قديم 11-27-2011, 09:47 PM
المشاركة 21
طارق الأحمدي
أديــب وقاص تونسي
  • غير موجود
افتراضي
وقف الرجل لحظات, ابتسم في هزء واضح مصبوغ ببعض حزن, ثم تفل وواصل سيره دون أن يلتفت.
لم أسأل عن هويته, انتظرت بصبر زوال غمامة الوجوم التي سيطرت على المكان.
غاب الرجل, فضرب مصطفى كفّا بكفّ وقال في حسرة واضحة.
- مسكين ابن زهرين, التهمته سنون البعد وضيّعته. أكلت منه كل شيء حتى عقله. ظلمته الأيام وأدارت له مؤخّرتها فلم يهنأ بساعة فرح. وعظم الحرمان في داخله ولفّه سواد قدره فظلم الناس معه واعتبرهم مصيبته العظمى, فلم يحبّ أحدا منذ عودته, فاعتزل كل شيء...مسكين أنت يا النوري.
وأضاف الحسين:
- بل نحن المساكين, الذين نشفق على هذا الزنديق, السكّير, الذي ترك طريق الله واتّبع الشيطان. فلم يترك حراما إلا ركبه, ولا سيّئة إلاّ أتاها. إضافة إلى ذلك فهو يسيء إلينا ويسمعنا كلّ نابية وكلّ قول بذيء. ما كان علينا أن نقبله حين عاد, كان من الأجدر أن نطرده ونعيده إلى المزبلة التي جاء منها.
تدخّل الناجي وهو يحكّ شعره الأشعث بكلتا يديه:
- وماذا كنتم تنتظرون من لقيط قذفته السماء فجأة بيننا, وأعادته الأيام ملوّثا بكلّ خبيث.
نهره مصطفى دونما غضب:
- عيب أن نعيّر من كان أصله منّا بمثل قولك, فمهما يكن فأمه بنت زهرين.
عقّب القادري:
- فلنطلب له الهداية, وأن يريحنا الله منه دونما ضرر يلحقه بقريتنا.
وتحدث الرجال. تكلموا عن النوري ولم يسكتوا.




قديم 11-27-2011, 09:53 PM
المشاركة 22
طارق الأحمدي
أديــب وقاص تونسي
  • غير موجود
افتراضي
نبت في رأسي أكثر من سؤال, وتحرك دود اللهفة الطامح إلى قرض كل شيء, وثارت الفوضى بين ضلوعي. الفوضى التي خلفتها ورائي تتفجر الآن براكين في أحشائي. ولكني بلعت لساني وأسئلتي وصمتّ.
وسأعرف فيما بعد – بعد شهور قليلة- قصته. رواها لي أكثر من واحد, في أكثر من مرة, مع اختلافات قليلة في الروايات.
ومن ضمن الراوين, العجوز القادري. وهو شيخ جاوز العقد السابع يحسبه الرائي منتهٍ, لا يقدر على شيء, ولكن حين تخالطه, تقترب منه, تكتشف فيه روحا مرحة تتشبّث بالحياة وبكل ماهو جميل فيها, برغم الخدود التي حفرتها أيام الشقاء التي عاناها. وبرغم فقده لرجله اليمنى في حرب " الأندوشين". وهو سليط اللسان بذيئه, لا يستلذّ الكلام إلا إذا تضمّن عبارات نابية. وحين يلام ويصدم بسنّه, يردّ ضاحكا.
- ذلك ملح الكلام, توابله. وهل تستلذّ طعاما دون ملح أو توابل؟
علّمته الأيام ألاّ يعير للبؤس والأحزان بالا. لهذا تجده يقاوم, يشدّ بابتسامته ومرحه ستارة الزمن كي لا تنزل. كالنبتة التي تشقّ الصخر وترتفع قليلا, قليلا لتعانق شمس الصباح.
قال لي مرة وهو يتحسّس سيجارة بين أصابعه:
- لو لم تكن هذه لمتّ من سنين. أتعرف أين اكتشفت سحرها وأدخلتها عالمي؟ في حرب " الأندوشين". هناك بين تلك الأدغال صارعت الموت ألف مرة في اليوم. عشت مع رفاقي أقسى اللحظات وأمرّها. وضعونا في الواجهة أمام نار المدافع وقنابل الطائرات. تصوّر شبابا يدافعون عن وطن غير وطنهم, ينامون على فقد العشرات منهم ويفيقون على فقد المزيد. كنا لا ننام إلا ساعة أو تزيد قليلا, نعاني الجوع والبرد والحرمان والبعد عن الوطن. وكنت وقتها شابا يافعا, أحضن أحلاما كثيرة وحبا أكبر. نعم كنت أحبّ بعنف, سحرتني ابنة خالتي. ماتت الآن رحمها الله وسامحها. كم كنت أعشقك يا سالمة.. أنت لا تعرف سالمة؟ كانت كالبدر, غزال شارد, عشت معها أياما حلوة واتفقت معها على الزواج لكن الحرب أزفت لتفرقنا.. أنت لا تقدّر طبعا ما يمكن أن يعانيه عاشقين تفرّق بينهما الحرب؟ بكت سالمة, حضنتني, ترجتني أن أهرب...أثّر فيّ حبها, وجهها الصغير وهو يتلوّن ويغرق في دموعها...وعند رحيلي مزّقت جانبا من ثوبها لفّت فيه خصلة من شعرها الليلي ودسّتها في يدي.
هناك لم أنسها. كنت حين تهدأ رحى الحرب قليلا أنزوي في مكان قصيّ تحت شجرة أو فوق صخرة وأسافر بخيالي إليها. أقطع بحارا وجبالا وأودية, فيصطدم خيالي بنار الحرب ونار البعد. وأذكر أني كنت في أيامي الأولى ألاحظ أن معظم رفاقي يتلهفون على السجائر في جنون. يشعلونها, يعبّون منها الدخان فتميل رؤوسهم وتذبل جفونهم وتنفرج أساريرهم. وكنت أرفض كل دعوة لأخذ أيّ نفس من أيّ كان. ولكن بمرور الأيام انجرفت إلى ما يتعاطونه. فكنت أحلّق في عوالم فسيحة خالية إلا مني وسالمة.. إنه " الحشيش" يا بنيّ, ولولاه لجننت في ذلك المكان الموحش.
سكت القادري ودخل في نوبة قويّة من السعال أنسته ماكان يتحدث فيه, أو ربما تناساه لما تجلبه تلك الذكرى من حزن وماض أليم. ولم ألحّ عليه في المواصلة لأني كنت عرفت قصته كاملة. إذ أفقدته الحرب حبيبته فلم تنتظره وزوّجها أهلها, وبترت رجله بعد أن داس على لغم, وانتابه مرض غريب بعد عودته بقليل لم يستطع بموجبه حتى الحراك, وغزت جسمه حبيبات سوداء مازالت آثارها إلى اليوم على وجهه ويديه.
مرّت النوبة بسلام, وأشرق وجهه من جديد تغلّفه آثار التعب في عينيه. دسّ السيجارة التي كان يتحسّسها في فمه وأشعلها, فسعل سعالا خفيفا كتمه في صدره وقال في تعب واضح.
- أهــه.. ماذا كنا نقول؟
أجبته في تودّد:
- جئتك لتخبرني عن النوري, وأظنني سأرحل خالي الوفاض.
تململ في مكانه. نظر إلى البعيد كأنه لم يسمعني. أمسك عودا بيده اليسرى وخطّ به على الأرض أشكالا هندسية مختلفة ومتداخلة. ثم تكلّم...







قديم 11-27-2011, 10:38 PM
المشاركة 23
أمل محمد
مشرفة سابقة من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
سلاسة ٌ في السـّرد

ترابط ٌ رائع

ولغة ٌرصينة

تـُرى أيّ حديث عن النوري سـ يدور بينهما ؟؟

ما زلت ُ أتابع القادري ..

بانتظارك يا ~ أ. طارق

قديم 11-28-2011, 05:20 PM
المشاركة 24
طارق الأحمدي
أديــب وقاص تونسي
  • غير موجود
افتراضي
سلاسة ٌ في السـّرد

ترابط ٌ رائع

ولغة ٌرصينة

تـُرى أيّ حديث عن النوري سـ يدور بينهما ؟؟

ما زلت ُ أتابع القادري ..

بانتظارك يا ~ أ. طارق


من القلب شكرا لتشجيعك المتواصل أ . أمل

تسعدني متابعتك للعمل وأحداثه ..

أتمنى أن ينال رض.اك في النهاية ..

ودمت بود .



قديم 11-28-2011, 05:28 PM
المشاركة 25
طارق الأحمدي
أديــب وقاص تونسي
  • غير موجود
افتراضي
تحدث القادري :
- منذ زمن بعيد تعرّفت زهرين على رجل طيّب بسيط انبثق فجأة من بين ركام الفقر الذي كان يحوّط الناس في ذلك الوقت. جاءنا الهادي يحمل قفّة جمع فيها بعض أدوات الزينة من " سواك" وأمشاط ومناديل... يبادلها لنساء القرية مقابل بعض قمح أو شعير أو كمية من الصوف. وكانت طيبة نفسه وطول صبره وابتسامته التي لا تفارقه سببا في حبّ الناس له.
كان نحيفا, وفقره مرسوم على ثيابه البالية وقدميه الحافيتين. كان يحبّ صغار القرية فيمنحهم بعض قطع من السكر أو الحلوى مجانا.
وبرغم آثار السنين المحفورة على جبينه, والتعب الذي يغلّف عينيه الواسعتين لم نسمع منه كلمة سخط أو ثورة على وضعه.
" تفّ " على الأيام كم تظلم وتطغى.
الهادي لم يظلم أحدا, لم يتعدّ حتى على حجارة زهرين. لذلك كنا نحبه فلم نمنع نساءنا عن مساومته وقضاء حوائجهن منه.
كنت تراه راضٍ إذا وضع قفته على الأرض وحوّطته النساء يسألنه عن كل شيء, ويقلّبن كل شيء.
- الهادي...
- عيوني.. تحت أمرك.
- عندك "سواك"؟
- عندي يا " لَلَّه".
- بكم هذا الفستان؟
- بكم يناسبك يا عروسة؟
- لا يعجبني. لونه داكن بعض الشيء.
- عندي غيره. انظري هذا إنه خيط ليناسب مقاسك.
- يا.. يا الهادي اهتمّ بي قليلا.
- يا.. سآخذ هذين الصحنين بإبريق قمح فقط.
- حاضر " لَـلَّه".
- سأشتري منك هذا الفستان على شرط أن تعطيني مشطا مجّانا.
- حاضر " لَـلَّه".
حاضر " لَـلَّه"... حاضر " لَـلَّه"... لم تكن تسمع منه إلا هذه العبارة. يُرضِي الكلّ ولا يغضب أحدا.
لكن بعض النساء تحدّثن عن أمر لم نصدّقه, ونلن جزاءه عقابا من أزواجهن.
تحدثن عن اهتمام الهادي بلطيفة بنت الكامل. كانت في غاية الحسن والدلال. صحيح أنها فتنت الشباب, صحيح أنها تقابل الهادي وتشري منه. لكن أن تنظر إليه, تعشقه. هذا محال, هو في الأربعين يجرّ الخصاصة جرّا, وهي يانعة لم تتخطّ عتبة العشرين, مازالت أزهارها تتفتّح وأريجها يفوح.
قالت العجوز عائشة:
- إن الهادي حين يلحظ لطيفة يترك كل شيء وينهشها بعينيه الفائضتين جوعا.
وتحدثت زينة خفية, وبعيدا عن سمع زوجها:
- إنه أهداها سراويلا صفراء فاقعة اللون. وأن لطيفة غمزته وهمست له بحديث لم يتبيّنوا كنهه.
ووشوشت الخامسة زوجة عمها في أذني عبد الملك أخوها:
- أختك انفرط عقد الحشمة منها وحلّت شعرها عن آخره وستفضحنا إن لم تشكمها وتردعها.
وثار أخوها وأزبد وأرعد وصبّ جام غضبه في لطيفة لولا رحمة الناس بها وتأكدهم من طهارة الهادي.
أشعل القادري سيجارة أخرى أخذ منها نفسا تبعه سعال عنيف يظنه غير العارف به أنه لن يتوقّف. ولما خفّت النوبة واصل حديثه يقرأ الأفق ويستحضر شريطا تراكم عليه غبار السنين...





قديم 11-28-2011, 05:33 PM
المشاركة 26
طارق الأحمدي
أديــب وقاص تونسي
  • غير موجود
افتراضي
- ذات خريف. وفي ليلة حزينة نشرت حزنها على زهرين سمع الناس صوتا غريبا يعلو وينخفض. أرهفوا السمع. ظنوه ذئبا, لكن الكلاب كانت هادئة. فتسلّح بعض الرجال وتبعوا مصدر الصوت, والتصقت النساء بصغارها وأعينهن ملؤها الخوف والترقّب. تبيّن الرجال الصوت, إنه لامرأة تنتحب. من تكون؟ قرّبوا مشاعلهم. إنها لطيفة. وجدوها منفوشة الشعر, ممزقة الثياب. فتّشوا المكان حولها فعثروا على قفّة الهادي مبعثرة تلعب الريح بمحتوياتها.
انفجرت زهرين ذلك الخريف بكل بذيء القول على لطيفة.
قالوا: إنها (.....) .
نبشوا في سيرتها داخل المسجد, عند شجرة الأكاسيا, في الطريق, وبين أشجار الزيتون, وحتى فوق السرير.
قال العيفة بائع الفول:
- بقرونا في عقر دارنا ونحن نسدّ أعيننا وآذاننا.
وزفر محسن " العاقر" – هكذا يكنّى- :
- " تفّ " عليك يا الكامل وعلى ذرّيتك.
ووقف الفاضل شيخ القرية أنذاك ونظر إلى الكامل نظرة كلها احتقار واستصغار, ثم ملأ وجهه ولحيته بصاقا ومرّ مواصلا طريقه.
وعيّره الحسين برجولته وانتزع منه طربوشه ورماه أرضا وعفّره بالتراب تحت قدميه وقال له وهو يشهر سبابته في وجهه.
- الأكرم لك أن تمشي هكذا مكشوف الرأس كالكلب. يا أقلّ من كلب.
ومنع عنه محمود صاحب الدكان التّزوّد بالمؤونة, وطرده مرددا:
- ما عندنا شاي ولا سكّر. الرجال فقط يشربونه.
وتحدّث إمام الجامع في خطبة الجمعة عن الفضيحة وعن لطيفة, ووصفها بالشيطان وبالكافرة والفاجرة ودعا إلى رجمها حتى الموت أو إلباسها الخشن من الثياب وربطها مع الحمير.
وتحدثت النساء وهن يطبخن الشاي, وهن يجمعن الحطب من الجبل القريب.
قالت مباركة وهي تدلي بدلوها إلى الماجل:
- أفعى بقرنين. فعلتها ثم تسلحت بالبكاء والصمت.
عقّبت فاطمة:
- عين "....." لا تنكسر.
وقالت العجوز " زليخة":
- لو كانت ابنتي لوجّهتها إلى الغرب وذبحتها وأكلت من لحمها.
وتمتمت " كلثوم":
- رحمتك ياسيدي " صاحب الجمل".
كل القرية تحدثت عن لطيفة, جميع الناس استشنعوا فعلتها, حقدوا عليها وتمنّوا موتها.
وفي المقابل بحثوا عن الهادي فلم يجدوه. أيام عديدة وهم يبحثون عنه, لكن لم يعثروا له على أثر.
ولطيفة...؟!!




قديم 12-23-2011, 01:24 PM
المشاركة 27
أمل محمد
مشرفة سابقة من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
أظن لطيفة بريئة من هذه التهمة براءة الذئب من دم يوسف ‏..

‏~‏ أ. طارق

مازلت متابعة ‏..

بانتظارك ~

قديم 05-11-2012, 09:57 PM
المشاركة 28
طارق الأحمدي
أديــب وقاص تونسي
  • غير موجود
افتراضي
أظن لطيفة بريئة من هذه التهمة براءة الذئب من دم يوسف ‏..

‏~‏ أ. طارق

مازلت متابعة ‏..

بانتظارك ~

مساء الخير أ . أمل
شكرا لأنك تبحثين عن بقية للأحداث .. وشكرا لأنك تحاولين البحث عن إجابة للأحداث القادمة
سأواصل نشر بقية الفصول لعلّها تضفي جديدا ..
ودمت بود .


قديم 08-28-2016, 11:57 AM
المشاركة 29
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
اين انت يا استاذ طارق هل رحلت انت ايضا؟


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: بقايا رجل رحل ( رواية )
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
بقايا صمت شوق سالم منبر البوح الهادئ 50 02-18-2022 11:37 AM
بقايا ... عبد القادر منبر البوح الهادئ 0 08-17-2021 10:04 PM
بقايا العشق فكري محمد منبر البوح الهادئ 2 03-12-2012 12:00 AM
بقايا هواك هشام زيد منبر البوح الهادئ 10 05-20-2011 03:09 AM

الساعة الآن 06:42 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.