عرض مشاركة واحدة
قديم 05-18-2016, 11:42 PM
المشاركة 5
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تقول جدتي : "استقبلنا القبائل و الوفود كلها من سوس إلى الجبل ، نحرنا الذبائح و أطعمنا الزّوار و رضي القاصي والداني ، كانت أفراح عظيمة تعمّ البيت حين عاد جدّك من المشرق . رغم أن أمك أرضعتك حولين كاملين إلا أن مرضا كاد يفتك بك ، حملتك عشية بعد أن أصبحت في عداد الأموات وقد علا ضجيج أمك و ثارت ثائرتها ، كان يوما حارا ، ذبلت ملامحك و أستسلمت روحك لبارئها ، كنت أخطو تائهة عندما مررت بجانب الحظيرة و سمعت بقرتي المعطاء تخور ، رفعت عينيّ إلى السماء و قلت خذها ربي و اترك لنا هذا الصبي ، تابعت مسيري إلى وسط القرية حيث قالت لي إحداهن ، لماذا لا تتركينه يرقد بسلام ؟ أنت تعذبينه يا رقية ، لم أعرها اهتماما ، إذ ذاك هبّت نسمة خفيفة منعشة من الغرب و بعد برهة أحسست حركتك بمحاذاة صدري ، رجعت إلى أمك مسرعة ليشرق وجهها حبورا و الدمع لا يزال يبلل خدّيها ، ضمّتك إلي صدرها معاتبة ، ألم يثقل عليك فراقي يا رجل ؟ أهان عليك أن تتركني وحيدة ؟
أتعلم يا بني ماتت البقرة بعد أيام قليلة ، لكن نحمد الله الذي أبقاك لنا . "

القصبة غادرناها بعد مولدي بثلاث سنوات ، لم يسجّل في ذاكرتي غير حدثين و ربما ثلاث في رحابها ، أولها كان امرأة في سحنة سمراء ، عربية حسّانية من بلاد الصحراء ، تداوي كل الأمراض ، و تعتني بالنساء والأطفال ، نبتت حبة في مؤخرة رأسي و بدأت في التوسّع ، أمّي تحدثني ، كانت تلك المرأة من اقتلعت تلك الحبة المتضخمة من جذورها مستعملة "المروت" و الملح ماحقة إياها بالزنجار ، ذهبت الحبة من غير رجعة لا أتذكر لا آلامها ولا صراخي ، لكن موضعها لم ينبت شعرة إلى اليوم لتطبع مقدار وطأة أصبع أجرد في رأسي، يفاجئ كل حلاق أقصده للمرة الأولى فيتحايل في القص ليموّه ظهوره كي لا أبدو أقرع في وجه الأقران ، صورة المرأة وهي تقتحم البيت هو الحدث المنقوش في ذاكرتي بلحافها الأسود و رائحة بخورها المميزة المنبعثة من ملابسها . حدث أن سقطت من الطابق الأول إلى صحن القصبة ، كل ما أذكره هو الهبوط الحر ، أمّا جرح على مستوى الجبهة فهو ما حاكاه الآخرون ، لكن ما عضت عليه ذاكرتي بالنواجد هو لحظة ولادة أختي نعيمة بعد ثلاث سنوات من مولدي ، في تلك اللحظة نزلت عبر السلالم ليلا لألتحق بأمي و تركت والدي في غرفته يستمع إلى المذياع ، ساعتها سمعت خالتي خديجة أخت والدتي فاطمة و زوجة عمّي عبدالله تأمر أختي أمينة بقطع حبل السرّة ، حاولت الدخول لكنّني منعت من ذلك فرجعت عند أبي أحدّثه عن أشياء لم أستوعبها بشكل جيّد و لا أتذكر ما جرى بيننا من حديث .