عرض مشاركة واحدة
قديم 02-17-2024, 02:57 AM
المشاركة 4
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: كتاب فِـقْـــه السُـنّة في النجاة من الفتن وأحداث آخر الزمان

الفصل الأول
كيف نعود إلى الله؟


عندما يفقد الإنسان الطريق الحقيقي لهدفه في الدنيا أو يجهل قيمتها الدنيا، والهدف منها في الأساس، تحت مختلف الدوافع.
ثم تأتيه كلمة، أو عبارة أو حادثة فردية، أو شخص ما، تكون الإشارة هنا دافعا للحيرة والتفكير
والحيرة وعلى الرغم من قسوتها البالغة.
إلا أنها بداية طريق العودة ... لكن كيف نعود ؟!.
الحيرة في إجابة السؤال يغلفها الخوف الرهيب من أن نخطئ طريق النجاة، فالمسالك متشابكة، والأكمة غير واضحة المعالم
ونحن سائرون يأخذنا الاضطراب، ولا طريق هنا إلا البحث عن العلم الصحيح، والعلم الصحيح لا يكون إلا بدليل صحيح، والدليل الصحيح لا يحقق الفائدة إلا إذا كان معه الفهم الصحيح.
العلم، لأنه لا هُدَى بسواه، والدليل الصحيح والفهم الصحيح لا يكون إلا بما نسمعه من العلماء الربانيين الملتزمين بالقرآن وصحيح السنة بعيدا عن هلاوس البدع والخرافات والجماعات والتحزبات

العلم والبحث هو الضرورة
في ظل عالم من حولنا يكاد يُـفصح علانية عن ضلاله بعد أن تفرق البشر أشتاتا وجماعات، مصداقا لقول الرسول عليه والسلام:
(افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة
قيل: من هي يا رسول الله؟
قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي. وفي بعض الروايات: هي الجماعة.)

وقد رأينا مئات الفرق والجماعات التي استغلت هذا الحديث فَكَوّنت لها فريقا مختلفا عن عموم المسلمين واتخذوا لأنفسهم مظهرا ومنهجا يتميزون به عن عوام الناس، ووصفوا أنفسهم بالفرقة الناجية!
بينما الفرقة الناجية في صُلب الحديث مرهونة بعموم المسلمين والبسطاء الذين يعبدون الله على عقيدة العوام، دون إفراط أو تفريط متبعين في ذلك ما اتفقت عليه كلمة علماء وفقهاء العصور الأولي في العقيدة السُنّية، وهم السَوَاد الأعظم الذين جمعهم الله على الهدى في العصور الأولى وكل من يتبعهم ممن جاء بعدهم فله مفهوم (الجماعة) وله مفهوم (السواد الأعظم) ولو كان وحده.
يقول الإمام (ابن القيم):
(وكان "محمد بن أسلم الطوسي" الإمام المتفق على إمامته مع رتبته أتبع الناس للسنة في زمانه حتى قال:
"ما بلغني سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عملت بها ولقد حرصت على أن أطوف بالبيت راكبا فما مكنت من ذلك"
فسُئل بعض أهل العلم في زمانه عن السواد الأعظم الذين جاء فيهم الحديث إذا اختلف الناس فعليكم بالسواد الأعظم فقالوا عنه:
"محمد بن أسلم الطوسي هو السواد الأعظم، وصدق والله فإن العصر إذا كان فيه عارف بالسنة، داع إليها، فهو الحجة، وهو الإجماع، وهو السواد الأعظم، وهو سبيل المؤمنين، التي من فارقها واتبع سواها ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا.")
وقول العلماء عن (محمد بن أسلم) أنه وحده يمكن اعتباره السواد الأعظم جاء نتيجة لما عُرِف عنه من شدة اتباعه للسنة، ووقوفه عليها.

هؤلاء هُم الجماعة، وهؤلاء جميعا هم أهل السنة الذين وصفهم الإمام (ابن تيمية) بأنهم لا يتخذون لأنفسهم سَمْتا معينا أو طريقة مخالفة
الجماعة ببساطة هي المفهوم الذي يشمل كل مسلم شهد الشهادتين وآمن بالله ورسوله عليه الصلاة والسلام، وأقر بصفات الله تعالى كما وردت في القرآن والسنة دون تحريف أو تأويل، وأحَل الحلال وحَرّم الحرام، وأحب الصحابة وآل البيت معا وأخذ العلم بالدليل لا بالرجال، وابتعد عن كافة الأحزاب والجماعات التي تتخذ لنفسها أسماء وأوصاف عديدة، والتزم فقط بالوصف الصحيح وهو (المسلم السُني)
بلا أي ألقاب إضافية، أو مسميات إضافية سواء كانت مسميات دينية أو علمانية، .... الخ
يدل على ذلك أقوال الصحابة وما اتفق عليه أهل العلم، ومنه قول ابن (ابن حزم) رحمه الله:
(وأهل السنة الذين نذكرهم أهل الحق ـــ ومَن عداهم فأهل البدعة ــ فإنهم الصحابة رضي الله عنهم، وكلُّ مَن سَلَكَ نهجهم من خيار التابعين رحمهم الله تعالى، ثم أصحاب الحديث، ومَن اتَّبعهم من الفقهاء، جيلاً فجيلاً إلى يومنا هذا، ومَن اقتدى بهم من العوامِّ في شرق الأرض وغربها)
وقال الإمام (الترمذي):
(وتفسير الجماعة عند أهل العلم هُم أهل الفقه والعلم والحديث)،
وقال (عبد الله بن مسعود) رضي الله عنه:
(الجماعة ما وافق الحق ولو كنت وحدك)
ومختصر النتيجة التي نفهمها من تلك النصوص أن الجماعة هو ما كان عليه الصحابة عليه السلام في الاعتقاد وأركان الإيمان والثوابت، ومجموع أقوال علماء أهل السنة عبر القرون في شأن الفقه والأحكام، ومعهم من سار على دربهم من المعاصرين.

وقد جاء حديث نبوي شريف جامع، احتوي على القاعدة العامة لنجاة أي مسلم واشتمل على استراتيجية نبوية تكفل وصايا النجاة وتشرح أفعالها ونواهيها،
فقال النبي عليه الصلاة والسلام:
(إنَّ اللَّهَ أمرَ يحيى بنَ زَكَريَّا بخمسِ كلماتٍ أن يعملَ بِها، ويأمرَ بني إسرائيل أن يعمَلوا بِها، وإنَّهُ كادَ أن يُبْطِئَ بِها فقال عيسى:
إنَّ اللهَ أمَرَك بخَمسِ كلماتٍ؛ لِتَعمَلَ بها وتَأمُرَ بَني إسرائيلَ أن يَعمَلوا بها، فإمَّا أن تَأمُرَهم، وإمَّا أنْ آمُرَهم،
فقال يحيى:
أخشى إن سبَقتَني بها أن يُخسَفَ بي أو أُعذَّبَ.
فجمَع النَّاسَ في بيتِ المقدِسِ، فامتَلَأ المسجدُ وقعَدوا على الشُّرُفِ، فقال:
"إنَّ اللهَ أمَرني بخَمسِ كلماتٍ أن أَعمَلَ بِهنَّ، وآمرُكم أن تَعمَلوا بهنَّ: أوَّلُهنَّ أن تَعبُدوا اللهَ ولا تُشرِكوا به شيئًا، وإنَّ مَثلَ مَن أشرَك باللهِ كمثَلِ رجلٍ اشترى عبدًا مِن خالصِ مالِه بذهَبٍ أو ورِقٍ، فقال: هذه داري وهذا عمَلي، فاعمَلْ وأدِّ إليَّ، فكان يعمَلُ ويُؤدِّي إلى غيرِ سيِّدِه، فأيُّكم يَرضى أن يكونَ عبدُه كذلك؟!
وإنَّ الله أمركم بالصَّلاة، فإذا صَلَّيتُم فلا تَلتَفِتوا؛ فإنَّ اللهَ يَنصُبُ وجهَه لوجهِ عبدِه في صلاتِه ما لم يَلتفِتْ، وآمرُكم بالصِّيامِ؛ فإنَّ مَثلَ ذلك كمثَلِ رجلٍ في عِصابةٍ معَه صُرَّةٌ فيها مِسكٌ، فكلَّهم يَعجَبُ أو يُعجِبُه ريحُها، وإنَّ ريحَ الصَّائمِ أطيبُ عندَ اللهِ مِن ريحِ المسكِ،
وآمرُكم بالصَّدقةِ؛ فإنَّ مثَلَ ذلك كمثَلِ رجلٍ أسَره العدوُّ، فأوثَقوا يدَه إلى عنُقِه، وقدَّموه لِيَضرِبوا عُنقَه، فقال: أنا أَفْديه منكم بالقليلِ والكثيرِ، ففدَى نفسَه منهم،
وآمُركم أن تَذكُروا اللهَ؛ فإنَّ مَثلَ ذلك كمَثلِ رجلٍ خرَج العدوُّ في أثَرِه سِراعًا حتَّى إذا أتى على حِصنٍ حَصينٍ، فأحرَز نفسَه منهم، كذلك العبدُ لا يُحرِزُ نفسَه مِن الشَّيطانِ إلَّا بذِكْرِ اللهِ".
قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم:
وأَنا آمرُكُم بخَمسٍ اللَّهُ أمرَني بِهِنَّ، السَّمعُ والطَّاعةُ والجِهادُ والهجرةُ والجمَاعةُ، فإنَّهُ مَن فارقَ الجماعةَ قيدَ شبرٍ فقد خلَعَ رِبقةَ الإسلامِ من عُنقِهِ إلَّا أن يراجِعَ، ومن ادَّعى دَعوى الجاهليَّةِ فإنَّهُ من جُثى جَهَنَّم، فقالَ رجلٌ: يا رسولَ اللَّهِ وإن صلَّى وصامَ؟ فقالَ: وإن صلَّى وصامَ، فادعوا بدَعوى اللَّهِ الَّذي سمَّاكمُ المسلِمينَ المؤمنينَ، عبادَ اللَّهِ)

والحديث السابق ــ كما رأينا ــ يمثل دستورا واضح الملامح لكل من أراد النجاة سواء في عصر الفتن أو غيره، ونلاحظ فيه أن وصايا النبي عليه السلام شَدّدَت على عدم اتباع (دعوى الجاهلية)
ودعوي الجاهلية تعني كل دعوة تدعو الناس إلى التفرقة أو التميز أو إلى الفتنة، أو إلى الصراع والاقتتال في نصرة المذاهب والأشخاص لا نصرة الحق، ودعوى الجاهلية لما بها من فتنة جعلها النبي عليه السلام في قمة أوامر النهي
وأكدها في حديث آخر حيث قال:
(مَن خرج من الطاعةِ، وفارق الجماعةَ، فمات، مات مِيتةً جاهليةً،
ومن قاتل تحت رايةٍ عَمِيَّةٍ، يغضبُ لعَصَبِيةٍ، أو يَدْعُو إلى عَصَبِيَّةٍ، أو ينصرُ عَصَبِيَّةً، فقُتِلَ، فقَتْلُه جاهليةٌ، ومَن خرج على أمتي يَضْرِبُ بَرَّها وفاجرَها، ولا يَتَحاشَا من مؤمنِها، ولا يَفِي لِذِي عُهْدَةٍ عَهْدَه، فليس مِنِّي، ولستُ منه)

ولا شك أن فحوى الحديث الشريف قد تحقق في زماننا بوضوح كامل، فخرجت تلك الجماعات التي ادعت أنها تمثل جماعة المسلمين ورفعوا السلاح على عوام المسلمين في كل أرض, وتعددوا في مسمياتهم وبلغوا عشرات الفرق بمسميات ومظاهر مختلفة, لا يدعون إلا لأنفسهم، ولا يغضبون إلا لجماعتهم، وكانوا سببا مباشرا في زيادة التحريض على الثوابت والقرآن والسنة، بعد أن منحوا الفرصة لكل متربص بالدين أن يتهم الإسلام بالإرهاب ويستدل بأفعالهم، بعد أن أعادوا تاريخ فرقة (الخوارج)، والتي كانت أول فرقة خرجت في الإسلام، وانتشر شَرّها قرونا طويلة وكان هذا الشر موجها فقط ناحية المسلمين كنتيجة مباشرة لكونهم كَفّروا الصحابة وسائر المسلمين منذ زمن (عثمان) رضي الله عنه، وكانوا هم الذين قتلوا الإمام (علي بن أبي طالب) رضي الله عنه.

كذلك شَدّد النبي عليه السلام في حديث الوصايا السابق ذكره، على التزام جماعة المسلمين، وعدم المفارقة، وهذا بالطبع إن كان للمسلمين إمامٌ وجماعة، لأنه في حالة افتراق الأمة فقد شرع الله الاعتزال وحض عليه، وذلك بموجب الأحاديث والوصايا التي وردت عن النبي عليه السلام فيما يخص كيفية تعامل المسلم مع زمان الفتنة والفرقة.

ومنها وصية النبي عليه الصلاة والسلام عندما سأله الصحابي الجليل (حذيفة بن اليمان) ماذا يفعل إذا لم يكن للمسلمين إمام ولا جماعة وانتشرت الفرق والتحزبات؟
فقال النبي عليه السلام:
(تلزم جماعة المسلمين وإمامهم
فقال حذيفة:
فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام
قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)

ولذلك قال (نعيم ابن حماد) مقولة عَـبّرت عن هذه الوصية وتُغني كل مسلم، عندما قال:
(إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد وإن كنت وحدك فإنك أنت الجماعة)
وهي مقولة بالغة العمق والدلالة، لأنه في زمن الفتنة والفرقة لا يكون الاحتجاج بما صارت عليه جماعة الناس في زمن الفتنة، وما انتشر فيه من أنواع التفرق والمعاصي.
بل العبرة بمفهوم (الجماعة) في زمن الفساد هو ما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد، وما كان عليه المجتمع قبل أن ينتشر هدم الثوابت.
فإذا التزم أي إنسان بما كان عليه الناس وقت صلاحهم واجتماعهم على إنكار المنكر، فهو عندئذ يستحق وصف (الجماعة) ولو كان منفردا بنفسه عن سائر المجتمع.
وهذه المقولة ذاتها هي التي طبقها الإمام (أحمد بن حنبل) في فتنة (خلق القرآن) عندما نشر الخليفة العباسي (المأمون) أقوال فلاسفة اليونان التي ترجمتها فرقة (المعتزلة)، وفرضوها على الناس وجعلوها في مقام الأحاديث النبوية بالإجبار والقوة، ومن رفض منهم كان مصيره الحبس أو القتل.
فاستسلم معظم العلماء وعامة الناس للمنهج المعتزلي الجديد المخالف لأصول السنة الصحيحة تحت قهر الخوف ولم يبق أحدٌ على منهج السنة الصحيحة إلا (أحمد بن حنبل) وعدد محدود من الأشخاص منهم العلامة (أحمد بن نصر الخزاعي) الذي قتله الخليفة العباسي (الواثق) في نفس الفتنة
وأصر الإمام (أحمد بن حنبل) على القول بمنهج السنة رغم أنهم حبسوه، وعذبوه، وكان عوام الناس ينتظرون رأي ابن حنبل في القضية كي يتبعوه.
وعندما مات (المأمون) وجاء (المعتصم) فَعَذّب الإمام (أحمد) لكي يستسلم لأقوال المعتزلة واحتج عليه بأنه الوحيد الباقي الذي لا يقول بقول المعتزلة وأنه يجب عليه الرضوخ لرأي الجماعة.
هنا رفض ابن حنبل هذا المنطق، وقال بمقولة (نعيم بن حماد) وهي أن مفهوم (الجماعة) إنما ينصرف إلى اجتماع الناس علي الحق لا عندما يجتمعون على الباطل.

فالأمر واضح وصريح وبالغ البساطة،
فطالما أننا عشنا زمن الفتن، ورأينا التشرذم والتفرق، فليس أمام المسلم الصادق إلا أن ينفذ ما أوصي به النبي عليه السلام في اعتزال كافة الفرق دون استثناء
خاصة وأن النبي عليه السلام أنذرنا بوعيد شديد، من عواقب اتباع الأهواء والتفرق، فقال:
(إن بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، فكسروا قسيكم، وقطعوا أوتاركم، واضربوا سيوفكم الحجارة، فإن دُخِل على أحدكم فليكن كخير ابني آدم)

وخير ابنيْ آدم هو هابيل الذي رفض أن يبسط يده لقتل أخيه، رغم أن أخاه بسط يده لقتله، فنجا هابيل وتقبل الله قربانه وكان أول شهيد على الأرض.
ومعني الأمر النبوي أن يحرص الإنسان في زمن الفتن على السلامة والعافية ما استطاع، ولا يتدخل في الصراعات اللامنطقية الزاعقة من حوله، ولا يتقدم لحرب ليس له بها شأن مباشر، لأن صراعات المجتمع في آخر الزمان وفي الفتن ستكون في مجملها إما منافسة في الباطل أو صراعات بين باطل وباطل، لا باطل وحق
ولولا ذلك ما قال النبي عليه السلام في الحديث السابق (فإن دُخِل على أحدكم فليكن كخير ابني آدم).
وليست هذه دعوى للخنوع أو للوقوف السلبي في مواجهة الظلم مثلا،
فإن المُدافع عن حقه المُغتصب هو في حُكْم المجاهد، ولو مات في سبيل الدفاع عن حقه وماله فهو شهيد بموجب حديث النبي عليه الصلاة والسلام.
(منْ قُتِل دُونَ مالِهِ فهُو شَهيدٌ، ومنْ قُتلَ دُونَ دمِهِ فهُو شهيدٌ، وَمَنْ قُتِل دُونَ دِينِهِ فَهو شهيدٌ، ومنْ قُتِل دُونَ أهْلِهِ فهُو شهيدٌ)
لذلك فإن مقتضي الحديث لا يدعو للخنوع أو الوقوف السلبي في مواجهة الاعتداء على الحق الشخصي.

بل للحديث موضوع آخر تماما وهو مسألة إقحام الإنسان نفسه في المنافسة والصراع على الدنيا في أزمنة الفتن، فإذا كان الطموح في زمان الخير كان يتطلب من المرء أن يبذل جهده، وينافس أقرانه ويسعى لحصد المكاسب المشروعة لتحسين حياته.
فإن هذا الطموح نفسه في أزمنة الفتن لا يصبح مشروعا أو مضمونا، لأن اختلاف مقاييس المكاسب في زمان الفتن يكون مختلفا اختلافا تاما.
فالطموح في زمان كزماننا لم يعد هو الوصول للدرجات العلمية العليا، ولم يعد الطموح مرُكَزا على بلوغ مرتبة أهل الفكر والأدب، ولم يعد من الطموح بلوغ درجة الأخلاق الحسنة ونحوها
بل أصبحت الشهرة والمكاسب والمكانة في المجتمعات مرهونة بفعل الموبقات في أغلبها، وانقلب الصراع على الدنيا إلى صراع مرير في بلوغ الباطل لا بلوغ الحق
وفي مثل هذه الصراعات لا يوجد فائز، فالكل مهزوم، فالذي يستطيع مزاحمة المجتمع لبلوغ قمة التميز يكون هو الخاسر الأكبر بوصوله للتميز بعد انقلاب مفاهيمه.
والذي خاض صراع التميز وخسر ولم يبلغه، يكون أكثر خسارة من الفائز لأن خاض الصراع وخسر دينه في سبيل الوصول لمكاسب محرمة ومع هذا لم يبلغها،
فلا هو ظل في متمتعا بالعفو والعافية في دينه، ولا نجح في بلوغ هدفه فبلغ المكسب الذي طمح إليه، فأصبح حاله كحال الذي خسر الدنيا والآخرة وهذا هو الخسران المبين.
لأجل ذلك نصح النبي عليه السلام بترك الصراعات في زمن الفتن على الأهداف التي تنتشر رغبة بلوغها بين الناس، فَأَمَرنا أن نكون كَخَيْر ابنَيْ آدم، (هابيل) الذي اختار سلامة دينه بفساد دنياه لا العكس.
ويؤكد هذا المعني ويعضده حديث آخر، ورغم أنه حديث ضعيف الإسناد إلا أنه يُعَضّد المعني الأساسي الوارد في الحديث السابق.
ونص هذا الحديث يقول.
(يأتي عليكُم زمانٌ يُخيَّرُ فيهِ الرَّجلُ بينَ العَجزِ والفُجورِ، فمن أدرَكَ ذلِكَ الزَّمانَ، فليختَرِ العجزَ على الفُجورِ)
والحديث له شاهد قوي في واقع الحياة اليوم، بدليل أننا إذا نظرنا للمُثُل العليا اليوم التي يطمح الشباب لتقليدها ويتخذون من حياتهم هدفا يقصدون إليه، سنكتشف أنهم اتخذوا القدوة والمثل في كل من بلغ الشهرة في عالم اليوم بغض النظر عن طبيعة هذه الشهرة ومضمونها، فالمهم أن اشتهر بشيء أو بعمل جلب له المكاسب الضخمة بغض النظر عن مشروعية هذا العمل!
وأصبحت نداءات الطموح التي يشجع عليها الآباء أبناءهم، والزوجات أزواجهن، هي الحث والتشجيع على تقليد هؤلاء الناس، فإن رفض العاقل مثل هذا التشجيع الإجرامي اتهموه بالعجز والفشل والخيبة!
بمعنى أن المجتمع الآن لا ينظر لمن اعتصم بدينه وأخلاقه ورفض التقليد، على أنه رجل تَقِيْ أو وَرِعْ، بل أصبحوا ينظرون إليه على أنه عاجز عن بلوغ الفجور الذي يدعونه إليه!
وأنه لو كان يستطيع هذا لَفَعَل، ولا يدركون أنه يستطيع لكنه لا يريد.
لذلك قلت إن الحديث الشريف يصف واقعا فعليا في الحياة، حيث تم تخيير الإنسان اليوم بين العجز والفجور، والعاقل المتمسك بدينه حقا هو من ينفذ وصية النبي عليه السلام فيختار العجز على الفجور.
فإن عجز الإنسان عن تقليد الفاجر ليس عجزا بل هو قمة القدرة والتقوى وإن زعم الناس غير ذلك، ورغم صعوبة الصمود في وجه معايرة المجتمع بالعجز، إلا أن تنفيذ وصية النبي عليه السلام فيه العافية وفيه النجاة يوم لا ينفع مال ولا بنون.
ونظرا لهذه الصعوبة التي يعانيها المتمسك بدينه في مجتمع الفتن، وصفه النبي عليه الصلاة والسلام بأنه سيكون كمن يقبض على الجمر بقبضته أو يمشي على الشوك حافيا، وذلك وفق نص الحديث:
(ويل للعرب من شر قد اقترب، فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، يبيع قوم دينهم بعرض من الدنيا قليل، المتمسك يومئذ بدينه كالقابض على الجمر أو قال على الشوك)

فهنيئا لمن قَسَم الله له ذلك، والقبض على الجمر في الدنيا والمشي على أشواكها أرحم كثيرا من المغامرة بالقبض على جمر الآخرة.
وكل الصعوبات والشقاء التي قد يلاقيها الإنسان في الدنيا ستنمحي في لحظة واحدة مع أول غمسه في نهر الجنة، حتى أن الإنسان ساعتها سينسي أصلا أنه قد مر يوما بالشقاء ولو لساعة واحدة.
وفي المقابل سيؤتي بأشد الناس تنعما ومتعة في الحياة الدنيا، فيغمس غمسه واحدة لكن في النار لينسي ساعتها كل ما مر به من سنوات طويلة من المتعة.
وهذا بنص الحديث النبوي الجامع لهذا المعني الرهيب.
(يؤتَى يومَ القيامةِ بأنعَمِ أَهْلِ الدُّنيا منَ الكفَّارِ، فيُقالُ: اغمِسوهُ في النَّارِ غمسه، فيُغمَسُ فيها، ثمَّ يقالُ لَهُ: أي فلانُ هل أصابَكَ نعيمٌ قطُّ؟ فيقولُ: لا، ما أصابَني نعيمٌ قطُّ، ويؤتَى بأشدِّ المؤمنينَ ضرًّا، وبلاءً، فيقالُ: اغمِسوهُ غمسه في الجنَّةِ، فيُغمَسُ فيها غمسه، فيقالُ لَهُ: أي فلانُ هل أصابَكَ ضرٌّ قطُّ، أو بلاءٌ، فيقولُ: ما أصابَني قطُّ ضرٌّ، ولا بلاءٌ)" "
وتكمن الحقيقة الرهيبة في هذا الحديث أن متعة الدنيا كلها بسنواتها الطوال، وشقائها بأعوامه الثِقَال، لن ينمحي بدخول الجنة أو النار، بل سينمحي بمجرد غمسه، غمسه واحدة فقط في بداية الجزاء العظيم المنتظر بعد ذلك!
وجزاء الجنة لا يمكن أن يتخيله بشر، فيكفي أن أقل الناس ثوابا يوم القيامة، وأقلهم أجرا، سيكون له في الجنة ما يساوي مقداره عشرة أضعاف الدنيا بما حوت!
وهذا بنص حديث النبي عليه السلام:
(إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها، وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة: رجل يخرج من النار حبواً، فيقول الله له: اذهب فادخل الجنة فيأتيها، فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب، وجدتها ملأى، فيقول الله عز وجل: اذهب فادخل الجنة فإن لك مثل الدنيا، وعشرة أمثالها أو إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا، فيقول: أتسخر بي – أو أتضحك بي – وأنت الملك؟ قال: فلقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم -ضحك حتى بدت نواجذه، فكان يُقال: ذلك أدنى أهل الجنة منزلة)

أي أن هذا الجزاء سيكون لرجل دخل النار بمعاصيه، لكنه كان مُسلما مُوَحدا، فأخرجه الله من النار بعد استيفاء ذنوبه، فيكون دخوله الجنة بمثل هذا الجزاء الرهيب حتى أنه لا يصدق!
فما بالنا بجزاء المتقين؟!
فهل هناك عاقل على استعداد للمغامرة يا تري باختيار شيء إلا اختيار فئة القابضين على الجمر ما استطاع!
وإن أكثر ما يلفت نظري في غباء الملحدين وكفار الجحود، وكفار النعمة، أنهم يقبلون بهذه المغامرة تحت تأثير كفرهم وإنكارهم لهذا الجزاء وإنكار اليوم الآخر والبعث والحساب.
وهؤلاء حتى لو خاطبناهم بمنطقهم الدنيوي البحت فلن يكونوا على صواب فيما اختاروه لأنفسهم، لأن الإنسان مهما امتد به العمر فهو بلا شك صائر إلى الموت.
وهم يراهنون على أنهم لن يبعثوا للحساب، ونقول لهم أنه عدم البعث للحساب ــ حتى بمنطقكم الدنيوي ــ يظل مجرد احتمال غير مؤكد، فهل يقبل العقل والمنطق أن تغامروا بوجود البعث والحساب فعلا، لمجرد الإصرار والكبر والغرور؟!
خاصة وأن التمتع بِنِعَم الدنيا وملذاتها من الحرام، هو تمتع نسبي غير دائم، لأن الرفاهية ــ مهما بلغ مستواها ــ فهي رفاهية دنيوية قابلة للاعتياد وشغفها ومتعتها لا يستمران إلا فترة من الوقت ثم تصبح أمرا تقليديا لا يبعث بهجة، ولا يجلب سرورا.
بالإضافة إلى أن المنطق العقلي نفسه يرفض هذا الإصرار العجيب على الإلحاد أو الكفر أو الجحود أو التماس الحرام، لأن متع الدنيا وطيباتها متاحة بالرزق الحلال دون شك، ولو لم يقدر الله لعبده الطيبات، فهذا أيضا ليس مبررا عقليا للمغامرة بالجمع بين شقاء الدنيا والآخرة!

يتبع ان شاء الله