عرض مشاركة واحدة
قديم 08-11-2011, 05:50 AM
المشاركة 4
طارق الأحمدي
أديــب وقاص تونسي
  • غير موجود
افتراضي
محــــاضر الرحيـــــل



رآهم يخرجون من الجحور، وينتشرون في كل مكان، يتلصصون على الجدران والنوافذ والأبواب.
كلما هدأ الدوار من صخب المحاكم،وإيقاعات الآلات الكاتبة وهي تخط العشرات من المحاضر التي تحمل الكثير من الأسرار والاعترافات والشهادات،ظهرت أفاعي رقطاء،تزف خبر الشؤم والخراب،فـتلك الكائنات الغريبة تتلذذ بمنظر الأصفاد وهي تحيط بمعاصم الأبرياء،وتفرح فرح العمر،وتضحك ضحك الذئاب على ماينتظرالشياه الضعيفة من إعدام وافتراس.
قالوا له:
هل جئت لوحدك؟
أجابهم: نعم.
- ين الآخرون؟
التفت حواليه وخلفه،كأن الكلام لا يعنيه،وأن المخاطب شخص آخر.ولما رأوا منه عدم الفهم،قالوا له مرة أخرى:
- ألا تخاف، لم جئت وحدك؟
- ومم أخاف؟ إنها مجرد شهادة أدلي بها،وأعود لحال سبيلي.
تبادلوا نظرات ماكرة،وصرخ كبيرهم في وجهه.
- نحن لا نمزح،أين اختبأ الآخرون؟
ضحك عباس حتى بدت نواجذه عن حرص هؤلاء المقنعين على معرفة اختفاء أهل دوار،كان جلهم وأغلبهم يحيطون بالمركز،ويجمعون ما تبقى من فتات الخبز،وأعقاب السجائر،ويفرحون حينما يعثرون على قنينات الجعة الفارغة،ليبيعوها لأول بائع متجول،وبثمنها يشترون العلك لبناتهم والمشط لزوجاتهم،
ولا أحد يهتم بأمرهم.
أهل الدوار فرحهم بسيط ،فهم يقنعون بأتفه الأشياء،وتتهلل وجوههم،وتنفرج أساريرهم حين تبيض إحدى دجاجاتهم.
قال لهم عباس:
-أرض الله واسعة،وصدوركم أضيق من ثقب إبرة.
من شدة الغيظ،أخرج كبيرهم غليونا ،ودس فيه شيئا لم يتبينه عباس،وأخذ منه نفسا عميقا.
تأمل عباس هذا الشيء الموضوع بعناية بين شفتي ذلك المسؤول،بسمل وحوقل،واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم من تلك النظرات الملتهبة والقاسية التي تخفي وراءها مصائب كثيرة،وبراكين حمم ستصيبه بلا شك وأهل الدوار.
فعباس بالرغم من جهله القراءة والكتابة،فقد كان يعرف كل القاطنين بالدوار،فقد خبر طبعهم وطباعهم،وميز بين قويهم وضعيفهم.كان يعرف تقريبا كل التفاصيل اليومية عن أبناء جلدته،الذين أدركهم الطوفان،فهاجروا قراهم نحو أماكن بعيدة ومجهولة.
حرك عباس رأسه، ولملم جسده النحيف، رآهم يحاصرونه بأسئلة لا قبل له بها،ولا طاقة له على الإجابة عنها.
- أين اختفت الجماعة؟
ولما ضاق بأسئلتهم أجابهم بعفوية:
" الجماعة تركت الدوار بفعل الجوع الذي هدها،وقتل صغارها قبل كبارها،وهجرته بسبب الفقر والبؤس والتهميش.الجماعة غادرت مساكنها بسبب انتشار الأوبئة والأمراض الفتاكة،رحل أهل الدوار لشح الماء،وجفاف الأرض،وقحط الزمان،وغياب المعامل والمصانع،وانتشار البطالة،وزحف العشرات من الأفاعي والعقارب على الديار،وعند اللدغ لامصل ولا دواء،ولاهم يحزنون ...لامستشفى ولا مدرسة ولا طريق ولا جدران يحتمون بها.
الجماعة رحلت لأن المحاضر قد أرهقتها،وتحت الإكراه وقعوا عليها،وامتلأت بهم السجون والعنابر والزنازن.
استشاط عباس غضبا وقال لكبيرهم:
الجماعة رحلت،لأن محاضركم قد أرهقتها،أسئلتكم الكبيرة والخطيرة التي لم تجد لها مكانا في قلوبهم الصغيرة والمسالمة ملأتها بالرعب فرحلت.لقد ترك لكم أهل الدوار قبيل الرحيل رسالة يقولون فيها:
" رحمة الغريب ولا ظلم القريب،...نحن السابقون وأنتم الباقون بين صدإ الأفكار،وهوس السؤال..نحن دعاة السلم،وأنتم دعاة الفتنة.في محاضركم حولتمونا إلى آلات دمار شامل،وما نحن غير قرويين نأكل القوت إن وجدناه،وننتظر الموت،ننام على الحصير ونشرب ماء البئر الملوث..فويل لكم ولعهودكم الظالمة.




للكاتب المغربي : خالد عبد اللطيف
بتاريــــخ : 08 - 06 - 2010