عرض مشاركة واحدة
قديم 11-09-2011, 11:11 AM
المشاركة 5
عمرأبوحسام الحسني
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
لاينظر المتزكي المتعفف عن أدناس الدنيا و غوائلها أو مدعي التزكية إلا لحظوظ نفسه ، و قد تكون فهومه رهينة ما يعرفه من ري و شرب و ذوق ، داخل طريقة من الطرق ، أو جماعة من الجماعات من لها حظ في طلب جانب السلوك و الإرادة ، أو كان مؤسسوها من انتسبوا في بداياتهم لمشرب صوفي.
مقولة " النص الخاذم لهوى القلب " أو بمعنى آخر أن يكون فهمي و إرادتي و سلوكي و استجابتي لنداء الله تعالى و رسوله صلى الله عليه وسلم و فقهي لكتاب الله و سنة حبيبه صلى الله عليه وسلم ، معيار ا مطلقا لكل سلوك ، فهو الفهم الصحيح لاثاني له.
يسقط أحيانا صاحبها في تقديس فهمه و اجتهاده و اجتهاد من علموه ، فلا يسمع إلاماعنده متجاوزا كل رأي في حركة نرجسية .
مسالة الفاعلية عند العمل ، و الإختيار عند كل اختبار ، وملازمة كل عمل بجهد حثيث شجاع ، لا يكون دائما سالما من كل عيب ، حتمي النتيجة .لابد أن يشوبه النقص و الريب ، وخصوصا إن كان أصحابه في دوائر مغلقة لا يريدون سماع من يبصرهم بعيوبهم ، أو يسدي لهم نصيحة من النصائح.
و ياتي القائل : اجتهادي لم يكن اعتباطيا ، بل قراءة متأنية لتاريخ الأمة فقها و اجتهادا وسلوكا ، وفق منهاج واضح التصور ، مستشرف للمستقبل ، و أقدمه لأمة الحبيب صلى الله عليه وسلم و لوجه الله !!!!!.
ثم تجتمع عليه إرادات شابة فاعلة طالبة بصدق لوجه الله !!!! ، وعند الزلل والخطا ، أنعتبره خطئا بشريا في الفهم و التطبيق .؟؟أم سوء تدبير لوسائل ومناخ آليات التطبيق.
ينكر أصحاب الإتجاه كغيرهم ، بلازمة كبيرة تذهل الأذهان ، تسقط في نظر مناوئيهم كل جميل فيقول لك السامع : للمؤمن حرمة ، و للشيخ حرمة ، و للجماعة حرمة.بخلاصة : كل شيء عنده حرمة.
و إن كان أصحاب هذا الإتجاه في مجلسهم الخاصة و العامة يلحون على مسألة التقويم الذاتي ، و العمل الواضح ، و التعددية ، وقبول الرأي المخالف ، والدعوة للحوار الهادئ ، والتجديد في التربية فهما و علما و تصورا.
يسقط أصحاب هذا التلقيد مما يحذرون منه غيرهم ، طوق التقليد ، فكيف أدعو لتجاوز هذا الطوق ، وأنا ما زلت رهين التقليد ، وصم الآذان ، و مقاطعة كل من يخالفني في الرأي ، و إن كان في مجالسي الخاصة يساهم و يبني و ينافح ؟.
ما بين تقديس النص الإجتهادي و تعظيم كاتبه ، برزخ الوجوب و الإمكان ، فالواجب أن أفهمه و أمارسه و ألتزم بأدبياته ، و الإمكان أن أسخر ما في طاقتي كي أطبقه عبر مراحل ، و لاأنكر خطئي أو أتصدى بحركة جنونية عند كل مخالفة للرأي أو نصيحة من النصائح أو تنبيه .
نسال الله العفو و العافية من كل بلية.
كيف يكون تحرير العقل من جمود الرؤية ؟ ، و القلب من جفاف النسبة وهو الحب لله تعالى و طلب وجهه ، و الجهد لموافقة السنة ؟ كيف يكون ترتيب الأولويات و المقاصد ، إن كان فكري و اجتهادي ينأى عن كل محاولة تجديدية ؟.
و التجديد لايكون في أصل الإجتهاد بقدر ما يكون في تهييئ مناخ التطبيق و فق تؤدة رفيقة تصغي لكل فهم و أحيانا تصطدم بعكس ما تقرأ و تسمع وترى لسبب بسيط استبداد السامع و التابع عن كل إشارة.
يحرص كل مرب عند ورود المريد على بساطه آخذا بحجزته أن يضع أسبابا و شروطا و آدابا للصحبة.ومنها أن يدل مريده الوليد على الخير كل الخير ، و ينمي لدى الفتى الوليد مسالة التفرقة بين الأصل و الفرع ، و التابث و المتحول ن و الشرع وكيف تم الإجتهاد في فروعه و أصوله ؟.
هذا يصح فيمن اتخذ من التربية و تمكن من آدابها ، و سيلة لتنشئة جيل متحرر سائر على هدى من الله و بصيرة ، لااتباعا للهوى من الأهواء ، وسبيلا من السبل ، فالإنجماع على الله و ذكره ، ثم اتخاذ الولي المصحوب منبعا للهدى من الرشاد ، لايمنع من الفرقان الرباني : " أن اعرف الأصل فانهل منه ، لكن باجتهاد من الأجتهادات و دلالة من الدلالات و صحبة من أنواع الصحبة القاعدة المستقيلة عن كل أمر لا تسمو إليه أرادتها لوسعها في التربية الفردية فقط ، لكن أصرح أنني لا أستطيع أن انحنى منحى السلوك السلطاني .أو أتجاوز الإجتهاد القائل بانعزال الفتنة لأدخل غمار الجهاد و التربية معا لكنني لا أنتقد غيري مما اتخذوه سبيلا.".
وعندما تستقر قدم الوليد على الفهم الرشيد يبدأ الجانب العملي الفكري في جانب التصور ، بعد أن صقل قلبه بالذكر ، و أنار عليه الله بنوع من الفهم ، في إرساء قواعد السلوك المنضبط على المنهاج و المنهاج هو السنة و الشرعة ، ما جاء في الوحي و طبقته الإرادة النبوية بتوفيق من الله و تربيته و توجيهه، ثم يتحسس امر الإتباع عبر الأجيال ، وكيف تبلور الفكر الإسلامي عبر الأزمنة ، و يعرف حلقات التجديد التي عرفتها العصور الأسلامية السالفة.

تنفي كلمة التوحيد لا إله إلا الله كل نظام ووجود و النظم و الأفكار و الفلسفات، فلا إله إلا الله تحيي كل موجود ، فينتقل العبد الحي من الموت و تبلد الشعور إلى معنى الحياة بالذكر وتوحيد الهم عوض الكثرة المنافية للأرادة الصحيحة . فتستقر قدم العبد على التذكر عوض الغفلة ، و تمده هذه الإرادة بحقيقة النسبة لله ، و معنى الوجود المرتبط بطلب الله ، ثم تثبيت جنانه معاني العزة بالله ، ثم برسوله صلى الله عليه وسلم.
ليس منا من لم تفض عليه لا إله إلا الله بكمالاته و إمداداته و أنواره ، فسلوك العبد في نسبيته يظل قبل و بعد كل شيء رهين بطلب الله ، وكماله رهين بمدى ريه من الكيمياء الإلهية الذكر ، و حسبه في العلم ، و استواءه على قدم المعرفة منوط بصحبة المصحوب و سلوكه التام الأكمل باعتقاد سليم و صدر منفتح على كل بركات و إمدادات أهل الله تعالى .
لا إله إلا الله تعلمني أن أكون مع و بالله في كل شيء ، و في العمل متوكلا عليه ، و في الإتباث دليل على رسوخ قدم العبد في مواجهة وممانعة و تحدي كل ما في الكون من العوائق و الموانع و الأغيار.
لا إله إلا الله ، معنى وجودي ، و أس سلوكي ، و في محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الكامل و التربية الجامعة ، و الإستمداد النوري الأتم الأكمل. إن لم تفض علي لا إله إلا الله بمعنى التربية الجامعة للأمرين فلا تغذو أن تكون مجرد لقلقة لسان ، أو إرادة كسيحة مستقيلة آخذة ببعض الكتاب وتاركة للبعض الآخر.
اللهم افض علينا من نعمك بأن تجعلنا في صحبة من صحب في زماننا اللهم آمين.
يقول الشيخ عبد السلام ياسين في كتاب الإحسان ، فقرة العلماء العاملون ، من خصلة العمل : (وقد يسلك طالب الحق الطريقَ بعد تحصيل العلوم العقلية والنقلية ثم يفتح الله قلبه فيجمع له بين العلم المكسوب والعلم اللدني الموهوب. وسعيا لهذا الجمع، وهو كمال الكمال، رأينا في الفصل الأول من هذا الكتاب علماء الدين وفقهاء الشريعة يتطارحون على أبواب أئمة التربية ويتتلمذون لهم ويرغبون في سلوك طريق الوصول والعرفان على أيديهم كما فعل الغزالي وعز الدين بن عبد السلام والسبكي والسيوطي وما لا يحصى عدا ولا تتطاول إليه الأعين شموخا من الرجال.
إن حاجة الأمة الدائمة، وحاجة جند الله الناهضين لإعلاء كلمة الله في الأرض أشد ما تكون إلحاحا إلى مربين ومعلمين ربانيين. وقد آن الأوان أن تنتهي الخصومة الناتجة عن الجهل والتعصب التي يؤججها بعض الوراقين في عقول الناشئة وأنفسهم إذ يفرقون بين أهل العلم العاملين والصوفية الصادقين.
الوراقون لَقِفوا أوراقا جدلية هي من آثار معاركَ مضت لم يحضروها ولا هُم من العلم والاستقامة بحيث يدركون مداخلها ومخارجها ومنشأها وأسبابها. ولقفوا، والتهموا كما يلتهم الحوتُ الأعمى في دياجِيرِ البحر وقاعِه، كلَّ ما هب ودبّ من آراءٍ استشراقية وأحكام جائرة وتعميمات تلتفُّ في وشاح الأمانة العلمية والغيرة على الكتاب والسنة وعقيدة السلف.
التقطوا المُرَّ من مخلّفات الجدل ومظلمات العِلل ومُرديات الجهل والخطل. والمطلوب من الصادقين العقلاء أن يراجعوا الموقف المخبول وأن يجتنوا العسل الحلو بدل الجدل المر. أن يجتنوه من شهادات الرجال الصادقين، يلتمسون عندهم عصارة التجربة وخُلاصة الحكمة بدلَ أن يرفعوا شعارَ حرب مستمرة، فتوى كتبَها عالم مضى في فترة من عمره وسلوكه وفهمِه ثم تجاوزها. وبقوا هم يجترون الخطأ ويُجَرِّعونه الأجيال مرارة بعد مرارة.
قرأنا في الفصل الأول من هذا الكتاب توبة الإمام الشوكاني مروِيَّة مكتوبة بقلمه عن تكفير من كفرهم من الصوفية في عنفوان شبابه. جاءته السن والتجربة واتساع الأفق العلمي والرقي في معارج التقوى بالتؤدة والرفق والاعتراف، ولو متأخرا، بالخطأ.
وخصص كتابه "قطر الولي على حديث الولي" للحديث عن حب الله، وعن التقرب من الله، وعن معرفة الله. كَتَبَه لا شك بعد أن تعَسَّل.
يقول في كتابه هذا: "ومن جملة أولياء الله سبحانه الداخلين تحت قوله: "من عادى لي وليا" العلماء العاملون. فهم، كما قال بعض السلف، إن لم لم يكونوا أولياءَ الله سبحانه فما لله من ولي. فإذا فتح عليهم بالمعارف العلمية، ثم منَحهم العمل بها ونَشْرها في الناس، وإرشادَ العباد إلى ما شرعه الله لأمته، والقيامَ بالمعروف، والنهيَ عن المنكر، فهذه رتبة عظيمة ومنزلة شريفة. ولهذا ورد أنهم ورثة الأنبياء"[1].
كان الرجل مرّا في فترة شبابه فتداركه الله بِمِنْحَةِ الحكمة والفهم عن الله كما نرجوه تعالى أن يتدارك بها المراهقين الخائضين فيما لا يعلمون. ذلك إن أراد بهم سبحانه خيرا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله بعبد خيرا عسَّله. قيل: وما عسَّلَه؟ قال: يفْتح له عملا صالحا بين يديْ موته، ثم يقبضه عليه". رواه الإمام أحمد والطبراني عن أبي عنبة رجل من الصحابة، وأشار السيوطي في جامعه الصغير إلى حسنه.
نرجو للمراهِقين من العمل الصالح أن يكفّوا عن خوض غمار الحرب على من خالفهم، بل على من خالفوه، فهم الطارئون. فإن تداركهم الله سبحانه بتوبة كاملة فتح لهم أبواب الصدق والرفق. ولعلهم حينئذ يستفيدون من درس "التعسيلة" التيمية، يجتنون من شهد روحانيته العالية وربانيته الأصيلة.
هذا الرجل المظلوم حيا وميتا منحه الله عز وجل في آخر عمره، بين يدي موته، فقد مات في السجن، فتحا مبينا ومعارف كملت له مطلبَه من ربه عز وجل، مطلباً فوق كرامة القراءة في اللوح المحفوظ التي كان يُنكرها قبل أن يُدرك مرتبتها كما قرأنا في الفصل قبل هذا.
من السجن كتب ابن تيمية رسائل تفيض رقة وفرحا بالله عز وجل وحلاوة وعَسَلِيَّةً. كتبها نفس القلم الذي كان أرْقَماً على الخصوم، وأملاها نفس الفكر الذي كان عليهم عَلْقَما. تعسل هذا وذاك في رحمة الله الكريم الوهاب. داخل السجن، وسط الفتنة والمحنة.
قال رحمه الله في رسالة لأصحابه من السجن: "وأما بنعمة ربك فحدث. والذي أعرِّفُ به الجماعة أحسن الله إليهم في الدنيا والآخرة وأتم عليهم نعمته الظاهرة والباطنة: فإني، والله العظيم الذي لا إله إلا هو، في نعم من الله ما رأيت مثلها في عُمْري كله. وقد فتح الله سبحانه وتعالى من أبواب فضله ونعمته وخزائن جوده ورحمته ما لم يكن بالبال، ولا يدور في الخيال، وما يصل الطَّرْف إليها. ييسرها الله تعالى حتى صارت مقاعدَ (قلت الصوفية يقولون: مقامات). وهذا يعرف بعضها بالذوق من له نصيب من معرفة الله وتوحيده وحقائق الإيمان وما هو مطلوب الأولين والآخرين مع العلم والإيمان.
"فإن اللذة والفرحة والسرور وطيب الوقت والنعيم الذي لا يمكن التعبيرُ عنه إنما هو في معرفة الله سبحانه وتعالى وتوحيدِه والإيمان به، وانفتاح المعارف الإيمانية والحقائق القرآنية. كما قال بعض الشيوخ (الصوفية): لقد كنت في حال أقول فيها: إن كان أهل الجنة في هذه الحال إنهم لفي عيش طيب! وقال آخر: تمر على القلب أوقات يرقُص فيها طرباً، وليس في الدنيا نعيم يُشبه نعيم الآخرة إلا نعيم الإيمان والمعرفة. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أرِحنا بالصلاة يا بلال". ولا يقول أرحنا منها"[2].
قلت ويحك! الرجل تغمَّده الله برضوانه، وفتح له في رحمته في آخر أيام حياته حتى أدرك بفضله سبحانه ما تدركه الشيوخ، وحتى ذاق ما لا تفهمه ولا تطلبه كما يطلبه الأولون والآخرون، وأنت قاعد مع فتوى جدلية تتهجاها! ما اسمك يا صاحِ في الملكوت!
وكتب من السجن أيضا يوصي جماعته بطلب معرفة الله عز وجل، معناه بلغة تفهمها يا صاحِ! أنه يوصيهم بأن يتصوَّفوا أي أن يتحابّوا في الله وأن يذكروا الله، وأن يقفوا بالإرادة والهمة والخضوع بباب الله. قال: "وفي الجملة، ما يُبين نعم الله عليَّ وأنا في هذا المكان أعظمُ قدرا وأكثر عددا، ما لا يمكن حصرُه وأكثر ما ينقُص الجماعة. فأنا أحب لهم أن ينالوا من اللذة والسرور والنعيم ما تقِرُّ به أعينُهم، وأن يُفتَح لهم من معرفة الله وطاعته والجهاد في سبيله ما يصلون به إلى أعلى الدرجات. وأعرِّف أكثر الناس قدر ذلك: فإنه لا يعرف إلا بالذوق والوجد. لكن ما من مومن إلا له نصيب من ذلك، ويستدل منه بالقليل على الكثير وإن كان لا يقدُرُ قدْرَه الكبيرَ. وأنا أعرف أحوال الناس والأجناس واللذات، وأين الدُّرُّ من البَعْر! وأين الفالوذَجْ من الدِّبْس! وأين الملائكة من البهيمة أو البهائم!"[3].
الله أكبر! الذوق والوجد والمعرفة ولغة التبكيت والاستنهاض التي نقرأها عند الشيخ عبد القادر. لَطالما وَسَمَكَ عبد القادر بأنك "قفص بلا طائر"، وهذا ابن تيمية يشبه إيمانك بجنب أهل المعرفة والكمال ببَعْرَةٍ إزاء دُرَّة، وبهائمَ إزاء ملائكة. وأنت لا تتحرك! ولا تغضب! ولا تنبعث! وتُمضي العمر في مضغ الكلام وطلب النصوص الخطإ لتزداد تردِّيا في حَمْأَتِكَ! ويلك!
قال رحمه الله في رسالة أخرى: "المقصود إخبار الجماعة بأن نعم الله علينا فوق ما كانت بكثير. ونحن بحمد الله في زيادة"[4].
ما أدخلتَ يا صاح في حسابك أن الصادقين من العلماء العاملين، وابن تيمية رحمه الله منهم، يترقون "بكثير كثير" وترفعهم العناية الإلهية في آخر عمرهم إلى "تعسيلة" يزدادون فيها علما "بكثير كثير". وأنت قاعد مع مَرْحَلَة من اجتهادهم وخطإهم تحرِّفُه لا تشرِّفه!
وكتب من السجن إلى أمه يقول: "فقد فتح الله من أبواب الخير والرحمة والهداية والبركة ما لم يكن يخطر بالبال، ولا يدور في الخيال"[5].
في رسائله الأخيرة، وهي آخر كتاباته، نَفَسٌ جديد، ورحمة جديدة. كانت كلمة الساعة عنده الحديث إلى الخاصِّ والعام عن فرحته بالله سبحانه، وفرحته بالفَتْح، وفرحته بالبركة والزيادة والهداية. انطوت صفحات الجدل والشدة على الخصوم، ونُسخ في عقله وقلبه ذلك الماضي الذي اتخذه من بعده بعضهم صنما ثابتا ومرجعا مطلقا. يا لِلَّهِ من فرحة الصادق حين يفتح الله له الأبواب! وكأنه في سذاجة سروره طفلٌ يدلِّلُونه "بما لا يخطر على البال ولا يدور في الخيال". ويا خيبة من أعرض عن ذكر ربه وصدَّ عن سبيله!
قال الإمام الرفاعي رحمه الله عن مراتب العلماء: "الدرجة الأولى درجة رجل طلب العلم للمُمَارَاة والجدل والتفاخر وجمع المال وكثرة القيل والقال. والدرجة الثانية درجة رجل طلب العلم للمناظرة، لا للرياسة لكن ليُحسبَ في عداد العلماء فيُمدح بين أهله وعشيرته(...). والدرجة الثالثة درجة رجل حل عويص المشكلات، وكشف دقائق المنقولات والمعقولات، وغاص في بحور الجدل مُضْمراً نُصرةَ الشرع في أحواله، إلا أنه أخذته عزة العلم(...) واختطفته نُصرة نفسه فأفرط وأقام الحجة على خصمه، وشنَّع عليه، وربما كفّره، وطعن فيه(...). والدرجة الرابعة درجة رجل علمه الله، فنصب نفسه لتنبيه الغافل، وإرشاد الجاهل، وردِّ الشارد، ونشر الفوائد"[6].
يا من يكفرون الناس تحت لواء التيمية ! ابن تيمية رقاه الله من درجة لدرجة، وصفاه وعلمه لصدقه. وأنتم، في أحسن الحالات، لأن منكم أميين، في "درجة المماراة وجمع المال وكثرة القيل والقال". تحرفون كلام ابن تيمية الصاعد المتحرك المخطئ المصيب السالك المستزيد المتعلِّم. فأَنَّى توفكون! وأنّى لكم أن تقرأوا بحُزن على أنفسكم سرور ابن تيمية في آخر عمره!
قال الإمام الرفاعي، وهو العالم العامل الصوفي الكامل، يعترف بفضل العلماء العاملين: "أي سادة! إن نهاية طريق الصوفية نهايةُ طريق الفقهاء. ونهاية طريق الفقهاء نهاية طريق الصوفية. وعقبات القطع التي ابتُلي بها الفقهاء في الطلب هي العقبات التي ابتلي بها الصوفية في السلوك. والطريقة هي الشريعة، والشريعة هي الطريقة. والفرق بينهما لفظيٌّ. والمادة والمعنى والنتيجة واحدة.
"وما أرى الصوفي إذا أنكر حال الفقيه إلا ممكورا. ولا الفقيه إذا أنكر حال الصوفي إلا مبعودا. إلا إذا كان الفقيه آمرا بلسانه لا بلسان الشرع، والصوفي سالكاً بنفسه لا بسلوك الشرع، فلا جناح عليهما (قلت: لأنه لا يُعبأُ بمثلهما من المنافقين).
"والشرط هنا الصوفيُّ الكامل والفقيه العارف كما ذكرنا. كيف يعمل الصوفي الكامل إذا قال له الفقيه العارف: أأنت تقول لتلامذتك: لا تصلوا! لا تصوموا! لا تقفوا عند حدود الله! باللَّهِ عليكم هل يقدر أن ينطق إلا بحاش لله! كيف يعمل الفقيه العارف إذا قال له الصوفي الكامل: أأنت تقول لتلامذتك: لا تكثروا من ذكر الله! لا تحاربوا النفس بالمجاهدات! لا تعملوا بصحة الإخلاص لله! بالله عليكم هل يقدر ينطق إلا بحاش لله! فحينئذ اتحدت المادة والمعنى والنتيجة واختلفت اللفظة لا غير. ومن حجبه من الفقهاء حجاب اللفظة عن أخذ ثمرة المادة والمعنى والنتيجة فهو جاهل. ومن حجبه من الفقهاء حجاب اللفظة عن أخذ ثمرة ما ذكرنا فهو محروم"[7].
قال موفق شمر عن ساق الجد للرحلة الميمونة إلى الله عز وجل:
دعْ عنك تِذكـارِ الخليط الـمُنْجِـدِ والسعيَ نحْـوَ الغـانيـات الخُـرَّدِ
واستَغْنِ عن سُعْـدى وسَلْمَى إِنَّما سعدى وسلمى شغل من لم يَسْعَد
وإذا سَكِـرْتَ فنـادهم متـقَـهْـقِـرا يا غافلين عن النعيم السَّـرْمَدي!
أخطـأتم وجـهَ الطـريـق فكلُّـكـم حيـران عن مقصـوده لا يهتـدي
وسهـوتـمُ عـن مـنَّـةٍ مَخـبـوءة يَلْقـى مكـارمَهـا المـوفـقُ بالغـد
كم بين لـذة سـاعـة مخصـوصـة ونعـيــم دارٍ لا يبيـدُ مـؤبَّـدِ!
فاشـدُدْ لدار الخلـد حُلَّـةَ حـازم تظفر بها، والويل إن لم تَشْـدُدِ!
بالرُّشـد والتوفيـق ينتَهِضُ الفتى لا ينقـذ الأعمـى كأخـذ بالـيـد

وقلت:
لا ينقذ الأعمــى كأخــذ باليــد فارحل أقَاصِيَها لصحبة سيِّــد

* * * * *
يقـول اللـئيــم: عليــك الهُــوَينــى ومــا لك بالسـفــر القــاصــد
تمهــل فــذلك حــزم وعُــدَّ خُـطــاك وَأَتْـهِــمْ وَلاَ تُـنْـجِــدِ
فقلت: اقتحامُ الصعــاب طـريـق الرجــالِ ودربُ الفـتــى الأيِّــدِ




[1] ولاية الله ص 290-291.
[2] الفتاوي ج 28 ص 30.
[3] المصدر السابق ص 41.
[4] المصدر السابق ص 44.
[5] المصدر السابق ص 49.
[6] البرهان المؤيد ص 164-165.
[7] المصدر السابق ص 105-106.)كتاب الإحسان.
نسال الله تعالى أن يهيئ لهذه من أمثال هؤلاء العلماء على الدوام آمين