عرض مشاركة واحدة
قديم 08-07-2010, 12:09 AM
المشاركة 9
ريم بدر الدين
عضو مجلس الإدارة سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: حكايات من ضيعتنا
شخصيات من ضيعتنا (2)
العمة عائشة



كان يوما ربيعيا رائعا.استقلت العائلة السيارة و مضت في طريق شجري مورف الظلال،لم تمض سوى نصف ساعة أو أكثر بقليل حتى وصلنا ،
كانت وجهتنا بيت العمة التي تسكن في قرية تجاور القرية التي ولد بها أبي.
أمام البيت المتكون من غرفتين و بستان واسع وقفت تلك المرأة العفية ،المائلة نوعا ما إلى البدانة ،تلبس ثوبا مشجرا زاهي الألوان و غطاء رأس أبيض مطرز،بابتسامتها العريضة المرحبة استقبلتنا .نزلنا من السيارة فانهالت علينا المراحب و التحايا:
أهلا و سهلا ..شرفتم..أطلتم الغياب.
هي العمة الكبرى ،امرأة أمية لا تقرأ و لا تكتب ،.متميزة مع هذا بكل شيء
مبدعة جسورة ..تخيط الثياب و تعنى بالحقل و تدير شؤون البيت باقتدار لا يجاريها فيه أحد رابطة الجأش و حازمة ...
يروون أنها كانت تخيط الثياب في غرفتها ذات ظهيرة قائظة فلمحت ثعبانا ضخما يلتف على قضبان حديد نافذتها فما كان منها إلا أن وقفت بهدوء شديد ،تناولت مجرفة و ظلت تضرب الثعبان على رأسه حتى خر صريعا ،ثم بهدوء أكثر حملته ووضعته في قفة و رمت به في الحرش!
سمعت أيضا أنها كانت تحمل غمر العجين و تمضي للتنور قبل الفجر لوحدها ..في وقت كانت البيوت متباعدة و الليل بهيم و الطبيعة الوحشية في الليل تخيف أكثر الرجال إقداما،فلا أضواء تعمر الطرقات و قصص الجن و الأشباح هي المتداول الشائع بين الناس،لكنها لا تأبه بذلك البتة .ترى من أين أتت بهذه الجسارة؟
أتت بها عندما ولدتها أمها بكرا أنثى في مجتمع قبلي يعتبر هذا جريمة لا تغتفر،
أو أنها أتت بها من زواج في الثانية عشرةمن عمرها؟
عاشت مع زوجها خمس و عشرين عاما دون أن تنجب و هذا أيضا من أسباب جسارتها إذ تحملت نظرات الناس القاسية لها كشجرة لا تثمر؟
بعد خمس و عشرين عاما ،جاءها زوجها بضرة ولود سبق لها الزواج و ذلك لضمان خصوبتها و قدرتها على إنجاب كم من أبناء منتظرين .و بعد أن كانت العمة عائشة سيدة الغرفتين و البستان ،أضحت سيدة المطبخ!!
انتقل أثاثها و ثيابها إلى المطبخ و ذلك ليتسنى لضرتها العيش بهناء و راحة لإنجاب الأبناء
غير أنها لم ترض بهذا الضيم فما كان منها إلا أن طلبت الطلاق و حصلت عليه وسط لوم الأقارب و الأباعد ،فكلهم يعتقد أن عليها أن تحمد ربها آناء الليل و أطراف النهار كون الرجل أبقاها زوجته و هي تستهلك و لا تنتج فلا ضير إن سحب منها بعض الامتيازات!
عادت إلى بيت أهلها و لكنها لم ترض أن تكون عالة على أحد ،عملت في الخياطة و صارت تملك ناصية أمرها و قرارها .
كانت تتمتع بشخصية قوية لا مثيل لها و يكفي أن تترك نفسك لها لتأخذك في رحلة ،نزهة ،أو حتى زيارة للسوق،لترى إنسانة ذكية جدا تحفظ الأماكن و الأرقام بسهولة و من الصعب أو حتى المستحيل خداعها رغم أنها أمية و لتغرف من كرمها و جودها
أكثر جمال لها كنت تراه عندما تداعب طفلا ،.ترى ينابعا من حنان تتفجر لديها ،الأطفال كانوا بدورهم يأنسون جدا لها.
هدّ قواها مرض السكري و كانت تحتاج يوميا لحقن الانسولين
غير أن خطيئتها كانت انعدام مناعتها أمام السكاكر،
من هنا أتت أيضا بجسارة أخرى و لكنها جسارة مقارفة أكل السكاكر و الحلويات ،برعت في إخفاء علب الحلويات و ألواح الشوكولا و زجاجات المربى و ما شابه .كل مرة ترتفع عندها نسبة السكر في الدم ،تقول أنها لم تتناول شيئا!
حس الفكاهة لديها كان عاليا جدا لك أن تسمعها و هي تروي حكاية قديمة مضحكة ثم تتلوها بضحكة مجلجلة ،لو نظرت إلى إنسان عينيها لرأيته يضحك أيضا .
و بالرغم من هذا كانت حساسة جدا و على الذي يتعامل معها أن يكون حذرا كما يمسك بالبللور الشفاف خوفا من كسره
تفاقم عندها مرض السكري و بقيت في المشفى مرات كثيرة و أخيرا بتر جزء من إحدى قدميها ،عندها أمست بحاجة لعون بناتٍ لسن ببناتها
كانت لهن أما حنونا لم يعرف ملامحهن رحمها لكن عرفته طرقات قلبها الكبير
حالتها كانت تسوء شيئا فشيئا ،شح بصرها و هذا جعلها حبيسة فراشها
كانت تتضايق من الحمية المفروضة عليها ،و إذا انتهزت غفلة من المحيطين بها كانت تخبىء رغيفا أبيضا تحت غطاءها و تأكله فيما بينها و بين نفسها عندما تخلو لفراشها .
مرة صحوت ليلا فسمعتها في فراشها تناجي الله عزوجل ،كان كلامها من الروعة بمكان بحيث أنه سمرني مكاني حتى لا تنتبه و حتى أكمل سماع البوح الجميل الذي أبدعته ،وو الله لقد أجرت الدموع في عيوني،كانت تناجيه بصدق و لوعة و محبة و تسليم بقضاءه ذات ليلة تحسنت قليلا،طلبت العشاء في غرفة الطعام و ليس في سريرها لمحتها تختلس قطعة خبز أبيض ،تغاضيت و لا أدري لماذا ..
روت لنا نكاتا و أغنية قروية قديمة من ذاكرتها التي لما تنطفىء بعد.
انتهى العشاء الأخير و رحلت بعده بساعة.
لم يستغرق موتها سوى ساعة قليلة ،كانت تبدو نائمة، مضوا بها عند ظهيرة اليوم التالي إلى مدفن العائلة في ضيعتنا، أوصت بذلك قبل موتها بأيام قليلة ،لعلها كانت تريد أن تنام في الأرض التي لطالما وضعت خدها عليها و هي طفلة و شابة و باحت لها بمكنوناتها !
بعد وفاتها بأيام ؟رن جرس الباب صرخت بأعلى صوتي: لا يفتحن الباب أحد ! أنا سأفتح ،هذه عمتي عائشة !

زوج العمة عائشة لم ينجب أبدا من زوجته الولود!
لم تكن هي العقيم!