عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
11

المشاهدات
1979
 
موسى المحمود
كاتب فلسطيني مميز

اوسمتي


موسى المحمود is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
670

+التقييم
0.67

تاريخ التسجيل
Aug 2021

الاقامة
الأردن

رقم العضوية
16809
08-16-2021, 09:20 AM
المشاركة 1
08-16-2021, 09:20 AM
المشاركة 1
افتراضي نساء (مجموعة قصصيّة)
"نساء"

هي مجموعة قصصية ومحاولة أدبية متواضعة قمت بتوظيفها لعرض مشاهد من واقع حياة بعض من قابلت من النساء أو من سمعت قصصهنّ من أصدقائي ومعارفي،



القصة الأولى

مساءً قبل دخول الليل حجرة النهار بنبضة، سماء رمادية ومطر يتمدّد على كل الأشياء، ريح تهمس كنايٍ مذبوح، طريق طويل تمتد على جانبيه أعمدة الضوء الخافت، شجر كثير كثيف يلوّح بأغصانه، رصيفٌ يحمل غبار أحذية من مرّوا، قمرٌ خافت يقترب من بعيد يكبر يكبر يكبر.. هو بقامةٍ كالنخل، جسدٍ متوسط، هندام أنيق بسيط تلتسق به قطرات المطر الكثيفة، عينان تملأهما قصص كثيرة نساء على مد البصر بجمالهن وظلمهن وقسوة أريجهن، يمشي ببطء كأنه على موعدٍ بفتاة قلبه، هو لم يكن على موعدٍ مع أحد، كان اسمه أحمد، مضى .. أشعل بخطواته حبات المطر الباردة، مضى أكثر .. أيقظ ورق الشجر الحالم على أغصانٍ لا تهدأ، وجد مقعداً، جلس، توضّأ قلبه بالمطر واقترف تنهيدةً ثمّ أخذ من سيجارته قبلةً غاضبة وصمت. لم تأتِ بعد، كانت هي في شرفتها، في ذات اللحظة، تعدّ واجبها المدرسيّ، الشرفة باردة، ما الذي يجبرها على هذا! ربما تنتظره؟ ربما تنتظر أحداً سواه، رجلاً سواه، مطراً سواه، حلماً سواه، تتابع واجبها المدرسيّ، تفقد التركيز في كلّ شيء، ضوء خافتٌ يتسلّق شرفة منزلهم، نام الناس جميعاً، وقفت هي تترقب قدومه، كان هو جالساً يدخّن، إشتعلت غيرتها، كيف يُقبِّلُ غيري؟ قررت أن تبتاع أملاً جديداً من سمائها الرمادية، جاء الحلم ميتاً، فاستفاقت على صرخات والدها:"حان موعد العشاء.." قالت:"وماذا عنه..؟" خطفت نظرة، كان قد رحل.



القصّة الثانية

في الصباح كانت الزهور الشتوية تقف استعدادا لاستقبال أنوثتها، مرّت أمامَ الزهور ولم تسلّم، حلّت عليها لعنة الصباح، مدخل البيت يشبه إلى حدٍ كبير بستان ورد في فصل الخريف، كلّ ما عليه ذهب مع الريح، قطّة في زاويةٍ لا تبعد خطوتين، تضمّ نفسها بحذر، تفتحُ عيناً وتغمضٌ أخرى، كأنها تنتظر، من تنتظر..؟ هي أنثى جميلة، وجهها في الصباح تفّاحة، عيناها عصفوران أخضران يحاولان النوم، شعرها مسدول على كتفيها يمتد حتى عمق أنوثتها، تتسلّقه ذرّات الماء، تداعبه الريح. مرّت ولم تلقِ التحية على أي شيءٍ حولها ما عدا جوريةً أهداها لها هو ذات يوم، إنها تكبر وتصبح أجمل، تتفتّح من أجلها كلّ صباح وتوزّع لها الشذى، هو قال هذا قبل أن يمضي، لم تكن تدرك معنى أن يرحل هو هكذا دون سابق إنذار، لكنه فعلها .. هو الآن في آخر الطريق، يراقبها من بعيد، يعلم أنها بحاجة إلى جوريةٍ أجمل، قد تكون بحاجةٍ إليه، هو لا أحد سواه، ولكنه رحل، فقط كي تكون هي بخير، أخرجت منديلها ومسحت على الجورية برفق، قبّلت منديلها، ومضت إلى العمل... هو لم يرحل بعد.



القصّة الثالثة

في حديقةٍ عامّة، يلتقي العشّاق، هو فقط من لا يلتقي بأحد، وهي في جهةٍ مقابلةٍ تنتظره منذ ثلاثين عام، لم يعد لديها شيئاً لتقوله عن الحب، المقعد الخشبيّ يمتصّ ذاكرتها بصمت، رغبتها في أن ترحل من هنا سكنت، هُنا لا أحد لتلتقي به إلاه، تنهي عملها، تمرّ بالدكّان، تشتري بعض الفستق وصندوق سجائر نسائية وبضع حبات لبان، تمضي إلى هُنا، بخطواتٍ يشبه وقعها خطوات القلب المسرعة إلى حياةٍ ما، تتأكد من عطرها، هل ما يزال غافياً في معطفها الأسود ..؟ ترتاحُ على المقعد تقضم بعض الفستق، تنهش ذاكرتها بحزن، ترمق عاشقين فتبكي، لم تتقدم بالسن كثيراً، لكن قلبها يشيخ أكثر وأكثر.
هو جالسٌ أيضاً لكنه يدرك أنها بانتظار سواه، فرّ من نفسه إليها كان خياله قد مضى إليها، جلس خياله بجانبها، ألقى التحية لم تجب! بالتأكيد لن تجيبه، هي الآن جسد وروح، وهو خيال، ترك جسده على المقعد الآخر، قرر أن يسألها: "سيّدتي.. كم الوقت..؟" إبتسمت وقالت: "ثلاثون عام".. مضى يتمتم.




القصّة الرابعة

لم تنم بعد، حجرتها الصغيرة المليئة بألوان الزهور، ستائرٌ كبساتين الورد، سقفٌ يتوسطه مصباحٌ بلونٍ أحمرٍ خافت، سريرٌ ورديّ الشراشف، ناعم الملمس، يفصلها عن الأرض بمسافة قصيرة، نافذة يطل منها البدر من خلف قطرات الماء الفضولية كأنه ينتظرها حتى تنام ليطفئ النور، هي لا تعرف النوم منذ أن غادر، تحاول النوم الآن، يربكها الماضي، تؤرقها الذكرى، هل كانت هي فتيلا أضاء الدنيا من أجله؟ أم كان هو زجاجة المصباح..؟ لم تعد قراءة الذكرى، وثبت إلى ذكرى أجمل، في فصل الشتاء يملأ المطر طرقات الحيّ، ليرسم برك الماء الصغيرة ترتوي قطرات مطر غزير لا يعرف الرحمة، كانت عائدة الى المنزل، تحمل كتب الجامعة ومراجعها الثقيلة، مظلة المطر تحاول أن تكف عنها قطرات مسرعة قاسية صلبة، تنظر قرب قدميها وتمشي مسرعة، كان هو عائدا من عمله يجرجر جسده المنهك تحت وقع المطر، بنطاله مبلل من الأسفل، كفتاه يرتشفان بعض الماء السماوي، يفكّر بكوب شاي ساخن يمنحه بعض الدفء، ارتطم جسده المنهك بكتلة أنوثة، شعر بها حين تسلل عطرها الى أنفه، عرفها .. إنها هي.
هي رفعت رأسها لتقابل بعينيها عينيه، كانت أول مره ترى فيها الشمس في عيني رجل، سقطت بين ذراعيه، سندها واعتذر، هي أيضاً حاولت لكن الصمت ألجمها، قلبها الصغير كان يردد: "أعتذر.."، لكنه لم يسمع قلبها فالمطرُ لا يهدأ وعزفه ينفرد ويعلو أكثر، غادر دون أن يترك لها عنوانه كي ترسل الإعتذار بعد أن يهدأ هذا المطر!!



القصّة الخامسة

قاعة كبيرة، تشبه المسرح، "بيانو" يتوسط المكان، وهدوءٌ يخيّم، صمت صمت صمت، هي تجلس أما البيانو، ترتدي ثوباً يرتاح على جسدها الورديّ، شعرها المنثور يغطّي كتفيها، حزنٌ يسكن عينيها، يستمر الصمت ولا يشقّه سوى أنفاسها الناعمة وتنهيدة بين الفينة والأخرى، قال لها: "سنلتقي في هذا المكان.." ومضى، هي منذ الصباح هنا، تنتظر قدومه ولم تبدأ العزف بعد، كانت تفكّر فيما لو حضر أن تبدأ العزف عند بدء اقترابه، تتخيّله - فيما لو حضر - يدخل من الباب، يرسم ابتسامةً كأنها تحية صباحية، كانت تتخيّل - فيما لو حضر - أن يمسك يدها الصغيرة، يقبّلها ثمّ يجلس قربها، ويطلب منها معزوفة أحبها، كانت تتنمى - فيما لو حضر- أن يضمّها إليه ويُنسيها عناء الإنتظار، ووجع أنين الدقائق، كانت تبتسم، وحدها، لم يحضر بعد. هو يمرّ بالمكان، لم يدخل، لا أحد بانتظاره هُنا، لماذا عليه أن يُقحم نفسه في شيءٍ لا يعنيه، أثاره هدوء المكان، أطلّ عليها، رمقها بنظرةٍ وابتسم، لم يكن هو من حضر ولم تكن هي بانتظاره.. غادر.


القصّة السادسة

هو يمرّ في المكان، الطريق ينصت لعزف الريح، يرتاح الشتاء قليلاً قبل عاصفة أخرى، جميع الأشياء مبللة بالمطر، الشمس تختفي خلف السحب، كانت السحب تعدّ لاحفتالِ مطرٍ غزير، قطة تجثو في مكان قريب، تُرْضِعُ صغارها، تموء، هو ما زال يمشي، تثيرة أجواء الشتاء، يحبّ إغفاءة المطر في السماء، تربكه الريح التي تشي بالمطر، صادفها تتكوّم باقة أنوثة على سلّم البيت، كانت تنظر إلى البعيد، تسندُ وجهها الملائكيّ على قبضة يدها الصغيرة، ترفعُ على إحدى درجات السلّم ساقاً، وتريح ساقها الثانية على الأرض، هي تعشق هذه الأرض، تحبها، تموتُ اختناقاً كلّما ابتعدت عنها، هي تحبّ الزهر والشجر والعصافير ورائحة التراب الممزوج بالمطر. إبتسم لها، صافحت عيناهُ عينيها، أخذت تحدّثه عن الأرض، كان ينصت لها ويبكي، هو ابن هذي الأرض، لكنهم في المنفى لا يسمحون بأكثر من مرور عليها، تسّربت حبات المطر من جيب السماء، عرف أنه قد حان موعد الذهاب، قالت: "إلى أين..؟" أجابها :"إلى السماء... ألا تأتين معي.؟" قالت:"أحبّ الأرض.. هذه الأرض"، نزل المطر .. ترك في قلبها قلبه، تركت في قلبهِ قلبها .. ومضى..

القصّة السابعة

كانت كثيراً ما تتحدث له عن "جودي أبوت" الفتاة الإنكليزية الحالمة بصاحب الظل الطويل، كثيراً ما تغني له:"من أنت .. يا صاحب الظل الطويل .. حلمت بالسعادة .. حلمت بالحياة .. حلمت بالسعادة .. حلمت بالحيـاة..وسدت الدروب .. واشتدت الخطوط .. فجئت من سراب .. فتحت لي الأبواب .. حملت لي العطايا .. لتزهر الأحـــــــــــــلام..وتضحك الأيام .. ياااااااااااا .. يا صاحب الظل الطويل .. أجبني من تكون .. من أنت من تكون أشعلت بدربي الشمعة..حتى مسحت الدمعة .. فمن تكـــــــــــــــون .. من تكــــــــــــــــــــون .. أجبني من تكون .. من أنت من تكون آآآآه..يا صاحب الظل الطويل .. يا صاحب الظل الطويل"
كان ينصت لها باستغراب، لكن كلمات الأغنية تشدّه، وكأنها تتحدث عنه هو، وهي فعلاً تشبه "جودي" في جمالها وشقاوتها ومغامراتها ولطفها وأنوثتها البريئة، عندما سافر، توسّلت إليه أن يعود قريباً ليأخذها معه. بعد أعوام طويلة، هاتفها وأخبرها بأنه عائد، فاتفقا على اللقاء في ذات المكان على ذات المقعد الخشبي في ظلّ أغصان الصفصافة العجوز، وصل إلى المكان وأخذ يتخيّل شكلها، شعرها الكستنائيّ ذو الجديلتين، وجهها الملائكي المليء بالحيوية، عيونها الخضر، شقاوتها، أناقتها، عذوبة حضورها وسحر حديثها، هل يا ترى ما تزال تذكر "جودي"..؟ هل ما زالت تشبه "جودي" .. كانت تحب أن يناديها باسم "جودي"، جلس يتخيل المشهد اللحظي حين تهم بالخروج من البيت للقائه، تمشّط شعرها، ترتدي أجمل ثيابها، تلفّ وشاحها حول عنقها، تمشي مسرعةً إليه، تمشي سعيدة إليه، تداعب أوراق الشجر، تلهو مع القط العجوز، تضحك تضحك تضحك .. تسرع الخطى، تهدي الدنيا ابتسامات بريئة، تصل إلى المكان وكالعادة تتسلّق قامته الطويلة، تتعلّق بكتفيه وتصيح: "اشتقت لك كثيراً.... أيها المجنون...!". أفاق من حلمه على صوت نسائي يقول: "مرحبا .. حمداً لله على سلامتك" كانت هي لكنها كبرت، صارت أنثى هادئة، ثيابها هادئة، وقفتها هادئة، صوتها هادئ، شعرها هادئ، حديثها هادئ، شوقها .. حبها .. لهفتها .. كل شيء هادئ .. كبرت هي .. ولكن "جودي أبوت" ما زالت تنتظره في عينيها الجميلتين.

القصّة الثامنة

كانت تمرّ عبر مدخل الجامعة، كانت تسرع المشي متوجهة إلى قاعة المحاضرات، أجواء خريفية تحيط بها، أوراق الشجر منها ما يزال متمسكاً بأغصان الشجر ومنها ما سقط واستراح على الأرض، يزعجها التفكير في ردة فعله عندما تستأذنه بالدخول إلى القاعة، "ماذا سيقول اليوم يا ترى؟ قد يأمرني بالخروج وانتظاره في مكتبه كالعادة، ثم ينهال علي بالنصائح والمواعظ التي تسبب لي الصداع، قد يوبّخني أمام الطلبة، وليكن! ليته يضربني ولكن لا يحرمني من فرصة جديدة لتأمّل وجهه الجذّاب وهو يلقي محاضرته علينا، كأنه يؤدّي أغنية تطربني، بل وكأنه يتلو قصيدة حبٍ نزارية، هذا ما أشعر به فعلاً حين يبدأ هو بالحديث، ليته لا يطردني .. يا رب.." تقرأ تعاويذها الصباحية المعتادة وهي تسرع إلى القاعة، ثم عندما وصلت كان الباب موصداً، طرقته مرّة واحدة ثمّ انتظرت أن يأتي صوته من الداخل، لم تسمع شيئاً بعد، طرقت الباب مرّة أخرى أقوى بقليل، وانتظرت لتسمع صوته، لم تسمع شيئاً، همّت بفتح الباب، لتفاجأ به خلفها:"صباح الخير يا آنسة، أنتِ متأخّرة إذن؟" كان هو.. لم يعطها فرصة للرد وأردف قائلاً:"لا عليكِ .. فأنا أيضاً تأخرت .. ولهذا لن أعاقبك بالطرد .. تفضّلي .." كان لبقاً، مبتسماً، أنيقاً.. كأنه يدعوها لاحتساء فنجان قهوة في إحدى مقاهي المدينة الهادئة، لم تصدق نفسها، قالت:"شكراً لك أستاذي .. أوافق" نظر إليها مستغرباً وقال:"موافقة على ماذا يا آنسة..؟" وقتها فقط استيقظت من حلمها القصير .. "أرجوك اعذرني فقد اختلطت عليّ الأمور..!" دخل القاعة .. وهي تتبعُه بابتسامة عريضة .. وقلبٍ يخفق...

القصّة التاسعة

في حانة صغيرة، تعوّد هو أن يقضي ليله الطويل فيها، يحتسي الخمر مع رفاقه، ثمّ يستمعون إلى الغانيات يؤدّين حفلات غنائية متتابعة لا تنتهي أبداً إلا عندما يشقشق الصبح، اليوم كان ثملاً لدرجة كبيرة، رقص كثيراً، لعب كثيراً، غنّى كثيراً، بعادته لا يقترب من النساء، يحب أن يقضي ليلته بعيداً عن الفاحشة، كان في غاية السعادة، يضحك بصوتٍ عالٍ، ويخبر الرفاق عن أحداث الأسبوع الكثيرة التي مرّت به. كانت هي تعدّ الكؤوس لهم، تقف صامتة، تسكب الخمر، ولكنها لا تطلق ضحكات عاهرة كالأخريات، لا تكشف الكثير من تضاريس جسدها الأبيض، ولا تنحني أكثر من حاجتها لسكب الخمر في الكؤوس، شدّه حضورها اللطيف الهادئ، كأنها ليست من هذا المكان، كأنها ضيفة عابرة، كأنها لا تعمل هنا أو أن هذه أولى ساعات عملها في عالم الحانات، نهض وانتصب، أطلق سهام عينيه نحوها، قال:"يا حلوه .. هل تعملين هُنا..؟" تفاجأ رفاقه منه، فهذه هي المرة الأولى التي يتحرش فيها بفتاة في الحانة! قالوا: "ما بك ..؟ إنها فتاة عادية ..! ما الذي أعجبك فيها لتكسر قاعدتك!" لم يعرهم انتباهه، ثمّ كرّر السؤال عليها .. لم تجب والتزمت الصمت، ثمّ ابتعدت عنهم، لحق بها حتى استقرّا في مكان هادئ، ثم سألها من جديد: "يا آنسة .. هل أنتِ تعملين هنا من مدة طويلة؟" قالت: "وماذا يهمّك..؟" قال: "دفعني فضولي لأستفسر منكِ، فأنتِ لستِ مثل الأخريات!" قالت: "نعم أنا لستُ مثلهنّ..صدقت" قال: "ولكن كيف..؟" قالت: "هنّ عاهرات .. وأنا طالبة في كلية الطب!"


القصّة العاشرة

"أمّي .. لا أريد الذهاب إلى عيادة الأسنان، أرجوكِ يا أمّي فأنا أخاف من ذلك الكرسيّ المتحرّك ومن صوت جهاز نخر الأسنان المرعب! ولن أذهب وحدي، أرجوكِ اذهبي معي" كانت هي تردد هذه العبارة، تتوسل لوالدتها بأن لا تأخذها معها إلى طبيب الأسنان.. قالت الأم: "حبيبتي .. هذا طبيب آخر، يقولون أنه ماهر جداً، جرّبي فقط هذه المرّة، عليكِ أن تعالجي ضرسك وإلا تفاقمت المشكلة ..!" عندما دخلتا إلى الطبيب، كان شاباً وسيماً، عيناه جميلتان، عميقتان، وجههُ يشعّ نوراً، يرتدي "لابكوت" ناصع البياض، على وجهه ارتسمت ابتسامة عذبة حانية، ظلّت هي تنظر إليه، نسيت وجع ضرسها، وتوجّهت إلى الكرسي الكهربائي بكامل إرادتها، جلست أمّها على مقعد قريب منها، وبدأ هو بسؤال:"صغيرتي.. هل لكِ أن تخبريني عن مكان الألم..؟" .. صمتت قليلاً وهي تفكّر: "كيف ينعتني بالصغيرة ..؟ هل عميت عيناه عن تضاريس جسدي الجميل؟؟" أجابته: هُنا .. وهي تشير بإصبعها إلى الضرس.. هزّ رأسه وابتسم ثمّ أمرها أن تسترخي حتى لا يشتد الألم أكثر بسبب التوتر .. أمسك آلة النخر، وأدخلها في فمها، وبدأ يتحدث معها أثناء عملية المعالجة، كان صوت الآلة مزعج جداً، لكنها لم تسمع سوى صوته هو، سألها عن جامعتها، عن تخصصها، عن أحلامها، عن كل شيء ولم يسألها عن عمرها ولم يسألها عن سرّ جمال عينيها، كانت تستمع إليه وتجيب كالتلميذة النجيبة، ولم تشعر بالوقت الذي مرّ ولم تشعر بألم آلة النخر، أنهى العملية، قال لها : "حمداً لله على سلامتك صغيرتي.. الآن أنتِ جاهزة للمرحلة الثانية من العلاج .." تنهّدت أمّها وقالت: "أتمنى أن تحضر المره القادمة .. لن أعدك!" ابتسم الطبيب وقال: "بلى .. سوف تحضر .. لنكمل الحديث .." ثمّ التفت إليها وقال: "أليس كذلك ..؟" فأومأت بالقبول. بعد أيام عادت هي وحدها إلى العيادة، كانت تضع أحمر شفاه، وبعض الكحل يزيّن عينيها، ترتدي أجمل الملابس، وتبرز أنوثتها أكثر .. دخلت عليه، ألقت التحية، ردّ عليها وأمرها بالجلوس على الكرسيّ الكهربائي، أطاعته، أمسك آلة النخر من جديد، وبدأ عمله بصمت، لم يتحدث معها، بقي صامتاً طوال وقت العملية، وبعد أن أنهى عمله ابتسم لها وقال: "آنستي .. انتهت العملية ..."
همّت بالخروج، فاجأها بسؤاله قائلاً: "بالمناسبة عيناكِ جميلتان .. كم عمرك ..؟"

القصّة الحادية عشر

هذه المدينة جميلة وهادئة في الصباح الباكر، منظر البحر الأزرق من بعيد يمنحني شعوراً بالإرتياح، هنا أتنفس بعمق، أخطو برشاقة وأبحث بعيوني عن أشياء فريدة، أدخل محال بيع التحف التراثية، ولكنني لا أشتري شيئا لأن الأسعار سياحية بل جنونية.

تجلس على كرسي خشبي، أمامها مباشرة طاولة خشبية وعلى الطاولة تستقر أوعية فخارية مملوءة بالرمل، كل وعاء مملوء بكمية كبيرة من الرمل وبلون يختلف عن الرمال في الأوعية الأخرى، وهنالك الكثير من القوارير الزجاجيه المملوءة بالرمال ولكن بشكل جميل وكأن الرمال شكلت ملامح لوحات فنية تراثية رائعة، ألقيت التحية على الفتاة صاحبة المحل وطفقت أتأمل هذه اللوحات الجمالية الآسرة، لفت انتباهي أن بعض القوارير تحوي حروف لأسماء أشخاص، أسماء نساء ورجال أيضا، منقوشة باللغة الأجنبية، لفت انتباهي أيضا صندوق كرتوني مليء بالقوارير التي تحمل أسماء ولكنها تحمل نفس الإسم.."شادي".

دفعني فضولي لأن أسألها:"عفواً يا آنسة! هل هذه القوارير لشخص واحد فقط؟؟! ولماذا طلب منك صنع الكثير منها؟ هل هو أحد المترشحين للبرلمان ؟" أضفت مازحا.. هزت رأسها وقالت: "لا..هي ليست للبيع..ولكنني أصنع كل يوم قارورة لحبيبي الغائب وأضعها هنا..أحاول التخلص من هذه العادة ولكن دون جدوى" سألتها:"ولكن ما هي قصته؟" قالت: "تعرفت عليه في الجامعة، كنا زملاء دراسة في قسم فنون جميلة، أحببته كثيرا وهو أيضاً أحبني أكثر، كنا كل يوم نجلس في المرسم ونتشارك في رسم الرمال داخل القوارير الزجاجية ونهديها للزملاء والزميلات، ننقش بالرمل أسماءهم أو رسومات يقومون هم باختيارها..بعد أن تخرجنا سافر هو إلى روما ليكمل تعليمه العالي وأنا أنتظره هنا وقد امتهنت هذه المهنة منذ أن انقطعت رسائله قبل ثلاثة أعوام." بدت لي قصة خرافية أو شيء يشابه دراما تركية رومنسية! قلت لها:"ولكن..هو سافر..ولم يعد إليك..تركك للإنتظار ولهذا الحنين..ألا تحاولين نسيانه؟!!!" قالت: "بلى..إنني أحاول نسيانه منذ زمن..حتى أنني قررت اليوم أن لا أصنع له قارورة رمل..سأرسم لك واحدة باسمك .." ضحكتُ كثيراً حتى أن المارّة لاحظوا ضحكاتي الجنونية، أردفتْ:"وما الذي يضحكك يا أستاذ؟" أجبتها ضاحكاً:"آنستي الجميلة هل تعتقدين أن التوقّف عن محبّة شخص ما يكون بالتوقف عن انتظاره والحنين إليه؟؟!" قالت:"أجل! سأنساه..يجب أن أنساه.. لقت تعبت منه..إن حبه يلاحقني دائما..لم أعد أستطيع الصمود أكثر..على أن ألتفت إلى مستقبلي وحياتي والأمل القادم..سأنساه..سأنساه ..أجل أجل..." أخذت تحرك ذراعيها وكأنها تبحث عن شيء ما، بدت متوترة، بل غاضبة، ثم أمسكت بأنبوب طويل في قمته شكل مخروطي وأمسكت بإحدى القوارير وقالت:"ما اسمك؟" أجبتها:"مروان" بدأت تعمل بشكل ملفت جميل وسريع، تملأ القارورة بالقليل من الرمل الأزرق، ثم تدخل شيء يشبه الإبرة .. ثم تعاود سكب بعض الرمل الأحمر .. والأبيض .. وهكذا.. أخذت تحدثني وكأنها تبرر لي سبب تعلقها بشادي..
: "إن الفتاة يا سيد مروان لا تمنح قلبها بسهولة، ولكنها إن فعلت فاعلم أنها منحت روحها وعقلها لمن تحب.. إن المرأة الوفية قد تمضي العمر كله تنتظر حبيبها الغائب حتى يعود..إنها ترسم في خيالها عالماً مزهراً يجمعهما معاً رغمَ ما يحيط بها هي من ظروف قاسية، إن المرأة حين تحب تعطي كل ما تملك لحبيبها، وتسعى جاهدة للبقاء قربه، كيف لي أن أفسر حالتي لك؟ أنا لا أملك تفسيرا منطقيا لها..!
الغريب بالأمر أنني قد أنسى صديقة، زميل، زبون أو حتى قريب.. ولكن شادي ما زال يستحوذ على قلبي وتفكيري..أتعبني غيابه اللامبرر..لهذا قررت أن أنساه ولن أرسم اسمه بعد اليوم.."
أنهت الرسم في القارورة الزجاجية ثمّ قدمتها لي ..
لم يكن اسمي ما قرأته داخلها..ضحكتُ .. بكيتُ .. غصّت روحي
ومضيت..


القصّة الثانية عشر

أوصلوها إلى الشرفة، ترتدي فستاناً أحمراً، عِطرُها يجولُ في المكان، وجهها الأبيض المتلألئ يعكسُ ضوء الشمس فيمنح لأواني الورد بعض الدفء والكثير من النور، على زنّار الشرفة تمتدّ أواني الورود تشاركها المكان، وتنتظر معها قدومه. هو في طريقه إليها، يرتدي شوقه ويتنفّسُ حنينه وكلماتٍ يردّدها مع مطربه المفضّل المنبعث صوته من سمّاعات المركبة، توقّف عند آخر إشارة ضوئية تفصله عن بيتها، أقبلت إليه فتاة صغيرة، وجهها شاحب، وعيناها جميلتان، تسوّلت بعض نقوده، ومضت. هي تحتسي قهوة الصباح وتناغي عصفورها الملوّن، أطفال الحيّ يلعبون في الأسفل، يطلقون البراءة إلى الأعلى بأصوات ناعمة مفعمة بالأمل. وصل إلى بيتها، سمعت صوت هدير مركبته، إشرأبّ عنقها تحاول أن تراه على الطبيعة، عامان وهذا الحلم يراودها، علاقتهما الإفتراضية ستتحول بعد قليل إلى علاقة واقعية، وهذا الحبّ الساكن قلبها سيرتوي من عينيه الحياة والديمومة. رنّ جرس هاتفها، أخذته عن حافة الشرفة، أخبرته برقم الشقة، وغابت في الإنتظار. صعد إلى الشقة رقم ... طرق الباب، تأخّرت قبل فتح الباب، لكنها أخيراً أشرعته لينظر إليها على كرسيّها المتحرّك، حدّق بها، تفاجأ بها، صُدِمَ بها، فُجِعَ بها، ألقى تحيّة الوداع .. ثمَّ رحل.

القصّة الثالثة عشر

أنهت كتابة مذكراتها لهذا اليوم ثمّ أغلقت الدفتر، يتسلل ضوء الشمس إلى حجرتها من خلال نافذة صغيرة، ستائر بيضاء تحاول حجب ضوء الشمس، مكتب خشبي يستقر في الزاوية، تجلس هي خلفه على كرسيّ خشبي بنيّ اللون، بدأت الشمس تغيب، ومع غيابها يتحوّل لون الحجرة من الأصفر الفاقع إلى البرتقاليّ الداكن، شيئاً فشيئاً يحتلّ الظلام هذا النهار، وضعت ذراعيها خلف رأسها، ثمّ أراحت ظهرها على الكرسيّ، تنفّست بعمق.. مرّ في مخيّلتها، تذكر ملامحه بدقّة، أسمر البشرة، ممشوق القامة، أنيق، مهذّب الملامح، دافئ الصوت، عميق العينين، جنونيّ الحب، في البقالة صادفته يبتاعُ تبغاً ويتحدّث للبائع عن أحوال البلد، كانت تقف خلفه تتظاهرُ بانتظار أن ينهي حديثه، إلا أنها وفي قرارة نفسها تتمنى أن يطيل الحديث، وأن يطيل الوقفة، وأن لا يرحل، صوته يملأ روحها بالدفء، وحضوره يرهق قلبها الشغوف المنتظر.. إلتفت إليها واعتذر عن تأخيرها، شكرته بابتسامة ومضى، ظلّت تذهب إلى البقالة فقط من أجل أن تنعم بفرصة لقائه، لكنه لم يأتِ، كانت بأمس الحاجة إلى صوته وحضوره، رغم أنها لا تعرفه ولا تعرف اسمه حتى! لكن شيئاً ما جذبها إليه. أعادت ذراعيها مشبّكةً أصابع كفّيها وواضعة إياهما على الدفتر .. أقسمت لنفسها أنها سوف تلتقي به اليوم .. أقسمت لنفسها أن الصدفة لا بد أن تتكرر، إرتدت ملابسها، أغلقت حجرتها، هبطت إلى الطابق السفلي من المنزل بخطوات بطيئة، تتخيّل مشاهد الصدفة التي لم تأتِ بعد، فتحت الباب، كان بانتظارها، شهقت : أنت...؟



التعديل الأخير تم بواسطة موسى المحمود ; 08-16-2021 الساعة 10:00 AM سبب آخر: إضافة مزيداً من النصوص