عرض مشاركة واحدة
قديم 06-10-2016, 02:41 AM
المشاركة 29
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
الآن كبرت ، و لم يتبقّ أمامي غير هذا الموسم و تكتمل عدّة عقدي مع تالوين ، هو العام الثّامن لي في هذه الأرض السعيدة ، هنا ودّعت آخر أشواط الطّفولة ، و هنا استقبلت أولى لحظات الرجولة ، عجيب ، كم من ثمان سنوات في عمري الذّي اكتشفت أنني أنفقه بسخاء على الأمكنة ، كيف ذهبت تلك السّنوات دون أن تودّعني ، دون أن تنذرني أنّي سأكبر ، و سيكون من العار الرجوع إلى الوراء ، للبحث عن ضياع حدث حين غفلة . لا أعتقد أنني غفلت لحظة عن نفسي ، بل كنت حاضرا جدّا ، و ربما أفرط في حضوري ، أما كان لائقا أن أغيب عن ذاتي و لو لحظة ، وأتركها على سجيتها ، ترتشف من أكواب الحياة ما طاب لها ، يا لصعوبة الحياة حين تعيش واعيا كل لحظاتها ، كنت دائما أعرف أن الشّقاء ليس أكثر من ممارسة الذّات لنوع من الرّقابة على الذّات ، هو سجن النّفس للنّفس ، هو الاكتفاء بعالمها الخاصّ ، هو عدم القدرة على مغادرتها إلى رحاب الطّبيعة الفسيحة ، الإعجاب السّاذج بالروح ، رشّة غرور ، أنانية ما .
لست راضيا كما بالأمس ، و ليس سهلا أن أكون راضيا ، هي روح مرحة تطفو طباعي الخارجية ، أظهر لطفا ، إيباء ، تفهّما ، إيثارا ، لكن ما يعتمل بالنفس قاس جدّا ، لا يستطيع أحد أن يشعره ، أن يتلمسه ، بل يا للعجب ليس بوسع أي شخص مهما بلغ أن يداوي ما بداخلي ، لا أحد في العالم كلّه بإمكانه أن يلبّي لنفسي مرادها ، يقول عبد الهادي ازنزارن في إحدى روائعه الغنائية : " حبيبي لم تركتك ، لم هجرتك ، ليس لأني لا أريد البقاء ، ليس بي فاقة مال ، ليس بي علّة جسدية ، لكن روحي مفلسة ."
ليس سهلا أن تشعر بإفلاس روحك ، و رغم ذلك تواصل الحياة ، تلاعب ظروفها ، تغني أحيانا قصائدها الماجنة ، تختلق حلما جميلا تركض وراءه ، حتى يلهيك عن التوقف الذي اختارته روحك ، في عالم يعجّ بكل شيء إلا الأحلام الجميلة ، عالم مفلس أيضا ، حتى في كل أفكاره ، في كل تحركاته ، كم هو معيب أن تسعى لاجل شيء في الأخير لا يستحق ما أنت تفعل لأجله ، كنت دائما مؤمنا منذ الصغر ، أننا نلاحق السراب ، كنت منذ أولى اللحظات التي عاينتها ، أننا نكذب على أرواحنا ، نسوّف ونسوّف ، حتى أدمنا التسويف ، فلا نستمتع بالشيء حين يكون في اليد ، بل نستمتع ونحن في انتظاره ، لا توجد حقائق في الكون تغرينا لاقتناصها ، هناك حقيقتان تتصارعان ، حقيقة النفس ، وحقيقة المجتمع ، هي النّفس ما يجعلنا نستحلي الكذب و تأتينا لحظات نتوهم فيها السيطرة على العالم ، السيطرة على واقعنا ، تحقيق الوجود القوي للذّات ، وحقيقة مجتمعية تبقى بالمرصاد لنا ، تضعنا في كل وقت في خانة ، مرة مع المرغوبين ، و مرة مع الحثالة ، و مرة لا محلّ لنا من الإعراب .
يقول عصيد في إحدى استجواباته النادرة التي يتحدث فيها عن نفسه : " ما يخجلني هو عندما لا تستطيع حتى أن تعلن حقيقك للذين تحبهم و يحبونك ، حين تضطرّ لتزييف نفسك حين تغتال ذاتك " لا أظن أن في الكون شخصا تفطن لتك الجزئية في استجواب بانورامي ، فيه من الاعتزاز بالنفس الشيء الكثير ، فيه من سيرة الرجل الشيء الوافي . حتى عبد الهادي حين قدم له الميكرفون و هو يتهيأ للصعود للمنصة ذات سهرة ، ليقول شيئا أجاب بالحرف : " قولوا أنتم ، يا من لا تكفّون عن الثرثرة ." ليست الحياة مجرد قول ، ليست مجرد تدوين للسيرة ، ليست مجرد رأي ، الحياة ليست فكرة ، ليست كلمة ، ليست ما نتفوّه به ، الحياة شيء آخر ، غيرهذا كلّه . كثيرون هم الحكماء الذين يعيشون بيننا ، يمشون في الأسواق ، يشربون الشّاي ، يقتاتون ممّا تنبت الأرض ، لا يرجون غير أن تكون الحياة بسيطة . وأن يكفّ هؤلاء المزعجون عن تعقيدها أكثر و هم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا ، خذها بالمهل يا أيها الإنسان و اقصر ، لكن العجلة دارت فمنذا الذي يستطيع فرملة هذا الهبوط الحر .
لعلكم تنظرون أن أواصل رحلتي التي قطعت فيها شوطا ، ولعلكم تريدون تفاصيل الثمناية أعوام فلا تذهبوا بعيدا فأنا قريب منكم .