الموضوع: ذاكرة الطباشير
عرض مشاركة واحدة
قديم 03-12-2022, 09:06 AM
المشاركة 3
عبده فايز الزبيدي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: ذاكرة الطباشير
ذاكرة الطباشير (2):
[عِشْتَارُ الحِمَارِ]
ذكر الكاتب الصحفي والقاص الجنائي الكويتي/ أبو طلال فيصل الحُمْرَانِيُّ أن طفلا عراقيا من مواليد عام ١٩٨٠ م ، زار بيت جده في القرية، وكان جده يأخذه معه للمزارع والحقول، ورأى لأول مرة بيوت الزراعة المحمية الزجاجية، فسأل ببراءة وفضول الأطفال جَدَّهُ عنها ، فقال له الجد _مقرِّبا لفهمِهِ المعلومة_: هذه _ يا عبدالستار_ بيوت من زجاج توضع فيها النباتات كي تعيش، وإذا أخرجت منها ماتت.
انتهت الإجازة وعاد عبدالستار وأهله للمدينة، وفي أول أسبوع تأخرت الكتب، وكان الطلاب مستمتعين بقضاء الوقت في اللعب و الحديث بعيدا عن المناهج والواجبات، وكان المعلمون يمضون الوقت في إعطاء الطلاب معلومات عامة، أو في إقامة مسابقات ترفيهية موجهة.
ودخلت ذات يوم الأستاذة سُمَيَّةُ فصْلَ عبدالستار ، وأرادت أن تشغل الطلابَ قيل أن يشغولوها ، فرسمت وردة وبجانبها زجاجة كبيرة فارغة، وسألت التلاميذ: ماذا يحدث للوردة إذا وضعناها داخل الزجاجة؟، فتذكر الولد كلام جده، فأخذ يقومُ ويقعد يريد أن يسبق زملاءه على إجابة السؤال، وتحت وطأت إلحاحه قالت له الأستاذة: ما اسمك؟ فأجابه بلثغة الطفل _الذي سقطت بعض أسنانه اللبنية - وظنت أنه يقول لها : اسمي عِشْتَارُ، فقالت له اسمك عشتار؟ قال لا بل عبدالستار ، فأعادت ، واعادَ، ثم قالت له: اسمك عشتار ، وهي تضحك، ثم قالت: ما إجابتك يا عشتار! والطلاب يضحكون فعشتار اسم بنت لا ولد بالعراق.
فقال: إذا وضعنا الزجاجة على الوردة تعيش وتنمو، وإذا أخرجنا الورد ستموت، وكانت إجابته صادمة لها، وغير منطقية ، فضحكت وقالت؛ أنت لست عشتار فحسب، بل أنت "عشتار الحمار".
فطارت هذه التسمية بين الطلاب وأخذوا يتنمرون عليه طيلة اليوم، وحين عاد للمنزل اشتكى لأمِّه من أستأذته، ولكنه لم يعلمها بتسميتها له عشتار الحمار، خوفا من أن تناديه بتلك المعايرة إذا غضبت منه، فسكت.
تراجع مستواه الدراسي، وساءت علاقته بأساتذته التي كانت تتنمر هي وزملاؤه عليه، حتى نسى ان اسمه عبدالستار، ولكنه صبر وأكمل المرحلة الابتدائية بصعوبة بالغة.
وما كانت المرحلتان المتوسطة والثانوية إلا استمرارا على درب معاناة، وضعتهُ عليها أستاذتهُ .
تخرّج من الثانوية العامة والتحق بالجيش، واختير في سلك المغاوير، وهمفئة من الجند، يختارون بعناية، فائقة، ويمتازون بالطول الفارع وقوة البنية، ويعطون تدريبات خاصة على القتال واستعمال الأسلحة لمواجهاتِ قتال الشوارع واقتحام التحصينات.
مضت الأيام وترقى في السلك العسكري حتى صار ضابطا، زكلما ازداد نجاحاته المهنية العسكريو، ازدادت معاناته من لقب عشتار الحمار.
حاول الضابط عبدالستار_جهده_ التعايش مع هذا اللقب الذي أوله تسمية بأنثى وآخره وصف بالغباء.
وفي ذات يوم خرج عبدالستار للسوق، فرأي امرأة، لفتت انتباهه وأثارت براكين الحقد الدفين في دواخله، فاقترب منها يتحقق من ملامحها، فإذا هي الأستاذة سمية التي دمرت حياتها وهي تضحك منه، فأخذ يتبعها حتى عرف دارها، وعرف من مراقبة منزلها طيلة ثلاثة أيام أنها أرملة، ولاه ولد واحد، جاءها على كِبرٍ.
كان _طيلة أيام المراقبة_ يفكر كيف ينتقم منها، وفي نهار أحد الأيام ، انتظر ولدها حتى خرج كعادته ، وطرق الباب، لتفتح له سمية، فباغتها بوضع إحدى يديهع على فمها، وحملها من رقبتها بالأخرى.وهي مذهولة هالعة ، ودخل بها وسط الدار، وهي تتوسل له أن يأخذ مالها وذهبها ، وينصرف ولايقتلها.
فعرَّفها بنفسه فبالكاد تذكرت ، وقالت له: أنت عشتار؟ فكأنها رمت بقولها عشتار عود الثقاب على البنزين، فأنهال عليها صفعا ولكما ورفسا ، حتى شارفت على الموت. ثم تذكر أنه جاء ليشفي عليه ، ولم يأت لقتلها، فحملها وأجلسها، وسقاها الماء، ثم قال لها: هل تريدين أن أنتقم من وحيدك! فقالت له: افعل بي ما تشاء ، ولا تقرب ولدي ، فقال لها: لكنك آذيتيني كثيرا، وأنا اصغر من ولد، ثم تركها وانصرف وهي في دمائها.
عاد الولد للمنزل ليجدَ أمَّهُ في النَّزع الأخيرِ، وسألها من فعل بك كلَّ هذا؟، فكانت كلمتها الأخيرة: "عِشْتار"، ولفظت أنفاسها، قبل أن تصلَّ للمستشفى.
عاينَ رجال الأمن والتحقيقِ مسرح الجريمة، فلم يجدوا ما يدلُّ على أن القتل كان بدافع السرقة، فالقاتل دخل كما يدخل أهل البيت، وأموال الأستاذة وذهبها، كما هو.
وأخذوا يبحثون في المنطقة التي تسكن بها سمية عن القاتل، واستدعوا كل النساء اللواتي أسماؤهن عشتار، ممن يعرفونها أو يسكنون بالقرب منها، ولكنَّ رجال الأمن كانوا يطلقون سراحهن بمجرد النظر إليهنَّ، فما تستطيع امرأة مهما بلغت قوتُها، أن تفعل بالقتيلة ما فعل هذا القاتل بها، فالكدمات والسحوجات على جسدها، والنزيف الداخلي الذي أودي بحياتها، لا يسبِّبه ُإلا رجلُ عُتُلٌ شديد البنية ضخم الجثة.
عاد عبدالستار لبيته، وقد شفى غليله من الأستاذة المتَنَّمرة عليه في طفولته، وهو في غاية السعادة.
في تلك الأثناء وأيام العزاء كان ولد سمية ينام عند أخوالهِ وأعمامه، وكره الابن منزلهم، للذكرى الحزينة التي كانت تطارده، وبشاعة الموقف، فقرر أن يبيع البيت، ويشتري بيتا صغيرا، ويفتح ببقية المبلغ متجرا صغيرا يتاجر فيه، فقد ماتت التي كانت تعيله.
وقصد مكتب عقار كي يدلَّه في السوقِ _يسمسره_ فقال له صاحب المكتب: انصحك ألا تفعل، فأسعار المنازل رخيصة، ولن تجدَّ المبلغ الذي يحقق طموحاتك، وكان هذا في تسعينيات القرن العشرين، بعد غزو صدام حسين البعثي لجيرانه في الكويت، والحصار الذي فرض على حكومة صدام حسين، ولكن الولد أصرَّ، وأخبر صاحب المكتب بالقصة، وعرف السمسار أن المقتولة أستاذته في المرحلة الابتدائية، واخذ يتذكر مع ابنها قصص تلك المرحلة، وقال في ثنايا حديثه أن الأستاذة كانت تحب ممازحة التلاميذ، حتى أنها لقَّبتْ زميلا له اسمه عبدالستار بعشتار، فانطلق الابن _فورَ سماعه اسم عشتار_ لرجال الأمن وأخبرهم، بكلام صاحب العقار.
استدعت الأجهزة الأمنية صاحب المكتب، وأدلى بإفادتهِ، وعُرِفَ القاتلُ، الذي كان قدْ جهَّزَ نفسه لمثل هذا الاستدعاء، وكان يعتقد أنه سيُواجَهُ بتهمة دخول المنزل عنوة، وضربه لأستاذته، وأقصى ما سيناله من عقاب، سجنَ بضعة أسابيع أو شهور على الأكثر، أو غرامة مالية كترضية، ولكنه استغرب تأخر الطلب له، حتى اقتادته أجهزة الأمن للتحقيق، ووجهت له جريمة القتل العمد، لينهار عشتار من جديد، بعد معرفته بوفاة الأستاذة المتنمرة.
حُكِمَ عليه بالإعدام في أول جلسة، ثم خفِّفَ الحُكمُ عليه بعد معرفة دوافع الجريمة، ليحكم عليه بالسجن خمسة عشر عاما.

وكما قال المثل: (ربَّ كلمة قالت لصاحبها دعني)، ويماثله المثل: (ربَّ كلمة قتلت صاحبها)، فهذه الأستاذة رحمها الله، في ساعة هَزلٍ دمَّرت بتنمرها حياة طفلٍ، حمل ذلَّ تلك المسبة طيلة حياتِهِ، ودفعته للجريمة في شبابه، وأودت دون تشعر بحياتها، وهذا كما قيل في المثل: (شاةٌ تبحث عن نصلِ سِكِّيْنٍ).

وسائلٍ عَنْ أبي بكرٍ فقلتُ لهُ:
بعدَ النَّبيينَ لا تعدلْ به أحَدا
في جنَّةِ الخُلدِ صِديقٌ مَعَ ابنتهِ
واللهِ قَدْ خَلَدتْ واللهِ قَدْ خَلَدَا