قرأت لك……
رواية ( ثرثرة بلا ضفاف)
للدكتورة فاطمة يوسف العلي
ولأن الوقت لا يمضي ، فكرت في القراءة لبعض الروايات
بدأت بـ( ثرثرة بلا ضفاف) للأديبة الكويتية د. فاطمة يوسف العلي…
من شفافية السرد إلى الواقع المتردي…
تستهل الدكتورة فاطمة نصها الروائي بفصل يحمل عنوان ( ليل باريس)
حيث تقدم وصفًا بديعًا وجميلا لباريس في أمسية من أمسيات مما يسترعي الانتباه ويلفت نظر القارئ والناقد معا منذ الوهلة الأولى ،حيث تقول : مهرجان الألوان يلعب على كل مستويات النظر ،لافتات محلات الحلوى الكثيرة كثرة ملفتة في هذا الشارع الضيق ، تحول شهوة الطعام إلى صور لكعكات وقطع البسكويت يسيل على سطحها العسل وفي الأدوار المتكررة ، لافتات إرشادية لمكاتب وموتيلات وفوق العمارات القديمة الفارهة ، المطرزة بأكاليل القرن الماضي والذي قبله ، لوحات ضخمة لزجاجة يتدفق سائلها في كأس تفيض، كان رذاذ صيفي يصنع في كل الجوانب ستارًا من الدانتيل والخرز الملون حسب تداخل الأضواء.السيارات القليلة المارة في الشارع تعمل مسّاحاتها بجد لإزالة الرذاذ ولكنه يبرقش خلفية السيارات ، تاركًا للمسّاحات حدود مداها .
وقد يلفت الانتباه أن أبطال الرواية جميعهم من النخبة المثقفة في المجتمع؛ فالسيدة الكويتية (فلوة ) تدرس علم الاجتماع، وزوجها سالم مثقف وعاشق لمدينة باريس ورغم إتقانه المميز للغة الإنجليزية، إلا أنه ما عاد يحلو له أن يذهب إلى لندن ولعل السبب في رأيه يرجع إلى أن لندن أصبحت مدينة خليجية أو على الأقل مدينة عربية، وخاصة في الصيف.
أما الشخصية الرئيسية الثالثة فهي مزهر السماحي الذي التقى بسالم في مكان غير متوقع لكليهما، "ومزهر يعرف خفايا باريس وخلفياتها كما يعرف راحة يده"
التقى السماحي بسالم الذي كان يقف أمام متحف " باستير" وعرف من ملامحه إنه عربي ثم توجها معا لمشاهدة فيلم سينمائي ،حينها كان السماحي يعمل مساعد مخرج سينمائي .
وتقدم الرواية شخصية ( أدبيرج) امرأة مغربية الأصل أمازيغية لكنها من هذا الشرق الإسلامي وعلاقتها بمزهر السماحي قويه جدا تعترف ( أدبيرج) في تصريف شئون حياتها بكلمتين، تعتقد أنهما صنعتا حياتها في الماضي، وهما الدفع والمصادفة.
أمها " بريدة بنت حلبس" جزائرية.
نزحت مع أهلها إلى المغرب حين اشتدت الحرب في الأوراس وتزوجت هناك.
أدبيرج كانت في الخامسة عشرة من عمرها، حين رآها ذلك الرجل من الأعيان ، والذي كان يزور مدرستها، ويحضر احتفالا مقاما هناك، كان ثريا جدا وشابا وسيما، أعجب بها وأعجبت به وتزوجا مباشرة ، سوى إن المفارقة أن "أدبيرج" ظلت عذراء لسنوات عديدة، ثم هربت إلى بيت أهلها وطلبت الطلاق، والمصادفة وحدها جمعتها بمزهر السماحي على باب مطعم " الكوشير" بباريس.
المنحى السياسي
نلاحظ أنه الروائية فاطمة العلي تنحى بروايتها من المنحى الواقعي الاجتماعي إلى المنحى السياسي ، وذلك من خلال الإشارات عن علاقة العرب بما يعرف بالمستقبل.
وسوف نرى أن الكاتبة لن تكتفي بهذه التلميحات، ولكنها ستكثف تركيزها على السياسي العربي بشكل واضح، وتسلط بقعا من الضوء من خلال أبطالها، توضح فيها مدى التخلف والإحباط العربي على الصعيدين الاجتماعي والسياسي، بالإضافة إلى الصعيد الاقتصادي الذي لا يمكن فصله عنهما بحال من الأحوال.
وسوف نرى ذلك جليا في الفصلين اللذين يحملان عنواني" ثرثرة بلا ضفاف" و " لولا" ولا شك أن ثرثرة بلا ضفاف له من الأهمية البارزة لدى الكاتبة ما جعلها تختاره عنوانا لعملها الروائي.
" لا تعرف فلوة لمَ ينفتح قلبها الآن لأدبيرج مع أنه لاشيء تغير منذ لقائهما الأول، الذي لم يمضِ عليه أكثر من شهرين، هما مدة بقائهما في باريس".
ولكن الذي يحير فلوة حقا، لماذا لم تتزوج أدبيرج من السماحي إلى الآن؟ وما حدود العلاقة بينهما، طبعا هذه أمور تثير تفكير المرأة، وتضيف فلوة، وكأنها تكلم نفسها:
" ولكن أليست أدبيرج من هذا الشرق الإسلامي نفسه، ولو كانت أمازيغية؟!"
وها هو مزهر السماحي يحدث صديقته أدبيرج عن ضرورة السفر إلى مدينة طنجة، فتتدخل فلوة وتتساءل بشيء من التعجب: " كيف تتركون أرضكم للأسبان؟"
فترد أدبيرج: " هكذا نشأنا فوجدنا كل شيء على حاله ، طنجة ومليلة في يد الأسبان ، كما أن جزر من الخليج في يد إيران، والجولان عند إسرائيل، والشيشان عند الروس، لا شيء يتحرك إننا خارج العالم".
عمل متميز
لقد استطاعت الروائية د. فاطمة ي سف العلي ، بخبرتها الطويلة في مجال الفن القصصي والروائي أن تضع هذه الخلفية السياسية التاريخية خاتمة لعملها الروائي المتميز بطريقة غير مباشرة، وهي اجتياح القوات العراقية الكويت في الثاني من أغسطس 1990، وبهذا الحدث الصاعق المزلزل أسدلت الستارة على نصها الروائي المحبوك بفنية واقتدار .
كما أن الكاتبة استطاعت أن تقيم توليفة عجيبة بين الخطوط الاجتماعية والسياسية داخل عملها الروائي، فسلطت العديد من بقع الضوء على الواقع السياسي المتردي، والحافل بكل صنوف القمع والبطش، لدرجة أن هذه السلطات الموغلة في القمع والديكتاتورية تريد أن تستنسخ شعوبا بأكملها خاضعة خانعة للحاكم المطلق الآمر الناهي، شعوبا لا تجيد لعبة المعارضة السياسية ، بل لا يمكنها أصلًا أن تفكر فيها مجرد تفكير.
كما أحب أن أشير إلى نقطة جديدة بالاهتمام والتقدير، وهي أن هذه الرواية تعالج مشكلة الاغتراب عن الوطن، وهذا الاغتراب هو - في الغالب الأعم - سياسي قسري نتيجة الممارسات الأمنية والقمعية وهذا ما نجده في شخصية ضاري وزوجته ودودة.
إن الروائية فاطمة العلي تسلط الضوء على معضلة متجذرة في مجتمعاتنا العربية ألا وهي هجرة أو تهجير ( الأدمغة العلمية) والتي باتت من الأمراض المزمنة التي لا نستطيع التخلص منها ، وكأنها كرة الثلج تكبر وتتضخم كلما أوغلت في تدحرجها.
وعلى الرغم من حالة الاغتراب التي تجسدها بعض الشخصيات إلا أن هذا الاغتراب بقي في حدوده الجغزافية الضيقة فقط، بحيث أن الأبطال حملوا معهم إلى المغترب أوطانهم بكل همومها وانكساراتها السياسية والاجتماعية.
إن أحداث الرواية كانت تجري في "باريس" لكن الكاتبة من خلال استرجاع الأحداث/ الفلاش باك ، تنقلنا تارة إلى السجون والزنازين والمعتقلات ، تترصد بكل من تسول نفسه الخروج على طاعة الحاكم المطلق ، أو السير خارج الخطوط البيانية المسموح بها ، وكانت تنقلنا تارة أخرى إلى بلاد المغرب العربي ثم إلى الخليج العربي وسورية، وهكذا كانت تحمل الكاتبة خارطة الجغرافية العربية في ذاكرتها ووجدانها، وهي في قلب القارة الأوروبية.
مغامرة فنية
تفرد الكاتبة مساحة لا بأس بها من روايتها للحديث عن الأجزاء السلبية من وطننا العربي، والتي تؤشر على حالة من التردي والتشرذم، التي لم يسبق لها مثيل ، وتثير بهذا الصدد مسألة احتلال مدينتي ( سبتة ومليلة) المغربيتين من قبل الأسبان ، وتعرج على جزر الإمارات الثلاث ( طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى) التي احتلتها إيران وتعرج إلى سلخ( لواء الاسكندرونة) السوري من قبل تركيا، إبان الحرب العالمية الثانية ، والحال كذلك في احتلال إسرائيل لمرتفعات الجولان السورية لعام 1967، ولا تنسى القضية العربية الكبرى ، والمتمثلة في الاحتلال الاستيطاني لفلسطين، منذ ما يزيد عن ستة عقود ومع ذلك فقد سقط منها سهوا الحديث عن إقليم( عربستان ) العراقي وكذلك القدس والضفة الغربية ولعل الكاتبة أشارت إلى الجزء نيابة عن الكل.
ومن ناحية أخرى استطاعت الكاتبة ببراعة، أن تحدث نوعا من التناغم بين أكثر من فن في مفاصل روايتها، ولا سيّما هذه " الخلطة السرية" بين الفن الروائي والفن السينمائي من خلال بطلها المخرج السينمائي " مزهر السماحي" ففي الوقت الذي كان يتابع فيه قصة صديقه د. ضاري التي تحبس الأنفاس في معتقله وزنزانته وسجانيه، كان فيلمه السينمائي يتجه نحو الإنجاز والانتهاء، إنه فيلم الخيال العلمي الناطق باللغة العربية،إن مثل هذه المغامرة في إدخال الفن السينمائي بطريقة غير مباشرة، إلى نسيج الفن الروائي ، يؤكد أن هذه الفنون الإنسانية تصب كلها في بوتقة واحدة، وأن لا حدود يمكن أن تفصل بينها لأنها في نهاية المطاف ، إنتاج الإنسان الفنان المرهف الإحساس كما تؤكد أن فن الرواية يمكن أن يستوعب العديد من الفنون ،مثل التاريخ والجغرافية والفلسفة والسينما ، ويدلل على أن الرواية هي " حاوية" لكل هذه الفنون الجميلة دفعة واحدة.
إن هذه القراءة النقدية الأولية ليست إلا محاولة لإلقاء بقع من الضوء على هذا العمل الأدبي، وطرح جملة من القضايا والمسائل الفنية، التي تشغل بال المبدعين والنقاد على حد سواء، وتساهم في التحفيز على قراءة هذا العمل الروائي بهدف فتح نوافذ نقدية جديدة، تغني العمل وتضعه في المكانة التي تليق به
التعديل الأخير تم بواسطة ياسَمِين الْحُمود ; 08-14-2021 الساعة 11:36 AM