الموضوع: ليلة مقمرة
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
10

المشاهدات
2289
 
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي


ياسر علي is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
1,595

+التقييم
0.38

تاريخ التسجيل
Dec 2012

الاقامة

رقم العضوية
11770
03-20-2021, 10:56 AM
المشاركة 1
03-20-2021, 10:56 AM
المشاركة 1
افتراضي ليلة مقمرة
ليلة مقمرة.


خرج من بيته واستقبل ضفة الوادي، على صخرة جلس ينظر إلى الماء، كانت الضاية صفحة مستوية يشرق منها القمر، تستقبل بهمس بقايا المياه المتسللة بين الأحجار وتخلي سبيل ما ضاقت به في الجهة المقابلة برفق، كانت الليلة في حياد ربيعي، لا برودة تلسع جلده ولا يحس دفءا زائدا من خيوط القمر، لم تكن أنفاسه تلتقط شيئا خارجا عن المألوف، لا يكاد يستشعر نزولها وصعودها، لا يضايقه شيء، ولا يغريه إلا القمر الباسم في قعر البركة. سكن الليل سكون صفحة الماء وغفت الأشجار الراسية فوق الوادي على إيقاع الصمت، نظر وأعاد النظر وكل نظرة تحمل إليه بسمة القمر بشكل أدق من سابقاتها، فاجأته أصوات آتية من بعيد، التفت وراءه فما تركته الأشجار والظلال يستكشف مصدرها، لكنه بات متأكدا وهي تقترب من مكان خلوته أنها وقع أقدام إنسان أغراه القمر وقذف به خارج عش النوم. ما كان يريد أن يتقاسم هذه اللحظة مع أحد، يتمنى أن يكون الشخص مجرد عابر فلا يغتال هذه النشوة في قلبه، ترجل من على صهوة الصخرة تلفه ظلالها مختبئا كأنه في ساحة حرب يتمترس بعيدا عن العيون وفوهات البنادق. يريد لهذا الفاصل نهاية سريعة ليعتلي قمته وينشرح فؤاده مستمتعا بتراتيل الصمت وأنغام الروح وعيناه تبحران في الماء لاصطياد مشكاة القمر. سمع الأقدام تتسلق الصخرة وأنفاس الصاعد تتلاحق ممزقة لحاف السكون، هدأت الأحوال أخيرا واستحلى راكب الصخرة المقام كفارس لا يستوي مزاجه إلا على سرج فرسه. تسلل بكثير من الحرص حتى لاحت له صفحة الماء، القمر هناك لا يزال مستغرقا في بسمته كطفل نائم، على حين غرة ارتجت صفحة الماء، وانتفض القمر من وقع مقذوفة آتية من على الصخرة، استمر الاهتزاز بضع ثوان قبل أن يعود إلى هيئته البهيجة، كانت لحظة مس خلخلت توازنه فرقص رقصة ديك مذبوح. امتد الهدوء مرصعا جبين الليل حتى خيل إليه أن الغريب غادر المكان، وما من داع للاختباء، إذ ذاك تململ الماء من جديد وتوسعت دوائره لتنتشله من عالم الأمنيات إلى واقعه الحزين. رجع أدراجه إلى حيث كان هبوطه الأول، بل توغل في جحر بجانب الوادي حين بدا له ظل معتلي الصخرة واقفا، أصاخ السمع إذ بأقدام أخرى تقصد المكان، جاره يسرع في النزول والاختباء، جمد الدم في عروقه وكتم أنفاسه لكي لا يثير هذه السيدة التي تخندقت في مخبئها مخافة أن تكشف، تكاد تنتهي إلى سمعه دقات قلبها، بل يحس حرارة أنفاسها تحمل إليه عبقا فريدا تنساق معه روحه لولا ضجيج الأقدام التي تعتلي الصخرة، بل تنتابه سكرة عنيفة ما صحا من وقعها إلا بعد اشتمامه لسيجارة أوقدها الضيف الجديد كادت تستل من حلقه عطسة تفسد سكون الليل. شبح الفتاة يقترب من الضاية بقيت هناك قليلا، لكأنها تودع القمر، وربما رأت ارتجاجه عند سقوط عقب السيجارة في الماء، عادت من هناك متعجلة تبحث عن مخبأ، تدخل حيث يستقر محمود، لحسن حظه توقفت مستمرة بجانب البوابة، نزل الضيف بكثير من الحذر وتكوم عند قدم الصخرة التي تتسلقها أقدام أخرى، يتزحزح محمود بحرص شديد لفسح المجال للفتاة إن اقتحم الآخرون المكان، سمع فحيحا سحيقا ينبعث من عمق الغار، ارتعدت فرائصه، زاد بعض السنتيمترات فسمع دبيبا خافتا: توقف فورائي يختبئ آخرون.