عرض مشاركة واحدة
قديم 03-05-2023, 04:04 PM
المشاركة 662
عبد السلام بركات زريق
مشرف منبر الشعر الفصيح

اوسمتي
الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الثانية المشرف المميز الألفية الأولى الحضور المميز 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي رد: فقه اللغة وسرُّ العربية / الثعالبي
الفصلُ السّابعُ والخَمسونَ


في المَجَازِ


قالَ الجَاحِظُ: لِلعَربِ إقْدَامٌ عَلى الكَلَامِ، ثِقَةً بِفَهْمِ المُخَاطَبِ
مِنْ أَصْحَابِهِمْ عَنْهم كَمَا جَوَّزُوا قَوْلَهُ: أكلَهُ الأسْوَدُ، وإنَّما
يَذْهَبونَ إلَى النَّهْشِ واللَّدْغِ والعَضِّ، وأكَلَ المَالَ وإنَّما يَذهبونَ
إلى الإفْنَاءِ كمَا قالَ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ {إنَّ الَّذينَ يَأكلونَ أمْوالَ
اليَتامَى ظُلْمًا إنَّما يَأكُلونَ في بُطونِهِمْ نارًا وسَيَصْلَونَ سَعيرًا}1
ولَعَلَّهمْ شَرِبُوا بِتلكَ الأمْوَالِ الأنْبِذَةَ ولَبِسُوا الحُلَلَ ورَكِبُوا
الهَمَالِيجَ، ولمْ يُنْفِقُوا مِنْها دِرهمًا في سَبِيلِ اللَّهِ إنما أُكِلَ،
وجَوَّزُوا: أكَلَتْهُ النَّارُ، وإنَّما أُبطَلَتْ عينَهُ.
وجَوَّزوا أيضًا أنْ يَقُولُوا: ذُقْتُ لِمَا لَيْسَ يُطْعَمُ وهُوَ قَوْلُ
الرَّجُلِ إذَا بَالَغَ في عُقُوبَةِ عَبْدِهِ: ذُقْ! وكيْفَ ذُقْتَهُ؟ أيْ
وَجَدْتَ طَعْمَهُ. قالَ اللهُ عزَّ وجَلَّ {ذُقْ إنَّكَ أنتَ العَزِيزُ
الكَرِيمُ}2 وقالَ عزَّ مِنْ قَائِلٍ {فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِباسَ الجُوعِ
والخَوفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}3 وقالَ تَعَالَى {فَذَاقُوا وَبَالَ
أمْرِهِمْ}4 ثُمَّ قَالُوا: طَعِمْتُ لغَيرِ الطَّعَامِ كمَا قَالَ العَرَجِيُّ:

فإنْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النَّسَاءَ سِوَاكُمُ
وإنْ شِئْتُ لَمْ أَطْعَمْ نُقاخًا ولا بَرْدَا


قالَ اللّهُ تَعَالَى {فَمَنْ شَرِبَ مِنهُ فَليسَ منِّي ومن لمْ يَطْعَمهُ
فإنَّهُ منِّي}5 يُريدُ ومَنْ لَمْ يَذُقْ طَعْمَهُ. ولمَّا قالَ خَالدُ بْنُ
عبدِ اللّهِ في هَزِيمةٍ لَهُ: أَطْعِمُونِي مَاءً، قَالَ الشَّاعرُ:

بَلَّ السَّرَاوِيلَ مِنْ خَوفٍ ومِنْ دَهَشٍ
واسْتَطْعَمَ المَاءَ لمَّا جَدَّ في الهَرَبِ


فَبَلَغَ ذَلكَ الحَجاجَ فَقَالَ: مَا أيْسَرَ مَا تَعَلَّقَ فِيهِ يَا ابْنَ أخِي؟
ألَيْسَ اللّهُ تَعَالَى يَقُولُ {فَمَنْ شَرِبَ مِنهُ فَلَيسَ مِنِّي ومَنْ لَمْ
يَطعَمْهُ فَإنَّهُ مِنِّي}.
قالَ الجَاحِظُ فِي قَولِ اللّهِ عزَّ وجَلَّ {إنَّ اللّهَ لَا يَسْتَحْيِيْ أنْ
يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعوضَةً فَمَا فَوْقَها}6 يُريدُ فَمَا دُونَهَا، وهو
كقولِ القَائِلِ: فُلانٌ أَسْفَلُ النّاسِ، فَتَقُولُ: وفَوْقَ ذَلكَ! تَضَعُ
قَوْلَكَ(فَوقَ) مَكانَ قَوْلِهِمْ: هوَ شرٌّ مِنْ ذَلكَ. وقالَ الفَرَّاءُ: فَمَا
فَوْقَهَا في الصِّغَرِ، واللهُ أعْلمُ. قال المُبَرَّدُ: مَنَ الآياتِ الّتي رُبَّمَا
يَغْلَطُ في مَجَازِهَا النَّحَوِيُّونَ قَوْلَ اللّهِ تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ
الشَّهْرَ فَلِيَصُمْهُ}7 والشَّهْرُ لَا يَغيبُ عَنْهُ أَحَدٌ. ومَجَازُ الآيةِ:
فَمَنْ كَانَ مِنْكمْ شَاهِدَ بَلْدَةٍ في الشَّهْرِ فَلْيَصُمْهُ، والتَّقْدِيرُ:
فَمَنْ كَانَ شَاهدًا في شَهرِ رَمضانَ فَلْيَصُمْهُ، وَنَصَبَ (الشَّهرَ)
لِلظَّرْفِ لا نَصْبَ المَفْعُولِ.


1 "10" من سورة النساء.
2 "49" من سورة الدخان.
3 "112" من سورة النحل.
4 "5" من سورة التغابن.
5 "249" من سورة البقرة.
6 "26" من سورة البقرة.
7 "185" من سورة البقرة.