الموضوع: ولادة شجرة
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
11

المشاهدات
5038
 
صبا حبوش
من آل منابر ثقافية

اوسمتي


صبا حبوش is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
397

+التقييم
0.08

تاريخ التسجيل
Mar 2011

الاقامة
الرياض

رقم العضوية
9765
10-21-2017, 03:20 PM
المشاركة 1
10-21-2017, 03:20 PM
المشاركة 1
Smile ولادة شجرة
لم تكن فتاة عادية، منذ أن طالت ضفائرها أدركت أنها مختلفة عن جميع من حولها.
كانت تعيش في عائلة بسيطة مكونة من أربع أخوات كانت خامستهم، حين بلغت الثامنة عشر من عمرها، بدأت تشعر بالوحدة بين أهلها، لم يكن لديها صديقة، وأمها دائمة الانشغال بأعمال البيت و سهرات الليل مع الأصدقاء، حتى أخواتها كنّ بعيدات عنها كل البعد.
أما والدها فكان الأبعد عن الجميع، لم يزل ذلك الرجل الانطوائي الطيب، صاحب الابتسامة الشحيحة و العينين الحانيتين.
في طريقها لأحد الباعة، كانت تحادث نفسها وتسرد تفاصيل كثيرة عن كل شخص عرفته في حياتها، أجمعت أن الإنسان ليس مقدّراً له أن يجد من يفهمه أو يشاركه هواجسه إلا ما ندر، وأن الأشخاص الذين يدخلون حياتنا، كما الأشياء التي نرغبها بعضها نصله بعد تعب، وبعضها الآخر يبقى قيد الأمنيات والبحث دون جدوى.
قررت أن تصادق الأوراق، وتدوّن كل ما يدور في مفكرتها العقلية، و إن لم يكن منطقياً،
لكن انعزالها المفاجئ مع القلم أثار استغراب عائلتها، واستهجان والدها الذي كان مرتاباً من التغيير المفاجئ في حياة ابنته.
-أخشى أنها تكتب الرسائل لأحد الصبية في الحي، هل اطلعت ِعلى تلك الأوراق؟ كان يسأل زوجته بانفعال يحاول كتمه.
- لا, لا أعتقد، صوفيا عاقلة، لم ألحظ أنها تكلم أحداً؛ لذا لم أعر الأمر انتباهاً.
في أحد الأيام كانت الأم تحضّر طعام العشاء، التفّ الجميع حول المائدة إلا صوفيا، تنبّه الأب لغيابها، التفت إلى بناته متذمراً:
- أين صوفيا؟
- في غرفتها يا أبي.
نهض الأب بسرعة متمتماً بعض الشتائم، فتح باب غرفتها بقوة وهو يصرخ: "ما الذي يحدث معك، من هو؟ أخبريني، كيف احتال على عقلك؟" أمسك الدفتر أمامها ومزّقه نصفين، بقيت الفتاة في حالة ذهول لحظات، وقفت دمعتها منتصف العين.
-مَن تقصد يا أبي، مَن؟
-الوغد الذي تكتبين له هذه الرسائل.
- لكني لا أكتب رسائل لأحد، اقرأ، انظر فيما مزّقت.
لكنه لم يطّلع على شيء، خرج بعصبيته وعاد إلى مكانه، مكملاً شتائمه وحنقه عن إنجاب البنات وصعوبة تربيتهم.
حالة الذهول لم تفارقها منذ ذلك الموقف، كلما تذكرته بلّلت وسادتها الدموع، "كيف يرمي عليّ تهمة لم أقترفها"، قضت أربعة أيام في لصق الأوراق، وأخفتها تحت سريرها خوفاً من أن يعاود تمزيقها.
ما عاد القلم صديقها، بات وقوفها أمام النافذة المطلّة على حديقة الحي مريحاً بالنسبة إليها، تتأمل الأشياء وكأنها تراها للمرة الأولى، لا تلتفت للناس أسفل الطريق، لم يكونوا يعنون لها شيئاً.
في أحد الأيام دخلت أمها الغرفة غاضبة، فبعض نساء الحي نبّهنها بطريقة غير مباشرة لوقوف ابنتها المطوّل أمام النافذة، وتحديقها بالرجال المتواجدين في الحديقة، أغلقت النافذة بأقصى قوتها حتى كادت تتكسر تحت يدها، أسدلت الستائر، وخرجت دون أن تسمع منها كلمة واحدة.
عادت لها حالة الذهول الرهيب، لم تستمع لها، على الأقل تترك لها فرصة الدفاع عن نفسها،
ضاقت الدنيا في عينيها، شعرت أنّ الكون بأكمله ليس سوى غرفة بأربعة جدران، بكت كثيراً قبل أن تذهب وتقدّم اعتذارها لأمها عن فعل لم تقم به.
استنفدت جميع محاولاتها بإيجاد كهف روحي تأوي إليه داخل منزلها، هي مغتربة دون سفر، يضيء داخلها قنديل وحدة متعَب، تتمنى لو بإمكانها إطفاءه، لكن الأمر أكبر من قدراتها، ما تحتاج إليه فقط هو من يشاطرها اهتماماتها، والأفكار التي تلتمع أمام عينيها.
بعد عودتها من المدرسة أصبحت تمرّ على الأرض الزراعية المحاذية للمنزل، تجلس فوق التراب مباشرة، تحت شجرة سنديان كبيرة، تشعر بالارتياح الكبير حين ترى أغصانها تتمايل بخفة، وكأنها ترحّب بها.
رائحة التراب الأحمر تبعث فيها الحياة، وتدفعها للاسترخاء مجدداً، كانت تحادث نفسها بصوت عالٍ، تتساءل عن أبجدية الرغبات في كتب الحياة، كيف تتعامل مع أحاسيسها وسط أصوات مختلفة، كيف يعود صدى الصوت أحياناً من أماكن بعيدة جداً، وكيف يغيب وننتظر عودته دون فائدة من أماكن أكثر قرباً، أسعدتها الأغصان المتمايلة من جديد، وكأنّها تسمع هواجسها وتهزّ برأسها.
أخرجت من حقيبتها أوراقها المضمّدة بشرائط اللاصق، حفرت حفرة صغيرة أمام جذع الشجرة ودفنتها في داخلها، أعادت ردمها، وهمّت بالمغادرة، لكنّ شيئاً خفياً سحبها للأسفل، حتى غاصت ركبتاها بالتراب، لم يكن بإمكانها الخروج، تشبثت أقدامها بجذور تفوح منها رائحة الحبر، وامتدت يداها باتجاه الأفق، كل نقطة حبر علقت فوقها تحولت لغصن غض، تزين نهايته بعض الزهور الصغيرة.
غدت تلك الشجرة الغريبة ملاذ مئات الناس الذين لم يصدقوا أعينهم، شجرة تولد في ليلة وضحاها، حتى تحولت الأرض الزراعية لمزار عجائبي، يقصده الباحثون عن انعكاس أفكارهم؛ السكينة التي تبعثها في نفوسهم تدفعهم للإفضاء، و رمي حمولة كبيرة بين يديها.
توالت الأشجار بعد ذلك، أصبحت تلك الأرض المباركة حديث المدينة الوحيد، عشرات الأشجار تولد فيها بين يوم وآخر، والقاسم الوحيد بينها أغصان لها آذان تصغي، وجذور تنبت فيها أزهار برائحة الحبر.


https://sebaahaboush.blogspot.com/
باحثة عن الرّوح..