الموضوع: تحديق
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
25

المشاهدات
2423
 
حسام عبدالباسط
من آل منابر ثقافية

حسام عبدالباسط is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
83

+التقييم
0.07

تاريخ التسجيل
Dec 2020

الاقامة

رقم العضوية
16431
06-04-2021, 01:17 AM
المشاركة 1
06-04-2021, 01:17 AM
المشاركة 1
افتراضي تحديق
يراودك يقينٌ أنّ عيونًا تحدّق بكما من وراء النوافذ؛ عبر شوارع المدينة المتّشحة بالسواد.. وتتمنّى لو تغادر دفئها وتنضم إليكما.. رغم أنّكما تبدوان للوهلة الأولى - في تلك الأجواء - كمجنونين أو متشرّدين..
وهي كانت تضحك.. تهمس بكلماتٍ.. تداعب - في نزقٍ طفولي - برك المياه الصغيرة التي كوّنتها أمطارٌ هطلت وقت المغيب, ثم تبتسم وتشيح بوجهها تجاه الليل.. هبّاتٌ من الرياح الباردة المُثقلة بالحكايا والأنفاس تبعثر حروفها وتمنحها معانٍ أخرى.. يصلك الكلام مشوّشًا غريبًا ودون معنى محدّد.. توخزك آلام لوزتان في بدايات الاحتقان, وبقايا كابوس النوم الفائت..
يداك تزحفان داخل جيبيّ معطفك.. تتحسّسان مجموعة أشياء غافلتك وانسلّت إلى جيبك.. أوراقٌ ماليةٌ مبعثرة.. تذكرة قطار.. جواز سفرٍ استلمته صباح اليوم ولم تبح بأمره لأحد.. عدة مفاتيح لم تعد تعرف لأي أقفالٍ تنتمي.. ورقة مدوّنٌ عليها كلماتٌ؛ كانت تبدو منطقية ولها معنى لحظة كتابتها..
قال لك رئيس الوردية منذ أسبوعين إن اليوم هو آخر أيام عملك في المصنع.. قال – متصنّعًا الأسى - إن الإنتاج يتراكم ولا أحد يشتري ولا بد من تخفيض النفقات.. قال – متظاهرًا بالجدّية - إن الحال واقف في العالم كله ولا بد من إجراءاتٍ لوقف الخسائر.. قال إنه يأسف وإنه يتمنى لك حظًا سعيدًا..
الصمت ينسج عشًّا فوق وجهك.. تكملان السير وسط الطريق المبتل غير مبالين بعرباتٍ قليلةٍ تمر مسرعةً ومعتمةً لا يبين ما بداخلها.. تحدّق في الأخيلة السوداء التي تتحرّك عبر الأضواء المعتلّة المنبعثة من النوافذ..
أجسادٌ ترتجف.. أبوابٌ تغلق.. ثمّة جدال.. أصواتٌ تحاول ألاّ تعلو أكثر.. دموعٌ سوداء تنحدر عبر وجنتين ناعمتين.. نوافذ لها صريرٌ يشبه النحيب.. جسدٌ نحيلٌ متصلّب يتأرجح على كرسيٍّ هزّاز.. يدان معروقتان تلوذان بفنجان شاي ساخن.. دخّان سيجارة.. نشرة إخبارية..
تنتبه فجأة إلى أنّها تحكي.. لا تدرك إلا آخر الحكاية.. ترمق البحيرات الصغيرة التي تناثرت في عتمتها حبّات نورٍ مجهولة المصدر.. تحاول أن تُعمِل خيالك وتعلّق بكلماتٍ قليلة كأنّك أُحطتّ علمًا بأول الحكاية..
قالت لك أمها في هدوءٍ غير معتاد إن الخطبة قد طالت أكثر من اللازم.. زمّت شفتيها وقالت إن هذا لم يكن اتفاقنا من البداية.. رشفت من الشاي الجاثم أمامها, ثم رفعت حاجبيها وقالت كلامًا لم تتبيّنه.. ثم قالت كلامًا لم تكترث به.. ثم قالت كلامًا لم تفهم منه شيئًا..
جواز السفر له ملمس ثعبانٍ وضعته بكامل إرادتك داخل جيبك.. تُخرج يدك وتضغط على كفّها المدسوس في قفّازٍ جلدي متقشّر, تبحث عن صورتك في مرآة عينيها اللتين هرب لونهما.. تقترب منها أكثر.. تسيران ملتصقين وكأنّكما على شفا التوحّد.. ترفع رأسك للسماء.. يجتاحك ما يشبه البكاء.. وما يشبه الخوف.. وما يشبه الحنين لذكرى ضالّة..
عبر النوافذ تموت أضواء وتنبعث أخرى.. بيضاء وصفراء.. شاحبة ومراوغة..
خيالٌ لرأسٍ نادمٍ يقبّل جبينًا مُطرقًا.. مشطٌ عاجي.. أدوات زينة.. زجاجات عطور.. صفحةٌ مصفرةٌ تُطوى برفقٍ وكتابٌ قديمٌ يُغلق.. جسدٌ أنثويٌ يرقص بهمّةٍ على إيقاعٍ مجهول.. أصابع تنحدر على الزجاج البارد باستغاثة صامتة.. ستائر سوداء تنسدل.. رنين هاتفٍ مفاجئ.. بقايا حلمٍ منفلت..
ترتجف وتشعر كأن جواز السفر يزحف داخل جيبك.. وكأن له صارت أنياب, ويهم بلدغك..
من حولك تتأرجح أوراق شجرٍ سقطت للتو.. رنينٌ مكتومٌ لعملةٍ معدنيةٍ تسقط أخيرًا عبر ثقبٍ منسيٍّ في جيب بنطالك.. أشباحٌ بيضاء ترقص خلال الظلمة الكثيفة, تطاردها صفارة دوريّة شرطة بعيدة تأتي متقطّعة عبر الريح والأوحال..
قال صاحبك إن هناك فرصة في إحدى دول الخليج.. قال - وأشاح بيده في حماس - إن الراتب سيزيد مع مرور الوقت, وأنت وهمّتك.. قال – وقطّب جبينه - إنه سيتعين عليك دفع مبلغ وقدره لزوم مصاريف مكتب السفر ورسوم الفيزا وخلافه..
تجد نفسك أمام منزلها, تودّعها بابتسامةٍ لا تعرف كيف رَسَمَت نفسها على وجهك.. هي لم تفقد ابتسامتها بعد.. تعتذر لشرود ذهنك وتتعلّل بالريح والعتمةٍ والضغوط المعتادة..
تعطيها ظهرك مغادرًا ويجتاحك سؤال؛ أي لونٍ كان لعينيها؟!..
بيتك ليس ببعيد.. والنوافذ عيونٌ مُتعبة تحدّق بك في إصرارٍ, وتبادلك التلصّص..
ثمّة من يسعل بإلحاح.. حبوب دواءٍ تنفرط على أرضية رخامية.. كوبٌ زجاجيٌ يتهشّم..
-"الولد ساخن, يلزم طبيب"..
-"طبيب؟!... في هذا الوقت والطّقس؟!"..
رياحٌ باردةٌ مفاجئةٌ تضرب نافذةً منسيّة.. خفافيشٌ تحلّق في سماء غرفةٍ مهجورة.. أنينٌ مكتومٌ له رائحة الفجيعة, ورائحة النبوءة, ورائحة النشوة..

نباح كلبٍ وحيد.. ودقّات حذائك على الأسفلت المبلّل بمزيج الماء والضوء.. وترانيم حشدٍ من فراشات الليل.. أصداءٌ بعيدةٌ لعدة طلقاتٍ نارية.. وهدير آلات المصنع مازال يعربد في أذنيك...
تصل وتدخل حجرتك.. تفتح مصباح السقف وتنسال خيوط الضوء الكابي للمبة سقيمة, شاحبة ومراوغة.. تقبع خلف النافذة.. تستحيل إلى خيالٍ أسود يتحرّك داخل بقعة ضوئية باهتة؛ وعينين بلونٍ ضائع تحدّقان في ظلام الكون..