عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
5

المشاهدات
6501
 
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي


ايوب صابر is on a distinguished road

    موجود

المشاركات
12,766

+التقييم
2.39

تاريخ التسجيل
Sep 2009

الاقامة

رقم العضوية
7857
01-25-2012, 12:03 PM
المشاركة 1
01-25-2012, 12:03 PM
المشاركة 1
افتراضي الأدب :هل يؤثر فعلا على الآخرين؟
الأدب :هل يؤثر فعلا على الآخرين؟
عبد الرحيم الخصار
نقلا عن القدس العربي

2012-01-24

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة
الروائي كارلوس فوينتس سيخصص وقتا هاما لتأليف كتاب يحاول من خلاله إقناع الأمريكيين من أصول لاتينية بضرورة إسقاط نظام الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش، لقد كان يدرك أن كلمة الكاتب تحديدا في المجتمعات التي تقرأ الكتب - لها أثر خاص يتجاوز أحيانا أثر منافسَيْه: رجل السياسة ورجل الدين.
كان فرانز كافكا يردد هذه الجملة الشهيرة: 'كل ما ليس أدبا يقلق راحتي، وأشعر تجاهه بالكراهية'، هل كان كافكا مهووسا بالأدب إلى هذه الدرجة؟ هل كان إيمانه بالكتابة أعلى من الجميع؟ هل ترسّخ لديه أن الأدب قد يكون معادلا موضوعيا للحياة أو بديلا عنها؟ بعبارة أكثر عمقا: هل كانت الحياة عند كافكا هي الأدب؟
إن الجواب عن سؤال كهذا يبدو أكثر وضوحا كلما تذكرنا أن كافكا لم يترك رفّا من الكتب، لم يغن خزانة العالم بمؤلفات كثيرة، وإنما بصفحات قليلة، صار كافكا أسطورة القرن الماضي والحاضر.
وإذا كان كافكا عميق الإيمان بالأدب، فهل كان يؤمن أيضا بتأثير هذا الأدب؟ ما كتبه هو وما كتبه كبار وصغار الكتّاب في الجهات الأربع لهذا العالم هل أثر في الكائنات التي تتلقاه؟ هذا الحشد من الروايات والمسرحيات والأشعار، هل غير شيئا في عالمنا؟ هل غير مشاعر الناس وأفكارهم؟ ما تأثير الأدب في حياة من يتلقى الأدب؟
لعل الكثيرين سيطرحون هذا السؤال: 'ماذا كان سيقع للعالم لو لم تكتب كل هذه القصص والقصائد؟ وهل كانت الحياة ستغدو مستحيلة بدون أدب؟'
سنعود إلى الماضي القريب لنجد تعريفا للكاتب المصري أحمد هيكل الأكاديمي الذي سبق له أن شغل منصب وزير الثقافة في مصر، يقول مؤلف (تطور الأدب الحديث في مصر): 'ليس الأدب مجرد كلام جميل، مختار اللفظ ، محكم العبارة بليغ الصياغة، وإنما الأدب تعبير جميل بالكلمات عن تجربة صادقة، قادرة على التجاوز إلى الآخرين'. طبعا تعريف كهذا لا يخلو من ذلك الطابع الكلاسيكي الذي يجعل هذه النظرة للأدب نظرة متجاوزة، فالأدب ليس بالضرورة كلاما جميلا، فعدد هائل من الروايات الحديثة تحاول التملص من الوقوع في (الكلام الجميل مختار اللفظ)، وبالتالي سيصعب حسب هذا التعريف تصنيف رواية جاك كيرواك 'على الطريق' في خانة الأدب، لكن عبارة دقيقة توجد في هذا التحديد لمفهوم الأدب (التجاوز إلى الآخرين)، إن رواية 'على الطريق' التي لم يكن كاتبها يختار الألفاظ التي يكتب بها ستؤثر بشكل كبير في الحياة الواقعية بأمريكا، إنها سترفع من مبيعات ملابس الجينز، وستجعل ملايين الأمريكيين يتخلون عن كل السراويل التي ليست جينزا.
لا يمكن إجمالا أن ننفي عن الأدب وظيفته التأثيرية، فمنذ عهد هوميروس والشعر- أعرق أشكال الأدب- يمارس هذا السحر، إن قصائد صاحب الإليادة والأوديسة كانت تركز على البعد الدرامي للكتابة، وبالتالي فهي كانت تحرك المناطق الهادئة في الوجدان الإنساني، فلطالما رأى كل واحد ممن قرأ ملحمتي هوميروس أنه صار عليه لزاما أن يصير أحد أبطالهما.
وفي الأدب الحديث لا يستطيع قارئ زوربا لنيكوس كازانتزاكيس أن يمر على الرواية دون أن تخلف فيه تأثيرا واضحا، لكن درجات التأثير طبعا ستختلف حسب سياق التلقي وحسب المكونات النفسية لكل قارئ، فقد تذكي في نفس أحدنا قيم الخير والتعمق في فهم الذات، وقد تدفع آخر إلى اعتزال العالم والتوحد في خلوة تشبه خلوة كاتب زوربا في جبل أثيوس باليونان.
إن أعمالا أدبية كثيرة حوّلت وعي الناس وغيرت قناعاتهم، ويكفي أن نقف مثلا عند الأدب الروسي في فترته الأكثر توهجا، إن تأثير هذا الأدب امتد إلى العالم برمته، وساهم في تحريك عجلة تقدم هذا العالم عبر تحفيزه نحو الإعلاء من قيمة الإنسان وجعله يطرح أسئلة جديدة لم يكن يطرحها من قبل، تتعلق بمصيره وبجدوى حياته وبوظيفته داخل هذه الحياة.
نصوص كثيرة أثرت بشكل مباشر في من يتلقاها، نستحضر مثلا الكتابات ذات الطابع النضالي والتحريضي وما يندرج ضمن مسمّى 'أدب المقاومة' كقصائد بابلو نيرودا وكاميليو ولويس أراغون ومحمود درويش ومظفر النواب وناظم حكمت وأرنستو كاردينال وفريديريكو غارسيا لوركا وغيرهم .
ستركض سلطات ميتاكاس في اليونان سنة 1936 وراء قصيدة 'المرثية' ليانيس ريتسوس من أجل إحراقها ومنعها من الوصول إلى الناس، لقد كانت تعرف مدى تأثيرها فيهم، فقصيدته جاءت كردّ على النيران التي أطلقها الفاشيون على عمال التبغ المضربين في تيسالونيكا.
إن قصائد ألكسندر بوشكين مثلا ومسرحياته كانت تصل إلى قلوب الناس قبل كلمات القيصر، وكانت تفعل فيهم ما لا يفعله طابور طويل من الجنود، إن روايته 'دوبرفسكي' التي لا تتجاوز مئة صفحة، والتي تصنف كواحدة من أهم التحف في خزانة الأدب الروسي أسهمت بشكل واسع في تحويل الهادئ والراكد في النفس البشرية إلى جيشان، لقد جعلت شباب روسيا يعيد النظر إلى علاقته بالطبقة الإقطاعية، وإلى التفكير في إعادة ترتيب أثاث الغرفة الروسية وتغيير بنية هذا المجتمع المغلف بالظلم والاستبداد.
ولذلك حين بدا للإمبراطور أن بوشكين سيجعل الشعب يثور ضد نظامه القمعي فكر في نفيه إلى سيبيريا، تدخل وسطاء ومقربون ليحولوا دون هذا النفي، غير أنه سيتم التخلص من بوشكين عبر المؤامرة الشهيرة التي دُبرت له سنة 1838.
ثمة أمثلة كثيرة لشعراء وكتاب كان مصيرهم الموت أو السجن أو النفي بسبب الخوف من كلماتهم، والخوف أكثر من تأثير هذه الكلمات.
دعونا نعود إلى كافكا، بعيدا عن الأدب الذي كان يوجد في مواجهة السياسة، ثمة أدب مهمته هي مواجهة الآخر، 'رسالة إلى الوالد' هي واحدة من روايات كافكا ينتقد فيها تسلط الأب، ويحاكمه لكونه سببا في ما يحمله من عقد وأمراض داخلية، فهو الذي جعله يشعر دائما بالفشل والعجز والضعف والدونية، إن قارئ هذا العمل سيستحضر بالضرورة تاريخ علاقته بالمؤسسة الأبوية، وستكون بالتالي 'رسالة إلى الوالد' سببا في ثورة الكثيرين على آبائهم وأفكارهم الميتة.
هذه الرواية ستساعدنا على فهم رواية أخرى للكاتب أكثر شهرة منها، أقصد طبعا عمله الرهيب 'مسخ' الذي كتبه في عامه الثالث والعشرين، حيث يريد فيها البطل غريغوري سامسا أن يتحول إلى حشرة، لقد صارت الرغبة في التحول إلى حشرة موضة ورغبة فئة كبيرة من شباب العالم في القرن الماضي، بسبب الإحساس باللاجدوى جرّاء ما يعانيه الفرد من إهمال وتخلّ وتهميش ونكران من طرف الجماعة، وقبل كافكا لا أحد يستطيع أن ينسى ما فعلته 'آلام فرتر' للألماني يوهان غوت، بعشاق الماضي، أولئك الذين يصطدمون في الطريق إلى محبوبتهم بجدار إسمه الزوج.
إن رواية 'المطر الأسود' للكاتب الياباني ماسوجي إيبوزي عن هيروشيما ستكون أكثر تأثيرا في النفس البشرية من كل التقارير الصحفية التي كتبت عن هذه الكارثة الإنسانية،إذا استثنينا طبعا ما كتبه الصحافي الأمريكي جون هيرسي الذي استفاد في كتابة تحقيقه من تقنيات السرد.
تحكي رواية 'المطر الأسود' قصة الفتاة 'ياسوكو' التي اعتقد أهلها أنها نجت من إشعاع القنبلة بسبب وجودها بعيدا عن مكان الحدث، غير أن أمطارا مسمومة ستنزل على القرية بعد فترة من سقوط القنبلة ستحول حياة ياسوكو وعائلتها إلى جحيم، ثمة أحداث موجعة وأسلوب مؤثر لا يبيح لقارئ الرواية أن ينتهي منها دون تعميق روح الكراهية والرفض لكل القوى التدميرية في هذا العالم.
إن وظيفة الأدب حسب أنطونيو غرامشي هي التأثير في الآخر، وحين يتوقف هذا الأدب عن مهمة التأثير يتوقف عن كونه أدبا، وسيتبنى النظرية الغرامشية مفكرون جاؤوا بعده أمثال ديفيد هارفي وإدوارد سعيد وميشيل فوكو ونعوم تشومسكي.
مهمة المثقف حسب النظرية الغرامشية هي الالتحام بـ'الجماهير' وتبني قضاياها، غير أن هذا الأمر سيجعل الكاتب يرتدي لباسا فضفاضا عليه، ذلك أن مهمة المثقف لم تعد بالضرورة هي التكلم باسم الجماعة، لقد صار الكاتب في الأدب الجديد صوتا يمثل نفسه فحسب ويمتلك مشروعيته من فردانيته، ويعمل جاهدا على أن يمحو عنه كل طابع جمعي أو مهمة تنويرية، لكن يوكيو ميشيما بالمقابل كان يقول 'لنؤثر قليلا في التاريخ'، إنه هنا يتجاوز عتبة التأثير في الآخر ويدرك أن الأدب قادر أحيانا على التأثير في مجرى نهر العالم، ربما تكون نظرة طوباوية، لكنّ العيون التي كانت تصدر منها هذه النظرة لم تكن عيني كاتب عادي فميشيما كان له دور كبير في تعميق إيمان اليابانيين بضرورة العودة إلى الجذور اليابانية وعدم الذوبان في النموذج الغربي الراهن.

الروائي كارلوس فوينتس سيخصص وقتا هاما لتأليف كتاب يحاول من خلاله إقناع الأمريكيين من أصول لاتينية بضرورة إسقاط نظام الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش، لقد كان يدرك أن كلمة الكاتب تحديدا في المجتمعات التي تقرأ الكتب - لها أثر خاص يتجاوز أحيانا أثر منافسَيْه: رجل السياسة ورجل الدين.
حين سئل الكاتب الإسرائيلي آساف غافرون عن تأثير الأدب في السياسة قال: 'أعتقد أنَّه لا يؤثر في السياسة، سيكون من السذاجة بمكان أن نعتقد أنَّ الأدباء يمكنهم أن يغيِّروا العالم'، لكنه يستطرد:'غير أنَّ هناك تأثيرًا على الرأي العام.. أنا أعتقد وبكلِّ تأكيد أنَّ الأدب يستطيع التأثير في الناس'.
لكن الكاتبة أناييس ناين ستعود بنا إلى هواء كافكا الأول 'كل ما ليس أدبا يقلق راحتي'، حيث سنجدها تقول: 'يحتاج الآخرون إلى الثياب والموسيقى واللعب على القيثارات والرسم بأقلام الفحم أو الألوان المائية، يحتاجون إلى اللعب بالكلمات وممارسة ألعاب الفن، يحتاجون إلى الخبز، ولكنني في الواقع أريد التخلي عن كل المتع التي نلتها في حياة الترف، أريد التنازل عنها مقابل المتع الرائعة التي توفرها لي حياة الإبداع والمنجزات الفنية التي تؤطر حياتي'.
إن الأدب هو الذي يصنع إطارا لهذه الكاتبة ويحدد مسالك حياتها، إن الكتابة هي التي تعطيها مشروعية الوجود وجدواه، وعليه فالتأثير هنا فردي، إن حياة العديد من الكتّاب تغيرت فور وصولهم إلى أرض الكتابة، وإن هذه الكلمة الساحرة 'أدب' جعلت من كل كائن ابتلي به 'سد هارتا' مستقلا، ودرويشا زاهدا لا يتطلب من الخارج أكثر مما يتطلب من ذاته، جددت لدى البعض إيمانه بالحياة، وملأت غرف البعض بالمتع، وجعلت الكثيرين يكتشفون كنوزهم الداخلية، وقادت الكثيرين أيضا إلى الانتحار.
إن الأدب إن لم يغير العالمَ، وإن لم يؤثر في الآخرين، إن لم يؤثر في قارئه فهو على الأقل يؤثر في كاتبه.

* كاتب وشاعر مغربي
khassar@gmail.com