عرض مشاركة واحدة
قديم 07-22-2013, 01:59 AM
المشاركة 2
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
الروائي خوليو كورتازار..مبدع بخياله مناضل بفكره
2009-03-19
الدوحة - رشيد يلوح *
إن إعادة نشر الأعمال الكاملة للروائي الأرجنتيني الأصل خوليو كورتازار في فرنسا، مناسبة جيدة لإعادة قراءة الكاتب الأخصب خيالا في القرن العشرين، والذي لم يمنعه خياله يوما من الالتزام السياسي في نضاله ضد الإمبريالية بكل أشكالها.
انطبعت حياة كورتازار (1914- 1984) وكتاباته بطابع العبور ذهابا وإيابا بين فضاءين وقارتين، ولد في بروكسل، لكنه رحل بعد أربعة أعوام إلى الأرجنتين، موطنه الأصلي، كان عصاميا في التعلم والتعرف على الأدب، وفي عام 1951 اختار المنفى الاختياري في باريس، وفي الستينيات التقى مع رواد رواية أميركا اللاتينية، أمثال: كارلوس فوينتس، غبريال غارسيا ماركيز، ماريو فارغاس ليوزا، ليزاما ليما. ثم اشتهر فيما بعد بدعم نضالات الشعوب المستضعفة، وقبل وفاته منحه الرئيس الفرنسي ميتران الجنسية الفرنسية.
تنبني رؤية خوليو كورتازار للكتابة الأدبية على أساس المزاوجة بين الأدب والالتزام، مما أفضى به إلى تجسير الهوة بين الخيال والواقع، فهو يعتقد أن «الخيال ليس هو ما يبعدنا عن الواقع، بل هو ما يجعله أكثر ثراء»، فالالتزام السياسي لم يفرض عليه تنازلات لتشكيل أدب مقاوم، وبالتالي يرى أن للأدب خصوصياته وتعقيداته وتاريخه الخاص، ويفترض أن يوظف ويغزو دوما مجالات جديدة ومثيرة، ولا يكتفي أن يوضح الواضح، إن الأدب ثورة مستمرة في الحياة، ولا حاجة له لكي يكون خادما للثورة.
لا شك أن هذا النظر يحاول التوفيق بين نظرين مختلفين، الأدب والالتزام، نقاش نقدي معروف راكم الكثير من الآراء والأجوبة التي حاولت الحسم في الجواب عن أسئلة من قبيل: هل هناك أدب يستطيع خدمة النضال؟ هل النصوص التي تهدف إلى تبليغ الأفكار تنتمي إلى دائرة الأدب؟
هناك من النقاد من يضع كورتازار بعد خورخي لويس بورخيس في مراتب الإبداع الفانتازي، وربما تميز عنه كورتازار في فن القصة القصيرة، إذ تمتلئ نصوصه بأجواء الحلم وفضاءات السحر والأحداث الغامضة والغريبة، فهو يستثمر في تلك المساحات السردية قدراته التخيلية التي يهدف من ورائها إلى أسر وجدان قارئه وهزه بقوة، وهو فن تحدث عنه في محاضرة ألقاها في كوبا عام 1963، ويقول فيها بأن المطلوب منذ السطور الأولى، هو جذب انتباه القارئ من خلال إدخال قطيعة مع ما هو يومي.
في قصته (اجتماع) مثلا نجد كورتازار يتخيل المونولوج الداخلي لدى المناضل أرنستوتشي جيفارا خلال رحلته إلى كوبا برفقة ثوار كاسترو، متجنبا إضفاء الصبغة البطولية التقليدية لهذا المناضل، وفي قصته (القيامة عند سولنتينام)، نرى رجلا يجوب دول أميركا الوسطى ويلتقط صورا، لتلك الرسوم البسيطة الشعبية التي يشاهدها بكثرة، وحين عودته إلى المنزل، يكتشف بعد سحب فيلمه، أن صور الرسوم البسيطة قد اختفت وحلت محلها مشاهد عنف وقمع أمني (يشير إلى الديكتاتورية العسكرية في الأرجنتين). فهل ثمة خطأ ارتكبه مخبر التحميض وقلب صور الفيلم؟ أم تعود إلى ظاهرة غامضة. يسيطر على الرجل هم وقلق، فيذهب للاستحمام، وحينما تصل زوجته وتنظر إلى الفيلم، تقول إن الرسوم الموجودة فيه لهذا الرسام الشعبي ساحرة.
وفي (الليل في مواجهة السماء)، يحكي كورتازار عن رجل يخضع لعملية بسبب حادث تعرض له، وفي بداية التخدير، يحلم بأنه ملاحق من الهنود الحمر ويقع في الأسر.
وتدريجيا، يصبح الحلم أكثر وضوحا لدرجة أن الأشياء تنقلب. فالواقع هو هذا المشهد من التضحية الإنسانية، وهو الإنسان الهندي، الذي قبل أن يقتل سيطر عليه حلم ينتمي إلى المستقبل، حيث يجد نفسه ممددا على طاولة العمليات، والجراح يشرع أدواته فوق جسده الممدد دون حراك.
أما نص (السماء الأخرى) فهو وسيلة ساحرة لأسر القارئ منذ الوهلة الأولى، إذ يروي الكاتب أنه يوجد في أيامنا المعاصرة في بيونس آيرس، معرض تجاري يحتفظ بخاصية سرية غامضة يستطيع فيها التواصل مباشرة مع عابر متستر، وفي باريس خلال القرن التاسع عشر، كان لدى الراوي إمكانية التنقل من وقت لآخر وسط حشود غريبة الأشكال، وقد اختفت تلك الظاهرة منذ زمن طويل.
روايات كورتازار مهدت له الطريق ليقف إلى جانب كبار الروائيين، ومنها رواية (ماريل)، ذلك العمل المفتوح الذي يتيح للقارئ الاختيار من خلال تعديل ترتيب الفصول بين روايتين مختلفتين داخل كتاب واحد، وحيث تنسج تعارضات بين أوروبا وأميركا اللاتينية: بين الطوباوية التي شكلتها أميركا اللاتينية في نظر أوروبا، والطوباوية التي باتت عليها أوروبا كما تراها أميركا اللاتينية. وعموما تميز عمله الروائي باشتماله على أغلب فنون الروايات الضخمة: تنويع الرواة، تعدد وجهات النظر، مهارة في الإيحاء بفضاءات وأزمنة موازية تتجاوز الواقع اليومي، الانزلاق التدريجي من عالم لآخر، حيث يكتشف القارئ قدرة عازف الجاز خلال بضع دقائق، على أن يحيا مرة أخرى أياما من حياته بكل تفاصيلها ويمنح الإحساس باستطالة الوقت لموسيقاه. ويرى كيف تتجسد فتاة يتخيلها الأطفال أثناء لعبهم، واقعا أمام مراهق يقع في حبها.
لم يكن خوليو كورتازار من كبار كتاب الغرائبية في القرن العشرين فقط، بل كان أيضا من الأدباء الملتزمين بقضايا شعوبهم، والواقفين في الاتجاه العاكس للإمبريالية، وكأنه بموقفه هذا يحاول أن يوفق بين شقي هويته الأوروبية والأميركية الجنوبية.

*