قديم 11-26-2011, 12:03 AM
المشاركة 11
طارق الأحمدي
أديــب وقاص تونسي
  • غير موجود
افتراضي


تلك الحبيبة كانت تحكي لي, لتذهب الصمت المحيط بنا, ولتبعد الوحشة التي تقتلنا. فتعيد عليّ حكاية " علي بن السلطان".


- "... وكان رجلا شهما, لا ترهبه صحراء ولا يعيقه البحر. صيده الأسود, وأسراه الغيلان. وكان شجاعا, نبيلا, غامر وأنقذ محبوبته من خاطف العرائس. .."



فأسألها وبصري مثبّت بها, وأصابعي الصغيرة تعبث بخصلات شعرها.


- ومن هو خاطف العرائس؟


تسكت لحظات. تلتفت جانبا لتسوّي غطاء أختي الرضيعة. ثم تجيبني وهي تعدّل من جلستها.


- إنه غول – بنيّ - يسكن جبلا وعرا تحرسه الوحوش, وله قصر قائم على جماجم البشر. وقد سمّي بخاطف العرائس لأنه يخطف كل عروس ذات جمال أو حظوة, ليلة زفافها. وتقول الخرافة. أنه ليحفظ حياته فقد كانت روحه مخفيّة في قلب جمل..!! وهذا الجمل يرعاه زنجي في وادي " الزنوج " يقع بين جبلين عظيمين.


فأقاطعها وأنا أدير ذقنها لتنظر في عينيَّ.


- أخبريني عن الروح.


- إنها معجزة الله يسكنها عبده كي يتحرك ويمشي ويسعى ويسرق ويقتل ويعمل ويجاهد. وحين يشاء الله يأمرها فتفارقه ليبقى جثة هامدة.


- ولم الله هو الذي يشاء وليس نحن؟


فتنهرني بشدة يدفعها خوف أزلي سكنها من زمن بعيد.


- استغفر ربك ولا تكفر – ثم وبلهجة متوسّلة ملؤها الرجاء – إن الروح ملك لله. وهو حرّ في ملكه, يتركه إذا أراد ويأخذه إذا شاء.


- وأبي؟ هل هو ملك له أيضا؟


- أجل. كلنا ملك له.


- لِمَ لَمْ يتركه لنا؟


فتبكي بصمت.



قديم 11-26-2011, 12:05 AM
المشاركة 12
طارق الأحمدي
أديــب وقاص تونسي
  • غير موجود
افتراضي

لم أدري وقتها أني أنبش جراحا مازالت طريّة, ولكنها تجيبني من بين دموعها وغصّة تخفيها عنّي.


- لقد أحبّه. لذلك أخذه لجواره.


- وهل يجد ما يأكله هناك؟


- نعم. فهو إن شاء الله في الجنّة.


- ألا نلحق به لنشبع معه؟


- لا تعترض على مشيئة الله.


- ما هي مشيئة الله؟


- إنها... إنها. كيف سأفهمك؟ اسمع..إننا نحن البشر لا نتدخّل في ما يريده الله, فإذا أتانا منه خير شكرناه, وإذا أتانا منه شر شكرناه. فنحن لا نستطيع إلا التسليم بقدرته والإيمان به.


- ......................


- يجب ألاّ تعترض على مشيئة الله. فقط, هذا ما أريدك أن تفهمه.


- وهل ربّي يحبّنا؟


- نعم. كثيرا.


- لِمَ لا يأخذنا عنده إذن؟


وتضمني إليها في حنان, وتقبلني, وتتضرّع إلى الله في ضعف أن يغفر لي ويرحم صغري.


ولما أضيق من صمتها ولا تجيبني, أخترع أسئلة أخرى أطرحها دون تفكير ودون تحسّب لردة فعل, وهي لشعورها بالوحدة تجاريني دونما اعتراض.


- متى أصبح رجلا يا أمي؟


- عندما تكبر حبيبي.


- سأصير قويّا وأعمل. وسأجلب لك كثير من الأشياء الجميلة.


- إن شاء الله – ( وتقبّلني في حنان).


- ولن أخاف أبدا.


- بلى. فالرجال لا يخافون.


ولكن يا أمي رجال زهرين يخافون, ويرضعون الخوف لأبنائهم. الخوف من الله, ومن انحباس المطر, ومن الفيضانات, ومن فقد الرغيف, ومن الشبع, ومن بعضهم, ومن النوري.






قديم 11-26-2011, 02:13 PM
المشاركة 13
ريم بدر الدين
عضو مجلس الإدارة سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
مساء الجوري
القراءةيا طارق سبقت الرواية منذ عادت منابر و هي موجودة في منبر الدراسات النقدية
على أي حال يلزمني بعد القراءة الثانية أن أعيد صياغة ما كتبت فيها
تحيتي لك دوما
دمت رائعا

قديم 11-26-2011, 02:41 PM
المشاركة 14
طارق الأحمدي
أديــب وقاص تونسي
  • غير موجود
افتراضي
مساء الجوري
القراءةيا طارق سبقت الرواية منذ عادت منابر و هي موجودة في منبر الدراسات النقدية
على أي حال يلزمني بعد القراءة الثانية أن أعيد صياغة ما كتبت فيها
تحيتي لك دوما
دمت رائعا
مساء الخيرات يا ريم

قراءتك السابقة أضافت الكثير لي وللعمل نفسه ..

والأكيد أني طامع بقراءة ثانية ..

تحيتي لك دائما

ودمت رائعة .




قديم 11-26-2011, 02:43 PM
المشاركة 15
طارق الأحمدي
أديــب وقاص تونسي
  • غير موجود
افتراضي
هذا الرجل الذي وضع حياته داخل أسوار من الغموض, وهالة من الأسرار. ورفعه الناس إلى مرتبة الشياطين. وجعلوه أحجية ومضرب أمثالهم, ويهددون به صغارهم حين ينوون الخروج مغربا, أو يرفضون النوم.
قطع فتحي منوّر شريط الذكريات الذي يمرّ في رأسه مشوّشا, مرتجفا. لتبقى صورة النوري تطلّ عليه من بعيد. يتقدّم, يتقدم, يملأ طيفه رأسه الصغير, فيخيّل إليه أنه يتفرّس وجهه, يغرس بصره في بصره, يهدده, يتوعّده, يلومه.
أحسّ بنار تلتهم جسده المنهك فدسّ رأسه تحت الحنفية, رغم الشتاء الذي يغتصب زهرين في الخارج, ثم رفعه وترك الماء يسيل على عينيه, أذنيه, وجنتيه. وكل جزء فيه يمكن أن يصله الماء.
صب لنفسه فنجان قهوة , ثم زفر وتمتم.
- لن أعيش بعذابك كثيرا يا النوري. سأرمي بكل أحزان الدنيا إلى البالوعة.
مسكين أنت يا فتحي. سيجرفك هذا الذي تفكر فيه إلى القاع. لِمَ غصت في الوحل؟ توهّمت أن خيوط الشمس حبالا فتسلّقتها لتسقط وتتحطّم.. يوم قدمت زهرين لم تكن تعرف شيئا عنها, لا تعرف أحدا. لكن الدودة الراقدة فيك استيقظت, فغصت في الوحل حتى رأسك.
والنوري؟ النوري, أيها البائس. شغلت به فكرك كل هذه السنين, يدفعك خوف أهل زهرين منه لعشقه. وهروبهم منه لاكتشافه.
وتورّطت. وها أنت تبحث عن مسكّن ينسيك صورته. معجزة تبعده عن فكرك.
يكفي..هذا يكفي .
صاح فتحي دون صوت يسكت الألم النافر فيه, وضغط بعشره على رأسه.
وصمت.




قديم 11-26-2011, 07:38 PM
المشاركة 16
عبدالله الفيفي
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
رائع ومبدع

تحياتي لك

قديم 11-26-2011, 09:07 PM
المشاركة 17
طارق الأحمدي
أديــب وقاص تونسي
  • غير موجود
افتراضي

الأستاذ القدير : عبد الله الفيفي

سعدت جدا بمرورك من هنا ..

وسأكون أسعد لو أنهيت معنا المشوار ..

من القلب شكرا لحضورك .

ودمت بود .





قديم 11-26-2011, 09:12 PM
المشاركة 18
طارق الأحمدي
أديــب وقاص تونسي
  • غير موجود
افتراضي


وتراقصت أمامه صورة بعيدة, ولكنها واضحة.

مرّ في ذاكرته شريط يومه الأول من قدومه زهرين. ابتسم, تكلم دون صوت يحدّث الصورة المعلقة أمامه على الجدار.

لما قدمت زهرين, كانت بين جنبيّ أمان كثيرة تدفعني للسّير قدما نحو هذه القرية. هذا الإمتداد والإنعتاق الذي تبحث عنه روحي.

أنا...

الذي جرفتني الأقدار إلى هذا المكان, ودفعتني إليه دفعا, لتلهب جمرة كادت تخبو في قلي. وليتشتّت عصبي المنهوك دائما ببراكين حزن تتفجّر كلما صرت وحيدا. ولأشبع رغبة غجرية تتملكني لخوض كل ما هو مثير, وبلا نتائج. لأتعب عقلي, أقهره حتى لا يدمرني بأسئلته ويرديني في هوّة لا جوانب, ولا قاع لها من الحيرة. وقد وجدت ضالتي في هذا المكان. عند هؤلاء الناس الذين رحبوا بي واستقبلني العمدة بحفاوة مبالغ فيها وسط " ساحة الإجتماعات" - هكذا يسمونها - . وهي عبارة عن شجرة " أكاسيا" كبيرة, ضخمة تقف في صبر في قلب زهرين.

وقد أخبرني الحسين مؤذن الجامع الوحيد في القرية, أن هذه الشجرة ما كانت لتنمو وتصير هكذا لو لم "يَبُلْ" تحتها سيده " صاحب الجمل" !!.

تقزّزت لهذه المعلومة, دغدغت أنفي رائحة كريهة ضاربة في القدم. تخيلت الرجال وهم يتمرغون في البول صباحا وعشيا. وطفرت فكرة صغيرة في عقلي المتعب. بدأت تكبر وتعظم.

" مادام للبول هذه المنافع, فلِمَ ننتظر المطر؟ ونحفر الآبار, وننقّب عن الماء؟ لِمَ لا يبول كل واحد منا تحت شجرته, وإن كان له أكثر يخصّص لكل واحدة يوما, وستصير أشجار بلدي كلها بحجم هذه "الأكاسيا".
وكأن اللعبة استهوتني, فتغافلت عن العمدة الذي بدأ يحشو أذنيّ ترحيبا, وسألت الحسين بدهشة مصطنعة.





قديم 11-26-2011, 09:15 PM
المشاركة 19
طارق الأحمدي
أديــب وقاص تونسي
  • غير موجود
افتراضي
- أويمكن لإنسان أن يأتي بهذا؟
- إنه ليس إنسانا عاديا, إنه وليّ صالح.
ثم وبلهجة أقرب إلى التهجّد:
- ولتعلم يا ولدي أن الأولياء أحباب الله, الذين سبل عليهم رحمته وآتاهم بركاته.
وطفق يتحدث عن " صاحب الجمل" بإطناب حتى يخرج الزبد من فمه وينتشر رذاذا يبلّل القريبين منه.
ولما أحسّ بسخريتي منه, وعدم تصديقي له, اضطرب وأجفل واستنجد بالمحيطين به. وحرك يديه عاليا وفي كل اتجاه.
ولأول مرة منذ وصلت تأملت الحسين بكل دقة. كان مائلا إلى السمنة قليلا, اشتعل رأسه شيبا, ونبت فوق فمه شنب أبيض تتخلّله بعض صفرة. أما عينيه فضيقتين وحادتين, تنمّان عن بقية نار تتوقد, إما لذكاء أو لدهاء.
لم يعجبني كلامه. كذّبت ادعاءاته, فامتقع لونه, صار كغريق لوّحت به العاصفة في عرض اليمّ. التفت في جميع الإتجاهات, مسح الماء النازل من أنفه بكمّه, رمقني بنظرة كلها كره ولوم وعتاب.
أنقذني العمدة منه, انتشلني من تيار رميت نفسي فيه.
- ما هذا يا الحسين؟ إنه ضيفنا, لا يجوز أن تدخله في شؤون هو بعيد عنها.
ردّ وقد تقوقع في جبته, واتّكأ على جذع الشجرة:
- سرقنا الوقت يا سيد مصطفى. على كل حال صار الآن منا وأبناؤنا أبناؤه, وهو معلمنا مادام معلّم صغارنا.
وتغيّر الحديث, وشارك الجميع في الكلام, كل يدلو بدلوه ويريد أن يعبر بطريقته على طيبة أهل زهرين وعفويتهم واحتضانهم للضيف بكل ما لديهم من حب ورحابة.



قديم 11-26-2011, 09:20 PM
المشاركة 20
طارق الأحمدي
أديــب وقاص تونسي
  • غير موجود
افتراضي
نادى مصطفى صاحب الدكان القريبة من ساحة الإجتماعات.
- يا محمد.. هات مشروبا للسيد.
- حاضر.. من عيني.
علّق أحد الحاضرين:
- لا حاجة لنا بعينيك, هاتها من الدكان.
وغرق الجمع في ضحك مشوّش يفضح هشاشة صدورهم وتخوّخها من فعل السجائر الرخيصة.
تنحنح القادري, ذلك العجوز الهرم الذي عاصر الحربين, وفقد رجله اليمنى في حرب – الهند الصينية -. اعتمد على مرفقه وزحف إلى الحلقة دون أن يقف. وخاطب الناجي المعدم دوما, والمختصّ في طبخ الشاي.
- هــه.. ألم ينضج شايك بعد؟
فردّ عليه وهو يضرب يده على فخذه بعد أن أحرقه غطاء الإبريق لمّا رفعه.
- حاضر, حاضر..لحظة..اصبر.
صبّ رشفة في كأس وتذوّق, تلمّظ وهزّ رأسه علامة الإيجاب, وكأنه يقول " نعم استوى".
قدم لي كأسا أخذته شاكرا, وكدت أرجعه لولا خجلي لشدة سواده ومرارته. ولكي أداري تقزّزي وضعته بين قدميّ وسحبت علبة السجائر, أخذت منها واحدة ومكّنت بعض الحاضرين من عدة سجائر, وأعطيت الباقي للحسين فطبعت عليه بسمة طفولية, فاغتنمت الفرصة ودفعت له بالكأس عن طيب خاطر, وبرجاء صادق أن يخلّصني من تبعات شربه. فعلّق مصطفى مازحا وهو يحكّ مؤخّرة رأسه.
- ابن المدينة لا يقدر علينا.
عقّب الناجي:
- لو كان يعرف منافع تلك الكأس لما فرّط فيها.
فاستغلّ القادري الفرصة ليعرّي عن بذاءة لسانه ...
ثم انفجر ضحكا حتى غابت عيناه بين التجاعيد الكثيرة التي تملأ وجهه. وسَرَت عدوى الضحك بين الجميع, فاهتزّت هياكل بقايا بشر في تلك الثياب الرثّة البالية, وتعرّت الأسنان الصفراء المائلة إلى الزرقة.
فجأة صمت الجميع, سكنهم بعض خوف – ربما- أو اشمئزاز, ورفعوا رؤوسهم إلى الذي انبثق فجأة من خلف أشجار الصبّار الكثيرة...







مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: بقايا رجل رحل ( رواية )
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
بقايا صمت شوق سالم منبر البوح الهادئ 50 02-18-2022 11:37 AM
بقايا ... عبد القادر منبر البوح الهادئ 0 08-17-2021 10:04 PM
بقايا العشق فكري محمد منبر البوح الهادئ 2 03-12-2012 12:00 AM
بقايا هواك هشام زيد منبر البوح الهادئ 10 05-20-2011 03:09 AM

الساعة الآن 03:06 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.