والعراق الذي خضع للسيطرة الإنجليزية بعد ذلك إلا تمهيد لمد أنف المشروع إلى أراضي البلدين، إلى جوار الأراضي اللبنانية والأردنية.
ولكن المد هنا لم يكن أبدا بغرض توطين اليهود ضمن المشروع الصهيوني، وإنما كان هذه المرة بغرض فتح المجال لتهجير وطرد الأعداد الفلسطينية الهائلة نحو مستعمرات خاصة يتم إنشاؤها في سيناء المصرية بغرض منح الدولة اليهودية مساحة امتداد آمنة الحدود!
وهنا نتوقف قليلا أمام تلك المشاهد.
حيث نلاحظ من خلال التخطيط أن ممارسات الاحتلال الإسرائيلي اليوم إنما تقوم على استراتيجية عتيقة جدا بدأت مع الاحتلال الإنجليزي لمصر، ولا زالت تلك الاستراتيجية ممتدة الخطوات حتى اليوم!




قديم 02-24-2024, 02:39 AM
المشاركة 10
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)

*ظهور نبي الصهيونية (تيودور هيرتزل)

لئن كان المشروع الصهيوني وصل لبريطانيا عن طريق الوحي اليهودي والبروتستانتي المتمثل في (روتشيلد) و(بالمرستون)، فنستطيع أن نقول بأن رسول الشيطان الذي تم تكليفه بالرسالة الصهيونية حان وقت بعثته
حيث ظهرت-في تلك الفترة -واحدة من أكثر الشخصيات تأثيرا في المشروع الصهيوني وهو (تيودور هيرتزل) الصحفي النمساوي الذي يوصف بأنه الأب الروحي للصهيونية، ثم تأسست (الوكالة اليهودية) بزعامته.
وأصبح (هرتزل) ومجموعته هم الوكلاء الرسميون للمشروع وامتلكوا النفوذ الساحق ليس في بريطانيا في سائر أوربا الغربية الراعية للمشروع.
وقد كانت خطوة بالغة الخطورة في الواقع.
فالمشروع قبل ظهور (هرتزل) كان مشروعا سياسيا غربيا تُمْسك بريطانيا بخيوطه كلها بالتعاون مع الماليين الكبار لليهود
أما ما بعد ظهور (هرتزل) فقد أصبحت قيادة المشروع سياسيا لبريطانيا والغرب والقيادة العملية لهرتزل والوكالة اليهودية.
وهو ما تسبب في تطور الأفكار في الصهيونية وصياغتها بحيث تصبح أوربا التي تختلف فيما بينها عسكريا وسياسيا لا تتفق إلا على ضرورة وأهمية دعم المشروع الصهيوني.

لذلك تطور التمهيد الذي بدأ إعداده للفكر الصهيوني في عهد أصحاب الفكرة الأولى ليهدف إلى بلورة الفكر الصهيوني المسيحي للسيطرة على الفكرة الصهيونية اليهودية التي تخالف هدف الصهيونية المسيحية في دفعهم إلى فلسطين قبل ظهور (المسيح) وفق معتقد التوراة.
ومن الغريب أن الصهيونية اليهودية كانت هي الأصل عند المسيحيين واليهود في أوربا لدرجة أن (تيودور هرتزل) مؤسس الوكالة اليهودية عندما ذهب ليقابل ملك ألمانيا «فلهلم الثاني» ويعرض عليه مشروعه، اعتقدوا أنه مُبشِّر مسيحي بين اليهود، يحاول تنصيرهم لأنه يحاول توطينهم في فلسطين.
وكان هذا أمرا طبيعيا لأنه ما من أحد في أوربا من المسيحيين أو اليهود كان يؤمن أو يتفاعل مع فكرة العودة لفلسطين قبل ظهور المسيح.
والفئة الوحيدة التي تؤمن بهذا الأمر هم (المسيحيون الإنجيليون) أصحاب المذهب البروتستانتي الذي انتشر في بريطانيا معاكسا للفكر المسيحي الكاثوليكي.
لكن الدعم البريطاني للفكر الصهيوني هو الذي وقف خلف اصطناع الرجال لترويجه مثل (تيودور هرتزل) و(ناحوم سوكولوف) بالإضافة إلى الدعم المالي الهائل الذي وفرته أسرة روتشيلد بنفوذها الساحق في أوربا.
وبدأ بعض المفكرين اليهود في الاستجابة لفكرة «دولة صهيون»، من منطلق أن هذا الشعب (الشعب اليهودي) مرتبط بأرض فلسطين ارتباطاً عضوياً، وسيظل منبوذاً وطُفيلياً ما بقي في الشتات، ومن هذه الفكرة ظهرت انتشرت مقولة شافتسبري التي روجها في مقالاته لوصف فلسطين بأنها
«أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»،
في تجاهل تام لحقيقة وجود شعب عربي يعيش على هذه الأرض منذ آلاف السنين.
ثم طوَّر هرتزل الفكرة الاسترجاعية المسيحية التي كانت تدعو لتوظيف اليهود في فلسطين لصالح الغرب، وذلك إلى خطاب صهيوني مراوغ يخاطب القوى العظمى بأن اقتطاع فلسطين سوف يوفر لهم 10 ملايين عميل في المشرق العربي، ويخاطب يهود العالم بأن ذلك هو حلم العودة المذكور في الكتاب المقدس، وأن الشعب اليهودي مرتبط بهذه الأرض ارتباطاً عضوياً، وسيظل مكروهاً من كل الشعوب في المنفى بسبب قداسته لذا، لا بد له من العودة إلى الأرض الوحيدة التي تصلح للخلاص.

وطريقة الخطاب التي استعملها هرتزل للمشروع الصهيوني كانت تخاطب أوربا من منطلق المصلحة السياسية والاقتصادية، كما أنها كانت تخاطب اليهود المتدينين بالفكرة الدينية القائمة على نبذ فكرة الانتظار السلبي للمسيح، وأن الواقع يقتضي ضرورة التعجيل بالعودة لانتظار المسيح في الأرض المقدسة.
وفوق ذلك لم ينس هرتزل فئة اليهود العلمانيين أصحاب الحركة العمالية الذين كانوا يخالفون أو يتجاهلون الخطاب التوراتي، فخاطبهم هرتزل بالخطاب المناسب لعقليتهم كي ينجح في استمالتهم للمشروع أن الهجرة إلى أرض فلسطين هي الحل الوحيد لحل الأزمة الطبقية التي تواجههم في أوروبا، ولتكوين مجتمع متساوٍ في فلسطين ومتجانس فيما بينه.
وعلى نفس المنوال يشرح مفكرنا الكبير (عبد الوهاب المسيري) كيف صاغت الحركات الصهيونية -على اختلاف توجهاتها من اليسار إلى اليمين-مثل هذه الاعتذارات، من أجل استيطان فلسطين، فهذا الاستيطان لم يكن عن طريق الاستعمار والعنف وإنما عن طريق القانون الدولي العام متمثلاً في وعد بلفور (في الصياغة الصهيونية السياسية)، أو تنفيذا للوعد الإلهي (في الصياغة الصهيونية الدينية)، أو بسبب قوة اليهود الذاتية (في الصياغة الصهيونية القومية).
وبهذا تنوعت التبريرات والديباجات داخل الحركة الصهيونية بين الديني والعلماني واليساري، ولكنها اتفقت جميعاً حسب قول المسيري على «ارتباط الشعب اليهودي عضوياً بالأرض»، أما القوى الإمبريالية الغربية فقد اتفقت على عودة اليهود للعب دور الجماعة الوظيفية كما كانوا في زمن الإقطاع، ولكن هذا الدور الوظيفي سوف يكون على شكل دولة إسرائيل.
ومأساة العالم أجمع كلها تركزت في تلك اللحظة.
فالصهيونية تطورت بعد ذلك لتصبح أشبه بتنظيم سياسي خارق انضم إليه كبار السياسيين في الغرب فضلا على إمبراطوريات المال والأعمال وأصبحوا بالفعل هم القوة الأكثر تأثير على القرار الغربي.
لتتعملق الصهيونية من فكرة إنشاء كيان وظيفي يتمثل في دولة اليهود، ليصبح فيما بعد هو المنهج الذي أشرف على تحويل دول العالم النامية كلها إلى كيانات وظيفية، تهدف إلى تحويل البشر إلى مادة استعمالية محضة – حسب تعبير الدكتور المسيري-وبالتالي خرجت الصهيونية تماما من عباءة الأديان كلها حتى اليهودية وأصبحت هي المرجعية الدنيوية التي لا تهتم إلا بالمادية البحتة في عصرنا الحالي بغض النظر عن قانون الأخلاق وفلسفة الدين وأدبيات الحضارة.

وكما أسلفنا.
كان ظهور شخصية (تيودور هيرتزل) ورفاقه، وإنشاء الوكالة اليهودية وإقامة المؤتمر الأول للصهيونية في (بازل) بسويسرا، إيذانا بالخروج من شرنقة السرية إلى إظهار القوة والعين الحمراء بشكل علني.
حيث رأي هيرتزل أن زمن التخفي قد انتهى وأنه الأوان للفكرة الصهيونية – بعد بدء الاستيطان-أن تعلن عن أفكارها وتتعامل – كما يقول – بالدخول مباشرة إلى عالم الحقائق السياسية.
ومن اللافت للنظر أن تلك النظرية التي عمل عليها هيرتزل لم تكن تحظى بالإجماع بين نشطاء المشروع الذين تكاثروا غربا وشرقا.
فبينما كان هرتزل ورفاقه يرون أن العثمانيين والعرب –حتى من سكان فلسطين-مجرد هواء غير محسوس لدرجة أنهم تعاملوا مع أراضيهم على أنها (أرض بلا شعب)، ظهر من بين اليهود أنفسهم من لفت النظر إلى حقائق الواقع في فلسطين بعد أن انتشر اليهود فيها وانتشرت مستعمراتهم.
حيث بدأت بالفعل بوادر الاشتباك والاحتكاك بين المهاجرين والعرب الأصليين بالشكل الذي لفت نظر مفكري اليهود ومنهم (آشر زفي جينزبرج)
الذي كتب عن انطباعه الشخصي عما يجري شارحا أن مُنَظّري ورعاة المشروع الصهيوني يتعاملون مع العرب على أنهم مجرد قوم بدائيون من الهمج يعيشون في الصحراء ويخضعون دوما لسيطرة القوة.
فضلا على أنهم يجهلون تماما ما يجري حولهم وأن عقولهم لن ترتقي لإدراك التخطيط الجاري على أراضيهم.
بينما يرى (جينزبرج) أن هذه وجهة نظر بعيدة تماما عن الصحة وأن العرب يعرفون تماما بمجرى الحوادث ويتجاهلونها مؤقتا باعتبارها لا تمثل خطورة على مستقبلهم، أما إن تم إبرار العلانية على المشروع ووضحت أهدافه فإنهم لن يتخلوا عن مواقعهم بسهولة لا سيما مع تعامل المستوطنين باستبداد وعنجهية وغرور استنادا إلى القوى العظمى التي تحميهم.
ونستطيع أن نقول بأن (جينزبرج) كان على حق تماما، وأنه قام بنفس الدور الذي لعبه المفكر الفرنسي (روسبي) عندما عارض خطة نابليون التي كان يتوقع منها قُدْرته على خداع المصريين بالورقة الإسلامية وبإعلانه أنه جاء لإنقاذ المصريين من المماليك.
وقال روسبي وقتها تعليقا على الخطة:
(إن أكثر الأفكار شذوذا هي التي يظن السياسي فيها أنه قادر على خداع الجماهير لمجرد حمله للسلاح وَتَمَلّكه للقوة)

والنقطة الخطيرة التي ينبغي الالتفات لها هنا.
أن التخطيط الاستراتيجي البريطاني والأوربي والتنفيذ الإسرائيلي منذ بدايته يتميز ببراعة منقطعة النظير بلا شك.
لكن ليس معنى هذا أنه كان تخطيطا كاملا ومعصوما.
بل على العكس.
فقد وقع الإسرائيليون والغرب عدة مرات عبر تاريخ الصراع بينا وبينهم في خطأ استراتيجي جسيم، هذا الخطأ هو الاعتماد في التخطيط على ما يُسَمى بالانطباع الشخصي وبناء المستقبل على ما تقوله الوقائع المجردة دون حساب القوة المعنوية أو العقيدة التي تحرك الشعوب بشكل مفاجئ تجاه قضاياهم.
كما أنهم فسروا سكوت ورضوخ العرب لأنظمة الحكم الاستبدادية سيجعلهم يمتلكون مصير الشعوب بمجرد سيطرتهم الواقعة فعلا على الحكومات العربية!
وهو نفس الخطأ الذي وقع فيه نابليون عندما تصور إمكانية وقوف المصريين معه ضد المماليك.
لهذا.
فإن بريطانيا وحلفاؤها والمنظمة اليهودية فَسّروا مشهد النجاح البريطاني في احتلال مصر وفي تركيع الخليفة العثماني وإجباره على القبول بالمستوطنات، فسروا هذا على أنه دليل قاطع على الموت الإكلينيكي الذي يحكم شعوب المنطقة بسبب تقلبها بين حكم ديكتاتوري صارخ أيام المماليك أو حكم احتلال أجنبي وحشي في العصر الحديث.
فلم يتوقع البريطانيون ورعاة المشروع الصهيوني أن الشعوب نفسها –وبانعزال تام عن الحكومات العميلة-سيكون لها دور كاسح في مقاومة الوجود اليهودي في فلسطين.
كما فشل البريطانيون والغرب في توقع الثورات الشعبية الكاسحة التي قادتها الجماهير ضد الاحتلال وحكومة القصر.
كما توقع الإسرائيليون بعد حرب 1948م أن الحرب انتهت للأبد وأنهم سيغدون آمنين مطمئنين بعد تحطيم معنويات العرب، وفوجئوا بعد بأن الحرب زادت الشعوب ضراوة وأن الحركة القومية ستنفجر من جديد.
وتوقع الأمريكيون والإسرائيليون أن العرب بعد حرب النكسة عام 1967م، قد انكسرت قوائمهم وأنه لا بديل لهم عن الخضوع والاستسلام، فجاءت حرب أكتوبر بالاشتراك بين مصر والشام –مرة أخرى-لتنسف توقعاتهم نسفا.
وتوقع الغرب أيضا أن القضية الفلسطينية قد انتهت للأبد بعد معاهدة (كامب ديفيد)، ورغم ذلك تفجرت الانتفاضة عدة مرات في عقد السبعينيات والألفينات بشكل مفاجئ ومدمر.
وكانت آخر الأخطاء أن الإسرائيليون غفلوا عن (غزة) وفرق المقاومة فيها تماما باعتبار أن العرب في العصر الحالي قد تم تسجيل وفاتهم سياسيا بهرولة الحكومات العربية للتطبيع، وبانسحاق السلطة الفلسطينية حتى رأسها في مستنقع العمالة.
فإذا بطوفان الأقصى يُحْدث زلزالا نفسيا – أكثر منه عسكريا – لتتلقى فيه إسرائيل أقوى مفاجأة استراتيجية لها منذ أربعين عاما!

فقوة الشعوب لا يمكن حساب موعد انطلاقها أو مسبباته.
لكن هيرتزل لم يكن مقتنعا بهذه النظرية ولذلك سعى لتنفيذ خطته بأن يمضي قُدَما في الإعلان عن المشروع وتنفيذه بشكل صريح باستخدام القوة المتوفرة لهم على المنطقة.
وبدأ التنفيذ من خلال خطوتين متلازمتين.
الأولى:
خطة تطوير لأفكار الصهيونية وهي محاولة إيجاد تاريخ للمطالبة اليهودية بالقدس عن طريق استخدام علم الآثار، حتى لو تم هذا بالتعسف في الأدلة.
الثاني:
خطة سياسية تقتضي بمخاطبة السلطان العثماني علنا بشراء فلسطين منه بشكل مباشر وصريح.
أما بالنسبة للعنصر الثاني الذي قرره هرتزل لتطوير خطة العمل في المشروع، فقد بدأه هيرتزل بإصدار كتابه (الدولة اليهودية) والكتاب كان صريحا في شرح أفكاره للدرجة التي أثارت استغراب بعض اليهود ووصفوه بأنه نوع من الخيال السياسي الطموح على حد تعبير هيكل!
لكنه مضى في تنفيذ خطة كتابه على ثلاث محاور.
• محور يتجه للسلطان العثماني مباشرة باعتباره صاحب الولاية نظريا على فلسطين ويطلب منه مباشرة شراء فلسطين بسعر 20 مليون جنيه إسترليني لكي يتمكن السلطان من سداد الديون الأوربية البالغة نحو 18 مليون جنيه، ويتبقى 2 مليون جنيه كثمن لفلسطين
ويعلق هيرتزل في مذكراته بأن السلطان اعترض على الصيغة الصريحة للبيع، لكن من الممكن إتمام الصفقة بصيغة أخرى مناسبة!

• محور يتجه لبريطانيا باعتبارها الراعي الرسمي للمشروع والوريث الأكبر للعثمانيين في الشرق
وهو محور لا يحتاج جهدا كبيرا لأن بريطانيا هي أصل المشروع، لكن هيرتزل كان يرجو منها الإسراع في التوطين واستغلال أزمات اليهود في أوربا لدعم هجرتهم لفلسطين

• محور يتجه لمصر لاعتبارات استراتيجية غنية عن الذكر والتعريف
وعلى المحور المصري بدأه هيرتزل أولا بعقد مؤتمر (بازل) بسويسرا عام 1897م، وخلص إلى نتائج هامة هي وضع خطة تنفيذية لاستعمار فلسطين من اليهود زراعيا وصناعيا، وفي نفس الوقت العمل على ربط المهاجرين اليهود ثقافيا بالمشروع الصهيوني عن طريق تعليمهم اللغة العبرية والتاريخ اليهودي وعناصر النظرية الصهيونية.
ويشرح لنا هيكل بعد ذلك رحلته إلى مصر واطلاعه على الأوضاع فيها، مما حداه للتفكير في خطة أخرى وهي استغلال سيناء" " في المشروع الصهيوني عن طريق فتح الهجرة إليها أيضا عن طريق استئجارها من الخديو (عباس حلمي) لمدة 99 سنة على غرار قناة السويس
والنكتة الحقيقية أن الفكرة ماتت في مهدها –ليس بسبب رفض الخديو-بل بسبب رفض اللورد (كرومر) المندوب البريطاني للاحتلال، والذي رفض تماما فكرة التوطين الزراعي في سيناء لكونها ستؤثر بشدة على كمية المياه المتوفرة للزراعة في الوادي، حيث لا تملك مصر من حصتها في النيل ما يغطي زراعة سيناء إلى جوار الأراضي الزراعية في العمق.
وكان البريطانيون يحرصون على الزراعة المصرية نظرا لأن محصول القطن المصري طويل التيلة كان هو المصدر الخام الرئيسي لمصانع (لانكشاير) البريطانية
كذلك كان حرصهم التقليدي على تنمية موارد البلاد، والتعمير، وإنشاء السكك الحديدية والجسور ووسائل المواصلات، وغير ذلك كلها كانت لأجل خدمة الإمبراطورية البريطانية التي استنزفت سائر مستعمراتها وعلى رأسها مصر والهند، دون أن ينل الشعوب من خيرات بلادهم شيئا.
ورغم أن هذا أمر بديهي ومعلوم من العقل بالضرورة، إلا أننا في زمن عجيب حقا، جعلنا نرى أذناب التغريبيين والمنسحقين للغرب يرددون فرية أن الحملات الأوربية الوحشية والاستعمار كانت هي التي نقلت الحضارة والتكنولوجيا لنا!

على أية حال.
ورغم أن بعض خطط هيرتزل لم يتم الاستجابة لها، مثل أفكاره حول توطين سيناء، إلا أن الخطة الرئيسية كانت تجري على قدم وساق.
وكما جهزت المسرح في مصر والشام تجهيزا سياسيا واقتصاديا، قامت بريطانيا أيضا بدورها التقليدي الذي تبرع فيه وهو تأسيس ودعم وخلق حركة تغريب واسعة النطاق لكسر أي توحد بين أطياف الشعب ضدها، فضلا على خلق الفتن الداخلية التي تجعل التيارات المتصارعة تخوض حربا ضد بعضها البعض وتنشغل عن قضية الاستقلال.
وليس هذا فقط.
بل مهدت أيضا لخلق دعم واسع للصهيونية من خلال حركة التغريب نفسها.
وهي حقيقة تاريخية بازغة يتم تجاهلها كثيرا، لأن حركة التغريب ومذاهب العلمانية ومهازل من يطلقون على أنفسهم أهل التجديد الديني، هؤلاء جميعا لم يكن نشاطهم مركزا فقط على هدم قواعد الدين ومهاجمة التراث والحضارة الإسلامية وفقط.
بل كان من أهم أدوارهم دعم المحتل في سائر قضاياه السياسية بما يمثل خيانة عظمى مكتملة الأركان.
وهذه قصة تستحق أن تُرْوى

يتبع ان شاء الله


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
كيف نفهم تفسير ايتين من سورة طه جمع فيهما اليم والبحر فجر الاعلون منبر الحوارات الثقافية العامة 0 08-22-2019 02:33 PM
ماذا يجري في تركيا ؟ وكيف نفهم الانقلاب الظاهر في السياسة الخارجية ؟ ايوب صابر منبر الحوارات الثقافية العامة 43 10-12-2016 03:03 PM
ملكة النقد وفهم الاعماق منار فتحي منبر القصص والروايات والمسرح . 8 04-15-2015 02:19 PM
دعوة لقراءة بعض نصوص جبران خليل وفهم مقاصده ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 13 08-21-2014 02:22 PM
كيف نفهم الإسلام ؟ عبدالسلام حمزة منبر الحوارات الثقافية العامة 6 04-12-2011 09:58 AM

الساعة الآن 01:30 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.