عرض مشاركة واحدة
قديم 05-29-2016, 02:41 PM
المشاركة 18
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
في فصل الصيف يتغير كل شيء في منزلنا ، تأتي خالتي خديجة و ابنتها كلثومة و ابنها عبد المالك ، ثلاثة اشهر من المرح الزائد و الشغب المستمر ، رغم أنّني مرغم على الذّهاب إلى المسجد ، لكن أيّام الصيف الطّويلة ، فيها ما يكفي و يزيد للّعب و المرح ، نقصد بستانا تخترقه ساقية ، تحت ظلال أشجاره نقضي الظهيرة و قد لجأ أهلنا للقيلولة ، كل واحد يبني صهريجه بالطين ، و يملؤه بماء الساقية ، نشق القنوات ، لنسقي مزروعاتنا ، كل منّا يسيج حقله البالغ مترا مربعا واحدا تقريبا ، نهتمّ بحقولنا طوال الصيف .
في البستان نفترس كميات هائلة من العنب والتين ، نقطف ثمار اللّوز ، نأكل السّفرجل ، جدّي يعتني بهذا البستان ، يشذّب أشجاره ، يقيم داليات العنب . رغم القيض فالبستان ربيعي الطبع ، طيور مغردة و ثمار دانية تنعشها رطوبة الماء .
شهر رمضان على الأبواب ، شهر هجيري الملامح ، نرى أسرنا و قد نال منها التعب ، و شدّ الحر أنفاسها ، شهر كامل و لا ترى الفرحة في نفوسهم إلا عند المغيب ، إذ ذاك تشرق وجوههم الشّاحبة ، و تستيقظ هممهم المكسورة ، أبي بعصا طويلة إلى جانبه ، قد تنزل على قطّة متسللة إلى المائدة و ربما إلى ظهورنا أقرب ، متى كان ميزاجه سيئا جدّا لا نحضر طعام الفطور ، يترقبون الأذان بلهفة، الماء البارد و التمر و الحريرة و الخبز والحليب والشبّاكية و السّلو كلها مهيأة، متى أعلن الأذان الانطلاقة انجرف الجميع هبّة رجل واحد للأكل .
صباح العيد نتوجه إلى المصلى ، نتباهى بأثوابنا الجديدة ، نصلي في الصّف الخلفي ، و بكلام خافت نصدّع رؤوس المصلّين ، متى انتهت الصلاة ، قام الإمام مخاطبا مكبرا و الجميع يردّد التكبير ، أحب هذا الجو الروحاني الذي يعتري الجماعة ، أحب ألحان الأذكار التي ينشدونها قبل الصلاة و بعدها ، تنتهي المصافحة نتنقل مهللين مكبرين جهة المقبرة ، نشارك الأموات منا فرحة العيد ، يدعو الإمام لهم بالرحمة والمغفرة و الجنة ، يذهب كل إلى حال سبيله .
الصيف لا تنقضي أفراحه ، لا يسكتها إلا قدوم المطر في الخريف ، حفلات الزفاف و مواسم القرويين ، موسم عيساوة ، موسم الرماة ، موسم كناوة في بعض القرى ، أبي لا يحب المواسم ، لا يحب الرقص ، لا يحب الطقوس الروحانية التي يصفها بأعمال الشّرك والشيطان ، أنا أجد فيها بهجة عارمة، أحب طبول عيساوة ، و إيقاعها الرهيب ، أحبّ الحالة المجنونة التي تعتري العيساوي حين يفقد صلته بهذا الوجود ، وهو يمارس الحضرة ، تغرس مسامير حادة في وجهه و هو يحسّ نشوة عارمة ، رقبته مزينة بمسامير تخترق جلده لكأنها قلادة عجيبة ، لسانه مشدود بجلد شفتيه ، يا لها من نشوة ، يقذف برأسه ذات اليمين والشمال ، نحو الأسفل نحو الأعلى ولسانه يلهج بذكر الله ، أحب النساء العيساويات اللائي جئن للتفرج فقط ، فإذا بهن ينخرطن بلا وعي في هز الرؤوس ، فتعمل جليساتهن على شدهنّ بحزام عند حجرهن لكي يلزمن أماكنهن ، يمارسن الحضرة واقفات على ركابهن ، شعرهن الوديع متشتت على رؤوسهن ، يهيج بعضهن فيطلقن صيحات منخرطات في بكاء مرير .