أعتذر مسبقا على طول القصة..لم استطع حذف جزء منها
همسات في فوضى المكان
اعتدت كلما ذهبت إلى عرس التدقيق كثيراً في جِلْسَةِ العروس ونظراتها وهدوئها، فأراها صامتة، وأتساءل في نفسي بماذا تفكر وهي تجلس في منصَتها المزخرفة؟، وهل صمتها هذا لأنها هادئة بطبيعتها أو أنها تريد أن يراها الجميع كاملة الأوصاف، فتُوْهِم نفسها بجمالها وهدوئها وتوهم الآخرين كذلك؟، أم هو موقف يصعب فيه تحديد طبيعة التفكير؟، وها قد جاءتني هذه اللحظة ومن المؤكد غيري يسأل نفس الأسئلة، إلا أنني لم أفكر إلا بشيء واحد وهو أمي، إذ لطالما سمعتها ليلا وهي تبكي وتتأوه من حزنها على فراقي.
لم تكن الحاضرات في بيتنا كثيرات، لا أدري لماذا لكن الأغلب من ذوي القرابة الحميمة، كانت أصواتهن وأحاديثهن مسموعة ما اضطرني لسماعهن من غير إرادة مني، كانت إحدى المدعوّات تقول للتي بجانبها: لم نتخيل أنها ستكون جميلة بهذا القدر، نظرتْ إلي فأشحتُ بوجهي عنها وكأني لم أسمع، ثم تابعت حديثها قائلة: مسكينة أمها، لم ترَ الفرح في حياتها، تعبت في تربيتها هي وأخوتها، تحمّلت الذل والانكسار في سبيل احتضانهم ومنع أحد من التحكم فيهم، هل تذكرين كيف كانت عيشتهم قبل سنوات؟ كانوا لا يملكون قوت يومهم الذي يعيشونه.
شعرت بخنجرها المسموم يدخل قلبي، ويفرغ عصارته في الصميم، لماذا تذكريني أيتها القميئة بحياتي السابقة؟، لا داعي لذلك اليوم، فمن المفترض أنه يوم زفافي الذي تمنيت كثيراً أن أراه غير كل الأيام، وأن أمحو فيه آثار الحزن من عيني أمي، لست بحاجة لمن يذكرني فكل المشاهد حاضرة أمامي ولن تمحوها الأيام مهما تعدت وتوالت على هذه الجراح.
حاولت كثيراً ألا أتذكر فأَبَت الذاكرة إلا أن ترسو بميناء مخيلتي، طفا على سطح ذاكرتي صورة أمي وهي تستقبل النساء في رمضان ليلاً وتجلس معهن بضعة دقائق فتذوب خجلاً منهن ثم يخرجن ، وبعدها أراها وهي تعتصر من الألم وتبكي إلى أن يذهب صوتها، تنعى حظها السيئ الذي رماها يوماً في طريق أبي، كم هوصعبٌ على الطفل أن يرى أمه تبكي بمرارٍ رهيب، آلمني ذاك المشهد، إذ أنني كنت لا أعرف سبب دموعها المتواصلة ولا أدري أيضاً لِمَ تأتي هذه النساء ومعهن هذه الأغراض إلى بيتنا كان صعباً أن أدرك كل هذا بتلك السن الصغيرة.
وصورة أخرى تتكرر على مدار العام وهي تشكر بضعة أطفال على ما يحضرونه لها من أكياس تحوي مؤونة وبعض الملابس الصغيرة ويقولون لها إن هذه الأغراض من أبيه أو من أمه وبعضهم يقول إنها من جدته، رأيتها وهي تحمل الأغراض التي يأتون بها وتُدخلها لتهيئ لها مكاناً في المطبخ وتَنزَوي تبكي وحيدة ضعيفة، وتحمد الله على أن أهل الخير لا ينسون أطفالها في مواسمهم المختلفة.
كنت أرى أمي أجمل النساء في قريتنا، ولكنها أتعسهن عندما يقابلها أحد ما ومعه شيء يريد إعطاؤه لها ، كم كنت أتمنى فك هذا اللغز، فتاة في مقتبل العمر تربي أيتاماً وهم ليسوا بأيتام، تأتيها النساء في أوقات مختلفة، كلهن بعمرها أو أكبر قليلاً، كل واحدة منهن تجود بما عندها، وأخريات يتصدقن بالنقود، وفي كل مرّة كانت أمي تحبس دموعها أمامهن وأمامنا وتتلاشى التقاء العين بالعين لئلا تهطل تلك الأمطار من مقلتيها الغاليتين، تبتعد عن الجميع وتذوي بحزنها حتى عن أعز الناس لديها، تختبئ عن عيون النساء بخجل وإحراج كبيرين، فكل تلك النسوة يتمتعن بحظٍ وافر وسعادة متناهية في عائلاتهن لا يحملن هم الغد في ليلهن الطويل، ولا يعرفن معنى الحرمان بمفهومه الحقيقي، كل واحدة تنام ليلها تغازلها أحلامٌ وردية، وتنعشها نسمات صباحها الوادع فتداعب أحلام يقظتها حقيقة صافية لم يسبق أن تخلت عنها مرّة، أما هي فهذا ما لم تعرفه يوما، ليس لديها حلم سوى رؤية أبنائها يكبرون أمام عينيها بسلام وترى بسمات الفجر فيهم، لتنير قناديل عمرها بهم، ربما الغد يحمل لها بشرى جميلة.فصدرها الواسع أعطاهم العزم والإصرار على تحقيق حلمها يوماً ما وجعلها تفتخر بهم أينما كانت.
الكل في قريتنا يحترمها ويحبها ويضرب بها المثل في تربيتها الحسنة، ويعتزّ بأنها ترتبط به بقرابة ولو من بعيد، فهي رمز للصبر والتضحية بأثمن شيء عندها من أجل أبنائها، رغم إصرار أولئك الصغار على ألا يطلبوا منها شيئاً لعلمهم بمدى صعوبة تحقيقه وإن كان بسيطاً، فلا داعي لأن يزيدوا من احتراقها البطيء الذي يواصل السريان في جسدها الغض، اتفقنا مرة ونحن ما نزال في الابتدائية ألا نخذلها في أيامها القادمة وأن يتعامل كل منا بما يمليه عليه عقله الصغير،ويبعد عنها أي غمٍّ يحيط بها، بكل استطاعتنا حاولنا أيتها المرأة الساذجة أن نسعدها حتى في أبسط الأمور، رغم أننا كنا صغار لا نقوى على فعل شيء كبيرلها يخرجها من حالها ويخرجنا معها.
كثيراً ما رأيتها صامتةً تخفي ألماً دفيناً ينتظر المساء لينهمر، أدرك أن وراء هذا البكاء معاناة من نوع خاص، فأتوق لمعرفته حق المعرفة وأحلله بفهمي المتواضع لأحاول إدخال السرور إلى قلبها بقدر ما أستطيع، لكن عبثاً أحاول.
جاءتني عمتي تخبرني بقدوم العريس وأهله لاصطحابي في زفّة كبيرة إلى بيتهم، دخل كثيرون لوداعي لكن عيني لم ترفَّ أو تدمع كما كنت أرى في الأعراس، وكل عروس رأيتها كانت تبكي وتنتحب أكثر إذا دخل أبوها لوداعها، فلماذا لم يحدث لي ماحدث لكل العرائس اللواتي شاهدتهن سابقاً، نظرت إليه فوجدته متأثراً جداً، لم أهتز أو أتأثر بما رأيت، فلم أميّز حينها أكان مشهداً حقيقياً أم مصطنعاً، الجميع منتبه لكل حركة من حركاتي وسكناتي، لم أحس برغبة في معانقته وتقبيله كما كنت أرىَ مع الأخريات، كيف أقوم بشيء كهذا وأنا لم يجمعني به سوى اسمه الذي يتبع أسمي عندما أكتبه أو أُعرّفُ به عن نفسي ليس أكثر، كثيراً ما تلهّفنا لرؤيته وهو غائب، رسمنا له صورة جميلة تخيلناها أثناء غيابه، فأردنا أن تكون أجمل صورة لأجمل أب، كنا نود معانقته واللعب معه والالتصاق به في ذهابه وإيابه مثلما كنا نرى أولاد أعمامنا وجيراننا، ونفرح كثيراً إذا قال لنا أحد ما بأنه قادم لبيتنا، فنهرع مسرعين لملاقاته كباقي الأطفال لكننا لا نراه كما نحلم به، ليس هكذا، فشكله وملابسه وتعامله وجفاف لسانه معنا وبرودة سلامه كل شيء يوحي بالغربة، غربة الإنسان لا المكان، الكل كان يشعر بأنه مرفوض منه، صعب أن تحس أنك غريب عن أقرب الناس إليك، فكيف يكون الشعور مع الأب، هل هناك كائن في هذا الوجود يرفض ابنه، ربما يكرهنا لأننا نذكّره بأمنا التي يعدها نزوة لا يستطيع التخلص منها، أو ربما لأنه لا يطيق تحمل المسؤولية، لا ندري أسباب رفضه لنا، فقط كنا نحس بالارتباك أمامه ولا نحب أن يطيل زيارته رغم أننا كنا متلهفين لرؤيته قبل ذلك، فكلما طالت زيارته تطول معاناة أمي، لم أنسَ بعدُضربه لها وطردها خارج البيت فقط ليرضي أمه ونساء أخوته، لم أنس تعذيبه لنا أيام الشتاء ونحن نجمع الحطب كي يتدفأن وأولادهن، وما أن ننتهي من عملنا يطردنا بركلات وشتائم بدلا من تدفئتنا، لن تغيب من مخيلتنا تلك الأيام التي تركنا فيها المدرسة خوفاً من إهانتنا أمام الجميع لأننا لم ندفع أقساط تلك السنة وهو لاهٍ في ملذّاته، لا ننسى أيام الفقر التي عشناها وهو غائب يلبي رغباته، فكيف تدمع عيناه الآن ويريدني أن أبكي وأحزن لفراقه، قال إنه إحساس الأبوّة، فلم أعلم عن أي أبوّة يتحدث، لن أبكي مهما رأيت منك من تأثر بل هو يوم الفرح الأكبر بالنسبة لي عندما أُسمى باسم رجل آخر وأتبع عائلة أخرى، لن تدمع عيناي أبداً، فلا يستحق دموعي أحد زرع البؤس فيهما منذ الصغر، عذراً أيها الأب البائس لا مكان لك في قلبي المكسور.
نظرت حولي لعلي أجد أمي بجانبي فلم أجدها، قيل لي أنها مازالت تبكي ولا تريدني أن أراها لئلا أتأثر لوداعها، استجمعت قوتي وتصبرت على تلك اللحظة الصعبة، لحظة خروجي من بيتي الصغير الذي جمع كل المآسي بين زواياه الفقيرة، وبينما أنا ألتفتُ يميناً وشمالاً رأيت الكثير من الأشخاص، تبدو الفرحة في عيونهم، وأغلب الذين حضروا كانوا يبتسمون وبعضهم يصفق وآخرون يلوحون لي من بعيد، وأصواتهم تعلو من حين لحين، ثم أتى أخي الأصغر، لم نكن على وفاق يوما من الأيام، كنا نغضب بسرعة ومن أصغر الأشياء، وقف على مقربة مني ومد يده ليسلم بابتسامة صغيرة على وجهه، نظر إليّ وأطال النظر، كانت نظراته ذابلة تعتريها رمشة خفيفة تشف عن دموع تنتظر الاندفاع، شعرت كأنه يقول لي لماذا تتركينا وتذهبي؟! هل ستكون أيامك القادمة أفضل؟! هل غفرت لي حماقاتي ولؤمي؟ هل نسيت طفولتنا؟ هل ستزوريننا قريبا أو ربما لا تريدين أن يربطك بهذا البيت أي ذكرى لذا فضّلت الرحيل بصمت، ليتني الآن ابتعد مثلك، وأترك كل شيء ورائي وأرحل، لكن...أمي؟ لمن نتركها ؟ ليس بعد هذا العمر، بدا متردداً مابين الخروج مسرعاً لئلا يضعف فتنزل دموعه، أو يبقى متماسكاً تتسلل إليه الرغبة في الاقتراب أكثر بين الفينة والأخرى، غابت كل تلك القوة التي صبّرت نفسي بها وأجهشت ببكاء شديد أمام الجميع، لا أعلم لماذا لم أحتمل رؤيته بهذه الحال، قفزت إلى فكري طفولتنا وعذابنا الدائم، ألحّت عليّ أحلامنا البسيطة التي كانت تنتظر التحقق يوماً ما، تذكرت مشاكساتنا، لعبنا، بؤسنا، تعاستنا، فرحنا ،حزننا وفراقنا الذي اقترب موعده، فكيف لي الآن أن أُسكِتُ دموعي، عرفت حينها أننا كنا أقرب اثنين وأن كل تلك الجفوة ما كانت سوى حماقة كما سماها هو، تمنيت للحظة أن يقترب أكثر لأسلم عليه بحرارة وأعانقه فأعتذر عما سلف لكنه خرج مسرعا لئلا تفضحه عيونه أمام النساء، فهو الصلب الرزين دائما كيف يظهر للجميع بهذا الموقف، كانت أصوات النسوة ترتفع مزغردة، وتارةً موبِّخة على ما قمت به من ترهات كما اعتبرتها الكثيرات، ثم جاءتني عمتي تريد تهدئتي فقالت: كفّي عن البكاء، هل أنتِ مجنونة؟، ستذهب بهجتك وماكياجك سيزول مع البكاء، اسكتي .
قلت وأنا أستشيط غضباً منها: وهل سيمنعني هذا السخف عن البكاء؟! فليذهب كل هذا الهراء الذي تسمونه بهجة، لا أريده، بدا كل شيءٍ أمامي ضبابياً غير مفهوم،أردت أمي التي لم أرها منذ الصباح ولا شيء غيرها فسألت: أين هي؟ لماذا لم تأتِ للآن. حاولت أن أثبت نفسي عند التقائي بها. جاءت بخطوات متأنية، كان واضحاً عليها أنها أنهت كل حزنها في الداخل ولا تريدني أن أراها، حاولتْ إخفاء وجهها عني مراراً، أمسكتُ بيدها وضغطتُ عليها وقبّلتها عانقتها طويلاً، شممت رائحتها الزّكية، غُصت بدموع غزيرة على صدرها الدافئ، لم أحتمل أكثر، ثم مشينا في زفة لم أرَ أجمل منها من قبل لكن تعلقي بأمي أنساني كل فرحة بالفستان الأبيض والزفة، حتى أني لم ألتفتُ إلى العريس بكل حنان كما أراد مني دائماً، كانت ملامح أخي ودموع أمي الحزينة مرافقة لي ترهقني كلما مر طيفها أمامي.
وصلنا إلى بيت حميَّ نثروا الكثير من الورود بأصنافٍ مختلفة ابتهاجاً بهذا العرس، جلست أمام نساء قريتنا المدعوّات فلمحت الإعجاب في عيون الكثيرات منهن وأخريات عبّرن لي عن فرحتهن بي وبترتيبي الذي بدوت فيه يوم زفافي، كنت أرقب أمي من بعيد فأرى الإشراق يلف وجهها فأتناسى الهم قليلاً وأعود لأرى الحاضرات يتمايلن على تلك الأنغام الموسيقية فأستخف بعقولهن وأذهب بعيداً بأفكاري، ثم أرجع لألمح الصفاء يعود لنفس أمي وألمس مدى ارتياحها أفرح لفرحها قبل فرحي، وتغيب الذاكرة مابين أمي والنساء المتمايلات ثم أتوه في زحام الحياة.
نهاد