الموضوع: أيام النعمان
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
10

المشاهدات
1808
 
عبد الكريم الزين
من آل منابر ثقافية

اوسمتي
الوسام الذهبي الألفية الرابعة الألفية الثالثة وسام الإبداع الألفية الثانية التواصل الحضور المميز الألفية الأولى 
مجموع الاوسمة: 8


عبد الكريم الزين is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
14,144

+التقييم
11.21

تاريخ التسجيل
Dec 2020

الاقامة
المغرب

رقم العضوية
16516
06-14-2021, 12:56 PM
المشاركة 1
06-14-2021, 12:56 PM
المشاركة 1
افتراضي أيام النعمان
طرق سمعه دوي هتافات اهتزت لها الجدران المثقلة بسواد الألم والعذاب، ورددتها زوايا الزنزانة الطافحة حرارة ورطوبة. خيل إليه أن السلاسل المعلقة فوق رأسه تتمدد خلسة، لتطبق على عنقه المتيبس. سرت رعشة مفاجئة في يده اليمنى. ضم ذراعيه إلى بعضهما محاولا إيقافها، فتسللت إلى جسده النحيل، عابثة بتضاريسه المتداعية. تكور على الأرض الحجرية القاسية، وهوى رأسه بين كفيه، فتراءت له أصداء حياة ماضية بعيدة كالسراب.

نفس الهتافات الهادرة التي تمزق الآن سكون أذنيه، وترتعد لها أوصاله الضائعة، كانت تطرب لها قصوره بالحيرة عند زحف موكبه المهيب، تتقدمه الخيول المطهمة ويحفه الحرس المدجج، فيشع الزهو مكتسحا أسارير وجهه، وتتغشاه نشوة كبرياء عارمة يتهادى لها شعر لحيته المعطرة. جموع لخم والعرب تتسول وده ونياقه السود، ويتزاحم الشعراء على أبواب نعمته، فتتفجر عيون قريحتهم بدفق عطاياه.
ما كان مقدرا له أن يصبح الآمر الناهي في ملك المناذرة لولا أن للسماء حكمتها، فلم يكن أكبر إخوته وأقواهم، ولا أوسمهم وأغناهم، لكن الحياة التي منحته السلطان والمجد بدون حساب، سلبته كل ما وهبته، ولا زالت تصب سياط نقمتها عليه.
لسنوات لم تتداول مضارب العرب سيرة سوى حكاياته وأيام نعيمه وبؤسه. ولئن قتل الشاعر السيء الحظ عبيد بن الأبرص، فقد أكرم معاوية بن زيد الذبياني وجعله نديمه،
قبل أن يهيم شيطان شعره تغزلا بالمتجردة وغوصا في تفاصيل جسدها.
رغم التهتك الذي انجلى في صدرها وعجزها، لا ينكر أن أبيات القصيدة سحرته وأن حروفها أطربته. لكن الأقاويل تناسلت ولزوجة الملك حرمتها، وخيرا فعل الذبياني بالهرب قبل أن تناله سيوف بطشه.
ثم ينسى شرف زوجته ويعفو. الحقيقة أنه لم يصمد أمام روعة الكلمات وسنا المعاني، وثملت روحه بمدح الشاعر واعتذاره، وترنم ليالي طويلة بقوله:

فإنك شمس والملوك كواكب إذا طلعت لم يبد منهن كوكب

لكن شمسه اليوم غاضت، واحتجب نورها، والظلام الدامس غمر حياته. من كان يصدق أن النعمان بن المنذر اللخمي ملك العرب وسيد الحيرة، يقبع مسلسلا في زنزانة ضيقة قذرة كصعلوك مغمور. وكل ذلك بسبب كلمة!

ما أخف الكلمات وما أثقلها!
كلمات رصعت ضوء نجمه، وشقائقها غَوَّرت ماء سمائه!
كم مجدته الكلمات، وهي اليوم سبب هلاكه!

ما زال يتذكر ذلك اليوم المشؤوم، وحتى تفاصيله الصغيرة لا تبرح تراود ذاكرته المنهكة.
كان رسول كسرى يجلس قبالته، يطلب يد ابنته هند لمولاه، رفض بأدب ومازحه بقوله:
"أما في مها السواد وعين فارس ما يبلغ به كسرى حاجته!"
ويغضب كسرى ويسخط عليه، بعد أن حرف الوشاة كلامه، وترجموا بخبث لفظ المها بالبقر. وشتان ما بين الحسان الفاتنات كالظباء وقطعان البقر السائبة!

ارتج باب الزنزانة، فانقطع خيط ذكرياته، تطلع إلى الحارسين القادمين، كانا ضخمي الجثة، وأشد قساوة من أعمدة قصره السابق الخَوَرْنَق. فزع حين استحضره ذهنه المشتت، وتسمر بإلحاح شديد أمام مشهد الدهشة المتمخضة رعبا على وجه سِنِمَّار، حين أمر بإلقائه من شاهق القصر بعد أن أتم بناءه بإتقان يُحسد عليه.
جذبه الحارسان بفظاظة، ودفعاه خارجا، جر قيوده الحديدية الثقيلة، واتقى بذراعه ضوء الشمس الساطع. ساحة ضخمة، ومدرجات تئن بحشد هائج يهتف بجنون مسعور، شخص ببصره إليهم، فرس وأتراك، عرب وأجناس من كل بقاع الأرض، جلبها ذهب كسرى وسوطه، يتحرقون لمرأى انسكاب دماء حارة ضيعت مثلها قلوبهم المستكينة منذ أمد بعيد. غطى قرص الشمس أمامه جسم ضخم، يحدق بعينين جامدتين، تسلل صقيعهما القارس إلى نفس النعمان المرتجفة.
فيل عظيم، بظل أسود هائل، يبدو بلا نهاية أو حدود. يعتليه سائس ضئيل الجسم بذقن أملط ، وشارب كث يتسلق أخاديد وجنتين ناتئتين، يأمر فتتحرك آلة القتل العمياء. تتقدم نحو ضحيتها. يتراجع النعمان إلى الوراء. تتعثر ساقاه بقيوده فيسقط على الأرض. يتوقف الفيل، ويستدير السائس، بوجهه الموحش كترانيم الموتى، نحو منصة عظيمة تتوسط الساحة، يتلقى الإشارة القادمة منها، فيحني رأسه.
يرفع النعمان وجهه وينفض عنه الغبار، ينتصب واقفا، متعرقا يستحث شظايا شجاعة مترددة.
عاش مجيدا كالشمس بين الكواكب، وكذلك شامخا سيموت. الشموس لا تخالط ذرات الحصى والتراب، وإذا انطفأت، فمرتفعة في أديم السماء.
يطبق عليه صاحب الظل الأسود الهائل. يقذفه أرضا. يسحبه بخرطومه، ويرفعه إلى الأعلى ثم يفلته. تنغرس الأقدام الضخمة في الجسد المدمى، فتنسحق عظامه المرضوضة. ألمه لا يطاق وروحه تستجدي قبلة موت يتمنع.
ممددا على التراب المنتشي بدمائه، ينظر بتحد وكبرياء إلى المنصة، ثم يلفظ أنفاسه الأخيرة.