عرض مشاركة واحدة
قديم 08-16-2021, 09:25 AM
المشاركة 2
موسى المحمود
كاتب فلسطيني مميز

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: نساء (مجموعة قصصيّة)
القصّة الرابعة عشر

في طريقها إلى موقف الحافلات، كانت السماء تلملم الغمام من هنا وهناك وكأنها تحضّر لاحتفالٍ مطريّ، شوارع المدينة متعطشة للمطر، جلست على مقعد تعلوه مظلة، أخرجت من حقيبتها زجاجة عطر، خرج العطر زفيراً من الزجاجة فاستقرّ في ثيابها، وضعت ساقاً على ساقٍ، وانتظرت قدوم الحافلة، أسندت رأسها على كفّها اليمنى، واستقرّ كوعُها الأيمن على ساقها، تنظر في آخر الطريق، علّها تلمح الحافلة. كان هو يمشي مسرعاً، كي لا تفوته الحافلة، وصل إلى المكان، جلس على المقعد ومارس الإنتظار مثلها تماماً، شعرت به، بدأت تفكر: "ماذا لو القى التحية..؟ أليس من الذوق أن يلقي التحية!" بدأ يفكر: "هذه فتاة غريبة، علمت بقدومي ولم تلتفت إليّ، هل ألقي التحية عليها..؟" هي: "عليّ أن لا أعيره انتباهاً، حين تصل الحافلة، سأصعد إليها ولن ألتفت إليه، سأتجاهل وجوده، سأعاقبه على فعلته هذه.." هو: "عندما تصل الحافلة، سألقي عليها التحية بسرعة، ثمّ أصعد، لالا سأنتظرها حتى تصعد، ثم أصعد أنا" هي: " في الحافلة .. سيحاول إلقاء التحية بعينيه، لن أردّ عليه التحية، لقد أضاع الفرصة هُنا .. نحن هُنا وحدنا، آآآآه ما هذا!!!" هو: "سأجلسُ قربها، لا .. سأجلس بعيداً عنها، قد يخطر ببالها أنني أكترث بأمرها!" هي: "ولكن لماذا لا أبادره أنا .. وألقي عليه تحية الصباح.. سأقول له مثلا صباح الخير .. يبتسم هو ويقول صباح النور .. ثم نبدأ الحديث .. ؟ لالا .. لن أمنحه هذه الفرصة .. هو الرجل وعليه أن يبادر! يا الله ماذا أفعل..؟" هو: "كان عليّ أن ألقي التحية عليها فور وصولي إلى المكان، عليّ أن أفعلها الآن .. تبدو فتاة جميلة، هادئة، عطرها يأسرني .. " تململ قليلاً في مكانه، ثم قال مبتسماً: "صباح الخير ...." إلتفتَتْ إليه مبتسمة أيضاً: "صباح النور ..."
وصلت الحافلات جميعها، توقفت عند المكان، أخذت تتلفت هنا وهناك تبحث عن الحافلة المناسبة، هو أيضاً فعل ذلك .. كان يراقبها وكانت تراقبه بسرية تامة، هي صعدت إلى الحافلة، وهو صعد إلى حافلة أخرى ... إفترقا.

القصّة الخامسة عشر

"أدخِلوه إلى هُنا" هكذا صرخت آمرةً جنود الحراسة، ترتدي ثياباً عسكرية، شاراتها الكثيرة تملأ صدرها وكتفيها، عيناها الجميلتان تلتهب شراً وحقداً على من تسميهم (مخرّبين)، تجلس خلف مكتبها المغطى برماد السجائر المتناثر كالثلج، منفضة تمتلئ بأعقاب السجائر، وفضاء الغرفة ضباب كثيف تشوبه زرقة ضوء تسلل من نافذةٍ عالية تسمح لبعض خيوط الشمس بالتسلل إلى الداخل، أدخَلوه إليها، في الثلاثين من العمر، طويل القامة، حنطيّ البشرة، آسرُ الحضورِ، هادئ. نظرت إليه، تأمّلت وجهه، تأمّلت وشاحاً يلفّ عنقه، ثيابه المتسخة بآثار أحذية حرّاسها، أمرته أن يجلس، ثمّ أمرت حراسها بالإنصراف، كانا معاً هي وهو في غرفة التحقيق، هي بجمال عينيها، وتضاريس جسدها الذي يكاد ينفجر أنوثةً داخل ملابسها، وهو بصمته المستفزّ، وهدوئه اللامبالي، قالت : "أنت فلسطيني..؟" هزّ رأسه مقرّاً. إنتصبت فجأةً وأمسكت بسوطها، رفعته إلى الأعلى وهوت بهِ على الطاولة غاضبة: "سألتك .. فأجبني ولا تومئ ...!".. إبتسم ثمّ قال: "عيناكِ جميلتان .. رغم جنونك .. هل أنتِ غاضبة..؟" وثبت إليه، قبضت بكفّيها الناعمتين على عنقه:"هل تغازلني أيها الأبله!" أمسك يديها وأزالهما عن عنقه: "لا .. إنما أسخر من نفسي .. فبعد عشرة أعوام من النضال .. تعتقلني إمرأة بهذا الحسن والرقة!" هدأت ثورتها .. عادت إلى مكانها، تنهّدت بعمق، أرخت جسدها الطريّ على المقعد .. حدّقت في السقف .. همس لها: "أنتِ عربية .. أليس كذلك ..؟" قالت مرتبكةً: "أنا إسرائيلية .." فاجأها وأمسك يدها التي تحمل السياط ثمّ قال: "أنتِ عربية تعمل في جيش إسرائيل..!" كان وقعُ كلماته كجلدات السياط على قلبها، شعرت بتلك الجلدات .. وانهارت تبكي : " ماذا تريد منّي..! كل شيء تغيّر .. قتلوا أبي وأمّي وإخوتي وزوجي .. لم يبقَ لي سوى أبنائي .. فهل تريدني أن أفرّط بهم ..؟؟؟" سحب السياط من كفّها، نظر في عينيها، صرخ : "خائنة إذاً ..؟" صرخت : "نعم .. خائنة ... خائنة .. خائنة ..." فانهال عليها جالداً .. بلا شفقة .. وهي تغتسلُ بالجلدات من جنابة خيانتها منتشيةً صامتة.

القصّة السادسة عشر

بدأت الثلوج بالتساقط، كانت هي واقفة خلف النافذة، تتكئ على حافّتها، وأنفاسها تصنع طبقة بخار على زجاج النافذة، تارةً تزيله بكمّ ردائها، وتارةً تزيله بيدها، خلف الزجاج كانت الأرض تتلوّن بالأبيض شيئاً فشيئاً حتى غطّاها البياض، غطّى الأعشاب، الحجارة الصغيرة، التراب، نزل أولاد الحيّ إلى الشارع، يرتدون قبّعات الصوف على رؤوسهم، يلفّون أعناقهم ووجوهَهُم بالأوشحة الصوفية، يلعبون هنا وهناك، ما زالت واقفة، تراقب هذا المشهد الشتويّ الدافئ! دعاها الجميع لأن تشاركهم اللعب، كانت خائفة منهم، تعلم أنهم ينتظرون هذه الفرصة للإنقضاض عليها ورشقها بكريات الثلج البيضاء الباردة، بينما هم يلعبون، أتى هو من بعيد يشقّ الثلج بساقيه، يلوّح لها ويبتسم، أشرق وجهها بابتسامةٍ أذابت من حرارتها كلّ الثلوج، وأزهرت لبراءة قلبها كلّ ورود الحيّ، أقبلَ الربيع لحظةً في عينيها، خرجت طيور الدنيا من أعشاشها تغرّد، إنتفضت الأشجار ونفضت عنها الثلج، عاد الدفء إلى قلبها، كانت أطراف أصابعها تنبض إحتفاءً بمصافحةٍ مرتقبة، فتحت النافذة، لوّحت له بيدها، نسيت البرد، والخوف، والجميع .. ثمَّ وثبت مسرعةً إليه.

القصّة السابعة عشر

في ذلك اليوم الربيعيّ البعيد، صادفتهُ في المكتبة، كان يلتهمُ ديوانَ شعرٍ نزاريّ، يرتاحُ بينَ أبياته الورديّة، يدعو في كلّ شهقةٍ جزيئات الهواء، ويبتسم. جلست قربه، كانت حذرة، لا يشبه الآخرين أبداً، قصّة شعرهِ تقليديّة، هندامه بسيطٌ جذّاب، عطرهُ من عصور الياسمين القديمة، أشرعت أمامها روايةً لأغاثا كريستي، جريمة أخرى من جرائمها الغامضة، في قطار الشرق تقرأ ملامح أحد أبطالها، ثمّ ترفعُ عينيها برفقٍ وخفية وتقارن، كان هو يشبه ذاك البطل .. بطل الرواية، صارت تُكثرُ النظر إليهِ صفحةً بعد صفحة، تقلبُ صفحةً ثمّ تنظرُ إليهِ دقيقة، لم يكُ هو يشعر بما يدور حوله، كان غارقاً في بحرٍ ياسمينيّ دمشقيّ، أصبح يُداعب الهواء بسبّابته، كأنّه يؤلّفُ لحناً جديداً لقصيدةٍ يلتهمها، أصابها الإحباط، كيفَ لم يلتفت بعدُ إليها؟ ربّما لم تكن كميّة العطر كافيةً لأن يشمّ رائحتها الساحرة من مقعده البعيد، أو ربّما عطرهُ القديمُ يطغى على عِطرها الحديث، لا شكّ أنّ القديم دائماً ينتصر، حتى هذا العطر ... إنتصر. أرادت أن تلفت انتباهه، فأسقطت الكتاب على الأرض، ثمّ همست بصوتٍ مسموعٍ:"أفففففففف .. يا الله!" لم يلتفت إليها، كان ما يزال غارقاً في بحره الممتدّ من قلب نزار قبّاني إلى آخر خلاياه العاشقة، كرّرت إسقاط الكتاب، لم يلتفت.. أثارها وجرح كبريائها، وقفت ومشت إليهِ تحملُ روايتها .. وعتاباً في عينيها قد يشعل المكان، مرّت من أمامِهِ فمرّ عِطرُها مصاحِباً ظلّها، واستقرّ في أنفه، إلتفتَ أخيراً ثمّ ابتسمت .. فابتسمت .. وتوقّفت إلى جانبه، سألته: "هل أنتَ مهووسٌ بقصائد نزار ..؟" تلاشت ابتسامته، تناثرت أبياتُ نزارٍ من حوله وابتعدت كعصافيرٍ جفلت وحلّقت بعيداً بعيداً .. ثمّ أومأَ : "إنّني .. أصمٌ .. أبكم!" سقطت الرواية من يدها .. ولحقت بها دمعة أشعلت المكان ...


القصّة الثامنة عشر

على الغصنِ الغضّ، كانَ يقف، تؤرجِحُهُ نسمات الهواء، ينفش ريشه ثم ينتفض بخفّة، ويُعيدُ لملمةَ ريشه كما كان، ليظهر أجمل وأكثر رتابةً، ريشهُ الأخضر الداكن كمعطفٍ جميل يلفّ جسمه النحيل .. رأسهُ أخضرٌ أيضاً لولا بقعتين بلونٍ أحمر فاتح تزيّن خدّيه. هي تجلسُ كعادتها على كرسيّها المقصّب، ترتاحُ في ظلّ هذه الشجرة المعمّرة، وتتأمّل صباحاً جديداً تعيشه في هذا القصر الكبير، كان ينظرُ إليها بحذر وريبة، يحاولُ حفظ ملامح وجهها الجميل كي يحكي لرفيقهِ الأحمر عن جمالها الأخّاذ الآسر، ثمّ إنه ومنذ أيّامٍ قليلة يفكّرُ في البقاء هنا بجانبها، يشعر أنّها وحيدة .. لحمته من بعيدٍ فأعجبها لون ريشه الجميل، وجذبتها إليه ظرافته وهو يحدّق بها كأنّه يعرفها، يُديرُ رأسه فوق عنقه كي يتمكن من رؤيتها من خلف الأغصان المتشابكة، أرادت أن تُبقيه معها، أمامها، كي تتأمّل منظره الجميل كلّ صباح، أمرت بإحضار قفص بلون ريشه، ثمّ فكّرت لو أنها تدعوه غداً لتناول الإفطار معها، ستبذر له بعض حبّات عبّاد الشمس.. سمع العصفورُ الأخضر ما كانت تهمس به لنفسها، فطار سعادةً وحلّق عائداً إلى دياره كي يودّع صديقه الأحمر ويعود إليها، في اليوم التالي جاء يرافقه الأحمر، كان صديقه متشوّقا لرؤية هذه الحسناء التي أفقدت الأخضر عقله فقرر أن يعيش حياته في قفص ليستغني بهذا عن حريته وجمال دياره، وقفا على الغصنّ الغضّ .. نفشا ريشيهما .. غرّدا قليلاً .. دعتهما إليها .. قالت: "هيتا لكما .. " أمسكت بالأحمر .. فقد أعجبها أكثر.. أسكنتهُ القفص الأخضر .. وظلّ الأخضرُ يصلّي قربها.. أملاً بأن يموت الأحمر يوماً ما .. ليحظى هو بالقفص .. ونظرة إعجابٍ منها تخصّه بها وحده.

القصّة التاسعة عشر

في شارعٍ معتم، لا يُرى الظلُّ فيهِ، ولا يُسمَعُ إلا عواء ذئابٍ بشريّة تبحثُ عن ملاذٍ لشهواتِها المتعطّشة، في تلك العتمة، عيونٌ فقط. كانت تخطو هيَ مثلَ فراشة ليل، لا تدري كيف زُجَّ بأنوثتها الصارخة في هذا الشارع. تشقّ عواء الذئاب، بصوت نقرات كعبِ حذائها على الأسفلت البارد، وتشدّ ذاك الوشاح أكثر فأكثر .. علّه يسترُ بياضَ قلبها الخائف. بدأ العواء يقترب أكثر، والعيون تتكاثر من حولها، ظلّت تمشي، تنقرُ الأسفلت البارد، وتشدّ الوشاح أكثر، وتبكي أنوثتها المصلوبة على هذا الشارع المقيّدة بأقدامهم والمنتظرة وجه الله في السماء! إقترب الخوفُ من حافّة القلب وكادَ ينسكبُ شلالَ رعبٍ غزيرٍ ساقطْ .. ساقط..تنسابُ في الشارعِ أكثر .. تُسرعُ الخطى إلى حتفها .. لا لشيء .. ولكن لأنها في الموتِ أيضاً تكره الإنتظار ...كادَ الليلُ أن يُمسكَ حبلَ ستائر الفجر، لكنّ العتمة تشدّه أكثر .. فيفشل .. كان هو عائداً من معركةٍ قتل فيها ذئاباً كثيرةً، متعباً كانَ وغاضباً.. فاستراحَ على أحد أكتافِ الشارع .. كانَ بعيداً، بعيداً، لكنّ رائحة الدمّ تفوحُ منه، وتتسلل إلى كل شيء .. أسندَ الرشّاشَ، واستراحَ يفكّر، حتى سمع خطاها .. فاستفاقَ وانتصب..غزى بعينيه عيون الذئاب، عرفوهُ، أسرعوا إليها، أسرعوا إليها أكثر .. أمسكوا بخيطٍ يتدلّى من وشاحها، أسرع إليها، أسرع أكثر، مدّ يده، جاء حتفُه غدراً، سقطَ الليلُ في أحضانِ العتمة، أسلمَ الليلُ فجرهُ لشهوة العتمة، وانهارت هي.

القصّة العشرون

على قارعة الطريق، نُبِذَت هي ورضيعتها، تبيعُ المناديل كي تحصل على قوت يومها، فتملأ ثدييها بعض الحليب لإسكات جوع الرضيعة التي لا تتوقّف عن البكاء إلا حينَ تُلقمها أمُّها هذا الصغير المتشقق من صقيع المدينة وبرد قلوبهم القارص. تتكوّر على طفلتها لتمنحها بعض الدفء والقليل القليل مما خبّأته من الحليب في صدرها. باغتها هدير المركبة التي توقّفت بمحاذاتها، نظرت إلى عجلاتها اللامعة، فعرفت أنها صاحبة الوجه الذي انعكست صورته على العجلة السوداء، منذ زمن لم ترَ وجهها الجميل ولا حتى انعكاسة صورته. ما زالت تتمتّع ببعض الجمال، عيناها الغارقتان في تعبٍ شديد، شعرها الأشقر المتقصّف، وشفتاها البارزتان على سطح وجهٍ نحتت الأيّام القاسية عليه بصماتها. رفعت عيناها ليظهر خياله من خلف زجاجٍ معتم، إشرأبّ عنقها تحاول قنص ملامحه، حدّقت أكثر، أرخت ذراعيها فانكشفت الرضيعة للعراء، مدّت يدها ونبّهته كما تفعل مع باقي الزبائن حين تعرض مناديلها للبيع، لكنّها في هذه المرّة كانت تنظر إلى زبونها وتمعن النظر، هبط الزجاج الأسود المعتم، هبطَ تدريجياً، ببطء، بغرور وكِبْر، إلتفت إليها الزبون الجديد، ونهرها قائلا: "الله يبعث لك .. روحي من هون .. بدي أمشي" عرفت الصوت، كان هو، تغيّر لون وجهها، وتغيّر لون الإشارة الضوئية إلى الأخضر، إرتفع صوت هدير المركبة، تحرّكت العجلات، رحل وجهها مع العجلات، صعد الزجاجُ الأسود المعتم من جديد بسرعة وخوف، ظلّت تجري وراء المركبة، تصرخ وهي تنادي عليه وقد ابتعد : "هذه أنا .. وهذه ابنتك .. أين تذهب ولمن تتركنا......؟؟؟؟؟"

القصّة الحادية والعشرون

صباحٌ جديد، صباحٌ آخر يُشرِعُ بوّابة الدنيا المظلمة، ويشقّ بنوره العتمة في كلّ مكان، تستيقظ العصافير على قِمَمِ شجر السرو الشاهق الذي يتوسّط شارع هذا الحيّ الراقي الهادئ، فيفصلُ مسربيّ الشارع عن بعضهما، ما زالت الستائر مسدلة خلف شبابيك تلك البيوت المترامية على جانبي الشارع، البيوت التي ترتدي قبعات القرميد الأحمر وتنعم بالسلام والنِعَم. كانت هي تدفعُ عربةً خشبيّة محمّلة بالخضار والفواكه، فتاة في مقتبل العمر، لم تغطِّ أتربةٌ الطرقاتِ الكثيرة جمال وجهها الملس، بيد أنّ أناملها بدأت تخشن جرّاء احتكاكها بالخشب الجافّ، تُنادي بصوتها الفيروزيّ على بضاعتها، تسمّي كل صنفٍ باسمه وتُتْبِعُـهُ بصفةٍ جاذبة، يغطّي جسدها ثوبٌ أسود، وعلى جدائلها الشقر يرتاحُ شالٌ أبيض كاد ينزلق من شدّة نعومة شعرها. مرّ بها، فالتهبت مشاعرهُ وانتفضت حواسّه واتّجهت جوارحهُ إليها، أوقفها وبدأ يتأمّل بضاعتها، كانَت شفاهُها أشهى من ذاك التفّاح الأحمر الممدّد بدلالٍ على ظهر العربة، وأندى من قطوف العنب المبللة بندى الصباح، كانت تعلم أنّ جسدها الجميل هو أيضاً أحد أسباب اجتذاب الزبائن لشراء بضاعتها، وأنّ لكلّ زبونٍ نصيبٌ من هذا الجسد، حتى أناملها المتشقق جلدها لم تنجُ من نظراتهم. سألها: "بكم كيلو الموز..؟" فأجابته وانتظرت السؤال التالي، ولكنه فاجأها حينَ أمسك يدها وكرّر السؤال ذاته، فعرفت حينئذ أنهُ أحد الزبائن، سحبت يدها من يده، وانحنت لتجلب شيئاً من بطن العربة، فخاف وارتعد، وهمّ بالرحيل مسرعاً، لكنها نادتهُ : "هذا الكرت .. عليهِ عنوان الشقة .. أنتظرك اليوم بعد الثامنة .. لا تتأخّر"


القصّة الثانية والعشرون

تكالبت الهموم على صدره حتى بات لا يفكّر بشيءٍ إلا فيها، فمنذ أن غادرته والحنين يحاصره من كلّ الإتجاهات، تارةً يخرجُ له من كتاب الشعر، وتارةً أخرى يتربّع على سطح مكتبه فوق معاملات المواطنين المتكدّسة، وتارةً يقتحم عليه خلوته وهو جالسٌ في بيت الخلاء، وتارةً ينزل عليهِ مع حبّات المطر الباردة في ليلةٍ ماطرة، وتارةً يستقرّ تحت أذنه وهو يحاول الخلود إلى النوم، حاول بشتّى الوسائل أن يتخلّص من الحنين إليها، وأن يتحرّر من حبّها العَلِقِ بقلبهِ، وأن يحرق جميع رسائلها الحميمية التي لا تخلو من أبيات الشعر الغزلية وكلمات الأغاني العاطفية، لكنه كان دائماً يفشل ويفشل ويفشل، حتى صار فشل نسيانها عائق أمام طموحاته، كأنّ حبّها طفلٌ لقيط أيقظ ضميره فتورّط هو بالبقيّة، وكأن حبّها مساميرٌ دُقّت في جسده فانغرست حتى مرّت تقطّع شرايينه واحداً تلو الآخر حتى استقرّت على جدار الذكريات وثبّتته فيه. وفي لحظةٍ مجنونة قرّر أن يتخلّص من قلبه، فشقّ صدرهُ بسكّين النسيان، وأخرج قلبهُ ثمّ أودعه صندوق الثلاجة في المطبخ، ومضى إلى عمله في ذلك اليوم بلا قلب، مرّ على الأزهار التي كان دائماً يلقي عليها تحية الصباح ولم يلتفت لها، مرّ على متسوّل ضيّعته السنين على أرصفة الجوع ولم يلقِ لهُ قطعة نقود واحدة ولا حتى فلس، أدار محرّك السيّارة ولم يشعل المذياع لسماع صوت فيروز الذي ينتظره في كلّ صباحٍ عبر الأثير القادم من البعيد، مرّ في طريقه إلى العمل بطفلة تقف على إشارة المرور ولم يرقّ لها قلبه، فقد تخلّص منه هذا الصباح، وقلبه الآن في صندوق الثلاجة، أشرع باب مكتبه وانتظر قهوة الصباح وطفق يتصفّح الصحف اليومية، قلب صفحة الوفيّات دون أن يتلو آية الفاتحة على أرواح من غابوا إلى عالمٍ آخر، قلب صفحة الشعر والقصص القصيرة ولم يتوقّف ولو لثانيةٍ فقط كي يتلو على نفسه بعض الحب والحنين، أشعل لفافة التبغ، وباشر العمل، معاملات كثيرة كانت متكدّسة على سطح مكتبه تلاشت خلال ساعات وانتهت، عند المساء، جاءت هي .. هي ذاتها .. من غادرته فنُفيَ قلبهُ بعدها إلى صندوق الثلاجة، ألقت عليه تحية المساء، فالتفت إليها ببرود وردّ عليها التحية، تفاجأت بردّة فعله، صرخت متسائلة : "أين ذهبتَ بقلبك؟" تحسّس صدره كان فارغاً، موحشاً ومُعتِماً.