عرض مشاركة واحدة
قديم 06-20-2016, 11:59 PM
المشاركة 45
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تلبورين ، يغلق عينا و يفتح أخرى ، كلّما همّ بكذبة ، أو نفخت الشياطين في خيوط يعقدها ، قريب إلى نفسي رغم دهائه ، أعزّه رغم أنّني لا أرتاح دائما لخصاله ، فتى نبيه ، ربما كان من الذين لا تريد الحياة أن تبتسم لهم ، كان يدرس معي في السّنة الأولى ومنذ ذلك الحين ما اجتمعنا إلا في دار الطالب. عندما هممت بالمغادرة يوم السبت إلى بيتنا دسّ في جيبي رسالة ، و قال: "خبئها يا رجل "
كانت رسالة مكتوبة على نصف ورقة ، قرأتها ، طويتها ، أعدتها إلى جيبي ، في الطريق نحو بيتنا ، قرأتها أكثر من عدد الخطوات ، أقف ، أجلس ، أعيد قراءتها ، يا لعذوبة هذه التعابير ، قولوا للموت أن يأتيني اليوم فقد اكتفيت ، شربت من مدام السعادة حتّى ارتويت ، لؤلؤة تفتح ثغرها أخيرا ، ما هذا الدّلال ، ما هذا النصر يا صاحبي ، يا نور الدين نلت الأعالي و أنت لا تستحق غير الأعالي . هل استطعت النوم يومها ، أريد أن أخبر العالم كلّه أنّني أخيرا حظيت بها ، أليس الصبرمفتاح الفرج يا إخوان ، كنت أعرف أنها لن تستطيع الصمود أكثر من هذا ، كان لابدّ أن تبادر ، يكفي من النظرات ، سنعبر إلى الهمسات ، ما لنا والعبرات ، يكفي ما نالت الروح من السّهاد ، في الملت خرجت في تلك الليّلة ، أبحث عن القمر متى يلتحق بي ، أريد أن أرسله إليها يحدثها أنّني بخير . أريد للنجوم أن تزغرد ، أريد للكون أن يبتهج .
الآن الجواب ، سأكتبه بريشة مضمخة بالزعفران ، سأكتبه بماء الورد ، سأكتب و أكتب ، ما كتبت يا جميل ، سأكتب بروح المسك فتعطر رسالتي الفضاء ، سأكتب بالعنبر يا لؤلؤة . آه يا لؤلؤة الخيرات ، كم أطربني حرفك الناعم .
عدت الإثنين ، ابتسمت في وجهها ، فهوت بعينيها إلى الأرض ، لا تزالين خجولة ، أنا أتفهّم هذا ، لن أحرجك ، هو الحبّ يبهدلنا ، يضخّم فينا الحرص ، يخيفنا ، حتى مصارحة النفس أحيانا متعبة ، لن أقسو عليك يا لؤلؤة ، أمامنا العمر كلّه .
تلبورين في الثانية عشر عندما هممنا بتناول الغداء جاءني بربع ورقة ، فيها عتاب على تأخر ردّي ، أحسست أن الأمر فيه بعض من "إنّ" ، و لماذا لا يكون كثيرا من "إنّ" يا نورالدين ، قد تخطئ لؤلؤة و ترسل رسالة مع مثل هذا الصّعلوك ، و لكن متأكّد أنها لن تعيد الخطأ ، متأكد أن نفسها عزيزة ، لن تهبط إلى هذا المستوى الرخيص ، إرسال رسالة حب إلى نورالدين عن طريق وسيط ، هذا غير مقبول ، هذه المرّة استصغرت الرسالة ، و الورقة التي تحملها ، و من سوّلت له نفسه الرّكوب على مشاعري ، لم أحدّثه عنها و لا عن الرسالة ، بل تركته في دار الغافلين حتى إذا همّ بأخذ دفاتره ، عندها سلبته واحدا منها . مذ فتحته كانت حروفه وحروف الرسالة على نفس الإيقاع، تريد أن تلعب معي يا عقل عصفور.
كنت أعرفه من قبل و من بعد ، لكن أحيانا نحبّ أن نكذب على أنفسنا ، نحبّ من يكذب فنصدّقة ، نريد الانتشاء و لو كذبا ، نريد الانعتاق و لو بهتانا ، نريد وجودا مغشوشا ، كيف لا و قد أغلقت منافذ الوجود البسيط ، الوجود الحقيقي ، فلتكذب يا تلبورين ، فلتزدني كذبا على كذب ، فما حياتي غير كذبة كبيرة .

عمّي غادر إلى وراء البحار ، لن يعود حتّى يلج الجمل من سمّ الخياط ، أنا أعرفه جيّدا ، هو أيضا كابد ، هو أيضا روح طيبة ، فكان لزاما أن تنال العقاب ، هل ننال إلا ما اقترفنا بحقّ أنفسنا ، هي الحياة ليست لعبة ، ليست مجرّد حبّ للخير و مغازلته ، هي ليست قصيدة جميلة تغنيها فتلتئم الجراح ، ليست نكتة باسمة فتنفجر الدنيا ألقا ، الدّنيا غير هذا ، الدنيا صراع ، الدنيا قدرة على القفز ، قدرة على المناورة ، قدرة على ممارسة التجبّر . كان منذ القدم يراسل برامج إذاعة سويسرا العالمية ، هكذا أنت يا عمّي ما أن تضع هدفا أمامك إلا وسعيت إلى تحقيقه ، قاومت بما فيه الكفاية ، يجب أن تذهب إلى بلاد نظيفة ، بلاد تضمد جراحك ، من المؤسف حقّا أن لا تستطيع بلادك أن تعطيك الطمأنينة ، ما أصعب أن تحس غربة داخل الوطن ، تحسّ وحشة في حضرة الأهل . جينيف ، بلاد الثلج ، بلاد المطاعم الفاخرة ، بلاد الرّوعة والجمال ، تستحقّ ابتسامة ، تستحقّ كلّ الخير يا ولد الخير .
لن أخاف عليك ، أعرف أنك قادر على بناء حياتك ، أنت أيضا ممن يحفرون في الصّخر ، لا تحتاج إلى من يأخذ بيدك ، ولا ترضى به حتّى و إن وجد ، أنت تحبّ السيطرة على وضعك ، تحبّ أن تمتلك ناصيتك بيدك ، لن أخاف عليك ، فعقل جبّار كالذي تحمله لن يخونك أبدا . جدّيّ أنت ، أراقبك حتى في تلك اللحظات القصيرة التّي كنت تقضيها معنا ، أراك تكتب وتكتب المعادلات ، تملأ الأوراق ، تحب أن تصل ، وستصل يوما ، متأكد من هذا .