منبر البوح الهادئلما تبوح به النفس من مكنونات مشاعرها.
أهلا وسهلا بك إلى منتديات منابر ثقافية.
أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التكرم بزيارة صفحة التعليمـــات، بالضغط هنا.
كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل بالضغط هنا إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى، أما إذا رغبت بقراءة المواضيع والإطلاع فتفضل بزيارة القسم الذي ترغب أدناه.
يبدو لي أنّ المسافات تتلف المشاعر الصّادقة الدّافئة، أو أنّه ولربّما للمشاعر مدّة صلاحيّةٍ لا يتبقّى بعد انقضائها من المشاعر سوى شكلها الظّاهر بمضمونٍ تالفٍ لا يصلحُ للاطمئنان عمّن نحبّ.
هل تذكرين ذلك المنحدر؟ كنّا نصعده صباحًا تمسكين يدي خوفًا على حفيدك وطمعًا في الاستناد عليه إن انزلقت إحدى قدميك أثناء الصعود الطويل.
كان باستطاعتي سماع زفير أنفاسك واستشعار تسارع نبضات قلبك الضّعيف، وكان من السّهل عليّ أن ألحظ تساقط قطرات العرق من جبينك على الأسفلت الملتهب عندما ينتهي بها المطاف عند رأس أنفك النّحيل.
وعند وصولنا معًا بعد عناءٍ طويل، كان احتفالنا بالوصول لا يتمّ إلا بشتيمةٍ تطلقينها تعنيفًا لتلك الحياة، وما أن نبدأ بالمشي الأفقيّ، حتّى تكافئنا الطّبيعة الرّحيمة بنسمة هواءٍ تشعرنا ببعض الرّضى الذي لم نكُ نملك غيره آنذاك، تلك الطّبيعة التي جمعت بين حرّ آب ونسمات هوائه العليل.
وبعد قضاء حاجياتنا، تبدأ عندي رحلة البحث عن حجّة لاقناعك بأنني أعرف طريق العودة، وكأيّ صبيّ شقيّ مولع بالمغامرات الغامضة تحاولين لجمي بعبارات عاطفية تصيب قلبي بمزيدٍ من الحبّ فيتخدّر الجموح فيّ وأستكينُ مستسلمًا لكفّ يدك طائعًا لمسار عودتك.
كنت دائمًا أطيعك في جميع المسارات، ولم يفتني طريقٌ واحدٌ سلكته قدميك دون أن أكون المرافق اللصيق رغم تهوّري بعض الأحيان، لكنّك في رحلتك الأخيرة حين غادرتِ إلى فلسطين عائدةً مع من عادوا لم تطلبي منّي أن أرافقك، ولم تمسكي بيدي لأكون سندك، كلّ ما فعلته هو أنّك بكيتِ، وبكيتُ أنا كثيرًا.
لعلّك تذكرين أيضًا تجوّلنا في كرم الزّيتون المجاور لبيت جدّي، لم يكن يعجبك شكل حبّات الزيتون في ذلك الكرم كونها لا تشبه تلك الحبّات في خلّاتنا المغتصبة في فلسطين، أذكر كيف كنت تمتعضين من عدم اهتمام صاحب الكرم بغراس الزّيتون وتنعتينه باللامبالاة والجحود كونه لا يفلح أرض الكرم على الدّوام ولا يصنع حول الشّجر سواقي دائريّة الشّكل كي لا يضيع ماء المطر هباءً حين تأتي السّماء بقطيع السّحب الماطرة.
لا بد أنّك تذكرين وبعد كلّ هذا الوقت كيف استطاع ولدٌ مثلي أن يتسلّق شجرة الزّيتون الكبيرة ليقبض على فراخ عصفورةٍ صنعت لها ولهم عشًا على أغصانها، فعاقبتني حينها الطّبيعة بسقطةٍ أثارت فزعك وأطلقت للفضاء شهقةً منكِ كادت تنضج حبّات الزّيتون من حدّة صوتها.
واليوم وقد عدتِ إلى فلسطين، وسكن قلبك وهدأت روحك بلقاء زيتوناتنا، كان لا بد لي من أن أرفع هذا الهاتف اللوحي المحمول صانعًا مكالمةً مصوّرة معك، لأرى في عينيك انعكاس صورٍ كثيرةٍ لفلسطين، صورٌ تمتزج بها مشاعر العائدين بمشاعر المنتظرين في المنافي البعيدة، كان لا بد لي أن أحدّثك عن كرم جارنا الأهوج الذي بيع لصانع البنايات الطويلة وانتهى بزيتوناته المصير إلى القطع، كان لا بد لي أن أحدّثك عن نكبة الزّيتون في كرم جارنا، وهجرة العصافير بعد خراب بيوتها..
تلك العصافير التي لطالما طاردتها عيونك بحثًا عن الغائبين، من نافذةٍ شرقيةٍ تطلّ على اللاشيء، حتّى العتبة الحزينة، المتروكة للانتظار.
ما الذي نعرفه عن الحبِّ؟ هذا الشُّعور الغائمُ الجزئيّ، المائلُ مع الحنين، القابعُ في أعمق حجرات الذّاكرة، يأكلُ ويشربُ من أعمارنا كيفما يشاء، ينمو كالنّعناع حيثما وجد مساحةً في القلب، يغيبُ ولا يأفل، يبردُ ولا ينطفئ، يختفي ولا ينضب، يتحوّرُ، فتارةً يصبحُ ذكرى، وتارةً أخرى يُمسي صورةً، يلقي بنفسه على مائدةٍ كانت يوماً تضمّنا نحنُ، نحنُ جميعاً، جميعاً … ولا يكترثُ إن مرّر سيفهُ الحادّ على أجسادنا الهرمة.
هل نعرف الحبّ؟ هذا الذي كالمارد يخرجُ من الذّاكرة يحبو كطفلٍ إلينا كي يغتالنا ملقٍ بنا في وهمٍ سحيق، وننسى أنّ الماضي لا يعود، وأنّ الحساباتِ القديمةَ والبريئةَ لا تَحُلُّ لغز الحاضرِ المشوّه، لا نملك أمام هذا الكمّ الهائل من الحبّ المتعجرف، سوى الصمت… صمتٌ كصمت المُعتَقلِ في زنزانةٍ انفرادية، يصمتُ كي يسمح للأمل أن يتكلّم، ولا صوت يكسِرُ صمته، فالماضي مضى، والأمواتُ لا يبعثون من جديدٍ في ذات الحياة، نصحو على طقطقة أسناننا غضباً وسخطاً وحزناً. ونموتُ برداً في موقد الحبّ.
وبين شوق وغربة تقف الذّاكرة مثقلة بالأحداث، وأجدني في تيهٍ بين الغد المنشود والماضي الموؤود، أحتمل قسوة الغربة، أتشرّبها كإسفنجةٍ بلعت ماء بحر، ولكن كلّما انتهى بي المطاف إلى حجرتي الصّغيرة هذه يعتصرني الحنين، فيخرُج هروين الغربة من جديد خارج حدود فكري وفؤادي، لأعود في صباح اليوم التالي غضًا من جديد لأتعلّم كيف أدمن الغربة ولأعاني مثلما عانيت عند أوّل جرعة.
مهما حاولت وصف معاناة الأسير الفلسطيني في سجون الاحتلال، فلن أكون قادرًا على ذلك لأنني لم أتناول يومًا وجبة الغداء بصحبة الفئران، وما ضاق بي مكانٌ بقدر ما تضيق الزّنزانة بالأسير، ولم أمارس صلاتي بعيوني لأنّ الزنزانة لا تتّسع لسجّادة صلاة. مهما امتلكت من مهارات التّعبير اللغويّ فلن أكون قادرًا على التّعبير عن مشاعر صبيٍّ لم يبلغ الثالثة عشر من عمره يدفع ثمن نضاله ضدّ الاحتلال ولا يفهم لغة السّاسة ولا يُتقنُ أساليب الكذب الدّارجة.
لَم يَكُن النّزوحُ سهلًا على جدّتي، كان صيفًا شديد الحرارة، ولكنّ نيران القصف الزّاحفِ إلى قريتنا كانت أشدّ حرارة وإيلامًا للبشر من قرص شمسنا المتوحّشة، لم يكن الأمر بتلك السّهولة التي وصفها البعض أثناء ثرثرة المجالس الفسيحة ذات الأرائك المريحة، لا، ولم تكن رحلةً عائليّةً إلى السّاحل، بل كان نزوحًا يشبه خروج الرّوح من الجسد، وانسلاخ الجلد عن العظم، كان احتراقًا جماعيًّا وقوده الحنين وجمره الشّتاتُ ورماده الاغتراب. ولك أن تتخيّل كيف قضت أمّ أسعد عُمرًا وهي تحاول استيعاب ما حدث، فمن وطنٍ إلى ملجأ، ومن أهلٍ وعزوةٍ إلى فراغٍ يُشعرها دومًا باليُتم، ويُذكّرها ليل نهارٍ بأنّها خرجت من المنزل وقد نسيت أن تتفقّد أعشاش الحمام وأن تُخمِدَ نارَ الطّابون وأن تروي نباتات الشّرفة.