عرض مشاركة واحدة
قديم 05-28-2016, 12:12 AM
المشاركة 17
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
المعلّمة خلوقة ، نبيهة ، ظريفة ، جميلة ، أختها أجمل منها ، بعد أن فشلت خطة استضافة كل تلميذ ليلة ، التحقت بها اختها ، تعلمنا أناشيد عذبة مليحة ، تعجبنا ملابسها المدنيّة ، شعرها المنساب ، حركتها الموزونة ، والأكثر من هذا رقتها و عذوبة صوتها . حضر أبوها أيضا لمدّة و كذا خطيبها ، أذكر أن أبي استضافهم يوما في بيتنا ، كان أبوها شخصا فارع الطول يلبس نظارتين ، تبدو سنين عمره على وجهه ، صوته يتّسم ببعض غلظة . خطيبها ليس إلا ابن خالتها ، و لكونهما من مراكش فقد كانت فرصة لوالدي لإحياء الذكريات ، جلسا في الصالون الطويل على مضربات متوسدين مخدات من ثوب الموبرة الناعم . المعلمة في غرفة أخرى مع أمّي و جدتي و أختاي ، أختي الثالثة ما تزال حديثة الولادة ، استرقت السمع فسمعت أختي أمينة تتحدث عن البطانية الناعمة التي قدّمتها أمي للمعلمة لتحتمي بها من البرد ، رجّت الدنيا رجاّ من حولي ، لماذا أفشت أختي سري ، كيف سأواجه المعلّمة ، و قد أمرتنا بإحضار الحرباء خلسة و دون إعلام أحد بالأمر ، واهمة المعلمة و في ثقافتنا شائعة عن الحرباء ، أن عضتها قويّة و يقال بالحرف أنها لا تطلق من غرست فيه فكّيها حتى ينهق الحمار من تحت الأرض ، رغم ذلك هناك من أحضر لها الحرباء ، ما أثار رهبتي هو تقارب اسم الحرباء والبطانية في لغتنا ، واهمة المعلمة حين اعتقدت أننا نستطيع كتمان السّر ، واهمة المعلّمة إن ظنّت أنّنا لا نفقه طقوس السّحر والشّعوذة ، واهم أنا حين ظننت أن أختي باعتني للمعلّمة .
تزبد المعلّمة في القسم وتتوعّد ، و قد انتشر خبر الحرباء انتشار النار في الهشيم ، سأترك المعلمة لأن رحلتي معها قد انتهت .
أبي يأخذني معه إلى حفل وطني ، المقدّمون والشّيوخ يأمرون برّاح الدوار ليعلن في القوم ضرورة الحضور إلى البيرو للاشتراك في احتفالات الوطن ، تجمع الزرابي في الدواوير لتزين مكان الحفل ، كل شيخ يفتخر بعدد الحضور الذي استقدمه إلى البيرو ، صبحا ننتظر الناقلة في أساكي ، حملتنا و أعمدة الهاتف تتسابق بجانب الطريق ، أحسست فرحا عظيما ، وصلنا إلى الفيلاج ، بعد عشرين كيلوترا من الرّكض ، كانت الأعلام الحمراء ترفرف فوق كل السطوح ، ساحة البيرو مكتظة بالناس ، فرقة كناوة تدق الطبول و الرقصات بلغت ذروتها منذ الصباح ، استمتعت بهذا العدد الهائل من الجلابيب البيضاء ، كأننا في مصلى العيد ، رأيت التلفاز لأول مرة بالألوان يظهر في زاوية من زوايا الساحة ، رجال الأمن ينظّمون النّاس و يهيّئون لهم مكان الجلوس ، شيئا فشيئا بدأت الشمس تلفح جباهنا ،همس لي أبي : "أليست هذه الشمس حارقة ؟" أجبته بتلقائية ، طبعا ، يقوم أبي، أتبعه ، يطلب منه الواقف على الباب الرجوع إلى مكانه ، يتذرع أبي بالشمس الحارقة التي ستؤذي الصّبي الصّغير ، يرفض الحارس حجّة أبي ، يتقدّم أبي للخروج يعترضه الرّجل ، يعلو صوت أبي يردّ عليه الآخر، يتصايحان ، يتقدم رجال الأمن، يطوقون أبي ، يجرّونه نحو البيرو ، يتمسّك بيدي ، يحاولون التفريق بيننا ، دخلنا أروقة البيرو ، أوقفنا رجل الأمن أمام مكتب القائد ، لم ننتظر طويلا حتى وصل القائد ، لم يستفسر عن الأمر ، فقد جاءته القصّة كاملة ، يسبّ أبي سبّا اقشعر له بدني ، ظننت أبي أقوى من الجميع ، لكنه ما ردّ بأكثر من توضيح للموقف ، لم يستمع له القائد بل أمر برمينا في الزنزانة .
بقينا هناك زهاء ساعة ، كانت الحجرة باردة ، أبي يقول : "على الأقل هذا المكان بارد "
في المقهى يحكي عمّى عمر ، واحد من رجالات قريتي البواسل ، واحد من أبناء موسى ، كيف جمع رجال البلدة الوجهاء ، و اتجهوا نحو القائد لاطلاق صراحنا ، شربنا الشاي و أكلنا الخبز ، و قهقهنا ضحكا و قد انتهت الحادثة بسلام . في طريق عودتنا يقول أبي : "هذا أول خروج لك يا بني ، أدخلتني فيه السجن " هذه العبارة حفرت عميقا في قلبي ، تراني حامل شؤم لأسرتي ؟