عرض مشاركة واحدة
قديم 07-27-2023, 10:50 PM
المشاركة 4
أحمد فؤاد صوفي
كاتب وأديـب

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: *إلى أين أمضي* - قصة قصيرة

* الفصل الرابع والأخير*
*شيء من السعادة*
في صباح اليوم التالي ، توجه أدم إلى مدرسة ابنه واستأذن الناظر أن يأخذ ولده لعذر عائلي ، ثم بدأ رحلته من المساجد الأقرب فالأبعد ، ولم تفلح محاولاته في أي من المساجد الثلاثة ، ولم يبق أمامه سوى المسجد الواقع في أطراف المدينة ، جهز نفسه ، ودعا ربه أن يوفقه في مسعاه ، وصل مع ابنه إلى المسجد المتواري خلف حدود المدينة ، ولكنه لم يجد به أحداً ، كان هنالك بعض العجائز يتداولون القرآن ، فانتظر في سيارته حتى لمح من بعيد شخصاً يقترب ، وقدر من شكل ملابسه أنه قد يكون المؤذن الذي يحضر مبكراً لرفع الأذان ، فهرول إليه يسأله عن والده "إنني آدم .. إبن أبي آدم .. وقد علمت أنه قد يكون عندكم .. نحن نبحث عنه منذ ثلاث سنين .. أرجوك .. ساعدني".
وجم المؤذن واحتار كيف يتصرف ، وهو يعلم أن العجوز منقطع عن أولاده ، ولا يكلمهم ولكنه يتسقط أخبارهم من بعيد كل يوم ، وابن العجوز شديد الشبه به وشديد اللهفة عليه ، وأحس بأنها لهفة حقيقية صادرة عن القلب ، فرحب به وبابنه ودعاهما إلى الدخول وطمأنهما أن الوالد بخير ، وبعد قليل يحين موعد عودته من زيارة أصدقائه في دار العجزة القريبة ، ولم يتحمل آدم أن ينتظر أباه داخل المسجد ، بل آثر أن ينتظره في الخارج ، وماهي إلا دقائق حتى بدا من بعيد شبح يقترب ، شبح يتوكأ على عصاه ، وعرف آدم أباه من مشيته.
أما العجوز فقد لمح من بعيد سيارة فارهة متوقفة أمام المسجد ، يقف بجانبها رجل وطفل ، وقفز قلبه ، وأحس بروحه أنهما جزء منه ، فأسرع الخطى ، وتأكد من ظنه ، إنهما أحباؤه ولده الأكبر وحفيده الذي كبر وأصبح في السابعة.
لا ندري كيف كان اللقاء ، الطفل يصرخ منادياً جده ، والابن يبكي فرحاً وخجلاً ، والعجوز يبكي فقد طال الهجر والشوق لا ينتظر ، عواطف تترى أحاطت بالعائلة ، فلا تسمع إلا وجيب القلوب المحبة والفرح الغامر.
دلف الجميع إلى الداخل ، الأدمع في العيون ، والعجوز يأخذ حفيده يضمه ولا يتركه أبداً.
"والدي .. أريد أن أبشر أخوتي .. ويمكنك أن تختار أي واحد منا لتكون عنده .. لقد قصرنا في حقك .. وبذهابك ذهبت سعادتنا .. وأرجو أن تسامحنا وتعفو عنا .. ليس لنا إلاك".
"يمكنكم ياولدي أن تحضروا ساعة تشاؤون .. سأكون دوماً في انتظاركم"
"اليوم ياوالدي .. اليوم .. سنحضر جميعنا".
وأسرع آدم إلى سيارته ، ينهب بها الأرض نهباً واتصل بشقيقه وشقيقاته وزوجته وأصهرته ، ترك الجميع ما بين أيديهم ، وقاموا يجهزون أنفسهم ، خلية نحل تعمل في كل بيت ، فالحدث عظيم وقد انتظروه سنوات ثلاث.
وما أن قارب وقت العشاء ، حتى كانت أربع سيارات فارهة ، امتلأت بالكبار والصغار ، قد توقفت أمام باب المسجد ، ووجدوا العجوز بانتظارهم ، ففرحوا وتيقنوا أنه قد سامحهم على كل ما جرى .
ولم يغالب الوالد المسكين عواطفه ، فكان الدمع يهمي من عينيه مدراراً ، وكان الجميع يبكون بسعادة ، حقاً لقد كانت المشاعر فياضة حقيقية لا يمكن كبحها
وبعد مرور بعض الوقت ، وبعد قيام العجوز بواجب الضيافة في غرفته الصغيرة وبعد أن أعاد تعارفه لأحفاده واحداً واحداً ، وملأ عيونه بمرأى أولاده وبناته ، قام آدم الابن الأكبر وجلس قرب والده "والدي .. أرجوك أن تعود وتقيم عندي في منزلي ، إنني الأكبر وأنا أولى بك من أخوتي" ، وانبرى الابن الأصغر معترضاً "والدي أرجوك أن تبقى عندي .. غرفتك جاهزة .. أرجوك أن تعود معي الآن" ، وأسرعت الشقيقتان مع زوجيهما "يا عماه .. نحن قصرنا في حقك .. وأمنيتنا أن تكون عندنا .. أرجوك يا عماه .. لا يستغني الأولاد عنك .. انهم يحبونك جداً .. أرجوك عد معنا". خرج العجوز من شروده ومفاجأته برؤية الأولاد والأحفاد ، وبنظرة واثقة وعزيمة أكيدة طالع الجمع الغفير ، "أيها الأحبة .. إني أريد لكم كل الخير .. وأنا راضٍ عنكم جميعاً .. ولقد منحتني الظروف التي مررت بها فرصة ومكافأة لي لأكتشف طريقي .. إنني هنا في المسجد مسؤول عن أشياء كثيرة .. كما أتابع مسؤوليات وأعمال كثيرة في دار العجزة .. ولن أتخلى بأي شكل من الأشكال عما منحني الله من نعمة .. بدون شك سأبقى هنا .. وكذلك هي سعادتي".
وبقي العجوز في المسجد ، يدير شؤونه ، ويرعى أصدقاءه في دار العجزة ، وعلم أن هذا الطريق هو طريق مرسوم له من الله ، وهو لن يخون ثقة ربه به أبداَ.

أحمد فؤاد صوفي - اللاذقية – سورية