الموضوع: ذاكرة الطباشير
عرض مشاركة واحدة
قديم 03-26-2022, 02:38 PM
المشاركة 6
عبده فايز الزبيدي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: ذاكرة الطباشير
ذاكرة الطباشير(5):
[لمَّ لحمتك]
تخرجت في (جامعة الملك سعود -بأبها)، وابها مدينة الضباب والورد والجمال والأصالة، وأهلها طيبون ومتدينون جدا.
ولي فيها أيام طلب العلم قصصٌ كثيرة، منها: جئتُ زائرا لزميلي لي _بل أخ حبيب_ هو محمد عبدالله حُمَّدي من بني حُمَّد الطُّوالِ، كي أخذ ما نقصَ عندي من دروسٍ، وأذكر حينها أني جئتهم بعد العشاء بساعة تقريبا.
وفي اليوم التالي سألني زميلي: لماذا لا تترك سكنك وتسكن معنا؟ فاستغربت سؤاله، فقال لأن الشباب الذين قابلوك البارحة، تمنَّوا لو أنك تسكنَ معنا، فقلت له نحن الآن في آخر العام، وسأعطيك ردي العام القادم.
انتهت الاختبارات ، وذهبت لقريتي بوادي حلي للإجازة، ثم بدأ التسجيل في الجامعة، واستأجرت غرفة عند عائلة كريمة، وأخذت في التردد على شقة أصدقائي، مدة فصل دراس كامل، ثم سكنت معهم، وكانوا خيرَ معْشَرٍ وخير رفقة.
شكَّلنا فريق كرة قدم مهيبا، وكنت حارس المرمى، وكان أبو عبدالله _أبو نبيهة سابقا_ رئيسَ الفريق الذي لا يلعب، وأما المدرب المتفرج فهو تركي الناشب، و نجوم الفريق: عبده جابر وعلي مشهور، مهاجما الفريق.
وكان لنا أصدقاء من أهل أبها الكرام، يترددون علينا، ونزورهم في بيوتهم لشرب الشاي، وتغيير الجوِّ، وأظنّ سرَّ تقبلنا للناس وتقبلهم لنا، أننا أبناء قرى(أرياف)، فينحن في غاية البساطة والتواضع وصفاء النية مع الذات ومع الآخر.
وكانت شقتنا في الدور الرابع بحي لبنان، وبها ثلاث غرف نوم، ومجلس، وحمامان، ومطبخ كبير وله بلكونة، ومجلس يطل على بلكونة، تتطل بدورها على شارع فرعي، وشارع رئيس، إلا أن الآخر بعيد قليلا، وهذا من فضل الله علينا، لأننا نرى حركة المرور، ولا يصلنا ضوضاء المركبات.
وقد تقاسمنا البلكونتين، فبلكونة المطبخ يجلس بها سميعة(محبو) عبادي الجوهر، و بلكونة المجلس يجلس بها سميعة (محبو)محمد عبده، وأنا منهم، ومعي شقيق الروح يحيى أحمد عسيري، والصديق العزيز محمد مَكْرَمي، وهو يزورنا يوميا، وما كان معنا، لكن لحبنا له وحبه لنا، لا نفترق من بعد الدوام إلا للنوم.
وفي عصر أحد الأيام بَيْنَا كنت جالساً في بلكونة المجلس، شعرت بهدوءٍ عجيب، لم أعتده، فالمعتاد أن الشقة مفعمة بالحركة والمزاح، فنحن لا نقل عن ثلاثة عشر شابا، ونستقبل _أحايناً_ اقاربنا ممن يأتي لغرضٍ ولزيارتنا، وبعض أصدقائنا يأتي ليقضي وقتا معنا فمدينة أبها تستحق الزيارة. بل كنت أجد _أحيانا_ على سريري نائما لا أعرفهُ، فأنام في المجلس.
وكان بين المجلس والبلكونة نافذة كبيرة جدا، ففتحتها أريد أن أعرف ما سرُّ هذا الهدوء، وإذ بشابٍ يكبرنا قليلاً، في كامل زيِّهِ السعودي، الثوب والشماغ والعقال، مع وسامة وحسن هيئة، وعن يمينه ويساره أعضاء الشقة، ويجلس بين يديه، أخي وحبيبي أبو نبيهة محمد عبدالله_وكان متزوجا حينها مع صغر سنه_ وفيه حِلمُ وأدب، وبينهما دلَّة القهوة، وليست بدلة بل هي شبه بكرج (نصف محطم) من كثرة الاستخدام، وكنا نصنع فيه الشاي والقهوة والحليب، فهو أحد الرفاق الأوفياء.
وكنت أظن الزائر من بني حمَّدٍ، من قبيلة زملائي، فثيابه تدل على أنه ليس من طلاب الجامعة، فوضعت يدي على النافذة ووضعت عليها ذقني، استمع.
واخذ الرجل يشتكينا إلينا _ فهو يعرف أننا أغراب عن المدينة_ وكنت أسمع أبا نبيهة يستسمح منه ويوعده خيرا، فقد كنتُ أنا وهوَ في آخر سنة في الجامعة والرأي رأينا والشور شورنا في الشقة.
وعرفتُ من كلامِهِ أن له أختَّا _أظنها في الثانوية العامة، وهي جميلة المنظر _ تخرج عصرا لسطح المنزل المكون من دورين، ويأتي معها بعض زميلاتها أحيانا، وكان بعض شبابنا ينظر إليهنَّ ، وبيننا وبين منزل الفتاة شارعين وبيوت.
وحينَ رأي أخو البنت طيب كلام الشباب، وصفاء نيتهم، أخذ يرعد ويبرق، ويتهدد، فغضبت منه، والهمني الله له جوابا، فقلت له: يا هذا ! أأنتَ أخوك البنت التي تخرج للسطوح؟ قال: نعم!، قلتُ: سأضربُ لك مثلاً، ثم احكم!
قال: هاتِ ما عندكَ! قلتُ: تخيَّل أن رجلاً علَّقَ لحمةً وعنده كلابُ، ماذا ستفعل الكلابُ؟ قال: ستنبحها، وتحاول أخذها. قلتُ: لِمَّ لحمتك التي في السطوحِ، وأنا ألمَّ كلابي. فذهل الرجلُ، وخرجَ ولم ينبس بكلمة. وكفانا الله شره.
حتى إني كنت أرى أصغرنا في الشقة (م .ح) _وعمره لا يزيد عن 19 عاما حينها_ على أطراف البلكونة متمسكما بعمودها، ينتظر خروج الفتيات، ويمر أخوهم بسيارته ويرى، ولا يستطيع الكلام. وكنَّا _كبار الشقة_ ننهاه وننزله عن العمود، خوفاً من أن يشتكي بنا للشرطة.
وكنَّا في زمن طيشٍ وصبا، وما كنَّا نعترف بالعشق ولا نهتم بقصص الحب، ولكني أكتشفت أن أحد أصدقائي (ع. م . ش) بلغ به الحبُّ مبلغاً عجيبا، فقد أحب الفتاة، وأرادها زوجة له، ففي ليلة خرجت لصلاة العشاء بالجامع القريب من شقتنا، وحين دخلت شارع منزل الفتاة، شعرت بمن يمشي خلفي، فإذا هو (ع. م . ش)، ففرحت به وله، لأنه كان قليل الصلاة، فأخذت أمازحه، ويمازحني، وحانت مني التفاتة فإذا به يلقي بشيء لسطح المنزل، فسكت حتى رجعنا للشقة، وأخذت أنا ويحيى نقرعه بالكلام، وعرفنا أنه ألقى ببطارية (حجارة)راديو، لفَّ عليها رقم هاتف الشقة، وبعد كذا ليلة اتصلت بنا صديقة الفتاة ، وسألت أين فلان، فناديناه وأعطيناه السماعة، فأخذ يرتعد حين سمع صوت البنت، وما استطاع الكلام، فما هو من أهل الغرام، ففتحنا مُكبر الصوت، وقلنا لها: ما عندك؟ قالت: فلانة مع أنها كانت زعلانة من الرسالة، لكنها أكبرت فيه طهارته وعفافه، وأنه يريد الزواج، ولكني مخطوبة لابن عمٍّ لي، وتتمنى له بنت الحلال. فكان هذا آخر عهدي بأخبارها، لأني كنت غير مهتم، بهذي السوالف، فقد كنت متأثرا بعباس محمود العقاد، وأدمنت قراءة مؤلفاتِهِ، والعقاد معروف بعدائيته تجاه للمرأة، فقد عاش أعزبَاً، ربما بسبب فشل قصة حبه للكاتبة مَيّ زِيادة.
ومن شدة حبي للعقاد _زمن الجامعة_ أني كنت أضع على مكتبي (طاولة لها أدراج) صورة العقاد، وصورة أخرى على الحائط. وما أذكر أن والداي سألاني عن الصورة، أو تدخلا لتغيير أي قناعة كانت عندي، ربما كانا يعرفان أن هذه مرحلة لها طبيعتها، وستتتغير، وقد كان؛ فجزاهما الله خيرا.
..................................................

وسائلٍ عَنْ أبي بكرٍ فقلتُ لهُ:
بعدَ النَّبيينَ لا تعدلْ به أحَدا
في جنَّةِ الخُلدِ صِديقٌ مَعَ ابنتهِ
واللهِ قَدْ خَلَدتْ واللهِ قَدْ خَلَدَا